تنشر (الكلمة) رواية عربية من إيران فكاتبها من عرب الأهواز، يقدم بيئته بعاداتها وأعرافها وقيمها وبنيتها العشائرية، فنطل على معيشة العرب في تلك البقعة الغنية بالنفط: فقر، جوع، أحلام بالهجرة لجنة الخليج. عبر حياة شاب في مجتمع يعادي فكرة الحب. في نص يكشف عن أدب إيراني عربي.

الخطبة (رواية)

صادق حسـن

 

»النصّ وشخصياته من نسج الخيال، وأي تطابق أو تشابه في الأسماء غیر مقصود والوقائع المنسوبة إلی أشخاص حقیقیین هي، بدورها من صنع الخیال. وأي محاولة للبحث عن الواقع في الخیال ستكون مضیعة للوقت«

»كانَ ابلــــــيسُ يوم َبـــــدرِ یُقَلِّـل المسلمینَ في أعینِ الكفّارِ، ویُكثّرُ الكفّارَ في أعینِ المسلمی»

 

لا شك أن الوحدة التي أتبعُها في مسیرة حیاتي الضائعة تعتبر آیة في فن التدخین، وكما أرتّبُ حیاتي وأیامي باعتبارِ أهمیتِها؛ «فیومي الجیّد بعقیدتي هو الیوم الذي مرهونٌ بوجود التدخین الجیّد» كما أرشدني صدیقي إلی هذا العالم، عالم التدخین، ومما لا شك فیه أن الوحدة غایة مبررة لتدخیني؛ في عُتمة الوحدةِ سكنتُ مع سیجارتي التي كانَت من جنسِ مَلائكةِ اللهِ المُنزّهة والمطهّرة عن الحُزنِ ومعصیة الفراقِ؛ بَل أعلی منزلةً من ملائكةٍ فشلت بعد إختبارٍ أخیر، وذلك لأنّ الملائكةَ جبلت علی الطاعةِ والعصمةِ من الذنوب دون اختیار كما یشهد علی هذا نصّ القرآنِ مثلها مثل السجین في غرفةِ الطاعة، وما رُوي أنّ هاروتَ وماروت َ نزلت بهما الشهوة وعملا الحرام؛ لا أعرف السبب الذي أدّی إلی ذم التدخین، ولماذا كان والدي یطاردني لیعرف سر عُزلَتي؛ فكان دائمًا یقول:«عوف التَدخین یا إبنَ القُندرة.

فهو كان ینام مع والدتي حتی ینهكها ونسمع صراخ إغاثةٍ، كان یملك حبیبةً استثنائیةً وكانت «فاتِن» تعطي والدي كل ما یریده الرجل الشرقي، كنت أخرج سرًا إلی «فاتن» فقد كنتُ صاحب الحظوة الحقیقية عندها. ومع أنّي لم أُنهِ والدي منها، لكنه كان یمنعني من حبیبتي السیجارة، وهل تعتبر السیجارة من المُحرّمات؟ وما هو ذنب السیجارة التي عاشت منذ قرون مع الحزین والسجین؟ فالسیجارة لها سبعون طعم على أسلوب دخان. ولكلّ طعم سبعون ألف دخان ولكلّ دخان سبعون ألف حُجّة، یأتي بها المُتَیّمُ الوحیدُ؛ كنتُ أُدخن سیجارتي في مكتبي الذي أصبحَ ملجأي الوحید بعد هروبي من البیتِ، فكانت زوجتي تضع الطعام في طبقي، وبعصبیة مزخرفة بإشفاقٍ تقول: «أرجو أن تأكل؛ لا تحزن، إن كرهتني سأذهب یومًا ما، إنّك تجوّع نفسك، لقد خسرت الكثیر من الوزن بعد الزواج».

وهي لا تعلم بأمر الإدمان الذي جعلني كعصف مأكول؛ وترك دفعةً علی حسابِ جسدي الهَرِم ویأتي بالتالي قریبًا، إمّا عذاب الدنیا وإمّا عذاب القبر؛ لم أستطع التقرب إلیها، لأنّها دائمًا تنتقدني وتلومني لأنني أخطئ في كلِّ مرّةٍ، ولم أتراجع عن خطأي، كانت تكرهُ شهوةَ الإختبار بي، لأنني أحاول اختبار كل شيء، فكانت تحاول أن تلعب دور الأُم، وهذا الذي جعلني أتهرب من البیت، هربتُ من أُمٍ سابقًا، تلك هي أُمّي التي كانت توبّخني علی كل شيء وتراني مَن سَبَّبَ الفوضی في حیاتهِم منذ اللحظة الأولی من ولادتي فكانت تقول:

- یُمّه! والله ما أعرف سبب ولادتك ولیش من رِدِت تغرَگ نجِّیتك من الماي.

فكانت تروي لي حكایات الطفولة وتقول لي:

- «أنتَ كنت علی وشك الموت مرّتین، ففي المرّة الأولی كدتُ أجهض في برج القوسِ، حین نزفتُ بشكلٍ غیر طبیعي في شهري السابع، فأخذتني جدّتك لأبیك إلی بیتِ «العارفه» فأخذت النساء تساعدني لإنجابك قبل غروب شمس ذلك الیوم، بعدها رجعنا إلی سكننا، كان السقفُ یخرّ والماءُ یقطر علی سریري حتی نسیتُ وجعَ الاجهاض حینها، فكانت السماء غاضبة زئیرها یشقُّ الأرض، كادت الحیطان تنهار والسقفُ یطیر، حتّی سقط علینا الكوخ، أخرجتُ الأولادَ والبنات قبلك فكان ربع الجدار قد انهار قبل خروجنا، وباقي الجدار علی وشك السقوط، بقیت وحدك في الكوخ ولكن لم أتردّد لحظةً، دخلت الكوخ الذي كان من طین وكانت تُسمّیه العرب آنذاك «كِبَر» أو «كُبَر»؛ سقط الجدار علی ظهري وأنت بین یدي ولم أهتم لنزیف إجهاضي ورأسي معًا بل حضنتك وأنت تبتسم لي وكأنَّك تشكرني وتَعِدُني بمستقبلٍ یُنسیني هذه المعاناة»، وفي المرّة الثانیة عندما كنت في الثاني من ربیعك، ذهبت إلی «نهرِ الإمسیّر» لأغسل أوانيَ الغداء مع باقي نساء القریة، لیس نحن فحسب بل كل القری كانت مَثَلها مَثَلَنا؛ لأننا محرومونَ من أقلّ الحقوق كانشعاب المیاه وما شابهَ ذلك، فتبعتني أنتَ دونَ علمي، وحین كنت غافلة عنك ومنهمكة في غسل الأواني، إقتربتَ من النهر وسقطتَ في الماء وكان یوماً باردًا فدخلتُ في الماء ولم أعرف العَوم ولكن أوحی إليّ ربّي أن أرضع الماءَ وألقي بنفسي في یَمِّ ربٍّ لیس بغافلٍ عمّا نعمل، وقد نادی حبیبتك بأن لا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوهُ إلیك وهذا المجنون سیرجعُ إلیك وأنا مَثَلي كمَثَل من اتّخَذَ وَلَدًا لم یكن له؛ فصرخت النساء كي أتركك وانقذ نفسي ... یا لیتني فعلت! ولكن لا جدوی للندمِ«.

كانت تمنُّ علي لأنّها أنقذت طفلها، وها زوجتي أصبحت نسخة من أُمّي في اللومِ والطعن؛ والسبب الثاني للهروب من البیت هو مكالمة صدیقتي في خلوتي بهاتفي المحمول، فهي كانت دائمة الشكوی، وتلومني إن لم أتابع أخبارها أو لم أتصل بها ستغضب وتشتكي من الكائن الذي بوجودي ولم یكترث بأمرها إلی الكائن العاشق الخبول، تطلبُ منّي أن أهتمّ بها وكانت دائماً «تشكو منّي؛ عندي»، فتقول:

  • «وین أروح أشتكي؟ یاهو عندي غیرك؟ أنا أشكو من حبیبي عند حبیبي«

أذكرُ ذلك العتاب الذي بات بذهني كخطبةِ خطیبٍ من العصور الجاهلية؛ كنتُ أظنُّ بأنّها أعدّت خطبتها هذه التي ألقتها أمام غضبي الهمجي من قبل؛ وقد كانت ترددها في كل آونةٍ، خشیة نسیانها؛ وأذكر كلام «أحمد زكي صفوت» في كتاب جمهرة خُطب العرب حیث یقول: «فلا مِراء أن خطب العرب في عصور ازدهار اللغة مرآة یتجلّی فیها ما حباهم الله من ذلاقة اللسان، وعذوبة البیان، ومعرض یتمثّل فیه نتاج قرائحهم، وثمرات ألبابهم، في كثیر من مناحي القول»؛ كانت حبیبتي تتكلّم لِكي تُرضیني أو تبیّن لي بأنها تدركني وتحاول التقرّب منّي أو تنقذني من اكتئابي ولكن كل محاولاتها لإنقاذي كانت عدیمة الجدوی وتبوء بالفشل؛ كانت تعشقني بشكلٍ جنوني، كانت تُخطّط لأمر زواجنا وتقول:«سأذهب في یوم الزفاف إلی صالون التجمیل، وأصفّف شعري بشكلٍ مُجَعّد أو تصفیفة إیطالیة، وأزجُّ حاجبيّ كالهلال لأنّك تكره الحواجب التقلیدیة ولأنّها تدلُّ وتذكرك بماضٍ بشعٍ وأزیّن وجهي كما تشاء، وأرسم بالكحل العربي عیوني التي تعشقها وسیخمد الریمیل جوف الرموش التي أصبحت ملكا لك»، كنتُ أتعب من تفسیرها لكلِّ الأمور، وكلامها البربري حول عشقها لي، كانت تحبّني، وتمدحني بشتّی الأوصاف التي لم أكن أحملها وكنتُ أظن بأنها خلطت بین مدحي ومدح ربها وكنت دائماً أتذكر مقولة «من مدحك بما لیس فیك فقد ذمّك»؛ فأمّا أنا لا؛ لم أكن أؤمن یومًا بما أقوله، نهوتها من أن تكون أسیرتي بشكلٍ جنوني، أطلب منها أن تكون منطقیة في علاقتنا، وكان یجن جنونها حین أقول: «علاقتنا»، فتصرخ قائلة: قُل حبنا، عشقنا؛ كنت أخشی أن تنتحر؛ لهذا كنت أضطر إلی تغییر أسلوبي أو عدم إیضاح بعض القول والعمل، وانتحرت ذات مرةٍ لأنّي طلبتُ منها أن تقطع علاقتها بي، فأكلت ما یُقارب مئة حبة، حتّی فقدت وعیها وأشرفت علی الموت، أخبرتني والدتها بهذا الخبر، فركبتُ السیّارة التي كانت ملكاً لزوجتي وبعد زواجنا أصبحت مُلكي كما هي مُلكي، ذهبتُ إلی المستشفی، رأیتها متوسّدة، مُمَدّدة وتشیرُ إلی نقّالها المحمول، كم كنتُ أكره نقّالها، لأني كنت أعلم بأنه كثیرًا ما راسل هذا وذاك قبلي، فكنت أنهرها عندما كانت تفتح الصور السابقة لكي تُریني جمالها السابق، كنت أقول لها: ذلك الجمال لم یكن لي، فلا أرید أن أتمتّع بماضیكِ المجهول؛ عندما وصلت إلی المستشفی، لم أقتَرِب منها في بادئ الأمر خوفاً من أن أسبب تشنجاً في المستشفی أو یصبح شجاراً بیني وبین إخوتها أو أخواتها، فعندما أمِنتُ الطریق لدخولي إلی غرفتِها، دخلت مُحمّلًا بباقة وردٍ ذات حزامٍ نرجسي وكتاب، كنتُ أود أن أهديها كتُبًا بدل العصیر أو الأطعمة السخیفة التي أصبحت عادة سیئة عند زیارة المریض؛ وبعد أن رأت هیكلي الخرطومي النحیف المُدمِن علی شتّی الممنوعات، وبِشرتي السمراء، وأنفي الدائري المُحطّم لأسبابٍ كثیرة، تبسّمت، ثم التوت قسمات وجهها من الغضب وبكت كمن فقد عزیزاً، ثم ضحكت كمن فاتهُ عزرائیل، فاحتضنتها وهمستُ بصوتٍ خافت وأسناني تصطك بسبب غضبي وكرهي لها فقلتُ مُجاملًا: «حبیبتي لا یفوتك حُبّي واشتیاقي وجنوني إن فاتك جَسَدي المنحرف جنسیّاً... ألا تَعرَفینَ أنني بین حیزومي وصدري وشمتُ مصیري الأخضر ما قبل الوطن، هل نسیتِ؟ ألا تذكرین حین طلبتي منّي: «إن كنت تعشقني فأثبت هذا العشق بوشمٍ علی جسدك» وكنتِ الوطن الذي افتقدتهُ طوال حیاتي، لا تنسینَ هذا المجنون ولا تنسی ما علیك فعله، فانهضي»! فضحكت...

وأنا جالسٌ جاء صدیقي الهارب من زوایا بیتهِ الذي یحملُ معاناتي أو معاناة رجال الشرق، وهذه مُصیبة شرقیة، الرجال یهربون من بیوتهم لعدم الاحتكاك بنسائهم والنساء یلتمسن المحبة والعلاقة العابرة عند رجال آخرین، هذه أصبحت قاعدة، فالنساء تَعِبنَ من أزواجهنّ وكما هو الحال عند الرجال، ولكن الطلاق كان أمرًا في غایة الخطورة، لأنَّ الزوج عند حصول هذه الكارثة یُسجَن أو یعطي جمیع ما یمتلك؛ فكانت الرجال ترفضُ الطلاق خوفًا من تلك الأمور. عندها دخل علي صدیقي ضیاء وكان یطلب منّي الذهاب إلی مجلسِ عزاء أحد أبناء جلدته الذي مات بحادث دراجة ناریة وكما أعرف هذا الضحیة الثامنة الذي ماتَ خلال هذا الشهر الأخیر، طلبتُ منه أن لا نذهب لأن طقوس العزاء ینهكني ویرتشفُ قواي ولكني لم أرَ بُدًّا لمخالفته. انعطفنا من رأس النهرِ إلی طریقٍ آخر تحفّ بهِ بیوت قدیمة من الطینِ، النخیل قد ولدت ثمرتها في هذا العام فكانت تحمل ثمار البلح في الأعذاق المتدلیة في طریقنا، كنّا نمرّ من جانب نهرٍ عذب المِیاه، كانت الحرارة أعلی مما كانت علیه قبل اسبوعٍ، لم أشعر بالحر لأنَّهُ أصبح أمرًا طبیعیاً، أو بالأحری نحنُ أبناء الجنوب، لا نطیق البرد القارس، نسیرُ وكأننا دخلنا عالمًا مختلفًا عن المدینة، أخیرًا وصلنا إلی الحشد المتواجد؛ شعرت بالخجل الشدید وأنا أرتدي ثوبًا أحمرَ؛ رأیتُ رجلاً وبیدهِ رزمة أوراق نقدیة أعطاها إلی شابٍ وطلب منهُ أن یذهب لشراء حوائج مائدة العشاء، ویقول للشاب:

- «عایِن بویَه إنت إشتري لحم، حُمُّص، دِهِن، معجون، وروح صوب الخَبّاز گِلَّه ایحضّر ألف خُبزة، حتّی أودّي مسعود إیجیب إصماط واصحونه وباقي الوسایل، بس بابا لبّاگِي ترجع ها

وهو یرشدهُ إلی الشراء نظرَ إلي نظرةً فظةً غلیظة وذهب نحو الجدار هاربًا من قسوة الشمس، وأخذ یتكلّم مع رجلین وهو ینظر إليَّ، لابد أن أولئك الرجال یتحدثون الآن حول لون ثیابي ویدلون بنقدهم اللاذع لهُ وربّما كانوا یكرهونني حینها، لیت صدیقي ضیاء أخبرني قبلها عن ذهابنا إلی هذه المراسیم؛ دخلنا معاً إلی تأبین المتوفّی فكان مجلس عزاء ضخمًا تترأسه شیوخُ عشائر، وكبارُ قبائل، ومدیروا دوائر، وأُناس معروفة وكان الحظ الأوفر في هذا الحشد للشعراء بأهازیجهم، لأنَّ عصر المدیح لم یُولّي من الأدب العربي عامةً وفي الأهواز بخاصةٍ، لأن رجالنا یبحثون عن الشُهرة جوف مفردات اولئك الشعراء الذین یمتلكون تلك القوة في سرقة المفردات من بعضهم ویتابعون الشخوص لكي یمتدحونهم لیحصلوا علی مالٍ أو مكانة في تلك العشیرة، فكانت أهم غایتهم أن یتقرّبوا من الشیوخ ویحضروا مجالسهم بین حینٍ وآن؛أسمع أحد الشعراء ینشد:« یا أُسودُ الماو شِلتوا؟ یا أُسود المؤتمر/ ألِف وَسفَه یا عَمامي گَفَّت اسباع الخَضَر/ مانست حمّادي روحي، إلدِسنَه وَیّاه كل خَطَر/ إوجِیدوما رِدناكم للحَد» وبقی ذلك الحشد یدك رجلهُ بالأرض ویُكرّر «إوجِیدوما رِدناكم للحَد» أكثر من ثلاثِ مرّات،أری طریقة الدبك مختلفة بین اولئك الشبّان، لأن البعض منهم كانوا یبدعون في القفز ماسكین بأیدیهم سیوفًا وعِصِيًا، من المؤسف جدًّا أن أری بسمة الإنتصارِ علی شفتي الشاعر وابناء قومي منهمكین في القفز والإبداع، فیا «نوبل» متی تمرُّ عبرَ الأهواز؟كنتُ أتابع الأشخاص الذین كانت لهم صلة قریبة بالمتوفی، یبكون بكاءً مُراً، ملطخین وجوههم بالطینِ، وقفتُ خارج الحشدِ فرأیت طفلاً دون حذاء في هذا الفصل، فالصیف هنا عبارة عن طمع الشمس بهامة الرجال وخطابات الأبریاء والعُمّال في الدوّارات والشوارع المُزدحمة فكان شخصان بقُربي یتكلّمان حول الطقس قائلین:

- شنهي مصیبتنه، هذا صدگ لاج اویانه یمعوّد! مایفُك الحر؟ تعبنه! عاین حتّی السفولت ذاب.

- اشلون خویه؟ إسكت لاتكفر، هذا الجو طبیعي یمعوّد!

- یابه هاي شمس لو بُرنول... أشو تچوي المُخ... إشطرگاعت السنة! عمّي ماردنه تمُر، ماردنه رُطَب، بالله موتنه امشي صوب الفَي.

أسمعُ المسكین یشكو من الحرّ ِ وصدیقهُ لم یشاطره الرأي، خوفًا من غضب الله، فینهاهُ عن هذا القول ویطلب منهُ أن یستغفر، فسألتُ صدیقي عن هذا الطفل:

- أگلك ضیاء هذا یاهو؟ لیش هیچ أحواله؟ خطیّة حالته زبینه.

- هذا ابن المیّت وعنده بعد اثنن خوات، چا انت شتعرف صاحبي هذه الامور عادیّة بالفواتح؟

- ولك یا عادي! هسّه هذا لو بالغرب چان نوّموا بالمصح وي المجانین لأجل الكآبه، چا خوش أگلَّك لیش حافي؟ خِطِیّة ماكو إنعال؟

- ولك إسكت لایسمعونك! چا ماتدري الیحزن مایلبس إنعال؟ ولازم ایلطّخ نفسه بالطین وایسرّد اهدومه لو إیشج راسه؟

- هاي شني؟ زین الحزن بالنعال وبالطین واتشِگّگ إهدوم؟ یابه كافي جَهِل ابشرفي بعد مابیه أتحَمّل، شایف مو ماشایف بس هسّه بعد وصلت الخشمي، اشگد كون نسكت عن تقالید كله غلط ابغلط، بس، كفّوهِن.

- زین هي فاتحة ابوي؟ جاي أترِس بطني وأرجَع، یابه فُكنه من فلسفتك خل نسمع هوسات أحسَن.

عجبني أحد الشعراء في الأداء واختیار المفردات، فسألت ضیاء عن اسمهِ فقال هذا «عادل إبن ایعِیِّص» وأردَفَ قائلاً: «بس انا احب حسن الزهیري؛ ذاك شاعر طرگاعا، مصیبه،كارثه إتعرفه؟» فقلت: لا. إنزعجَ من برودة لحني وتمتم شیئًا من الشتیمة ودار وجهه؛ فأنا كنتُ أحسّ بضیقٍ في صدري، وددتُ أن أرجع إلی مكتبي، طلبتُ من صدیقي الذهاب، فقال بأنهُ یبقی لتناول العشاء وبعدها یأتي إلی المكتب، فاعتذرتُ منه بحُجّة الانشغال بكتابةِ مقالٍ جدید كي أرجع إلی مكتبي، بدأ الظلام یزحف بخطی وئیدة ویسدلُ ستائرهُ علی كآبةِ القریةِ، وكانت أصوات المآذن تطلبُ من المصلّین الحضور إلی المسجد لتأدیة صلاة الجماعة، فأسرعت في سیاقتي كي لایراني أحدٌ وأضطر بأن أُصَلّي، لأن هُنا في الأهواز بین أناسك، التُهمة شیء بسیط والزندقة أسهل طریقة لتكفیرك وطردك من كل مكان؛ وصلتُ إلی مكتبي، فتحتُ البابَ وأنا أترقب المارّین ولا أهتمُّ لدعوةِ أحدهم لي لأداء الصلاة، لأنّ المثل یقول:«رُبَّ زارعٍ لنفسهِ حاصدٌ سِواه»، صببتُ الشاي لنفسي، أشعلتُ سیجارتي، قبّلتها كما أُقبّل حبیبتي وها هي خطبتها تحظی بالدُخان، لاأعرف هل أعدّت خطبتها التي ألقَتها أمامي في بداهةٍ ما أو مَرّنت لسانها علی تلك الخطبة خشیة نسیانها! وما المُهم؟ قد حظت بالدُخان هي وخطبتها ولولا «قسم الحظوظ علی قدر الجدود، ما أدرك الآخر من الأول شیئاً یعیشُ به»، وها أنا الآخرُ في مجزرة اللؤم وأوّلُ طاعنٍ بحبیبتهِ حین كانت تُعبّئ قلبها الفرح وأنا ملئتهُ الترح، فأهلكتُ عبقریة المجتمع والمجتمع المحروم من النساء العبقریات مجتمعٌ محكومٌ علیه بالفناء، فما بالك بمجتمعنا الذي لایمتلك عبقریةً ولاحُبًا ولا أي شیءٍ یتسلّی بهِ المرء! فتحتُ ألبوم الصور، قلَّبتُ الصورَ، هذه الصورة في بیتي السابق، هذه الصورة عندما ذهبنا إلی الجامعة وهذه بعدما ذهبنا إلی ذلك الساحر الكذّاب، بعدما طلبت منّي أن أصطحبها إلی بیتِ ذلك المُشعوذ، في بعد ظهر یوم الأربعاء أخذتني الی بیته، كان أصلع، بطنه منفوخ كأنهُ إمرأة في شهرها التاسع، ثیاب رثّة، أسود البشرة، أنفٌ أكبر من كفِ ید عاملٍ في نخیل الفلاحیة بعد صیفٍ خبیث، أذنان سوداوتان تحتضنُ شعراً كثفاً، بعدما وقع نظرهُ علی تلك المُهفهفة سوّلت لهُ نفسهُ وتولّی الخُطَب الغرامیة وتحرّرت شهوته من زنزانتها ولمعت عیناه... ألا رفقاً یا شیخ، رفقاً بالفتاةِ التي أتی بها إلی وكرك كثرة الهموم، وضیق الحال، لاتحظی منها ببسمةٍ لأنّ قلبها لم یعد لها، فاترك ذلك التركیب المغناطیسي الغرامي بنظراتك الخبیثة فلا جدوی بهندستك للجاذبیة، فثارَ هذا الثور الأسود لینطحني ویقذف بيَ إلی البعید، فثارَ هذا الذئب الأجرب لیفترس حبیبتي بین خطاباته ولایعلم الخطیبة التي أتت بعد حبل مشنقةٍ أعدتها لنفسها بشروط، ففتح كتابه الأصفر المندرس العتیق بخطٍّ كتِبَ دون ذوق وبقی یقرأ التیّمات:«بسم الله الرحمن الرحیم، وبه نستعین إنهُ خیرُ ناصرٍ ومُعین، فَیِحبّونَهُم كحُبِّ اللهِ والذینَ آمَنوا أشَدُّ حُبّاً للهِ لَو أنفقتَ مافي الأرضِ جمیعاً ماألّفت بین قلوبِهِم ولكنَّ اللهُ ألّفَ بینَهُم إنَّ اللهَ قَوِيٌ عَزیز، بسم الله الرحمن الرحیم، بسم الله العلي العظیم، بسم اللهِ كانَ وَلَم یَكن، قُل جاءَ الحُقُّ وزَهَقَ الباطلُ إن ّ الباطلَ كان زهوقاً، حُضور بِحَقِّ العهدِ الذي بیني وَبینكم، حضور، مَس، مَندَل، أدوناي، آل شِداي، آي هِیاي، عیطلٌ، إسبور، نار علی شمالك، نار علی یمینك، نار فوقك، نار تحتك، فآتِني، وألّف بین قلوب ...» فشرعَ یقرأ الأسماء دون أن نسمعها، فضحكتُ بأعلی صوتي وقلتَ له:

- شوف شیخنه، خلّي عنك هل سوالف، وإطیاح الحظ، ترآ مثلك إچلاب واید شایف، إذا أنت عندك مُوكل أنا أگص إیدي، أنا أعرفك زین، ولاأعتقد ولا أهتم ابهذه المهزلة وبس لأجل زوجتي جیت عندك، وحتی الأسماء نطتك إیّاهن بالخطأ وانت ماعرفت.

- أرجوك حبیبي إسكت، أرجوك إسكت إحترم الشیخ، ترآ هو انسان صالح لاتشك بی.

- ولچ یا صالح، ولچ هذوله حثاله ایلعبون بعگول الناس.

فغضب علینا ذلك المُشعوذ وطردنا، بعدها ذهبنا إلی الشاطیء علی ضفافِ كارون الذي یمرّ من وسط المُحمّرة، خلعنا أحذیتنا ودخلنا الماء حفاةً، وفیما كنّا ننتظر أحد الفتیان لنستأجر منهُ قاربا التقطنا هذه الصورة، كانت السماء صافیة زرقاء تومئ لنا بالغرام، غادرنا ضفة النهر وتوجهنا إلی البیت؛ كان بیتي فوضویاً، ملیئاً بالكتُب والمجلات وادوات الإدمان؛ بعدها سهرنا وكانت الشفاه تجثو نحو الشفاه في حنوٍّ وحنان، والترائب تلتصقُ بصدري، برغبةٍ وشوق؛ آه، كم اشتقتُ إلیك، ماذا تفعلین الآن؟ هل بعذابٍ أو بنعیمٍ، هل تمرُّ الصور أمام عینیك الخلّابتین البریئتین؟ وها أنا اجتاحتني خطبتك ببلاغتها المُنحدرة من عصورٍ متحضّرة علی تلك البقعة من الأرض التي احتضنت خیر أُمة، تداهمني تلك الخطبة وتقطع إتصالي بهذه الدنیا المُتعفّنة بأناسِها الكئیبین الكذابین، وسخُ أفكارهم، أكرهُ هیئتهم، أخرجني طفلٌ من ظلماتي، عندما طرق الباب وسألني:

- عمّي شني إتبیع؟

«عمّي»! ما هذه المُفردة؟ تذكرتُ الیوم الذي جاء فیه عمّي من جبهة القتال في الحرب العراقیة الایرانیة، حین قبَّلَ یدِ والدي؛ فبكی والدي وقال: لقد كبرت واصبحت حقَّا عم اولادي. كنت أشعر بالسعادة في تلك السنة، ربّما لأنني أحب عمّي، فلماذا صفعتني مفردة عمّي علی وجهي؟ كم عمري أصبح؟ مَن غَرَسَ عمري في هذا الجسد الكئیب الحزین كهذا الغرس بین الإكتئاب والتشرد؟ أین جذوري لاأعرف إلی أین أنتمي فهذا أمر فظیع أینَ مَثواي؟ وأین استقرت جذوري التي لیست في الطینِ ولافي السماء؟ هل أنا دخان؟ أو هواء؟ لا بل أنا الإله! لماذا لایؤتیني جذوراً شریفةً سامیةً في بُقعةٍ من أرضه؟ هل خُلِقت ُ إنساناً ولماذا أقطع الحیاة بعرضها وطولها لكي أعرف كیف أكون إنساناً؟

- عمي إویاك... شني إتبیع؟

مع من یتكلّم هذا الطفل؟ ولماذا ینتابني رُعاف بین الحین والآخر وماذا أبیعُ في مكتبي البائس أو بالأحری ماذا أفعل هُنا؟ أوَ لیس الآن یجب أن تكون رقبتي في حبل المشنقة؟ انتظر ریثما یأتي هو لتقبیل رقبتي؛ هل مكاني هذا أتی بي بالخطأ لأن باب الخطا مفتوحا لأكبر العقولِ وأصغرها ورِتاجُ العقلِ زنجرت مُنذُ عقود، وذهبَ العقل الی مكانٍ قصي، حینَ تركت العقولُ كل ما بناها الإنسان في ماضٍ لیس بالصواب، حرتُ في لفظِ عمّي، داهمني الإرتباك، هل تكون الحیرة قاعدةً من قواعد العقل یوماً؟ سمعت ضحكة اطفال معاً؛ تذكرت أم كلثوم:

هل رأی الحب سكاری مثلنا‌ كم بنینا من خیالٍ حولنا

ومشینا في طریقٍ مقمرٍ تثب الفرحة فیه قبلنا

وضحكنا ضحك طفلین معاً وعدونا فسبقنا ظلنا

لم أرَ، لم أسمع إلا ذكریاتك، أنتِ التي كنتِ طیّبة القلبِ، شریفة النفسِ، لم أتنفس إلا بخطواتك فالإله حضنني أنا وحدي، أنا ذلك المُدمن، الكئیب، الطفل الحقیر، الشاب الضلیل، بهذا الحب، بهذا القلبُ العاشق بهذا الألم، بهذا الإضطراب حتی عندما أسمع ضحكةً أعرف أن فیها صورةً من جوهرك الرمادي وذكری من ذكریاتك الوردیة ولایخفق القلب إلا لك ولایخضع أبداً إلا لماضيّ كان معك وحال دونك ومستقبل مجهول، أتذكرین حیث نستلقي علی الأرضِ وننامُ علی الأعشاب؟

- یابه هذا إمخبّل، إمشوا أحسن...

یا إلهي! حتّی اولئك الاطفال عرفوا سیرتي، إنّي لا أنكر حكمة الجنون، فحقاً أنا مجنون، ولكن یا إلهی لماذا أعطیتني هذه الموهبة بعقلٍ ودرایة تفوق الجنون؟ لم تعطني یا ربّ ماأشتهي كما أشتهیته ولا بمقدارٍ حجمي فإنّها درایة تفوق حدّ الجنون، وهذا هو حظّي وجنوني، وخیبتي الواسعة كشعیعات المصباح، في كهفٍ مظلم أو مفرقعات ناریة في أیام حزن ٍ ومصیر الفاعل أن یؤنّب وماكان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضی الله ورسوله أمراً أن یكون لهم الخیرة من أمرهم. خرجتُ مُسرعاً لأُنادي تلك الأطفال، ولكن للأسف لم أرَ أثراً منهم.احتضنتُ سیجارةً أُخری، أخذت أُقَلّب بیاضها بتمعن، لازالت تحتفظُ ببكارتها ولكن لم تَخَف إهداء بكارتها لشفاهي المُتعطّشة، ولجنوني الجنسوي بإتجاهها، لم تخف یوماً من مضاجعتي، كانت ترتمي وتصطدم بعنفٍ بشفاهي، تُقَبِّلُ ماتبقّی من سوادٍ و ذبول علیها؛ یا سیجارتي! ما أنتِ إلّا من بعضِ ذاكرة حزنٍ، ذاكرة الهزیمة، حین إنغرست بك شفاهي ذات لیلة علی شاطیء بأقصی نقطة من الجنوبِ، حین كنت هاربًا من دُجی العشیرة وأسیاط الفشل، ولكن كان حُبُّك من النعمةِ والعافیة، إذ لا تنمو في النفسِ الا معاني شهواتك ومعاني لذاتك وانتِ المثلُ الأعلی الذي لابؤسَ فیه ولاخیبة أملٍ، أنتِ معبدٌ تُحمَل إلیك الآلام والاوجاع لتُنسی فیك هنیهةً من الزمان وكثیراً من المكان، لهذا یُقبِلُ علیك الفلاسفة والشعراء واهل الاوجاعِ الحساسة والطباع الرقیقة، أتیتك بأنفاسٍ ذابلة، وقلب كئیب خاب أملهُ مرّات في ضعفٍ وسأمٍ، سقیمٌ لَم یَحظَ بلحظة سلام، أتیتك واللیلُ سكن وجهي، أتیتك أهدي لك لون الرماد في قوّةٍ وعزیمةٍ. دَخَلَ عليَّ صدیقي الذي كان یرتدي كعادته سترة سوداء وحذاء قصیرمن نوع مطراش وسروال جینز أزرق؛ الهاربُ من أجواء بیته مثلهُ مثلي یبتسم علی خلاف عادته، ویقول: هل نویت علی تصفیة عرقیة لشعبِ الدُخان وها جنودك اصبحت شفاهك الذابلة؟ أتسعی أن تنتحر بالدُخان؟ یا صدیقي إمهَل رئتیك دقیقة لِكي تستعید قواها. یا صدیقي مِن متی وأنت تدخن؟ اخبرني لأنّي عزمتُ علی التدخین.

لا علیك یا منحرف... كیف كانت مائدة العشاء؟ وبدء یصوّر لي المائدة كما كانت تحتضن من لحوم، وأنا وإن كنت أمامه جسدیاً لكني كنت منحرف عنهُ إلی الجانب الآخر من حیث الفكر والتركیز، تركتهُ منغمراً بلذّات الأكل وحلّقت أنا بخواطر «دیوجانس الكلبي» ذلك الفیلسوف الیوناني الذي طلّق الدنیا وملذّاتها وبات یسكنُ في الشوارع وینامُ في ظرفٍ حَدیدي یشبهُ بیت كلبٍ أهلي،كان طویل القامة، رقیق العود، هزیلًا، یخاطب الناس بعراهُ وجوعه الذي لو لا الموت ما تقرب من أكلٍ ولاشربٍ؛ تذكرتُ تلك الفعلة الشنیعة حینما جَلَسَ وسط المدینة وأخرج قَضیبهُ وداعبَ نفسهُ واستمنی حتی أخرج ماءً دافقاً أمام أعین النساء وبَعدَ أن هَمَّ بالرحیل، جاءت فتاةٌ جمیلةٌ وسألت هذا الفیلسوف، یا أنتَ ماالقصدُ من هذا؟

- لأنَّكم انتم البشر البؤساء التعساء في أمسّ الحاجة إلی المساعدة، أرید مساعدتكم ولأُبیّن لك ولكلِ فتاةٍ في العالم بأنّ الرجال لایحتاجون النساء لأنَّ أیدیهم تكفیهم، وأیضاً أنتن النساء لاتحتجن إلی الرجال لأنَّ ایدیكن وباقي الآلات تكفی لإرضائكنَّ جنسیًّا؛ فعلیكم أیها الناس بالإستمناء ولَو أستطیع إخماد شهوة بطني بالفرك بالیدِ أو علی الأرضِ حتی لا أحتاجَ إلی موائدكم لفعلت لأنَّ دُنیاكم أصبحت سوداء وكأنّها فمُ ظلٍّ ترك صاحِبهُ خیبةً.

ماكانت هذه فلسفة أو تشتّت بل كانت طریقة الحیاة بأكملها، لیتني كنتُ أستطیع الهروب من اولئك البشر الذین یخالطونك كطاووسٍ انسل ریشهُ الجمیل فردَّهُ طمعهُ القبیح كدجاجة وسخة في متاجر تبحثُ فیها الناسُ علی جسدها لإخماد شهوةِ بطونهم، وطمعهُ یسلبُ زینتهُ المصنوعة، یقطع صدیقي خیط أفكاري ویسألني: ألستَ جائعًا؟ لستُ جائعًا یا صاح بل أنت رددتني إلی المسخ یا رجل، كنتُ أعیش وها أنت أنهیت حیاتي بسؤالك، نعم لي حاجة، وحاجتي عندما تتحوّل إلی سیجارةٍ لأجد منك معنیً جدیداً في شهواتي. طیّب صدیقي اتركك في وحدتك أنت اللیلة منقطع الجذور. التَوَت قسمات وجهي من الغضب حاولتُ إخفاء غضبي ولَو كان بودّي أن أقوم وأشجَّ رأسه بحجارةٍ لكرهي لهُ، قلتُ لهُ بشیءٍ من الغضب:

- ماذا؟

- منقطع الجذور، أتعلَم أنت یمكنك أن ترتقي عالیاً إذا كنت راغبًا في الإجتهاد والمثابرة، ولكن... أتمنی لك حظًا سعیدًا وأنا آسف إذا أزعجتك. سأنتظر اوبتك حین تخرج من هذه الأحوال المؤسفه، یا صدیقي اترك ما تبقّی من ذاكرتك العتیقة لأنها لاتُغني ولاتُسمن من جوع. اخرج من عُتمة أوهامك، اترك الخیال وكل شیء لهُ صله بالماضي، أخي؛ إنَّك علی وشك الانتحار، وسیكون انتحارك بالدُخان؟ من المُخزي أني اصطحبتك الی مراسم صدیقي.

- لماذا؟

- لا اعرف لماذا خرجت هذه الجمله. هل غضبت منّي؟ارجوك سامحني. ارجوك سامحني.

- سامحتك، ولكن ما المخزي فی إصطحابك إیّاي للمراسیم ؟ وهل انا الذي طلبتُ منك أن تأخذني، أو أنا الذي ؟ علیك ان تخبرني ماهي القضیة التي جعلتني حقیرًا في عینك الی هذا الحد؟

- أولاً قضیة ادمانك أصبحت واضحة علی وجهك وجسدك، ومن ثم تَوًّا في المراسم أسمعُ الناس تتكلّم عنك، وعن ثیابك، سمعتُ أحدهم یقول:«إنَّ هذا الفتی ینتقصُ من كرامة زوجتهِ كما إنك لست برجل و لدیك ماض مؤسف».

تذكرتُ كتابتي التي باتت ناقصة وانا في أمسّ الحاجة إلی مساعدة ضیاء، لأني اخترت قضیّة زواجه كفصل لروایتي لهذا هدّأت من روعي وقلت له:

- لا؛ لَم أغضَب مِنك یا ضیاء. أطلبُ منك شیئاً وأرجو أن تُلبّيه لي، طیب! أتذكر حینما قلت لي مرةً بأنّ الحب سابقاً یختلف تماماً من عصرِنا هذا، أحبُّ وجهة نظرك في هذا الأمر، لأن كانت الرسائل علی ورق، لاتوجد هواتف محمولة ولا حتی هاتف أرضي، إشرح لي تلك الأوضاع الغرامیة لأني احتجت لها لكتابة روایتي وارجو أن تقصَّ لي قصة «انغام».

- دعني یا صاح، فإذا رویت لَك روایة «أنغام» سأُعَذّب زوجتي وابني لمدة اسبوع.

- طیّب، عذبهُم لإسبوعین، ولكن ارجو منك أن تقصَّ لي قصة «أنغام» كلُّها ومن ثم اذهب واشنق حیزبونتك.

- طیّب یا هَمَجي؛ أعلَم بأنّ قصّتي ستكون في روایةٍ ما ولكن ارجوك أن تغیّر الأسماء لأني سوفَ اُذبَحُ من قِبَل أهلي وأهلها، ومُصیبتي ستكون أعظم إذا لم أروِ لك، لأني لا أطیق زعلك، فاسمع:

«كان المطر یهطل بكثافة، وكنتُ قد أخذتُ الجدار مأوی من المطر، كان الماءُ یجري عبر المیزاب، وقد بلَّلَ ثیابَ فتاةٍ جمیلةٍ اتخذت الجدار مأوی مثلي، فوقفت تنظر ُ إلی حذاءِها الذي مُلأ من الماء، وثوبها المدرسي الأزرق المبتل الملتصق بوركیها حتی بان لي فخذاها السمینان وثوبها یدلُّ علی انّها في الثانویة من مدرسة «پروین اعتصامي» التي تغیّر اسمها بعد الثورة الی «آمنه»؛ حیث مسیرُ مدرستها ومدرستي كان مسیرًا واحدًا، كانت أجمل وأرقی البنات، فأوصلتُ نفسي إلیها وقلت لها: هل أستطیع مساعدتك؟ ولأنّي كنتُ شخصًا بعیدًا عن باقي الأولاد ولم تكن لي سابقة في التحرشِ بالبنات، أجابت علی سؤالي بجدٍ وقالت: شكرًا أخي، یداي متسختان ولا استطیع أن أرتّب ثیابي، اردت أن أغسل یدي بهذا المیزاب ولكن حذائي أیضاً مليء بماء المطر، ضحكت ضحكتها السماویة تلك، فشكرتني وسارت بطریقها، وبقیتُ أتابع أخبارها لِكي أفترسها في مجزرة الحُب، وأمّا كیفیة وقوعي بحُبّها، فقد كان یومًا مُنعِشًا وأوّل ما وقع نظري علی هذه المَلِكة خفق قلبي، كانت تمشي بغنجها الأنثوي اللامثیل له وتفوقني بخطواتٍ قلیلة، حثثتُ خُطايَ حتی تعانق بعبق خطاها، إقتربت منها وقلتَ لها بنبرة غارقة بالخوف والخجل والاشتیاق:«كم أنتِ جمیلة»! فضحكت تلك الضحكة المعهودة وغمزت لي وأومأت لي بأن هذا الجمال الذي خلب عینیك هو ملك لك . أصبح هَمّي في كلِّ یوم هو أن ألتقي بهذا الجمال الخارق؛لأننا كنا نسیر في نفس الطریق عند ذهابنا إلی المدرسة، وكنّا نتقاذف النظرات والبسمات، فعلمتُ بأنها كانت تحملُ لي أحاسیس رقیقة ملهمة السبب الذي جعلنا ننتقل إلی مرحلة المواعید، كان الحبُّ طفولتنا الكبیرة، تقاذف الالماعات و البسمات البریئة هو كلما نملكهُ، كان مسیر المدرسة أوتارًا مكتوبةً بخُطاي وغُنجُ خطاها علامات النغم، إنفرادنا لحنٌ و دندنة ودبكة غجر، آه كم كنت أشتاق إلیها، حتی كادت تراودني احلام بأن أضع رحلي و أسكن الشارع الذي ینتهي إلی بیتها، كانت عدوّة التصنّع، تكره الِحیَل، كانت إمرأة فحسب، صدق من قال إنّ المرأة لتكون امرأة فحسب، إلی أن تجد عاشقها، بطلها، قصة غرامها، فإذا هي وافقت منه الحب؛ فقد تتألّه في قلب انسان، ویصیر لها جنّتها ونارها، وها حبیبتي خَطَت خطوةً لم یخطها عاشق بارع كسول، فطلبت من امها أن تأتي بكتابها الإنجلیزي حتی أُترجم بعض المفردات التي علیها أن تحفظها، لعلّه لاوجود لإختبار، بل بحجةِ أن ترسل لي رسالة من خلال أُمها التي أصبحت بعیني كتلك الحمامة التي جاءت من طریقٍ بعیدٍ لتخبر الأمیر بأن حبیبته حیة تُرزق بالحُبِّ والأمل وبهذا الخبر تزرع التهالیل بقلبه؛ یا صدیقي تصوّر عندما فتحتُ الكتاب وجدتُ شرایین المفردات ناراً تلتهب وقلب الرسالة یبوح بأسرارٍ غرامیة؛ «حبیبي ضیاء... سیدي الاستاذ، الفیلسوف المُعطَّر، في عینیك سحرٌ عتیق، سحرٌ ظاهرٌ بمعانیه الغرامیه، وتحتفلُ بهذا السحر تیمات بسرقاتها الجنونیة لتُلقي الحبَّ علی من یُحدّق إلی طاعونك الأزلي، یا ضیاء... أكتب وعاصفة الاضطراب تقتحمُ أصابعي واسمك المستبد الجبّار یأمر قلبي أن یخفق بشكلٍ عشوائي، أتمنی أن أجلس بالقُربِ منك لأفسّرَ كل معنی في تجاعیدك وكل سرٍّ في أساریر وجهك الكئیب. حبیبي ضیاء أنا أتفوق علیك من حیث جعلت أُمّي رسولة إلی هذا الحب فأرني ماذا تفعلُ بأمك یا فیلسوف. لاأعلم لماذا كان الحظ لكتاب المادة الإنجلیزیة بأن یلمس یدك، فكان بودّي أن أرسل كتاب اللغة العربية ولعل ماحصل حكمة من حِكم إله الحُب. حبیبي ضیاء... أنتظر الردّ منك بشكلٍ بولیسي وأرني الِحیَل كلها كي تصل رسالتك بأمانٍ... حبیبتك أنغام».كانت هذه الرسالة طوفان دمّرَ استقراري؛ عاصفة أثارت بمجیئها رجاحة تركیزي، أسیرُ وكأنني مسخ أو مجنون، لم أسمع أُمي وهي تسألني، همتُ بهذه الجملة «أتمنی أن أجلس بالقُربِ منك لأفسّرَ كل معنی في تجاعیدك وكل سرٍّ في أساریر وجهك الكئیب» یا تُری هل تطلبُ منّي موعداً غرامياً تحت سقفٍ واحدٍ؟ أو أنها تطلبُ مني أن أتقدّم إلیها للزواج! سرقتُ الرسالة من بطنِ الكتاب، اقتحمت بكارة الورقة، سلبتُ منها أُنوثتها لأُخطَّ: «حبیبتي أنغام، أحبك، غداً...» لا أعلم لماذا لم أكتب قصیدة مُطوّلة أو رسالة غرامیة علی نمط كافكا، أو جبران خلیل جبران، أو علی أقل تقدیرأسرق بعض الجمل من هذا وذاك، ولماذا اكتفیتُ بجملة «أحبك» لاأعلم؛ ولماذا تركتُ مفردة «غداً» ولم أمحها لاأعلم؛... وضعت رسالتي داخل الكتاب وأعطیته لأُم أنغام فقالت:

- شوف حبیبي ضیاء، ترآهي أنغام أُختَك، أریدك إتشد إلهَا حِیل، حتّی تقره وتدخل الجامعه، ترآهي شاطرة وأریدهه إتصیر طبیبة.

- صح خالتي هیه حیل شاطره ، صار خاله، سلمي لي علی أنغام وگوليلها ضیاء ایگول لازم تحفظ هذه الجملات، ترآ واید مهمّات وانا ادرس ابمدرسة «كاوه» ومعلمي هو الي ایدرس البنات إبأمرٍ من فوگ، گولیلهَا تدرس.

- صار عیني ضیاء.

وبدأ مشواري الغرامي بمنطقِ اللامنطق، في تلك الأجواء الساحقة للعواطف البشریة، سرتُ ولا أخاف العرف والتقالید، صرتُ أهتمّ بملابسي وقصَّة شَعري وكلامي حتّی تطورت أحاسیسي وبدأتُ أسمع أغنیات عربیة أصیلة، أغنیات عربیة خالدة من مشاهیر الفن العربي والعالمي فسمعتُ «أُم كلثوم»، و«عبدالحلیم حافظ»، و«ماجده الرومي» بعدما عالجتُ إدماني علی أغاني مُهرّجین بإسم الفن، لایعرفون من الفن إلا حضور الحسناوات في حفلاتهم، فاولئك كالطاعون سیطر علی مذاق الشباب آنذاك، ومافیا الموسیقي التي باتت تفضح اولئك الشرذمة الذین وسّخوا الساحة المقدسة للفن. یا صدیقي كانت الرسالة من یدِ حبیبتك رصاصة انقاذ، عندما تكون أسیراً بیدِ هُنودٍ لِكي تكون ضحیة لإلهٍ طلب منهم الدِماء، فیأتیك الجلاد ویضع رقبتك علی منصّة الضحایا فیباركون لك لأنّ الإله طلب دمك كهدیة ثمینة، فاختیار الإله مجدٌ للفتی، وقبل أن تنزل السكین علی رقبتك تأتي الرصاصة لیسقط الجلاد ویتقبّل الإله دمه بدلاً من دمك، فهذا كان شعوري، تنقذني من أوهامي ووحدتي، أُقبّل الورقة ثمّ اقبل الخط، ثم المفردات ثم الإسم وأعیدُ الكرّة في قراءتها لكي أخزنها مع طائفة ٍ من الرسائل التي صار عددها یفوق عدد عائلتي وعشیرتي، فصراحة لا أهتمّ إلا بإختزانها، حتّی تركتُ مائدة العائلة وأصبحت ُ لا آكل شیئاً إلا في غرفتي و مع وحدتي» فسكت ضیاء، وقلت لهُ:

- طیّب ضیاء، إن تودّ إكمال ملحمتك الغرامیة فأنا متلهف لسماعها.

- تنهّد ضیاء وقال: مُمِلة یاصدیقي.

- ولكن حدیث الحب مقدس، أودُّ أن أسمع جمیع القصص التي تحدث بین أفراد جیلنا والتي كثیراً ماخابَ بمسیرتها المغرمون.

- طیّب صدیقي فاسمع ماحدث بعدها.

«في أیّام الشتاء، كان البردُ قارسًا حیث جاءت أُمّي وسحبتني نحو المطبخ قائلة:

- شوف ضیاء، إنت گاعد تشهرنه، صاحت علیك الصایحه، وانت لازگ ابهاذي لبنیّة، حتّی صارت اتغازلك بالشوارع، لاحیه ولاعفّة، وابوك فهم أمرك، طلب منّي أمنعك من هاذي لبنیّة، لا وبعد نزعت حجابهه ابحجّة «الشاه»؛ ترآ راح ایطردك وبعدهه وین راح إتولّي، ولك جوز من هذه لبنیّة انت تدري المثل ایگول: السوده علی أهلهه، إذا أهلهه افتهموا راح ایحمّلونه فَصُل، وراح ایشیّلونه، وراح نشتهر، ولك وین راح إنولّي إذا إنطردنه؟

- هاي شني یُمّا؟ إنتي دخلتي غرفتي؟

- إي یُمّا، دخلت غرفتك واختك قرَت رسایل هاذي المصیوبه ولك ماتستحي؟

- لیش دخلتو غرفتي؟

- ها! هسّه إحنه طلعنه مطلوبین؟ یا قلیل الحیه ولك جوز من هذي الشرموطا، لا أخلي ابوك ایربطك علی النخلة ویشربك ماي اوملح وایچوّیك علی ریلِك حتی لاتگدر تمشي.

- أنا اریدهه، یعني أریدهه.

كانت والدتي تعرفني حق المعرفة، فأنا ضیاء فتی الربیع في لحظات السلام وطفل الشتاء بعواصفه المُترِبة وبردهِ الأصفر في الشدائد وأستطیع أن أمتلك تلك الأحاسیس في آنٍ واحد، وكانت العائلة تعرفني كیف أتحول في لحظةٍ من نسیمٍ إلی عاصفة من لحظة سلامٍ إلی غزوٍ مغوليٍ لبغداد. كان یعتریني إحساس بالذنب لأنّ والدتي لقّبتها «بالشرموطة» وعرفتُ بأنّ أُمّي واختي قد أحرقتا الرسائل... لیست الرسائل فحسب، فقد أحرقتا حیاتي، ضاقت الدنیا بعیني، لامكان لي حتّی أقرأ الرسالة التي كنتُ أحملها، تلك الرسالة التي وقعت بید رسولٍ یخافُ أن تبوحَ بأسرارها أو خوفًا من أن یُطرَد من مكتهِ إلی مدینةٍ أخری، هربتُ نحو الشاطیء لكي افتح الوصیة الأخیرة، نعم یا صدیقي كانت حقّاً وصیّة، وصیّة أخیرة كان فحواها:«یا ضیاء... علمت العائلة بأمرنا؛ هذه القضیة الغرامية في الشرق تُعَد من ضمن الإنقلابات الفاشلة؛ فهذه القضیة لاتزال في خطواتها الأولی،عزم والدي علی أن یزوّجني من إبن عمّي تأنیباً لفعلتي وها أنا أفتقد السرور والحیویة، أفتقد الحنان والأمان، وأفتقر إلی وجودك جنبي لكي تحمیني من أهلي، یقول لي والدي: یا أنغام أنتِ أخطأتي، لأنك طلبتي اللذة، فاللذة لذةٌ بنفسها ولكنها تموت وینتهي أمرها إلی حبلِ مشنقةٍ إذا خرجت من إطار العُرفِ، فأنتِ قد أبیحَ دمك، إمّا أن نذبحك او نزوجك، فأنا اخترتُ الطریق الثاني، ولو أنّ قتلك قد وجب لفعلتك الشنیعة هذه. یا ضیاء إن جئت اللیلة ستنال حبیبتك الحیاة وإلا فالموت اقرب مایجول ببالها... رفیقة الطفولة والمدرسة أنغام». بكیتُ حینها، وصرختُ كلا یا أنغام، فأنا لستُ عربیاً طائفیاً ظالماً كي أجري علیك حكم التقالید في مجتمعٍ بائسٍ إحترف قتل الخود. یا صدیقي كنت أبكي و أركض نحو البیت، كان جسدي لم یحمل إلا النیران التي اجتمعت بعصبیتي وغضبي الذي كسّر أغصان جسد لایعرف إلا أنغام، دخلتُ البیت، رأیتُ إجتماعًا لأفراد العائلة وكأنهم وفد لمكافحة الحب، یا صدیقي یمرضُ الحب ربیعاً من سنته، ویشرفُ علی الموتِ ولعلمك لم یَمُت، ثم یطیر في الحب لَهَبُ التقالید البائسة فهذه التقالید عدوةُ الإنعطاف، هَمَّ والدي بضربي إلا أنّ أخي الأكبر منّي هدّأ من غضبه، فصرخ قائلاً:

- یا كلب... یا حقیر، یا ابن القُندرة، هذي تربیتي؟ هذا جزاي یا لوتي یلمعفّن؟ أنطي افلوسي علی إنیاچتك لو للمدرسة وخرابیطهه؟ شنو ایعلمونكم بالمدرسة؟ انیاچه وإطیاح حظ؟ أشو یاخذون افلوس أكثر من هیكلك ویومیة هذا المدیر گال انطیني افلوس هدیة آخذ لإبنك لأنه شاطر؟ إي شاطر بطیاح الحظ، تف علیك وعلی معلمیتك ومدیرك وساسك الخراب.

- شوف بویه، خل أگلك، أنا أرید أنغام وإذا ماراح اتخطبونهه إلي راح تحرگ روحها.

لا اعرف ماذا قلت لكي یتغیّر البیت من ساحة الصراخ وتلك الصیحات الحادة العالیة التي نبّهت الجیران وكأنَّ اسرافیل نفخ في الصور، ذلك الصراخ الذي مزق القلب المُتَیَّم وفطرهُ، یتغیّر إلی لحظة مُنعِشة، یسمعوا ما أقول! فلطمت أُمّي خدّیها وكذلك أُختي، بكي والدي، طأطأ أخي براسهِ، ما كانت هذه الجملة و ما طلاسم فحواها حتی تحولت الأفاعي السامّة إلی حبال صامتة ساجدة أمام عصا موسی والتقالید المتعجرفة إلی خیوط بیت عنكبوت واهنة ؟؟؟ وهنت التقالید و خضعوا لطلبي، «وربُّك یخلق مایشاء ویختار ماكان لهم الخیرة» فطلب والدي من أُمّي أن تذهب إلی بیت الحبیبه وتطلب منهم الإذن لطلب ید أنغام. بعد عودتها علمتُ بأن عائلة أنغام وافقت علی أن نذهب لتأدیة مقدمات الخطوبة، فَرِحتُ كثیراً بهذا الإنجاز، جهزتُ نفسي، أعددت ملابسي وكنتُ أعدّ الدقائق بل الثواني للذهاب إلی بیت أنغام ، ها هو اللیل یسدل ستار ظلامه وخطواتنا تزحف - ولو باكراه - كمسیرة إنقلابیة علی تقالید المجتمع،التحق بهذه المسیرة عمّي وسیّد شریف الهاشمي الذي كان من أوجه الأشخاص حَسَباً ونسباً، فقد أتینا بهِ كي لانسمع ردًا سلبیًا في أمر الخطوبة من قِبَل عائلة «أبوكمال». طرقنا البابَ، فتحَ البابَ «عامر» أخو أنغام، كان قصیر القامة، وجههُ دائري أبیض، لم أكن أعرف ُ سابقًا بأنّهُ «منغولي»؛ مسكین، لم أعرف لهذا المرض سبباً ولكن قررتُ أن اقرأ حول هذا الشیء، نظرت أُمّي إليَّ وقالت:

- طایح الحظ یا ضیاء، إبنك هیچ یطلع؟ وین إتضُمّا من مصخرة عمامك السفهاء؟ اهنا نَشلَه مایطیبون مو بعد هیچ.

لم أهتم بما قالتهُ أُمّي، خرجت أم أنغام ترحّب بنا،لكنّ والدي كان ینتظر ترحیبًا من والد أنغام فغضب ونظرَ إليَّ بإحتقارٍ وقال:

- ها.... نخطُب من نسوان؟

علی أیة حال، دخلنا غرفة الضیوف، انتظرنا كثیراً حتی یأتي رجلٌ لترحیبنا أو علی الأقل هذا المنغولي؛ مرّت دقائق لكنّها لم تكن دقائق بل سنین عجاف وسیاط الملامةِ تضربني بنظراتٍ سادیة حتی تدخَّل سید شریف وقال:

- جماعا إشلون؟ نمشي، ننتظر؟ هذوله ماوراهم خیر.

قالها بصوتٍ عالٍ لكي یُسمِعَ اهل البیت؛ دخل علینا والد أنغام ببذلتهِ الدرامیة، یشبه مستربین في حماقته! آه یا إلهي كل شیء في ذهني انهار مرّةً واحدة، عجیب! لماذا كل هذا الإستهزاء والكره تجاه هذا الفزّاع الحقود الهارب من حدیقة بعیدة؟ ولو لا أهمیة هذا الفزّاع في أمر الخطوبة لسحبتهُ من أنفه أو جرجرتهُ من قمیصه المُندرس إلی حلبة الصفعات؛ أخذ الفزاعُ یتكلّم:

- أهلاً وسهلاً، مرحبا بیكم، شرفتوا.

- مشكور ابوكمال، یمعوّد انتظرناك بالباب، شني هذه مو من اطباع العرب. قال هذه الجملة الإعتراضیة ونظر إلی أُمّي مُنزجراً... چا موش خبّرتكم الحجیّة؟

- إي نعم... بس چنت مشغول. قالها باكراه ملتفتًا الی الوراء.

- وردّ علیه السید شریف: بیمَن خویه! چا موش الضیوف أهم من الصلاة؟

- یلا ماكو داعي. المهم صار خیر، حجّیة جیبي الچاي، أهلاً وسهلاً، عجیبه منكم، ماحسّبنه إلكم نظر علی إبنیاتي، مو أشوفكم بعید لبعید سلامكم ببروده، اشصار مرة وحدة؟ ها جماعا!

- خویه ابوكمال! إحنه جایین نخطب أنغام الضیاء، وعسی أن توافق وخل نقره الفاتحه وخل النسوان ایهلهلن.

- طیّب، بس...

- وأكمل سید شریف: بس ماكو ابوكمال. گول مبروكین.

دخَلَ علینا «عاصي» إبن عم أنغام، وبالفعل كان عاصیًا، هذا الموجود الغریب الأطوار الخارج من الأفلام الكرتونیة بقمیصهِ الأخضر ككتیبة فرعونیة أو جریدة رُسِمَ علیها مفردات مُنسّقة من قبل جمیع الدوائر الحكومیة، وبنطلونه الأزرق؛ یحملُ ساعة وردیة وخواتم مایقارب عدد اصحاب الكهف ألا وهو ثامنهم ثم نَبَحَ:

- جماعا، أنا نهّاي، والنهوة من حقّي، لأنهه بنت عمّي، وماننطي للغریب، وماعدنه بنات الكم لَعَد علي إویاكم؛ وهذا ابنكم أكضّا برّآ وانا أعلمَه إدروس الخطوبة، حسباله گوترَه، لوماعدهه أهل؟

ألحَق من أسماه عاصي كان یعرف سیرته النتنه ورائحة فمه كانت تحمل ضحایا الحرب العالمیة الثانیة بعد حرقهم في آشفیتس، حتّی ردّ علی هذا المُتِعفّن السید شریف الطاهر برائحته النقیة قائلاً:

- إستهدي بالرحمن إولدي، إگعِد انسولف، تفضّل، ترآ إحنه إضیوف، وعیب هیچ كلام؛ حتّی إذا ماتنطون خل نگعد ساعة نتعرف علی بعض وماشین، تفضّل بابا، تفضل اگعد.

ولكن هذه الحثالة المُتحركة تحملُ جمیع الروتینیات في الجوابِ، فلا حكمة ولاحُجّة، حیوانٌ حیوان... عفوًا بل الحیوان أشرف من عاصي... فقال العاصي مجدداً:

- أنا ناهي یعني ناهي، بنت عمّي، أحطها وأحرگهه وما أنطیهَه إلهاذه لمنسّل، حسباله ایغازل بالشوارع؟ إحنه ماعدنه بنات شوارع، یلّا علي إویاكم... لا أترس حلگكم رصاص.

ونظر والدي إليّ وقال: توصل للبیت لو لا؟

ونظرت والدتي إليَّ وقالت: طاح حظّك المنسّل، حقّرتنه، حلو هیچ؟

ونظر السیّد الشریف الهاشمي القریشي إليَّ وقال: خوش خوال لفروخك یلمنسّل.

فنهض والدي وقال: نهوتك مقبوله، ومشكورین.

تمنّیتُ أن یكون طریق العودة كطریق الحجاز للصین حتّی لاأری مجزرة الطعن والملامة وانهیار الشتائم كجدار برلین علی رأسي، الشتائم التي أضافت مفردة جدیدة إلی قاموسها وهي «المنسّل»؛ آه یا عاصي ماذا فعلت؟ وحین أذكر ملامحهُ أضحك بهیستریا ولكن عندما أذكر قوله بأن یحرق أنغام ینتابني قلق شدید... آه یا أنغام، وأنا سارح بملامحها تأتیني صفعة من أبي قائلاً:

- شوف ضیاء إنت جایس البنت من گِدّام؟ یعني هي حامل؟ وین أخذتهَه ولك؟ یاهو یدري ابهای المصیبة؟

یا إلهي لم أفهم الصفعة حتی نزلت علی هیكلي المُنسّل هذه الاسئلة التي تفتقرُ الی حنان الأمّ والأب فصدق من قال: الكیفیة مجهولة والسؤال بدعة.

رنَّ هاتف ضیاء... فخرج من عالمِ القدیم، كان المُتصل ابنه، طلب من ضیاء أن یشتري البصل و الخضروات و بعض مایحتاجونه للطبخ، فضحك ضیاء واستأذن وقال: هاذی عیشتي هسّه، والله دنیه، صدگ انا طاح حظّي لمنسّل، الله ایلعنچ یوم، ونار ابگبرك بویه. ذهب ضیاء وبقت تصاویر عاصي تحومُ حولي، كنت اعرف قضیة الخطوبة فكان الراوي مدیر المدرسة كعادته یفضح ویبیح باسرار العوائل ومما اضافه الی هذه القضیة قوله: فبقی ضیاء منعزلاً لعدة سنین ولم یشف ضیاء وعاصي واهلهُم من تلك الصدمة، وبعد الثورة والحرب العراقیة الایرانیة اجبروه ان یتزوج من فتاة لم یحبها وكان یتهرب من البیت فكان یتجه كل یوم بعد نهایة الدوام من المدرسة الی الشاطیء لیعیش ذكریات أنغام. وظل یبكي علی حالهِ وتلك العشیقة التي أضاعت مستقبله باكمله فیقول:

أجُر حسره إعلی شبابي أو یاهِلي

إلبیهَ چانت گَبُل عِزَّه وًي هلي

یا هَلي كلَّه إمن إیدیِكم یا هَلي

ماأخذتولي الأحِبهَا إمنل بنات

«*وكذلك أوحینا إلیك رُوحًا من أمرِنا ماكنتَ تَدري ماالكتابُ ولا الإیمان* خلقٌ من خلق الله عزّ وجل أعظم من جبرئیل ومیكائیل كان مع رسول الله یخبره ویسدده وهو مع الأئمة من بعده»

«الیوم الحادي والعشرون: عن الصادق أنّهُ یوم نحس مستمر یصلح فیه إراقة الدماء فاتّقوا فیه مااستطعتم ولاتطلبوا فیه حاجة ولاتنازعوا فیه فإنهُ مذموم ردیء منحوس، ولاتعلق فیه سلطان تتّقیه فهو یوم ردیء لسائر الأمور ولاتخرج من بیتك وتوقّ مااستطعت وتجنّب فیه الیمین الصادقة وتجنّب فیه الهوام فإنّ من لُسع فیه مات ولاتواصل حتی یفتقر ویهرب من السلطان وفي روایة: من ولد فیه یكون مرزوقًا في معیشته ویعمر حتی یهرم ولایفتقر أبداً».

الیوم الحادي والعشرون من شهر صفر؛ أقسَمَت الجنیّة بأن تأخذ كل شهرٍ خیرةِ شبابِ المدینة حتّی یضحّوا الأهالي جملاً أصفر في الضاحیة الجنوبیة من المدینة ویتفدّوا علی الفقراء... هذا النبأ أتت بهِ أُمّ غیث تلك العجوزةُ التي تقولُ بأنها تتحدث مع الأجنّة والأرواح التائهة التي تسكن هنا في مدینتنا وكما قیلَ؛ سَكنَ في جلدها زار «شیخ شنگر» وهذا أخطر الزیران في العالم ومحل سكونته جبل الریح؛ یسكنُ في الجبالِ وإذا أراد صید أحدٍ یأتي إلی الشواطیء أو الصحاري وكما هو مشهود إذا دَخَلَ «شیخ شنگر» جسدَ أحدٍ تُصبحُ الضحیة مضطربةً ومتوترةً دائمًا، في بادیء الأمر یأتي في أحلام الضحیة بصورةِ كبشٍ أبیض و حین ارادت الضحیة أن تمسك الكبش یسقط رأس ذلك الكبش وإذا صرخت الضحیة ونهضت مذهولة دَخَلَ جسدها، فهذا شرُّ وبلاء ولایستطیع احد علاجه لا طبٌ ولا طبیب بل علاجه التیّمات والمعوذات والخیزران والأورام الحاصلة علی جسد الضحیة، ویجب أن تُقرأ هذه الأشعار عند رأس الضحیة:

«یا لاهـــــــل زار وفوني وانا مـــــــــا وفوني

شیخ شنـــــــگر رضو وانا مــــــــا رضوني»

وبما أنّ شیخ شنگر زار ثقیل إلا أننا لم نر بأنه أهلك أحدًا.ویعتمدُ كثیرٌ من الأهالي علی أقوال أم غیث حتّی أصبحت تُقاس بأبي علي الشیباني، ذلك المُنجّم الذي ذاع صیته في الفضائیات وأخذت العوائل تتابع أخباره وتتصل علیه. تدور هذه الأحداث في دماغي حتی رأیت عبر نافذة الصف بقرة صفراء تدخل من الباب الرئیسي للمدرسة ببطءٍ وتخطو نحو النخلة التي غُرِسَت قبل أشهُر في زاویةٍ من باحة المدرسة؛ تذكرتُ كلام أحد المُشعوذین حین قال لي:«البقر حیوان علی كبر حجمه وقوّته خلقه الله ذلولاً للإنسان، ونافعاً له، ومن خواصه إذا أكل شحمه أخرج الداء من البدن، وإذا بخّر به البیت مع زرنیخ أحمر طرد منه العقارب والحیّات وسائر الهوام وإذا طلي به إناء إجتمعت إلیه البراغیث، وإذا أحرق قرناه وخُلِطَ رمادهما بالخل ثم یطلی به موضع البرص مستقبلاً به الشمس فإنّهُ یزول، ودمّ الثور یحبس الدم السائل، وإذا طلي به الورم یسكن وجعه، وإذا طلي بمرارة البقر الشجرة فلا یتولّد فیها الدود، ومن استصحب معه شعبة من قرون البقر الوحشي نفرت منهُ الضباع والسباع» وهل البشر نوع من انواع الضباع؟بقیتُ أتابع خطواتها البطیئة، كانت یداها بیضاء، فكانت بصراعٍ مع ذبابةٍ علی أنفها، فهذه الذبابة تمنعها من السیطرة علی طریقها، تهشُّ الذبابة بحركةٍ سریعةٍ من عنقها ولكن ترجع الذبابة علی ظهرها، ثمَّ تهشُّ الذبابة بذیلها حتّی تغیّر الموقع الإستراتیجي من جدید، تأتي علی أنفها مجدداً، تبطیء الحركة الثالثة وكأنها قبلت بالهزیمة بأنّ الذبابة فلتكن علی أنفها رغماً علی أنفها، تقتربُ من النخلة، تمنّیتُ لو یحضر أحد الطلاب أو الزملاء لطردها لكي لاتنهب جمال ثمر النخلة بتقطیع جسدها البریء ولكن لامنقذ هنا... فاقتربت من النخلة، فاقتربت الساعة؛ حتّی نظرت الی خلفها وكأنها كانت الضحیة من اختبار الطریق وسلامتهُ، حتّی دخلت ثلاثُ بقراتٍ أخری، هذه فوضی أم ثورة؛ إلهي هذه مجزرة بحق تلك المسكینة التي تیتّمت بطمع ثمرتها حتی أتوا بها إلی هنا في هذه الأرض المالحة التي یطوّقها الإسمنت؛ تمنیتُ لو أنهض من مكاني لكي أضرب الغُزاة وأحبط هذا الإنقلاب الفاشل ولكن بقیتُ مسمر في مكاني وأتابع البقرات التي كنت اعرف عنهن الخیر ولكن الیوم كانت نوایاها الشر؛ حینما حوّطت النخلة.

- استاذ، أروح أشرب ماي

كان صوت هذا النكرة الذي جاء من سُلالة الذباب لكي یقتل بيَ شهوة المتابعة لهذا الانقلاب الهمجي حتّی یصرخ مرّةً إخری:

- استاذ، رحت أبول علی روحي، خل أمشي برّآ للمرحاض، دخیل یدّك إشطرگاعتك كلّه بالتوهم والهلوسة زین حشّاش لو شیشه ای؟

- إشبیك، إشمالك الإمخبّل ابشرفي محّد غیرك خبّلني.

- لازم أمشي للمرحاض دخیلك خل امشي لاتگول لا.

- طیّب، إذهب ولكن قبلها اطرد تلك البقرة وطائفتها من الحدیقة... بسرعة.

- وقال طالبٌ آخر: شني استاذ! هنّوب الهوش هم صارت اله طوایف؟ لعد حسبالي بس إحنه العرب عدنه طوایف. وشني چنت إتّابع هذن الهوش؟

- لا، چا چنت أتابع أُمّك الخانُم.

ضحك الطلّاب وتسمّرَ المسكین في مكانه. بقیتُ أتابع خطوات ذلك الطالب وهو یركض نحو الأبقار لكي یطردها وبعد أن رأت الدعم للنخلة كحلف الناتو فرّت خارج المدرسة... بقت هذه التصاویر فترة من الزمن تدورُ في ذهني حتّی سألني أحد الطلّاب:

- أستاذ؛ أگول شیء؟

- نعم، گول، إشبیك؟

- صِدِگ أنت شاعر؟

- لا... یاهو گَلَّك؟ انا حچي ما اعرف احچي.

- بس...

- قلت لك لا.

- بس قرأت لك قصیدة حول انتحارٍ...

- كافي، اخرج من الصف.

تمنّیتُ لو ابتعد من هذه الأجواء حالاً أو لم أنشر شیئاً... ولكن فعلت.. أخذ الصداع یتغلّب علی كیاني ودخلت أصوات غریبة جوف دماغي، طنینٌ كطنین الذباب یترنّح جوف رأسي، كما أهجس خشخشة خبز یابس یلاك بین فكي شیطان مجهول، سألتُ أحد الأولاد:

- أنتَ تعرف أُم غیث؟

- نعم استاذ... قالها ضاحكاً

- مَن هي؟

- مشعوذة، تُحضّر الأجنة والأرواح وجدّة «نُمي»

- وهل تصدق ماتقوله؟

- نعم استاذ، كما أظن، شنو اترید اتروح صوبها؟

- قالها بلهجة ساخرة حتی قلتُ له: أنا لا أعتقد بهذه الأراجیف، ولكن حول الفدیة أودُّ أن أعرف أكثر.

- وتدخل «نُمي» وقال: استاذ أم غیث جدتي، تسكن معنا في البیت، فهي جدتي لوالدي.

قالها نُمي غیث أحد الطلاب الذي عُرِفَ بالذكاء والجمال وكثیراً ماتظلمهُ الأولاد وینسبون لهُ الأفعال البشعة مع بعض من الزملاء لنجاحه المتواصل ودرجاته العالیة ولكن لم یعرِ إهتمامًا ولو بعض الاساطیر كانت لها شیئاً من الصدق وشرافة الكلام تدلُّ علی ممارساتهم الجنسیة مع هذا الوسیم الفتّان وكان یأتي بإنقلابٍ شهواني في المدرسة حین یلبسُ القمیص الوردي ونظاراته الطبیة الظریفة وبنطلون جین بلون الأزرق وحذاء صیفي تری من خلالها أصابعهِ التي كانت تشبه أصابع البنات وكان في الكلام یُقلّد إختهُ التي لازالت تعومُ بدماغي وفي القسم الشهواني الأحمر في الطابق الأعلی من الجنون ... طیّب «نُمي» بعد الحصة تعال إلی مكتبي لكي نتحدث.

- طیب استاذ

بعد الحصّة جاء إلَيَّ نُمي، تركتُ الباب مفتوحاً حتی لا أُتَّـــهَم باللواط، طلبتُ منهُ أن یخبرَ جدّته لموعدٍ خاصٍ بي وحدي وأن یخبرني حضوراً في مكتبي الذي كان خارج المدرسة كوكرٍ یحمیني من اكتئابي ومن مخالطة الناس الذين لا أودّ رؤیتهم في شتّی المجالات لأن طبائعهم لاتعجبني، یكذّبون علی البعض ویعلم الطرفین هذا الكذب ولكن یعبّر بإیمانه بإعجابٍ، یكرهون البعض ولكن یُقبّل أحدهم الآخر في كل المناسبات والمقابلات، یهتكون عِرضَ الآخر ولكن یمجّدون الضحیة وكثیراً ما نری من هذا المضمار، هذه طقوس مجتمعنا البائس، المندرس، یعیشُ بماضٍ قیل بَنَتهُ أجداده ولو لم نرَ اجدادًا بل نری القُمُّل والوساخه التي عمت في الدیار آنذاك، لهذا حاولتُ أن أبتعد من كل تلك الحثالة وأطرد كل من یحاول أن یقترب منّي فالطمع أبرز خصال اولئك اللُعناء، كلَّ ما فكرت بهذا القوم تذكرت شعر أبي العلاء المعري حین یقول:

«وذلك لو أكلتهُ السّباعُ

لعادت ذَواتِ نُفوس خُثُر»

أو:

«والأرضُ لیسَ بمَرجو طهارتها

إلّا اذا زال عن آفاقها الأنسُ»

أتذكر ذلك المخلوق العجیب الأطوار، تلك الحثالة، ذلك الذي كل ماتذكرتهُ انهارت اعصابي وفارَ دمي، كان «عبدالزهراء» طالب عندما كنت معلمًا في المدرسة التي كانت في وسط المدینة منذ عشر سنین؛ كان اسمها «مدرسة القصر»؛ كان طالبًا جبانًا، یخافُ من باقي الأولاد، یكمن في الصف لایخرج مع باقي الطُلّاب، خوفاً من باقي الطلاب ویخاف أن یلمسوا مؤخرته، أسمع «داود» یقول لصدیقه:«اذا طلع عبدالزهراء خل إنبعبُصا، هو مایحچي خَنیث»، كان صامتاً وكأنهُ فزّاع كسول، تحسبهُ أخرس وأصم لایسمع ولایری، كانت درجاته تُقبَل وبعد أن حصل علی الدبلوم ذهب إلی العسكریة مباشرة ولم أرَ هذا الموجود النحس إلا بعد عشر سنین، حینَ فتحت المحل أو المكتبة؛ سمعَ من أحد الطلاب، وجاء لیزورني، رحبتُ بهِ ترحیباً، صببتُ لهُ الشاي والقهوة وجعلتها امامه بخشوعٍ تام حتی لایحس بذرة حقارة، إحترمتهُ وسألت عن أحواله، عرفتُ بأنه یعمل عند أحد المقاولین وراتبه لابأس به، فطلب منّي أن أساعده للدخول إلی الجامعه، لبّیتُ طلبه، وواعدتهُ بأن أعدَّ لهُ برنامجاً علمیاً للقراءة؛ بقی یتردّد علی المكتب بشكلٍ منظم، وتحسبهُ هو ربُّ المكتب وصاحب الكتب وصاحب العقل المدبّر لهذا الأمر، حتی طلب منّي المفتاح لكي یجلس في المكتب وینتظرني حتی المجیء حین لم أكن في المكتب، أصبح المكتب لایخلو من هذه البعوضة لثواني، كرهتُ المكتب، تركتهُ لمدة أسابیع، أنا الهاربُ من أجواء البیت وضجیجه، جاء هذا النتن الحقیر، الكذّاب والطمّاع، هذا الذي یری الدنیا مالًا، یبحثُ عن النقود، في كل مكالمة تجري علی لسانه أری الشكوی من عدم وجود المال، ویقصد المال الكثیر طبعاً، تارةً یلطم كالعجائز في مراسم ختم عزیزٍ، تارةً یتنهد كسجینٍ، تارةً یصف جوع إخوته، تارةً موت عمّته، وعندما سألت عن عائلة هذه النفایة المتواجدة في مكتبي عرفتُ بكذبه؛ كرهتُ هذه البعوضة وأقسمتُ أن أنال منهُ بشكلٍ سادي؛ وأنا كنتُ منهمك بالكتابة حتّی دخل علی المكتب وبعد التحیة والسلام قال: أگول ...! أصبحت عادته ینادیني بإسمي؛ فهذا العَنز بظنهِ إن تخاطب أحداً بإسمه الصغیر یكون الموقف أكثر حمیمیة:

- أگول عندي شغلا إویاك، وگلت لأهلي محّد یگضیه غیر اخوي، لَعَـــــــد إنت مو اخوي؟ لاتفشلني ها! لَعــــد أنا عندي غیرك!

قال هذه الجملة الطلبیة وأنا كنتُ أشطبُ بعض الأراجیف بإسم الشعر بعصبیة بالغة، فرفعتُ رأسي وقلت: خیر إن شاالله، چا هنوب أهلك هم عرفوني، چا خوش؛ چا راح أفتح مضیف أكبر مو أحسن؟

- ها! ماعرفت قصدك؟ علی العموم تدري ابوي مطلوب 180ملیون؟

- وآنه إشعَرّفني بِبوك؟ چا زین ماكل تلیت، شارب لبن إویاه؟ وهذا إلمَن مطلوب دایي؟

- ماتت عمتي وخرج بالفاتحه، لَعَــــد ماتدري؟

- چا زین، ماتت «باسكال مشعلاني»؟ لو «ماجده الرومي»؟ چَم سنه چان عمرها؟ زَعَم حلوا لو مثل وَیهَك إمصَخَّم؟ الفاتحه چم یوم چانت؟ چا عَمتَك ماعدهه زوج، خلفا؟ وانا اشدخلني ابسالفة عمتك؟

- أربعة أیام چانت فاتحتهه، وزوجهه متوفي، وخلفته محتادیه مابیهم خیر لَعَـــد غیرنه أكو أحد؟

- ولك شیخ طهران ابن إمحي ابن دایخ فاتحته یومین، زعم چا ملكة بریطانیا عمتك؟ لو «أُم كلثوم»؟ وخلفته مابیه خیر چا انا بیه خیر؟ لو بِیّه خیر ما گاعد بالإیجارات! وانا فاتحة عمتي ما اروحلهه. زین والمطلوب منّي شني؟

- ابوي گال لَعَــــــد إخذ من معلمك حتی إنفك إدیونه ونرتاح.

- قلت لهُ بإستهزاء: زین چا لعد اشلون راح اترد المبلغ إلي؟ چم شهر؟ هنّوب انتم ترتاحون إبعَزّي! وانا أشبَع ضِیم، واگعد عل رینگات، ها؟

- إشوي إشوي أنطیك؛ لَعَـــــد ناكلك؟

- لاتاكلني، إكلَه هو أحسَن! شني تنطیني إشوي إشوي؟ انا ارید افلوس ولك ماني من قوم لوط. خوش مثلاً! اشلون اشوي اشوي تنطیني؟

- الشهر ملیون، ملیونین، حلو؟

- چا لیش ماتاخذ قرض من البنك؟ وهَم ضیمك علي للضمانه!

- ماعندي أنطي كل شهر؟

- چا ولك زعم گایلیلك انا عندي مال إیهود؟ لو گاعد علی خزنه؟ لا الف ولا الفین؟ ولك شنو هذا الطمع یا گوّاد؟ ولك إخجل! وین الحیاء؟ نطیتك وجه إترید تركبني؟ گوم إطلع برّآ یا حقیر وبعد لاأشوفك اهنا!

طردت هذا الموجود الخبیث، أصابتني هیستریا، ضحكتُ لمدةٍ طویلةٍ، أتلذذ وأنا أخیّب أمل طامعٍ؛ رجعتُ إلی البیت ونمتُ هادئاً مرتاح الضمیر. في الصباحِ إتّصل علي نُمَي وقال: «بي بي تي إتگول لایجي، لأن هذا الشخص نحس وراح ایسبب النفسه مشاكل والحوله هم ینضرّون، دیربالك علی نفسك آقا، سامحني آقا» وقطع الاتصال.

«إقلیم الجسد وهو جسد صنوبر ویقال اقلیم فارس

یبتدیء من الشــفاه ویمرّ بالترائب ثم علی السرة

ثم ینتهي إلی مؤخــرتها ولها من البروج ...جوزاء...»

الیوم الثامن عشر: «إنه یوم مختار وجیّد مبارك سعید یصلح للزواج والسفر فمن سافر فیه قضیت حاجته، مبارك كلّ ماترید تعمله ولطلب الحوائج، صالح لكلّ حاجة ومن تزوج فیه یری خیراً».الثامن عشر من برج القوس نهضتُ بتصاویرٍ وذكریات ترجعُ إلی الأیام الخوالي، لیالٍ غرامیة كنّا نسهر حتّی الفجر، نُدخّن ونسكر ونرقص، لانعرف حُزنًا ولا كرهًا؛كانت حبیبتي فائقة الجمال، عربیة الشمائل، عینان سوداوتان، واسعتان كعینِ المها، ونهدیها براعم في فصل الربیع، اسمها كان یحملُ عطرها العربي، لم تتظاهر بالبسمة بل رُسِمت الإبتسامة علی شفتیها، حتّی تتحدّی الشیطان، أوَ لم یسجد؟ فیخرَّ ساجدًا وینادي: لیتني كنتُ بشرًا سویا، لكي أخرج لها بزيِ عاشقٍ أُقبِّل یدها في حفلِ زفافٍ مفروض؛ كان یجب علي أن أتعرف علیها قبل أن تنهشها الضباع، كانت تحملُ همًا عظیمًا وكان ذلك الهم یرعبها من النوم فكانت تبكي وتصرخ وتسألني أربُك نسي أن یهدي إليَّ الراحة الأبدية؟وكنتُ احتضنها وأقول لها، مشتــــــاق، فهي تضحك وتقول: «أنا یمّك! شنو! چا ابحضنك وتشتاگلي عیني؟» وها هیئتها تمشي بین حشدِ شراییني وتوزّع القبلات والتنهدات معًا، تطلب من أحاسیسي أن ترفع معنویاتها قبل خریف العُمرِ فتقول:«شني ننتظر بعد؟ إحنه ماعدنه وَكت، ثلاثینیات عمرنه مرّت ابمرورا وضیم وتعب، ارجوك ثبّت أقدامنه وخل نگضي العُمر الباقي سِوّآ»، فرفعت ُرایتي البیضاء، عالیًا كي تراني ویدي مُلطّخة بالدِماء. وحین نظرتُ حولها وجدتُ الضحایا والمفترسین معًا؛وأیهم سأصبح یا تُری؟ الضحیة أم المفترس؟ كانت الطریقة التي تتحدث بها عن ماضیها وعن أي حدثٍ لایخلو من الإستفزاز، ملیء بالكنایات، ومن ثمّ تلك الخطبة القصیرة المُرتجلة عن البشر وطقوسه مازلت أذكرها بوضوح.تسحرني كلماتها حین تصف طفولتها وحیاتها المرحة قبل أن یأتي كابوس ابن عمها بزي الخطوبة، وبهیئة مغرم متیّم؛ والغصب آلة القبیلة السهلة بحلوها ومُرّها. فالغصب هو مِرآة القبیلة یری هزائمه المُغتَصبُ ویشغف بكوابیس الفتاة وأحلامها وخیالها وحقیقتها وحتی أوهامها كلها تُهزَم! یا تُری من قال نحن العرب ورثة الكنز الحضاري الهائل من عیلام إلی یومنا هذا؟ ألم یدرك معاناة كل تلك المغصوبات بإسم الزواج. تذكرتُ أُختي «شعبیة» وكأن اسمها شعار أو هتاف حین أُنادیها، كانت طموحة، تلهم الكتُب بإعجوبةٍ، لاأحد یشغلها عن أهدافها، تطلب مِنّا أن نخرج خارج البیت لكي تقرء في هدوءٍ، دون إزعاج وكانت الوالدة العمید لتلبیة أوامر الدكتورة، كما سُمّیَت منذ طفولتها وبعد أن دخلت الجامعة الحكومیة التي كان من الصعب أن ینجح الطالب آنذاك؛ بدأت المضایقات من قِبَل العَم وبعدها تسرّبت الی الخال ومن ثم اسطول العشیرة بأكمله؛ أعجبتني ثقتها بنفسها والطریقة التي ناهضت بها لإنهاء دراستها وانتصرت، ولكن في أمرِ الزواج؛ لا. فغُصِبَت وأحرقت نفسها، لأنها لم تطق هذه المضایقة، فجاءت بعد صراعٍ مع زوجها وضربها بشدة حتی كسر یدها وأنفها، طلبت من والدي أن یأخذ طلاقها منه؛ فأبی، وقال لها أعطیتك بزيٍ أبیض إرجعي بالزي نفسه، فقالت طیب بابا ستراني بالزي الأبیض مرة أُخری؛ ففي الفجرِ قبل إذان الصبح أخذت النفط ودخلت الحمام، غسّلت روحها بالنفطِ الطاهر وكان هذا الغسل الأخیر لجسمِها وروحها، وغسل المیّت كان نفطیًا لیس مائیًا، ومن ثمّ الولاعة، سمعتُ صوت صراخ وأنین النساء في الفجرِ الباكر بعد لیلة باردة كما نُسمیها «چِلَّة العِیوز» استیقظتُ من نومي وركضتُ نحو أُمّي احتضنتني وهي تصرخ:

- راحت من إیدي ابنیتي، راحت حبیبتي، الله ایهلكك یا ابوها، ماتِهَنَّت ابشَبابههَ، حِرگَت روحها ومالِحَگنَه غیر العَظُم، الله اكبر، الله اكبر.

ففي مراسم التشییع وصل زوجها متاخرًا، خشیة من الاصطدام، جلسنا جمیعًا علی زوایةٍ من القبرِ، ارتدینا ثیابًا أكثر حُزنًا، ففي تقالیدنا الحُزن بالثیاب الرثّة والسوداء یكون أكثر تألُّمًا ولو في الخفاء إفعَل ماشئت، ومن یخالف هذه التقالید كمن فَرِحَ بموت المُتوفی وهذا الأمر سیولّد الضغینة إلی مابعد التأریخ، وها تأنَّق زوجها ببذلة أنیقة زرقاء داكنة وازرار ذهبیة مرصّعة بالسترة، وبنطلونٍ اسود وقمیصٍ مقلمٍ بالاسود والأبیض ورفض ایواء والدي في امر المخارج لمراسم الفاتحه قائلًا:«أنا مِن أخذتهه غیر الفُگُر شني صابني؟ أشو بَس تِبچي وإدّاحر، زَعَم خدمتني؟». ففي ذلك المكان الحزین تركزت الانظار علی زوج المرحومه دون سواه، فاختفی دون ان یقرء فاتحة لتلك الاسطورة التي خرجت من برزخ دانتي ودخلت بجحیم العرب وطارت نحو إله العزة والجلالة أحرقت نفسها لتولِدَ ثورة نسائیة علی تقالیدِ هذا المجتمع البائس المُتشبّث بالكذِبِ والنفاق، فتولدَت مِن رَحِمها ثورة رمادیة وتكسّحَت بقوة الجهل، دهشت عندما جاء ولكني حزنت عندما رأیتُ خاتم الخطوبة لایزال بیده وتمنیت ُ لو احصل علیه؛ تذكرتُ صدیقي عندما قال: لاتظلموا «شعبیة» لأن من حقّها أن تختار زوجًا لنفسها لأنها درست بعزّةٍ ولم تترك جذورها بل أخذت ثقافتها الراقیة تعریفًا لشخصیتها في الجامعة؛ وتذكرتُ أیضًا سخونة جدالي معه وانا امسح دموعي، كنت اعرف انّه لایطیق ان یراني حقیرًا رذیلاً لا اعرف من الدنیا غیر الممنوعات، ولكن في المرّة الاخیرة تعدّی حدود الاحترام، فطردتهُ حتی لایحقّرني لأمر إدماني، كان عربي الهیئة، وجه ٌ دائري وخدود بارزة وأنفٌ طویل، والبشرة قمحیّةٌ تحملُ دلالات الصحراء ولون عیونه سوداء، متشدّد علی القضیة العربیة، لایفوتهُ خبراً أوتقریراً، صدّامي للنخاع، وكان ینتقدهُ لعدم تقربهُ إلی باقي الأمراء والملوك من العرب، ویقول: «حبّذا لو صدّام عاهد الامریكان ودخل معهم بمشاریع لكان شوكةً بعیونِ الحاقد»؛ كان رساماً، یرسم حالات البشر في الغضب، وفي الخوف، وفي الطاعة، وفي الرومنسیات، یرسمُ النساء في شتّی أحوالهن في المضاجعة، وفي الرقص، كان قد سُلِبَ منهُ أهم شیء في الحیاة وهي حبیبته، ضاعت من یده فكان یقول:«كانت شیماء منذ الصغر تحبني واحبها وكنّا نحلم بان ندخل الجامعة معاً ونتزوج بعدها؛ وكانت تصف لي صالون التجمیل قائلة: ساصفّف شعري بشكلٍ مُجَعّد كالممثلات في هالیوود،وسأزجُّ حاجِبَيَّ علی شكل هلال اول یوم شوّال، وسأزیّن وجهي بحمرة داكنة للشفتین لأنّك تحب هذا اللون، وكحلة یمنیّة ستُحبل بها عینيَّ، أو هندیّة علی شكلِ «آشفاریا»؛ سأكون رشیقة وساحتضنك في لیلة الزفاف امام الكل» فیمسح الدمع ویكمل:«كنّا نبحث عن اسماء لابناءنا او بناتنا، فهي كانت تحب اسم «أُمید» لحداثة اسمه بین عرب الأهواز وكان آنذاك اسمًا مرسومًا ولكني انا لم أقبل بهذا الاسم لأنه كان اسمًا غیر عربي وثانیًا تیمنًا بالرسول محمد طلبت منها بأن یكون اسم المولود الاول «محمد» فكانت تزعل وتُجمّع شفاهها كأنّها زهرة صباح وبغُنجٍ ترفع یدها لاحتضاني وسوارها الذهبي الرفیع الذي اشتریتهُ یوم میلادها وجعلتهُ في معصمها یخشخش فتحضنني وتقول:«أمّووني، عِیني إنتَ ماتحچي علی إحچایتي هَسّه لِوِش ابونونات الحلوا» فیمسح دمعة هاربة من عینیه وكل مرّة لاینهي قصتهُ ویختم كلامه بهذه الجملة:«آآآآآآخ من النسوان»؛ وكان ینتقد من یُدخّن وأذكر قوله الدائمي في هذا الأمر:

- ترآ شووف أمر الإدمان أمر خَطِر، یَردون إیشَغلونَك بأشیاء حتّی تِترِك مُطالعتَك ودراستَك وقَضیتَك، فأرجوك تابِع دراستَك وتابِع شِعرَك؛ ترآ انتَ شاعِر وتگدر إتوصّل القضیة إلی العالمِ العربي ولاتنسی بأنّك رسول وعلی الرُسُل أن یُبَلّغوا قضایاهم.

- یا أخي، هي ضلّت قضیة؟ ضل تاریخ؟ لاتنسی، للتاریخ حركة منضبطة تحكمها قوانین ثابتة چا إذا ثابته إحنه شنغیّر؟

- قرأت محاورة بین استاذ وطالب حول قضیة ماركس والتاریخ أعجبتني؛ فكان المضمون؛ «أن الطبقة الاقتصادیة المسیطرة في مجتمع ما تطبع كل جوانب المجتمع بطابعها، من العادات الی القوانین إلی الادیان، وبالتالي یستحیل تغییر المجتمع إلا بإزالة هذه الطبقة نهائیاً». أتَعرف یا صدیقي الشاعر المُدمن! ؟«أن كل ثورة في التاریخ أزالت طبقة ووضعت طبقة أخری مكانها، إذا ترید أن لاتُظلَم مرة أُخری علیك أن تجعل الشعب بدل الطبقة التي أزیحت، هذه مقاصد ماركس السیاسیة والاقتصادیة، فعلینا أن نتابع أفكاره حتی نعرف الرأسمالیة والطبقة الحاكمة».

- یا صدیقي! هذه المسائل وراهن حبس وإعدام، یا لیت أنعدم، خاف أنحبس وأشبع وجع وخُماري.

- یا حیف علیك، إنت الأسد، إشصار بیك، وین ذاك البطل، ذاك الذي مایخاف الموت، وین ذاك الشاعر الجریء؟

بكیتُ حینها، ولكن أخافُ أن أترك الدُخان، ولأجل اللوم الدائمي من صدیقي قررتُ أن أنهي علاقتي بهِ، لا من أجلي بل من أجله هو، حتّی لاینزعج، ولا یراني لیس علی ما أُرام، فإذا یتصّل لم أرد علیه، وإن جاء لم أفتح الباب، حتّی عَرَفَ الأمر وبلّغ تحیاته الأخیرة، مَرّت سنین وانا لم اسمع خبرًا عنه، فحاولتُ أن أستعین بالذاكرة لِكي أذكر الرقم وأتصل به ولكن بدون جدوی. طُرِقَ الباب وقُطع خیط الذاكرة من تلك الایام الطویلة واجبرتني ان اعیش الحاضر تلك الأصوات المُزعجة وكأنّ بیدَهُ مفتاحًا لطرق الباب، فنهضتُ من سرابِ أفكاري السامّة التي إحتضنتني منذ الصباح الباكر حتی الآن، فكان الطارق منقذ لحیاتي حقًّا؛ كانت «صنوبر» بنتُ «خسرو» جارنا؛ تزوجت مع عراقي/كردي من السلیمانیة وبَعدَ أن أنهی عمله هنا، عَزَمَ أن یرجع إلی العراق، فقرّرَ أن یطلّقها، وحینَ سألت السبب قال لها: هل تعتقدون نحنُ نحبكم؟ أو نقبل بأنكم شعب مسلم أو شقیق؟ لا؛ ولكن لأجل نفسي تزوجتك، لأجل الدعم من والدك وأن أستعینَ بمعارفهِ، وأن أجعل سكني وأكلي جاهز، من دون تعب؛ قررتُ الزواج منك، وإلا من یتزوج مع عاهرة رضعت ثدیها كل الخلقِ وحفرت فرجها كل الكلاب حتّی تنتفخ بطنها وتجهض في المراحیض؟ إنتهت مهمتي یا صنوبر معك ومع وطنك البائس الحقود؛ فكوني بسلامٍ یا «جنده»... بعد هذا الأمر إكتأبت كثیراً وحاول والدها أن یزوجها مجددًا ولكن لم یفلح، فبقی یعالجها في أرقی المستشفیات في أكبر وأرقی المحافظات حتّی بقت تستنشق الهواء مجددًا دون بكاء؛ كانت طویلة، رشیقة، مهفهفة وشعرها شلال أصفر، عیناها زیتونة خضراء، حواجبها سیفان مرتبطان ببعضهما، ترائبها جبلان إمتدّا من ثیابها إلی عیوني الحشریة، لایردعني حدیث ولا آیه حین تطلب بغضِّ النظر، فالجمیل یحتاج نظرة، والأجمل یحتاج قُبلة، هذه سُنتي في الحیاة مع الخود والحسناوات، إن أقبلت تدبرت أمرها وإن أدبرت تركتها تستمني بذكري، أنا البارعُ في جنون النساء، أنا السادي المازوخیستي، الخارجُ من روایة «الف وعام من الحنین» أنا «محمد عدیم اللقب» الحدیث؛ نسخة مُزوّرة من ذلك الوسیم، حاولتُ أن أستترَ خلف الباب، لأنني شِبه عاري، سألتني سؤالاً، لم أسمع سؤالها، أو لیس مهماً هو السؤال، الأهم كان جوابي؛ قلت لها مباشرة: خانم صنوبر، زوجتي تركتني منذ شهرین وذهبت إلی بیت أُمّها، وأصبحت وحیداً وها ثیابي إتّسخت كلها ولاأعرف أن أغسل ثیابي في هذه الآلة إلتي تُسمّی غسّاله؛ ضحكت بإستحیاءٍ جنسوي، وقالت: طیّب أنا سأُعلمك یا معلم، وضحكت مرة أُخری. آه ضحكتها أشعلت نیران فروید جوف شراییني، ألحق فروید عالم الشهوة حین أوضح لنا كیف یتحرّك الافراد، وصحیح ما قال أن «الجنس هو القوة الأساسیة التي تسیّر الانسان»، كان اسمها یحملُ عدّة معاني ومن تلك المعاني، الهمّ والحُزن، أو من شدّة الحُزن والقلق تكون نحیفاً، أو العذاب، أو شجرة الصنوبر، وها صنوبر تحملُ كل الدلالات، إسمٌ علی مُسمّی فكانت نحیفة وحزینة وها التجأت إلی الحزین الكئیب لكي یخرجها من حزنها؛ طلبتُ منها أن تدخل، ابتسمت ثم اردفت هامسة ولِمَ لا؟ ففسرتُ ذلك علی انها إشارة إیجابیة تشجعني علی أن ألمس ظهرها بحنوٍ عند دخولها، دخلنا الصالة وقلت لها هذا هو الحمّام. فقالت لماذا الحمام؟ وضحكت. فقلت لها الغسّالة هناك، فقالت، إترك شأن الغسّالة وعالج أمر تلك الفتاة المُغرمة بغرورك البربري، فصرتُ أغار من تلك البنت التي تأتیك في نهایة الإسبوع، أصبحتُ أكرهها، لأنّها كانت سعیدة وفخورة بحبك وانت حقّي لأنك جاري؛ «ازعجني كلامها لانك كنتِ ولازلتِ تلك الصرخة الحادة من فاوست حین یترك العرش وذهب بعیدًا ما أمكن عن تلك السماء بجبّارها العصي فكشفتُ بلاغتك البیضاء بِلُغةِ هذه الضبابیة الخرساء، كیف أن یكون لي حقّ بأن انثر طوق مفرداتي الی من خلفها رجال یضحكون ورجال یستمنون ورجال ینتظرون؛ انا الذي قطعتُ جمیع العلاقات لأخلو بك انتِ وحدك ولم أكن ازور بیت العائلة أو صدیق الا في المناسبات المهمة» فخرجتُ من خیالي الوردي حینَ سرحتُ بغرامك؛ فقالت: أتعرف یا استاذ! لم تكن المرّة الأولی التي أطرق بابك بحجة كتاب، عدّة مرّات طرقت بابك ولكن لم یُفتَح بوجهي، عرفتُ إنّك وحدك وزوجتك طلبت منك الطلاق لأسبابٍ عدّة، إدمانك، عصبیتك، عروبیتك، مضاجعتك لنساء كثیرة وخیاناتك الزوجیة، توهماتك السیاسیة والأدبیة، المرّة الأولی التي تقابلنا فيها كانت في محلٍ تجاريٍ، فإشتریتُ عُلبة سجائر وهربتُ كمجرم هرب من ساحة الجریمة، بعد أن ذهبت، بقی الحدیث یدور حولك بین صاحب المحل والزبائن، فیقول صاحب المحل: مسكینة زوجته، مؤدبة، مثقفة، تورطت بهذا المجنون. وقال أحد الزبائن: أعرفه حق المعرفة، فهو شاعر ولكثرة قراءته أصبح مجنوناً. وقال الآخر: لا أخي، سبب جنونه هو الإدمان لأنهُ مُدمِن علی الحشیش، فهو یدخن دون إنقطاع حتی یكتب. وقال الآخر: كان مُذیع في إحدی الإذاعات فطُرِدَ لإنتمائه السیاسي أو المذهبي؛ لاأعرف بالتحدید. فقال الآخر: هذه مسرحیة حتی یطرد زوجته، أعرف شعراء كثیرین وبارزین ولم أرَ هذه الحالات عندهم.

قلت لها: یا صنوبر! صحیح ماتقولین؟ كل هذه الروایات المتواترة تُحاك بحقّي؟ فضحكتُ وطلبت منها أن نأكل شیئاً لأني حضّرت الإفطار ولكن لم أرغب بالأكلِ وحدي؛ فقالت: أرید أن أفطِرَ بقضیبك... كم كانت جمیلة تلك اللحظة، سحبتني من یدي وسألتني أین الغرفة التي یكون فیها السریر؟ أدخلتها إلی غرفة النوم. كانت صورة زواجنا كبیرة علی حائط الغرفة، تُراقبني زوجتي وأنا أفتح أزرار قمیص صنوبر، وكانت مهمة صنوبر أسهل منّي لأن كل ماكان علی جلدي تلك القماشة الصفراء التي كانت تستر عورتي.كنتُ أحب أن أراقبها وهي تمصُّ عورتي كأنها جاءت من سنینِ الجوع، تلك السنین التي یرویها لنا جدّي ویقصد بها السنین التي كانت في عصر الحرب العالمية الثانية، فجاعت العرب، وأصبحت تأكل تمرة واحدة في الیوم، أراقبها وهي تمصُّ، كانت تحبُّ المص، فحدّقت بعیني وقالت: عجیبة هذه اللحمة، طازجة ولاتحتاج إلی المضغ؛ وتعاود المص، لم تعجبني رائحة صنوبر، رائحة العَرَق كانت لاتُطاق، ولكن علی صوفي حُرّم لأشهرٍ من زوجةٍ وأخری حبیبة بات غیابها أكثر من شهرٍ أن ینسی مایزعجهُ. سحبتها إلی السریر، أخمدتها علی السریر كمصارعٍ قوي ضرب خصمه، كانت شهوتها هیّئتها إلی العُنف أثناء المُضاجعة، فقالت لحظة، إتركني للحظة، خفتُ أن أتركها فلاترجع الی السریر، فتشبّثتُ بها كجندي مجروح یتوسّلَ بصدیقه أن یخرجهُ من ساحة القتال، أن لایتركهُ وحیدًا، فضحكت وقالت اریدُ أن أفاجئك بتعالیمي الجنسیة فلاتخاف؛ تركتها ونهضت من السریر وذهبت نحو الدولاب الذي كان یحتوي علی أدوات المكیاج وطلبت الإذن أن تتعطّر بإحدی العطور، وافقت؛ فأخذت قنّینة عطر حبیبتي إلتي تركتها عمدًا حتّی أتذكرها وهي تخطو في البیت بهذا العطر وأن أشتاق إلیها، كانت صنوبر مُحترفة، تعرُف كیف أن یخضع إلیها الرجل الذي تمهلهُ فرصة لإفتراسها، أعادت العطر إلی الدولاب وأغلقته ثم جاءت إلی السریر عاریة، فطبعت قُبلة خفیفة علی قضیبي وأردفتها بأخری وبمصٍّ عشوائي حتّی بلّت عورتي بشكلٍ كاملٍ، زحفت یديَّ إلی خصرها، ضربت یديَ وقالت: لاعلیك انت، دعني أنا أتفنن بجسدك، هذا زبُّك سَیَكون بشغفٍ ولایرید غیري أنا؛ فمصّت عورتي أكثر من ربع ساعة ثمَّ جعلت رأسي بین رجلیها وقالت ألاترید أن تتعرّف علی صدیقك؟ لم أجب علی سؤالها لأنَّ فمّي كان ملیءٌ بفرجها الوردي، استنشقتُ عطر فرجها الشهواني، جعلتُ أصابعي بین مؤخرتها وفرجها، جعلتُ سبابتي في مؤخرتها، طلبت منّي أن أجعل الإشارة جنب السبابة، زحفت یداي لأزیح آخر سدٍّ وهي حمالة النهدین، أفرجتُ عن المحبوسینِ تحت أسیاط الظلمِ والجورِ، ها أنا أنقذت أُمّة النهدین كما أُنقِذت تلك الأُمة من جور حِكام بابل، قلبتُ صنوبر علی ظهرها، نزلتُ بلساني نحو حُلمَتِها، عضعضتُ مُلتقی النهدین، رَفَعَت رأسي بغُنجٍ وجعلت أصابعها بین لحیتي، وقالت: دعهم وشأنهم، فقبّل نحري یا معلم، فتسلّقت عورتي جدارِ قلعتها الوردیة، بادرت هي إلی العض، فجعلتُ شفاهي في فمها وأخذت تمصُّ لساني، تعضُّ لساني وتصرخ، بقیتُ أضرب بعنفٍ وهي تصرخ أكثر فلاترحمني لاتكون لك رحمة في مضاجعتي، إقتل شیطاني، اقتل شیطان شهوتي، تصرخ وتقول: إصفعني فأنا طالبة للعُنفِ، وأنا أرهز وأحرث أصفعها بشدةٍ علی وجهها، علی صدرها، وأنا أحرث وأحفر لعلّني أجدَ بَدَلَ النفطِ ماء شهوتها وأنا أرهز أنظر في عینیها الواسعتین؛ فتقول: إضرب یا معلم فأنا طالب كسول، إضرب یا معلم فأنا لاأتعلم إلا بعنفٍ، ظل جسدي یدخل جسدها بعنفٍ، طلبت منّي أن لاأخرجهُ حین أراد الفیضان، ولحسنِ الحظ فأنا بطیء في الفیضان لأنني أتعاطی المخدرات وأول مرة حین تعاطیت المخدرات كنت قد ضاجعتُ إمرأة تكبرني بعشرین عاماً، فكان زوجها میتاً وتسكن لوحدها، في اول محاولتي لإقتحام شهوتها وانقلابي السریري، جنديي الأعور فاض بسرعة، فانزعجت هي وطلبت منّي أن التهم حبة تُسمّی «ترامادول» وفي محاولتي الثانیة جعلتها تطلب الرحمة من ذلك الأعور الجبّار، وها صنوبر تحت من لارحمة له؛ ساديٌّ في السكس، جنسويٌّ مجنون في السریر، یؤمن ُ بالعنفِ، أعجبتني مهارتها في الإنقلاب، فقبل أن أطلب منها كیفیة الدوران تسابقني إلی الحركة حتّی ضحكتُ وقلتُ لها: یا طالبتي المُفضّلة إنّك بارعة في التعلیمِ فَلاتحتاجینَ إلا لإشارةٍ، إنزعجت من كلامي وقالت: لاتظنَّ إني عاهرة أو أضاجع أحدًا، فلاتنسی بأنني كنتُ متزوجة؛ فاعتذرتُ جرّاء ما تفوّهتُ بهِ، لأنّ كنّا كنارٍ تلهب فلا أرید أن تصبح بردًا وسلامًا، تعبت هي من طوق یدي وأنا أسحبها من الهواء نحو جسدي وأرفعها مرّةً أخری واسحبها الی عورتي فقالت: استاذ إسقني... فقلت لها: هل تعبتِ؟ فقالت: فقد فاضَ مائي لعدّة مرّات وماتت رجليّ فلا أحسُّ بها، ضربتها أرضًا علی بطنها وطوّقتُ یديَّ علی صدرها وبطني علی ظهرها حتّی أمطر الأسود داخل الجنّة الوردية ونصهل ونصرخ معًا، فكانت ككبشٍ عند الذبحِ؛ فبقینا علی هذه الحالة خمس دقائق، حتی طلبت منّي أن آتیها بمندیلٍ، هربتُ إلی الحمام، أحسُّ بخجلٍ، فطرقت الباب؛ فرأیتها مرتدیة ملابسها وقالت شكرًا استاذ، كان درسًا مهمًا، ولكن رسبت یا استاذ، عليك أن تعلمني مرّةً أُخری، فیا استاذ جعلتُ رقمي علی الطاولة، أرجو أن تتصل بي متی ما كنت وحدك، فأنا لامانع لي بالحضور ولو كان لیلًا، شكرتها واعتذرتُ منها، فضحكت وذهبت فسمعتُ البابَ أُغلَق. بعد الحمام كنت جائعاً، أكلت شیئاً من الجُبنة والشاي، جهزتُ قهوتي وشربتها بتأنِّ، دخنتُ السیجارة وتذكرتُ صنوبر، آه كم كانت بارعة في السریر! سأتصل بها لاحقاً حین أعود من المدرسة. كانت المدرسة مُضیعة للوقتِ كلُّ مایریدون من المعلم أن یحضر في الصفِّ لتهدئة الطلاب، لادراسة، ولامعلومات تهمُّ المدیر أو الدائرة والطلاب لایخافون المعلم لأنّهُ ممنوع أن یؤنبهم فیبقی شیءٌ وحید لردع المشاغبین وهو الإختبار في نهایة العام الدراسي والدرجة والرسوب وهذه آلة التهدید أیضاً بقت لاتغني ولاتُسمن من جوع، لأن المدیر كان سیاسیًا وعلیهِ أن یُرضي الطلاب لأنه كان یقول: كل طالب وراءه عائله، فعلیه بإرضاء الطلاب والعوائل حتی في الإنتخابات البرلمانیة أو البلدیة أو باقي الإستفتاءات یستطیع أن یجلب رضاهم لكي یحكم أربعة سنین إضافة علی تلك السنین التي ذاع صیته بالسلبِ والنهب؛ هذا بحثٌ طویل أودُّ أن لاأفكر فیهِ حول هذا المخلوق العدیم الغیرة والإنسانیة. كان یكرهني بشدة، لاأعرف السبب الرئیسي لهذا الكره، إمّا لِعَدَم إنتمائي السیاسي إلی حزبه وإلی مندوبه المُفضّل أو لتواجدي في المدرسة وتعاطف الطلاب بإتجاهي ویبرزون هذا المیل في شتّی المجالات فقبل أن انتقل إلی هذه المدرسة كان هو الشخص المفضل بین الطلاب؛ والزملاء ولو تبغضهُ ولكن تخافُ أن تعلن كراهیتها لسببٍ واحد هو أنّ هذا المدیر لاتری شرفًا في تقریراته حین یرسلها إلی الإستخبارات، فتری إنّك إرهابي، ذابح الأبریاء، مُدبّر الثورات والإنقلابات، خالق النظریات الناسوتیة، ورجل اعمال فاسد وكل نوائب الدهر تكمنُ في هیكلك الخرطومي العمودي المُدمن؛ أو سبب كره هذا الشخص بالنسبة لي حین عرفتُ ممارستهُ الجنسیة مع أحد الطُلّاب في المدرسة، حین دخلتُ علیه بمكتبه ورأیت هذا الأمر البشع، فكنتُ لاأخشی تهدیداته ولاأهتمَّ بكلامه، كثیرًا ما أحضر متأخرًا، فأنا فوضوي بشكلٍ جنوني، أبحثُ عن نقالي في الثلاجة، وعن محفظتي في المستراح، وأجد مفتاح البیت عند جارنا، فكان هذا الحقود، الخبیث، الكذاب المنافق، الفاسق الفاجر، الزاني واللائط والملیوط لایطیق حضوري في المدرسة، كثیرًا ماحاول أن یغیّرَ مدرستي ولكن الدائرة لم توافقهُ الرأي، لأنّ الطلاب یفضّلوني علی باقي المعلمین علمیاً؛ في فصلِ الشتاء من تلك السنة المشؤومة عندما دخل علینا ذلك الخبیث قلت له: كان هناك جرحی یئنّون، أتعرف لماذا؟ قال: لماذا؟ قلت لأنّك بريء، نهض من مكانه وأخرج علبة بیضاء من جیب سترته، أشعل سیجارة وبدأ یدخّن، وكأنه یفكر بأمرٍ، ثم قال: غداً تبتدئ مرحلة جدیدة من حیاتك.

«أو لیس بالزجر الشدید قواطع

قالوا بلــــی قد لاح كالنیران»

{ستموت لأنها وُلِدَت عربیة}

كانت مدرستي خارج القریة تبعد عشر كیلومترات تقريبا عن البیت؛ كنتُ أخاف المدیر أن یلومني أو یضربني لأنهُ كان یكره ابناء القریة، فقد جاء من مدینةٍ أُخری ویتكلم بلغةٍ أُخری، كثیرًا ماحاول أن ینتقل ولكن لم یفلح أن یقنع الدائرة، لهذا جعل حقده علی جسد الطلاب، علی أیدیهم، وآلة الحقد كانت العصا، یضربُ بها دون أن ینتبه إلی محل سقوطها، فمرّة ضرب «حبیب» علی وجهه وكسر أنفه ولایأتي أحد من عائلة «حبیب» لیلومه لان هكذا كان المنطق؛ هذا معلم ویجب أن یعلّم اولادنا بأي شكل كان، فلا أحد یسمع احتضارنا ولایری ذعرنا الذي بات یأكل ویشرب معنا، لهذا أخرجُ من البیت باكرًا، جاهزًا لمطاردة ٍ مُحتملة من قِبَل الكلاب وضربٍ من قِبَل الطلاب المعادین لنا، فلامحال؛ وإن انتظرت ابناء عمومتي وإخوتي سیضربني المدیر؛ وبما أنهم مشاغبین لایخافون المدیر أو یتحمّلون الضرب وإن فاق الضرب حدود الاحترام یضربون المدیر، فهو یخافهم لهذا یضربني بدلاً منهم. فعليَّ أن أعالج الأمر وحدي، كل یوم في الصباح أجهز نفسي للركضِ وكأن «جسي اوونز» أو «یوسین بولت»علی موعدٍ للمباراة؛ خرجتُ قبل طلوع الشمس بدقائق، لأنّ كان طریق المدرسة یستهلك خمسًا وثلاثین دقیقة مشیاً، ولاسیّارة ولاحمار ولا أي شیء ننتظر لكي یوصلنا إلی المدرسة فنعرف بأنه واجبٌ علی أي طالبٍ أن یُبرمج للوصول الی المدرسة ویخطّط طریقة آمنه حتی لایصطدم بــ«فؤاد» وإخوته. فكان فؤاد قطّاع الطرق یأخذ كل مایملك الضحیة ویطلب منهُ أن یأتیهِ بالحَمام والطیور الألیفة وإن لم یأتِ بالطیور سیكون ضحیة الطریق؛ ولحسن الحظ كان فؤاد صدیقي المُقرّب، لأنه یؤمن بي في أمر الحمام ویقول:«هذا الفتی یعرف جذور الحمام ویعرف أن یزوّج أي نوعٍ من الحمام لتكون حمامتك المُفضّلة في بیضة تلك الحمامتین، مثلاً طلب منّي أن أعطیه «المُعلعل» من الذكر و«الرول» الایرانیة لكي أحصل علی«الكشك البولندي»؛ أو الذكر «الصنعاوي المكاوي» مع «الرومانیة» التي تتمیّز بقامتها الممشوقة وألوانها السحریة الفراشیة وبعیونها الحمراء وغالباً السوداء وسرولتها الجمیلة وبذلك المنقار الصغیر حتی أحصل علی «الشامي»». فكانت هذه شهادة من فؤاد بحقّي؛ ففي قریتنا یعتبر الحمام من أكثر الطیور المحببة عند ابناء القریة، حیث تراهم یمیلون دوماً إلی شراء انواعها وتربیتها علی السطوح، فیعتبر الحمام تسلیة للمرء آنذاك، فتعدد أشكاله وتكثر ألوانه وتتعدد صفاته وممیزاته، إذ نقوم ببناء الأقفاص المهوّاة والمعرضة للشمس علی سطح المنزل، وكان الذوق الرفیع في بناء تلك الأقفاص لديَّ انا حتّی شهدت أعدائي بهذا الأمر، ولیست هذه میزاتي فحسب فكنت اعرف كیف أعالج الحمام من أمراضها المُعدیة بالثوم والرماد، فهذه معرفتي بالحمام جعلتني بأمانٍ عند فؤاد، الفتی المشاغب بعیونه السوداء وبشرته الصفراء؛ فقال أحد شیوخ البلدة علی المنبر الحُسیني في محرم الحرام من تلك السنة حول الحمام:«إجنوا ورَبّوا الحمام في بیوتكم لأنَّ خواصها كثیرة ومن خواصه أنّ في مجاورتها أمان من الخدر والفالج والسكتة والسبات والوحشة والشیاطین، ففي قریتنا سكنت الأجنّةُ منذ قرون، وعلینا أن نأمن شرها بالإحتفاظ بالحمام، فقد شكا رجل إلی النبي محمد(ص) من الوحشة فأمره زوج من الحمام، وقال علی ابن ابی طالب: إنّ حفیف أجنحة الحمام لیطرد الشیاطین، وإذا سخّن في الماء زبله وجلس فیه من عسر البول أبراه، وإذا بخّر بزبله المطلقة أسرع بنزول الولد والمشیمة، وإذا أطعم بیض الحمام للصبیان أسرع في التكلم، وإذا أحرقت رؤوس الحمام بریشها وسحق رمادها واكتحل به أحدّت البصر»؛ وهذه الشهادة من قِبَل الشیخ «محمّدعلي» جعلت البیوت تمتلیء بالحمام؛ وكثیرًا ماتری الأطفال یأكلون بیض الحمام رغمًا علی أنفهم وبإكراه، ولكن والدي كان یكره الحمام فیقول:«هذا محمدعلي الفرخچي، لأن هو یربّي حمام، واولاده ایبوگون حمام، بدال ما یفسّر القرآن جاي ایشجع ابناء القریة علی جَنِي الحمام، یابَه الحمام غیر الحرامیه والعرایچ اشوراه؟ لا او بعد ایگول جیب إضروگ الحمام وحطّا إبماي واگعد بیه حتی ایطیب واحدك، بس بعد ماكضّینه یَرَب وراح انكض» ولكن مع هذا الموقف العدائي بإتجاه الحمام من قِبَل السلطة الحاكمة في البیت، كنتُ أعشق الحمام وتری عشرات الحمام في البیت، وكان والدي كفؤاد یعترف بشعوري بالطیور فیُسمّیني «الإمطیّرچي المجنون»بَعدَ أن أكل القط حمامتي البیضاء التي كان لدیها فرخان؛ فإن لم تُطعَم سوف تموت؛ لهذا بدأت اطعم تلك الجوجتانِ بفمي، فأجعل الخبز بفمي واجعل منقار الفرخ في فمي لیُطعِم نفسه فعندما وجدني والدي أطعم هذه الحمامات هكذا غضبَ وقال:«مجنون، راح إتكض طاعون یا گوّاد، ولك ابن الجداف ماتیوز من حمامك؟»؛ فأذكر ذات مرة جاءني فؤاد في صباحٍ باكرٍ عند الباب وطلب منّي أن أذهب معهُ إلی بیته لأنَّ لدیهُ حمامة بیضاء فكنّا نسمیها «سَفید» ولفظ «سفید» في الفارسیة تعني «البیضاء» أصابها الدوران بمؤخرة رأسها، فذهبتُ معهُ،كنتُ أعرف السبب وهو أن إحدی الحمام نَقَرت رأسها من الوراء، فأخذتها من مكانها وجعلتها في حضني، هلستُ شیئاً من ریشِ رأسها وطلبتُ من فؤاد أن یأتیني بسیجارةٍ؛ جاء بسیجارة «فروردین»ولّعتهاوكویتُ الحمامة في رأسها ثلاث مرّات، بعد دقائق رجعت الحمامة إلی صوابها تخطو بعافیةٍ تامة، فرح فؤاد وطلب منّي أن أختار حمامتین، لم أوافق لطلبه، ولكنه أصرَّ عليَّ أن أُلبيّ مایقول، فقبلت الأمر وأخذت الحمامتین، كنت أتمتع بنصري في علاج هذه الحمامة، فخرجنا من البیت والحمامتان والسیجارة بیدي، تلك أوّل مرةٍ أجعل سیجارة بین أصابعي، وعند الخروج رأینا «یاسر» الفتی المنافق، الشخص الحقود، المُعقّد والخبیث، كان خبیث اللسان والفعل، كانت إحدی خصاله الرذیلة من الألف؛ الغیبة والتُهَم، والشائعة كانت غایتهُ الكبری، إبتسم حینما رآنا نخرج وبیدي حمامتین وسیجارة ثم قال: هــــــــــــــــا! زواج؟ أو معاشقة؟. فشاعت الشائعة بأن فؤاد ركبني أو بالواقع «ناچني»، في بدایة الأمر لم أهتم الی هذا الكلام، ولكن بعد مُدّةٍ أصبحت هذه القضیة تكبر شیئاً فشیئاً فالكل تنظر إلي بعینِ مُخنّث مع أنَّ لم یرَ أحد مني شیئاً، ولكن هنا، في هذه الزوایة من الدنیا، المهجورة بتقالیدها المریضة وأنفاسها المُتعفّنة وأرواحهم السقیمة لایرحموا أحدًا إن أرادوا أن یجعلوا مِنهُ حثالة، فهذه غایتهم وسلواهم. كم أدركتُ «هولدن كولفیلد» بطل روایة «الحارس في حقل الشوفان» للروائي الأمریكي «جیروم دیفید سالنجر» كما تذكرت كلام علي الدورقي في هذا المجال عندما قال: «أعجبني هذا الفتی الناقد في هذه الروایة... أتعرف... حین یشعر هولدن بغباء مجتمعه وزیفه الحاد والذي لایری تفادي ذلك حلاً للأمر، حین یتّخذ ذكر التفاصیل الدقیقة عن حیاة المراهقین الذاتیة والتي لایطّلع أحد علیها ولایحاول التعمّق بها كي لایبقی شارداً في دوامات اللامنطق والغیرمألوف السائد فیها، حین یتخذ المراهق قرارات ذاتیّة مرتبطة باللحظة أكثر ممّا ترتبط بالآتي»؛ وها أنا عليَّ أن أتخذ الصمت لتلك الفجیعة التي باتت تُقال في العوائل وفي المدارس وفي جمیع الأمكنة لتحقیري، فالتزمت الصبر، تحملتُ هذه الأجواء آنذاك؛ وكان فؤاد دورَهُ الأهم لعلاج هذه القضیة، فأخذ یاسر نحو النخیل ورَبَطهُ علی جذع النخلةِ وطلب من مجید أن یأتي لیُنادیني وعندما ذهبتُ مع مجید صدمني الموقف؛ لأني لم أرَ مثل ذلك المشهد یوماً، فكان یاسر عاري بشكلٍ كاملٍ وجعل یداه وصدره ملصوقتان علی النخلة وفؤاد لاصق بمؤخرته. تذكرتُ حدیث الرسول محمد(ص):«إنَّ أخوَفَ ماأخافُ علی أُمّتي عَمَلُ قومِ لوطٍ»؛ اللواط عملٌ شائعٌ في قریتنا، لأن الحصول علی الجنس الظریف أمرٌ محال لمضایقةِ العوائل وخوفاً من العشیرة، لهذا لم یخطر ببالِ أحد أن یضاجع إمرأة قبل الزواج، فیلتجئون إلی اللواط وهو الاتصال الجنسي بین ذكرین، والمثل الأعلی هنا بین فؤاد (الفاعل) و یاسر (المفعول)؛ وهو نوع محبّب من أنواع الممارسات الجنسیة آنذاك؛ فهذه الآیة: «ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ماسبقكم بِها من أحدٍ من العالمین*إنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء بل أنتم قوم مُسرفون» كانت منسیة؛ فطلبتُ من فؤاد أن یترك یاسر ولكن فؤاد قال غاضباً:

- ولك إنت لیش اتضل طایح حظ؟ ولك الناس ماترید واحد یحترمهم! مو إیگول فؤاد نیّاچ؟ طیّب أرید أراوي النیّاچ یاهو!

- ارجوك فؤاد، هو نذل وحقیر، بس إحنه أشرف منه، ارجوك عوفا فؤاد.

- أنا ارید منك إنت إتنیچه، هنوب اتگول عوفا؟

- أصلاً. فؤاد حیاتك إنت، أنا ماراح أسوّیهَه وتدري انت عزیز عندي، وأدري ماراح إترد طلبي، أرجوك عوفا.

- بس أرجوك، ولك خَل إنسكته هذا المُطي ولك هذوله اخوات گحبه إیحبّون واحِد إیحقّرهُم، إشمالك انت؟

- فؤاد ارجوك، إذا إتودني عوفا.

- خوش. بس شوف یاسر ردت أخلیك تمشي إبدمك، والبذر إیخُر من عَزَّك؛ بس روح إندعي الهذا الزلمه؛ یلا علي إویاك.

مواقف فؤاد هذه لم تُنس، كان الطریق للمدرسة طریقین، طریقٌ یمرُّ من شارعنا الذي كان یُعرَف آنذاك بـ «حرثة الچلاب»، ففي هذا الطریق كلاب سادیة، تشبه بعض البشر، حیث لایتركون منك مكانًا إلا وأخذوا منهُ حصّة بالفِتَن والشائعات؛ فلاتستطیع أن تمرَّ وحدك مهما كنت شجاعاً وطریقٌ كان یمرُّ من شارع فؤاد؛ هذا الشارع الذي كانت قضیتةُ لا تقل مخاطره من تلك الكلاب؛ ولكن أنا أدخل الشارع بسلام؛ شارعٌ نظیفٌ ومن تلك الشوارع التي یتواجدُ فیها الأسفلت. كان هذا طریقي المُفضَّل؛ أذهب إلی المدرسة من هذا الشارع والفضلُ كان لفؤاد؛ الساعة السادسة والنصف صباحًا فطرتُ بالزبدةِ الطازجة والحلیب الساخن من یدِ أُمّي ثم خرجتُ وحیداً وأنا أسیر بمفردي وأردد أُغنیّة «أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ» التي غنّاها ناظم الغزالي و التي كانت من أشهر قصائد أبي فراس الحمداني، كنت متولع بهذا الیتیم الذي وُلِدَ في منطقة الحیدرخانة في بغداد؛ عشقتُ ناظم الغزالي بعدما قصَّ والدي قصتهُ في فلسطین حین سافر إلی فلسطین للدعم المعنوي للجیش العراقي والجیوش العربیة المتواجده في فلسطین لمحاربة إسرائیل، وتعرّفهُ علی «عبدالسلام عارف» الذي أصبح رئیساً للجمهوریة العراقیة بعد انقلاب 1963م، فمن خلال ناظم الغزالي تعرفتُ علی «ایلیاأبي ماضي» من خلال قصیدته الشهیرة «أي شیء في العید أهدي إلیك یا ملاكي» وعلی شاعر العراق المتنبي بقصیدته «یاأعدل الناس»، وَ لَو أني أودُّ سماع هذه القصیدة من لسان «ریاض أحمد»؛ وأنا أُغنّي في ذلك الصباح البارد وبمعطفي الأخضر المندرس حتی رأیت سیارةً بیضاء من نوع تویوتا وقفت حوالي مئة مترٍ منّي، خفتُ من ذلك الموقف، لأنّ معلمینا یحذّروننا في المدارسِ وعوائلنا في البیوت والشیوخ في المساجد بأنَّ الأحزاب المخالفة للنظام تسرقُ الأطفال لتجنیدهم في صفوف المعارضة، أخفیتُ نفسي خلفَ جدارٍ لم یكتمل بعد وذهبتُ أتابع الحدث، فرأیتُ شابًا نزل من السیّارة یُراقب الطریق، هَمَسَ لصدیقه، فنزل الثاني وقال للشاب: شوف «عزّام» روح راقب الزقاق، حتّی أطلع الجثّة من البودي وأذبهه بالنهر، ركض عزّام نحو الزقاق الذي كان بالقُربِ من موقع إختبائي، أشارَ لصدیقه، فسحبَ كیسًا أسودا من السیارة وقذف بالكیس بعیدًا؛ حاولتُ أن أفكر بكل الإحتمالات، كیس نفایات، أو أمعاء نعجة ذبحوها لأمرٍ، أو كیس ممنوعات بعدما كشفت أمرهم الشرطة، لكنني لم أجد تفسیرًا مُقنعًا؛ بعدما همَّ اولئك الغرباء بالرحیل، تقربتُ من الكیس ولحسن حظي أو لسوءه لا أعلم، كانَ النهر قلیل المیاه، لأنَّ أنهارنا مُرتبطة بالبحر، فحین یرتفع الماء نقول «مَد» وحین تتراجع المیاه نقول «جزر»، فكان النهر جزرًا؛ فتحتُ الكیس و اذا هي فتاة جمیلة لم یتجاوزعمرها العشرین، شعرها أسود فاحم كاللیل، بیضاء كالنهار، مُرتدیة ثوب وردي كما نُسمیه «نفنوف» ومعضدٌ فضي في یدها الیُسری،كما بانَ لي إنها ماتت مخنوقة أو شنقًا، لأنَّ مكان الحبلِ علی عُنقها كان واضحًا؛ كانت نحیفة وقصیرة القامة حتی جُعِلَت في هذا الكیس الأسود وحولها بطانیة صفراء تحملُ صورة نمر واقف علی صخرةٍ ینظر إلی البعید، هذه اول مرّة أری فیها جثة، أو میّت من قریب، خفتُ من هذه الجثة، وبقی قلبي یهمُّ بالوقوف ركضتُ نحو المدرسة دون وعيٍ، أركض وأنظر خلفي خوفًا من الرجلین، عرفتُ ملامح «عزّام» بتفاصیله الدقیقة والأهم إسمهُ؛ ولكن لم أملك جرأة حتی أفكر بالأمر فكیف لي أن أروي هذه الجریمة لأحدٍ. لم تكن مدرستنا كاملة البناء، فلا یوجد جدار حولها، فقط تحتوي المدرسة علی خمسةِ صفوف وغرفة مدیر تشبه مخزنًا لأدوات مندرسة كانت مدرستنا في نهایة القریة، لاتُحیطها بیوت، وقبل أن تَصِل إلی المدرسة كان هناك ضریح لأحد السادة الذائع صیتهُ یُسمّی «سیّدعزیز» فكان الطلاب یلتجئون إلیه في الشدائد أو في الإمتحانات، ویطلبون منهُ أن ینصرهُم في الإختباركما كان الطلاب یحملون صخرة من ضریحه للتبرُّك في جیوبهم وكان أحد ابناء عمّي حین یصل إلی «سیّدعزیز» یقول:«یا سیّد عزیز ارید مِنّك المُدیر بالدرب ایسوّي تصادف وایموت ومعلمنه مایگعد من النوم واتصیر عطلة» والثاني یقول:«یا سیّد عزیز ان شا الله صاروخ من العراق ایطیح علی مدرستنه وتتهدّم حتّی بعد ماكو مدرسه ودگ وتعذیب» فنضحك لهذا الدعاء لأنَّ حرب العراق وإیران قد إنتهت قبل سنة؛ حینَ وصلت الی المدرسة لم یكن أحد في المدرسة، كاد الخوف یقتلني، حتی جاء احد الطلاب بمعیة شرذمة قلیلة من ابناء عمه. حاولتُ أن أخفي خوفي، ولا أبوحَ بسرِّ تلك الجثّة الجمیلة النائمة في هذا الفصل في نهرٍ باردٍ كئیب، لم أتكلم بشیءٍ خوفاً من أن یجعلوني شریكا في هذه الجریمة، لم تمرّ الدقائق الكثیرة حتی یأتي الطلاب والمعلمون وندخل الصفَ لِكي نتعلم درس الیوم؛ حوالي الساعة العاشرة عجّت القریة بالشُرطة، طلب المدیر من «سعید» الطالب الأكبر سنًا وجسمًا الذهابِ الی هناك كی یستفسر الأمر؛ وبعد دقائق رجع سعید بتقریرهِ المُزَیَّف: استاذ، هناك فتاة مقتولة، قیل قُطِّعَت إرباً إربا وسُرِقَت أمعاءها وأساورها الذهبیة وكما أظن مجاهدوا الخلق هم من فَعَلَ هذا الأمر. كنتُ أعرف بأنه ستتواتر الروایات والشاهد العیان یخرسُ خوفًا من التُهَم؛ لا وسیبرحهُ والدهُ ضربًا شدیدًا إذا تكلّم حول هذا الموضوع صدقًا أم كذبًا، جاءت سیارة الإسعاف وأخذوا الجثّة وأنا أراقب هذا الأمر وشیئاً ما جعلنی أتعلّق بمنظرها الجمیل وأحسُّ بأنّها بریئة. تكاثرت الروایات فجاء «حازم» وقال: جماعا هذه یحتمل شایفینهه وَي أحد وبعدهه كاضینهَه وذابحینههَ وإمگطعینههَ، وقال «مهدي»: یمكن شارده وي أحد وتعب منهَه، فذبحهه وگطّعها وذبههَ، وقال «یحیی»: جماعا یمكن هذه اجنبیة جایّة إتجدي إهنا والشباب ماخذینههَ فاعلین اویاها وكاتلینههَ وذابینههَ. ولایعلم أحد بأنَّ الفتاة كان جسدها سالما بدون ضربة ماعدی الخنق؛ بعدها رجعنا إلی البیت وعلی مائدة الغداء تكلّمَ والدي الذي كان قلیل الكلام: «شوفي حجّیة، بنت إبوإسحاگ خطیّة مقتوله، خانگینههَ وذابینهَه خارج القریة، توآ رحت إستخلَفِت إلهم، خطیّة ابوها چان مسّودِن واخوها «عزّام» چان یلطم علی وجهه؛ ترآ الدنیه صایره مو أمان؛ عینچ علی الأولاد، لاتخلین البنات إیطلعن؛ وإنتم هم الإغروب بعد لاطّلعون من البیت، ترآها الاحزاب ضلّت تخطف وماترحم كلمَن یرید مالته. استوقفني اسم «عزّام»، ذلك الشاب الذي بقی یراقب الموقف حتی لایُكشَف أمرهما. فسألت أبي: یابه هذا «عزّام» الطویل، ابودشداشه الملحه، إمزیّن راسه؟ فَرَدَّ والدي: إي نعم، بَس انت شمعرفك بی! فقلت لهُ خائفًا: چان یلعب ویّانه تبها سابقًا. فقال: خوش یابه، ماعلیك ابهذا الكلام، ترآ بابا شر الدنیه، زین بویه؟ فقلت: صار بویه. وأخذت هذه الجریمة تشغِلُ حیزًا من توهماتي وذعري فكما قیل مقامك حیث أقامك، وإذا أردت أن تعرف قدرك عندالله فانظر أین أقامك؛ إذا شغلك بالذكر فاعلم أنه یرید أن یذكرك، وإذا شغلك بالطاعات فاعلم أنه قرّبك وإذا شغّلك بالدُنیا فاعلم أنهُ أبعدك، فانظر لحالك بِمَ انت مشغول؟ وها أنا انشغلت بهذه الجریمة وماهي حكمة الإله حیثُ یأتي بطفلة إلی صحنة الجریمة؟ وبعد مُدّة اعترف «عزّام» بالجریمة وكما قال والدي: عزّام اعترف بأن هو خانگ إخته، لأن واحد مریض جای تاهِم إختَه وگال بأن «ودیعة» عندها صدیق وهذا الهمجي دون حُجّة قَتلههَ ومع عَمّه ذابین الجُثّة وهذا الذي تهم ودیعة هسّه شارد وماكو خبر من عنده.

هذه أحداث حیاتنا الیومیة، فالعصبیة القبلیة تهدم الأسرة والتُهَم والشائعات أصبحت عادیة في المجتمع، والعصبیة الطائفیة دمّرت المجتمع بأكمله ولم تكن تلك الجریمة آخر ما رأیتها بأُمّ عیني؛ فالجریمة التالیة كانت الأبشع و التي حدثت في بیتِ جارنا المسكین، ففي لیلةٍ من لیالي الصیف سَمِعنا صراخًا، ركضنا نحو بیت الجار، اقترب والدي من بیت «ضاحي» لكن خَرَجَ شابٌ عدیم الاحترام وطلب من والدي أن یذهب ویرجع إلی بیته لأنها قضیة عائلیة ومسألة عِرض، فعادةً لایتدخل أحدٌ إذا سَمَعَ بمسألةٍ كهذه؛ فَرَجعَ والدي وبقی «ضاحي» یندبُ ویصرخ: حجّي دخیلك؛ حجّي دخیلك تعال إلحگ علي، جنَّ والدي ودَخَل البیت مُسرعًا لكي یُنادي إخوتي الكبار وأن یأتوا بالعصيّ وأنا استغلت ُ الفرصة وصعدتُ النخلة التي كانت امام باب بیت ضاحي وتطلُّ مباشرةً علی البیت، كانت ثلاثة نخلات من نوع البِرحي، كانت مُغطاة بالتمرِ والرطب فكانت اول شجرة استقرّت علی الأرض شاهدة معي، علی تلك الجریمة، وشهادتها صحیحة لأنَّها شجرة مباركة لا توجد إلا في الأماكن الحارّة، وها هي عمّتنا تبكي من هذه الجریمة لاأعلم من قال استوصوا بعمّتكم النخلة خیراً فإنّها خلقت من طینة آدم ألا ترون أنّه لایوجد شیء من الشجر یلقح غیرها وهي تشبه الإنسان من حیث استقامة قدّها وطولها، وامتیاز ذكرها من بین الإناث، فشهادتها مقبولة، لیتهم یستفسرون الامر من هذه النخیل؛ فرأینا أنا وعمّاتي الجریمة هكذا؛ كانوا ثلاثة أشخاص في البیت یحملون السكین والاسلحة الناریة، طلب منهم ضاحي أن یفسّر الأمر ولكن كان هذا الشاب عصبي المزاج فقال: شوف ضاحي، هي زوجتك صحیح، بس إختنه وعارها علینه، إفتضحنا، اشلون انت علی الشغل یجي صدیقك الذي غریب یدخل البیت وزوجتك اتخلّي چاي واریوگ إله؟ عمّي دشّته بالبیت شني؟ اذا انت مانقتلك إندعي أمّا إختنه لازم تنقتل. فقال ضاحي: ولكم مو هچ القضیة، صبروا لحظة...

فضربه الشاب بالعصا حتی أغمی علیه، ثمَّ ذهبوا نحو زوجة ضاحي وطعنوها عدّة مرّات وفي هذه الأثناء دخلَ والدي ومعهُ إخوتي وشرذمة من ابناء القریة ولكن بتاخیرٍ مایُقارب دقیقة، لأنهم طعنوها وقتلوها، تطاحنت الفئتان لدقائق حتی أطلق النار علی والدي وجماعتهُ وعندما تراجعوا فرّوا من مكان الجریمة، أخذوا الجثّة إلی المستشفی بمعیة ضاحي فكانت هذه الجریمة أیضاً دون حجة راسخة وواقعیة فراحت ضحیتها إمرأة أخری. وبما أن تلك الصورة كانت تبدو قدیمة باهتة، لفّها الماضي في طیاته، لكن تبقی الأحداث وتتغیّر أسماء الضحایا.

«حین رَفَضَ جسدها أن یكون َ مغلولاً بیدِ إلهِ الشهوة

سحق ثدیها وبَنی لها تأریخاً مُزیّفًا بأجسادٍ همجیّة»

بَعدَ المدرسةِ رَجَعتُ إلی البیتِ وعِندَما دَخَلتُ، رأیتُ المَنادیلَ التي تَرَكتها «صنوبرُ» علی طاولةٍ في المطبخِ وكانت رائحة تلك المنادیل مُقززة، كان المطبخُ مليءً بالنفایات والذباب یتطایر علی انائي الذي تركتهُ مع باقي الأدوات التي تنتظر مجیئ إحدی الحبیبات لغسلها، كنتُ جائعًا، رحتُ أبحث في الثلاجة لعل شیئًا یقویني، ولكن لم أجد شیئًا ماعدی الخبز والجبنة والخس، كنتُ أود أكل الخس لأنَّ الیبوسة كانت تلازمني دائماً لأجل إدماني فأشتري الخس یومیًا، لأنَّ الخس یزیل ضرر الیبوسة وأمراضها كالبثور والحكة والجذام، ویجلب النوم ویرفع العطش، وأمّا الشیء الأساسي الذي جعلني أحبَّ الخس هو أنه یقطع شهوة الباه، ولهذا یأكله الأقویاء العزل عن النساء وتأكله النساء اللاتي غاب عنهن أزواجهن بالخل لیقطع عنهن شهوة الوقع، فها أنا تركتني حبیبتي بعد خطبتها الأخیرة إلی مكانٍ بَعیدٍ حیث لا یسعني أبداً الحصول علیها مجددًا وأیضًا زوجتي لاتعود البتّه. اتصلت بصنوبرو لم تَرِد علی اتصالي، تركتُ الخبزَ واكلتَ الخسَ فَحَسب؛ فذهبت واستحممت، أشعلتُ سیجارتي، جهزتُ الشاي والقهوة، رشفتُ قهوتي ببطءٍ وأجرُّ نفسًا قویًا من سیجارتي، أحسُّ بلحظة عبثیة، أنهضُ من مكاني، أذهبُ نحو مكتبتي، لأسرقَ كتابًا كي یخرجني من عُتمةِ أفكاري ووحدتي وإنعزالي الذي أصبح الأمر الأساسي في حیاتي، كتاب «مرجان» للشیخ بهاء، دیوان محمود درویش، دیوان محمدمهدي الجواهري، دیوان ایلیا ابي ماضي، تاریخ الأدب لحنّا فاخوري، أخبار أبي العلاء المعري، دیوان لزوم مالایلزم، دیوان سقط الزند، وباقي الكتب، تركتُ الدواوین والنقد والتاریخ، فمزاجي كسول، لایرید إلا شیئًا عبثیًا، مثلًا الأساطیر لــ«رولان بارت» أو ماشابه، من اللاوعي أخذتُ كتابًا من الكاتب «إدوارد سعید»، لم أعرف لماذا شغل نفسه حول مسائل الشرق الأوسط؟ لاأدرك سیاسة اولئك الساسة لهذا أودُّ أن أعرف واقرأ أفكارهم ومع هذا أعرف هذه القراءة مُضیعة للوقت، لأن سیاساتهم تتغیّر حسب مزاج الغرب؛ حاولتُ الإتصال بصنوبر ولكن لم ترد علی اتصالي، لاأریدَ منها سِوی شیئًا من الأطعمة، والطعام طعام ولوكان طریًا فهذا أفضل؛ آه كم اشتقتُ لك ولخطبتك التي تحتوي علی أساطیر تعیشُ منذ عصورٍ حتی تحوّلت إلی مفردات ٍ من العبثِ ان استیقاظها، أعلم انني خائن، وخنتك مع صنوبر، ولكن كان قصدي أن أحمیها من شهوتِها وأخافُ أن تضاجع نفسها بمفردها وتطیرُ عصافیر عفّتها بعیدًا، لم أخُنك یومًا مع أني خنتُ زوجتي الرسمیة، زوجتي التي تزوجتُها منذ سبع سنین ولدینا بنتٌ وأجهضت أُخری. لماذا الآن خنتك مع فتاةٍ مومساء تُعرَف بأَشنع الأفعال؟ ولكن هي من طرق الباب واغتصبتني ونهشت حبیبَك كالثعلب حین ینهش الطیور، حقًا هل رویتُ لك روایة الثعلب؟ أتعرفین الثعلب إذا احتاج الی الطعام، تماوت ونفخ بطنه، حتی یحسبهُ الطیر میتاً، فإذا وقعت علیه الطیور لتنهشه، وثب علی الطیر وأكله، فأعانهُ الله بالدهاء والفطنة والاحتیال لمعاشه؛ وهل صنوبر كانت معاشي آنذاك؟ أم حبیبك كان لها فریسة جاهزة عمیاء؟ نعم حبیبتي فكانت «صنوبر» هي من اغتصبتني، كما تفعلُ الرجال حین ینهشون النساء ومن ثم تُترَك إلی مقصلة العشیرة الجبارة، كم من قضیةٍ دُفِنَت مع نساء كثیرات وكم من حكایةِ اغتصابٍ دُفِنَت في الصدور! نحنُ نعیشُ عصرًا عجیبًا وطقسًا عنهجیًّا! حین أتكلم حول المجتمع أشعر بموجاتٍ من الغثیان، أرید أن أذهب للتقیؤ في عالم البرزخ، أودُّ أن أترك هذه الوحوش بأوجرتها، هذه الوحوش تعاقب الضحیة بَدَلَ المجرم! أودُّ لو أكتب شیئًا حول هذه القضیة ولكن أحسُّ بالتعب وأودُّ أن أرغد أو أنام أو أغمض عینيَّ. هل أنتِ نائمة؟ ومِن متی وانتِ نائمة؟ كان نومك عبارةً عن البراءة بالفطرة وكان هدوءك الحُزن الكبیر وإذا نظرتُ إلی حزنك الكبیر دَلَّني علی وحدانیتك بهیئتها وصورتها الدقیقة، واذا نظرتُ الی وحدانیتك لوجدتها صورة مصغّرة لتوطئة العالم بأسرهِ ضدّ النساء أتعرفین یا حبیبتي حین خلقَ الله الحرباء خلقًا بطيء النهضة وكان لابدّ له من القوت خلقه الله علی صورة عجیبة، أعیُن عجیبة، وشكل خاص، فخلق عینیه تدور إلی كلّ الجهات، حتی یدرك صیده من غیر حركة في یدیه ؛ ألیست النساء أضعف من الحرباء، وما هي خواص النساء عند الشدائد، أوَ لیس غیر البُكاء؟ وهل تحضرین الی هذا البیت مجددًا؟ وكما تعلمین یا حبیبتي إنّك أجمَل وافضل من «صنوبر» ومن جمیع بنات العالم، كان وجهك یعكس حیویّة تفتقر الیها جمیع النساء، و هل من الممكن أن یفضّل الله أیّاً منّا علی الآخر؟ لماذا جعل الأسود أسودًا وجعلها عَبیدًا وهل كان الله یبجل الابیض ویشجعهُ علی استثمار الأسود؟

«خذ السمك فاقتله واسرح بهِ حتی یطفو علی الماء ثم إكمِن تحته حتی لایتبیّن شخصك فإذا وقع المُدیر علی السمك الطافي وثب الیه واصطاده وهذه حیلة جعلت طبعًا لك لبعض المصلحة»؛ قالها المُلثّم، وأعطاني سكینَ ذهبیة تقطرُ دَماً، وسألني هل أنت الذي ذبحتَ الحسین بن علي في كربلاء؟ تقطرُ یدايَ دَمًا وأهربُ من مكان الجریمة، تطاردني رایاتٌ سوداء نُقِشَت علیها «یا لثارات المُدیر»، أری ظلَ زوجته المریضة، یصرخُ بوجهي: هل أنت أعدمتَ ذلك الخائن الحقیر؟ بارك الله فیك، لاتخف من اولئك الشرذمة، ولكن تابع ركضك، أضربهُ بعنفٍ، سقط علی ظهره، حاولتُ خنقه، جلستُ علی بطنه، فأمسك بثیابي وخلعها، أصبحتُ عاریًا، فقصد مضاجعتي، والرایات غطّت هذا المشهد عن عیونِ المُحتلم»، استیقظتُ مذعورًا، الساعة العاشرة مساءً؛ تُری ما تفسیر هذا الحُلم؟ وهل حقًّا أعتقد بتفاسیر الأحلام أو تعابیرها، هل أذهبُ نحو فروید وكتابه «تفسیر الاحلام» أو كتاب ابن سیرین «تعبیر الأحلام»؛ وهل صحیح مایُقال؟ لا لأنني أكره هذا المُدیر الطویل النكره رأیتهُ في منامي، وهل أراد أن ینكحني كما فعل بأطفال كثر؟كم ساعة نمتُ؟ حوالي عشر ساعات، أتضوّر جوعًا، وجعٌ فی رجليَّ، ورأسي، وصدري، أحتاج إلی مورفین، إلی «تریاك» أو «شیره»، فاشتریتُ الیوم عشرین غرامًا من «طلحة»، ذلك الشاب الذي یبیع شتّی الممنوعات، ولایدخن سیجارةً واحدةً، مهّدتُ جلستي المفضلة، كل ماكتبتهُ من نصوصٍ رائعة كتِبَت أثناء التدخین، جهّزتُ الموقد، والسلك الحدیدي، (السیم)، والچلّاب، صببتُ الشاي، وجعلتُ التریاك علی الچلّاب وبدء مشواري المفضل في حیاتكم البائسة؛ تذكرتك حین طلبتُ منك أن تُقلّلي من مصرفك للأسود فقلتِ: لماذا؟ وهل سأحصل علی أفضل من الأسود؟ لاأعرف لماذا الأطباء حین یكتبون تعریفًا للإدمان یعرفونهُ بأنهُ إساءة استخدام للمادة المخدرة، مما یولد التعود علیها وإدمان الجسم لها؟ ولعلمك جمیع حبوب الأطباء تُصنَع من المورفین أي من التریاق، أي هذا الأسود المفضل لدي ولدیك، هل فهمت الأمر حبیبي؟ اشتقتُ لها، كانت تترای لی فی الدُخان، أراها بوضوحٍ تام، حین أنفخَ الدُخان أری وجهها الوسیم ومن ثم تصبح ضبابیة وتتلاشی، لم أطق عدم وجودها، أسحبُ نفسًا عمیقًا من التریاك وأنفخ مجددًا لِكي أری وجهها من جدید، یأتي بوضوح ثم ضبابیة وثم تتلاشی، سرحتُ في الماضي، حین كانت تأتي وتملیء البیت بضحكاتها ورقصاتها الجنونیه هل تذكرین هذه الأغنیة:

أحبك جدا جدا جدا وأعرف أني تورطت جدا

وأحرقت خلفي جمیع المراكب وأعرف اني سأهزم جدا

برغم الدموع ورغم الجراح ورغم التجارب

وأعرف انی بغابات حبك وحدي أحارب

وأملك كل المجانین حاولت صید الكواكب

وأبقی وأبقی أحبك رغم یقیني

لأن الوصول إلیكمحـــــــــــــــــال

وهل كان حقًا محال؟ تذكرتُ خطبتك وها أنا أعترف! نعم كنتِ علی حقٍّ حین انزعجتُ من تلك الخطبةِ، وأجرمتُ بحقّك حین قتلتُ «مازن»؛ تذكرتُ لیلة ما قبل الجریمة، حین طلبتِ منّي أن أقرء لك شعرًا إباحیًا وأنا كنتُ أتعاطي الحشیش وسیطرت عليَّ أفكاري الجنونیة والتهیؤات والتخیلات والهلوسة، ففي تلك اللیلة لم ندخن المسكنات والمهدئات الطبیة مثل المورفین أو التریاك، فقد أصابتني دوخة ونعاس، وبعض من المشاكل في الذاكرة، اكتئبت، حین كنا نسمع أغنیة «رسالة من تحت الماء» بصوت عبدالحلیم حافظ حین یقول:«إن كنت حبیبي، ساعدني كي ارحل عنك، أو كنت طبیبي، ساعدني كي أشفی منك»، أتذكرین حینَ قلتي هذه السیجارة الأخیرة هدیة منّي لك، فضحكنا وركضنا إلی غرفة النوم لتعلو صیحاتنا، والصورة التي كانت حاضنه الجدار تراقبنا ونحن نصهل شهوةً، ثلاثة أشهر مضت وانا لم أسمع ضحكةً، عدی الضحكة الاصطناعیة لصنوبر، تلك صنوبر التي أحرقت عشرینیّات حیاتها بأحضانِ هذا وذاك، وبعد زواجها طُرِدَت حتّی كادت تنتحر لأجل عراقي كردي، لم تكن طیبة القلبِ فهي مُحتالة ونوایاها لیست سلیمة، تبحث عن جُحرٍ كي تنام فیه، تحاول نسیان ماضیها؛ فعندما قصّت لي قصة ماضیها قالت: وسیأتي الیوم الذي یُمَجّد ماضيي، وسیتغیر البؤس إلی سعادة وهذا بفضلِ ذكائي وجمالي وجسدي الفاتن، لأنّ إحدی صدیقاتي طلبت منّي أن أذهب معها إلی «دُبِي» فهناك معاملة أدوات مكیاج وملابس نسائیة نستطیع شراءها بثمنٍ قلیلٍ ونبیعها هنا بسعرٍ مضاعف وعندما أجمع نقودي سأشتري سیارة فورد من هُناك.أتعرُف صدیقتي؟ هي «شرارة»؛ تذهب ُ إلی دُبي بشكلٍ مُنظّم؛ ففي كلّ شهرٍ تذهبُ عشرة أیامٍ هُناك، تعرفتُ علیها في المقهی لقد كانت سعادتي في ذلك الیوم، كما قالت شرارة إنّ والدها كان تاجرًا، یسكنُ خارج البلاد وكما أظن في النمسا، وشرارة أیضًا ولدت وسكنت في النمسا حتی العاشرة من عمرها، وعادت إلی بلدتها تحملُ المال مایقارب الملیون دولار و اشترت سیارة وبیت واسع في أرقی مناطق المدینة، فعندما رجَعَت؛ بدأت تُتاجِر ُ في شتّی صنوف الأدوات النسائیة حتّی جذبت مایقارب إلعشر بنات للعملِ معها وإدارة العمل هنا وهناك...سألتها هل تعرفین قصّة السُلحفاة؟ قالت لا، ولكن أودُّ سماعها؛ فقلت لها: السُلحفاةُ حیوان برمائی، تعد من بقایا عصر الدیناصورات، فلماذا بقیت اثناء الثلوج التي غطّت الأرض آنذاك؟ السلحفاة ذكیة وتُعَد من أدهی المخلوقات، فمن طبائع السلحفاة انها إذا ازداد البرد وأضرَّ بالمكان الذی توجد فیه ، تنقلب علی ظهرها بحیث تجعل قوائمها مرفوعه نحو السماء فإنّ البرد لایضر بذلك المكان، عَرَفت قصدي «صنوبر» وقالت: أتظنني قحبة أسعی لبیع جسدي؟ فقلت لها لا، ولكن هل أنتِ واثقة بما تقولینه، أو هل تعرفین شرارة حق المعرفة؟ وهل ذهبتِ إلی بیتها؟ وهل رأیتِ هویتها وسجلها المدني؟ للأسف لاتستطیعین القراءة العربیة وإلا أعطیتك روایة من الروائیة المصریة «هاجر عبدالصمد» حتی تعرفین طریقة بیع النساء في العالم كیف تسیرُ من المقاهي إلی الكابارات والفنادق الفخمة، ویهتكون عِرض الفتیات البریئات، كم قصة تریدیننی ان ارویها لك وكل قصة من تلك القصص بحد ذاتها روایة جنائیة لم تُكتَب؛ یا صنوبر احذری من تلك البنات؛ لم تهتم بنصیحتي وعندما أحسّت شیئًا من الراحةِ، قالت: وما المُهِم یا استاذ؟ أعرف ماحذّرتني منه، ولكن أصبح الجسد تجارة عالمیة مُربحة، استاذ كــــــــــانَت الدعارة قبیحة عند الأقدمین، ولكن الآن یرسل الاب بنتـَــهُ لكي تأتي بمالٍ لابأس بهِ؛ ألاتعلم استاذ لقد نشأت تجارة الفتیات والخود والحسناوات؛ وأصبحت تجارة الجنس التي یبلغ حجم ربحها ملیار دولار سنویًا أكبر تجارة من نوعها في العالم خلال السنوات العشر الماضیة، وفي كل سنة یجري تهریب آلاف النساء من اوروبا الشرقیة والدولة السوفیتية إلی جمیع انحاء العالم. ألاتعلم استاذ أن تهریب و تجارة الجنس مزدهرة الی درجةٍ حثت الشرطه الی تشكیل قوة لمكافحتها قبل اعوام وهل تعرف من هم یتاجرون ویربحون أكثر من تلك العبید وبائعات الشرف، الوجع للحسناوات والربح للأسیاد، هذه هي العبودیة التي ورثتها نساء العالم، من الشرق الی الغرب، ومن الشمال الی الجنوب، منذ عهد حواء إلی یومنا هذا، استاذ، الله خلق هذا العالم ومن ثمَّ مات، و ان لم یمت فإنهُ تكسّحَ بشكلٍ نهائي، ترك مُباراة العالم والخلق، استاذ دعني وشأني و دع عنك اللوم والنصیحة، أنا عاهرة وكل النساء عاهرات، أتظنُّ أنَّ زوجتَك لم تُغتصَب، أُختك، أُّمّك؟ بلی استاذ، أُغتُصِبَت تلك النساء ولكنها لم تفش بسرّها، أتظن حبیبتك لم تُغتَصَب، بلی استاذ ولكن كتَمَت معاناتها، استاذ العالمُ وحشٌ وانتم الرجال مخالب هذا الوحش والضحیة نحن النساء، فعلینا أن نمصَّ قضیبكم ومالكم معًا، الرجال كالبوضة وعلی النساء أن تمصَّ ماتبقی منهم. استاذ اسمع ما أقول وقد یكون هذا لقائنا الاخیر؛ كان ابلیس یخترق السماوات السبع، فلمّا ولد سیّدنا عیسی علیه السلام حجب من ثلاث سماوات، وكان یخترق أربع سماوات، فلمّا وُلِدَ سیدنا محمّد(ص) حجب عن السبع كلّها، ورمیت الشیاطین بالنجوم، وبعدما رُمِیَت الشیاطین، لم یبق لهم غیر الأرض، ولماذا قلت [لهم] ولم أقُل [لهُنَّ]؟ لأن الشیطان كان بمنزلة الأب عند الرجال یحتكمون إلیه؛ فالرجال اذا اشتبه علیهم أمرًا یخبرهم الأب الأعظم، الشیطان الأغر في وجوه شتّی من فراسة العین وذكاء القلب ووسوسة النفس وفطنة الروح، فمایحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة فذلك فعل الرجال تودیه للشیطان ولیس بصحیح ما تقولونَه من أنَّ النساء جنود الشیطان؛

- صنوبر! تعلمین كل هذه الأخبار والأحداث! ومع ذلك قرّرتي الذهاب إلی من یُعاملك كسلعة تُباع و تشتری؟

- ولِمَ لا یا استاذ؟ بعد كل ما قاسیته هنا بین ابناء وطني وأهلي لا أرید أن أكون ضعیفة، أتعرف استاذ أوّل من اغتصبني هو ابن عمّي «پرویز»؛ كنتُ تَوًّا خارجه من الحَمّامِ ولبستُ فستاني الأزرق الطفولي بصُخیراتٍ مُلوّنه، فتاة بریئة، لاأعرف من العالم إلا الضحك واللعب، في فصل الخریف، حین كنا نسكنُ مع عائلة عمّي في شرقِ مدینة «خرم آباد»في بیتٍ كبیر، بثلاثة طوابق وغُرَف كثیرة، كان البیت لوالدي، ولكن كان یعبد إخوته، لهذا كانوا یحتقرونه، یسرقون أمواله، یسیئون لأمّي وأخواني وأخواتي، یعاملوننا كمُحتلّین، لأنّهم یكرهون أُمّي، لأنَّ أُمّي بنت المدینة وهم ابناء القریة ، ووالدي لِكي لایُعرَف بالخَناثة والدیاثة یفعل وفق مرادهم، یضربنا، یشتمنا، یقطع علینا المصرف في البیت، كان حقودًا بشكلٍ لایُعقَل، وَلو اننا عرفنا بأنَّ عمّتي أسحرتهُ بماءٍ صاغه لها مشعوذٌ صابّئي جاء من الأهواز، كنّا آنذاك في محافظة «خُرَّم آباد»، والصابئین كما عرفت بعدها یُقدّسون نهر «كارون» و«دجله» و«فرات»، لهذا یتواجدون في الأهواز، والخفاجیة، والفلاحیة، والمحمرة، وعبّادان بالإضافة الی العراق، وعندما انتقلنا هنا الی مدینتكم، وقبل أن ننتقل إلی هذا البیت لتصبح جارنا أنت، كنّا في المنطقة الشمالیة من المدینة وكان جارنا صابئي، فكان یحتفل برأس السنة المندائیة في شهر «دولا» الذي یتزامن مع أواخر شهر تموز/یولیو؛ والذي یصادف خلقة النبي آدم وفقًا للعقیدة المندائیة. فلنرجع الی «خُرَّم آباد» وطفولتي ونترك سحر عمّتي ومصائبها وممارساتها الجنسیة مع «فرید» جارنا، ومع«هوشنگ» ابن خالها، وباقي الأشخاص الذين لم أعرفهم آنذاك، أقولها وأنا واثقة بان أولاد عمی الخمسة جمیعهم لیسوا من عمّي بل من هذا وذاك؛ كان والدي نائمًا، وأُمّي تذهب خارج البیت مع شخصٍ غریب سیارتهُ «پیكان» أبیض، كنت أبكي وأطلب منها أن تأخذني معها، لكنها ترفض وتقول لي: هناك وحوش یأكلونك إن أتیتِ معي، فأقول لها لماذا لم یأكلوك أنتِ، فتقول: لأنّي آكل ذلك الوحش الأسود، لاأعلم لماذا تذهب یومیًا خارج البیت وَلَو انی عرفتُ بعدها، في غرفةٍ بعیدة من ضجیج باقي الغُرَف عمّي وإمرأتهُ نائمان، تقرّبَ منّي «پرویز» وطَلَبَ منّي أن نذهب إلی غرفتهِ في الطابق الأعلی، سألتُ عن السبب فقال بأن یرید أن یعلمّني طریقة الرسم الجدیدة التي تعلّمها من مدرسة الرسم آنذاك، وعندما دخلنا الغرفة، جاء وحضنني، طلبتُ منهُ أن یتركني، فترجّاني أن أعانقَهُ، لم أُلبّ طلبه، أصَرَّ علی الامر والذل ُّ بانَ بملامحهِ، فقال بأنّهُ یحبّني وسیتزوجني یومًا، لكنی لم أرغب بهذا الأمر فطلب منّي أن ألمِسَ عورتهُ ویلمِس عورتي؛ فرفضتُ الأمر، فصفعني وجرّدني من ثیابي بعنف و....

- طیّب یا صنوبر، لاتبكین، أعرف هذه الأحداث، كثیرًا ماسمعتُ هذه القضایا وللأسفِ لم تنته لأنَّ الآباء لم یعلّموا ابناءهم.

حقًّا أنتِ حبیبتي هل لدیك من تلك القصص التي عانَت فیها الفتیات من الإغتصاب؟ وهل أغتصبوك یومًا؟ لماذا حین أفكر بهذا الموضوع ینتابني قلق؛ عندما طلبتُ من صنوبر أن تنهي القصة، ضحكت وقالت یا استاذ، أعاهدك بان آخر من یلمس جسدي ستكون انت، وسأطلّق الدنیا وأهلها لأجلك، كم هذه الجُمل معهودة، كنت قد سمعتها من قبل، لماذا أنتن النساء تتحدثن بشكل مشابه؟ كنتُ أخاف من هذه الجُمَل؛ أنهكتني هذه التصاویر والدُخان المتصاعد للسقفِ، وإنتِ لاتتركین ساحة أفكاري وَلَو للحظةٍ؛ هل أنتِ علی مایُرام؟ وهل تقصّینَ الآن قصتك لأحدٍ كما فعلت صنوبر؟ وهل سیسمع الخطبة التي أدمنتُ علی سماعها وذكریاتها؟. أحتاجُ الیك حین أُدخن، وحین أغفو، أحتاج الیك بعد كل المعاناة ولكن ثوبك الأبیض یمنعك أن تأتین خوفًا من أن یُلطّخ مرّة ً أُخری بلونٍ أحمر.

«انظر الی النملِ حین تجمع القوت، فتری منها الجماعة وانا وحیدًا حین سرتُ بطریقٍ لم تسرهُ إلا الأجنّة»

«{وَمِن عَجائبِ هذه الجزیرة؛ بِها ملوك تَحمِلُ ثمرًا كالأشجار، وسیمون كالنخیل المُثمرة، أحسَنَ اللهُ خلقَهُم؛ وجعلهُ مُباركا كما صَوَّرَ الإنسانَ فأحسن تصویره؛ ومبانٍ شاهقةِ الإرتفاع تكاد تعانق السماء وودیان ملیئة بالجداول المتعرّجة، وناطحات السُحُب كالنساء،بصورتها الجمیلة، وجسمها الرشیق وعیونها مصابیح تجعلَ الظلامَ ضیاء، وأید وأرجل وشعور وترائب وفروج كفروج النساء حینَ تَمطِرُ السماءُ، غوانيُّ الجزیرة من ذوي حسان الوُجوه، عجائبُ هذه الجزیرة حینَ یُنادي المُنادي:حَيَّ علی الفَلاح أهلها یُلبّونَ هذا الصوت ویخرّونَ لهُ واثقین؛وأرضهم أطیب الأراضي وأكثرها عطرًا وطیبًا وبها أنهار أحلی ماءً من العسل والسكر المذاب، وفیها أنیس الدنیا والآخرة، إن أردت الدنیا فمحلّاتٍ لتبیع بضاعتك الدافقة علی غُرَباء مَثَلَهُم مَثَلَك، وإن أردت الآخرة تری أمكنة مُعطّرة بألفاظ لاإله إلاالله، وكما تَعلَم أنَّ في الجنّة أشجارًا تنبت بنساء من حور العین، فكرامتهم غرست لهم شجرة في الدنیا والآخرة، من یاقوتة حمراء نبتها في مسك أبیض أحلی من العسل وأشدّ بیاضا من دشداشتهم الطاهرة وأطیب ریحًا من المسك فلاتقُل دُبي بل قُل جزیرة الواق واق

بدأ الیوم كأي یومٍ آخر، استیقظت حین بلغت أنفي رائحة حلیب محترق كانت تفوح فصرخت أُمّي:« وِلِچ شَعبِیّة، گَعدّي هذوله الخِیّاس، صار ظُهُر وهُمّا نایمین، والحلیب ولچ فار، روحي طفّي، طِرگاعا علیهَه مِن عیشَه» فسبق والدتي الدیك ومن ثم عَلا صیاحه، كان الدیك أحمر جذّابا، وكلُّ ما أری الدِیَكة أذكر قصّة زوربا حین یروي لصدیقهِ أن أشهی طعام في عید المسیح هو [مرگة إزبوبة الدیكة] فأضحك؛ هكذا نبتدیء صباحنا؛ عندها نستیقظ ونجلس لنتناول الإفطار المعتاد خبز تنور أخرجته الوالدة توًّا من التنور، والزبدة والحلیب والشاي المنكه بالهیل، كان یومًا خریفیًّا منعشًا، وتحتضنُ السماءُ سحابا أسودَ فكنّا ننتظر الغیث حتّی نلعب بالطینِ تحت النخیل، كنتُ في الخامسة عشرة من عُمري؛ لم یكن والدي لئیمًا، بل طیّبًا خَلوقًا، ویستاء في أبسط الامور ویثور غضبه، وصمتهُ رئیس الموقف، دائم السكوت، ولكنه كان ذا رغبةٍ شدیدةٍ في العمل الذي یشتغلُ به كل من افراد العائلة وكنت أنا الضحیة العظمی بین اخوتي؛ لأنَّی تعلّمتُ الجزارة قبل كل إخوتي، فكلّفني هذا الأمر كثرة العمل وكان یؤلبني علی إخوَتي.كان یومًا مُنعِشًا لأنَّ الأهواز تشهد فصلین في السنة عادة ً؛ الصیف وهو الفصل الأكثر عُمرًا، والشتاء فقط. لا أعرف لماذا لم نحظي بلحظة سلام في ذلك البیت، فغالبًا ما نَتَّهِم إحدی الحبایب بالسحر الذي دُفِنَ تحت الشجرة، فنسمع الوالدة تقول:«هَذَن إگحاب مایفُكني، یومیة إسحورا، یوم دحرویه ایكسرون بالباب، یوم مكناسه ایخلون بالباب، یوم ایحرگون حمامه، ما ادري شیطِلبَنّي ما ادري؟»؛ وغالبًا العدد الكثیر من الأفراد في البیت یسبّب تشنجات بین الأعضاء، لأن لا أحد یطیق أن یُضرَب إبنه، والعدد كان مایقارب الثلاثین شخصا في خمسة غُرَف، لأن عائلة عمّي وابن عمتي یسكنون معنا؛ في ذلك الیوم تشاجرتُ مع والدي بشكلٍ عنیفٍ حتی طردني من البیت وأقسمتُ علی نفسي بأن لا أرجع، خرجتُ من البیت ومشیتُ بصورة عبثیة، لاغایة لي، دون مسیرٍ مُعیّن، جعتُ في تلك اللحظة دخلتُ محلا یبیع السندویشات، أخذتُ الهمبرغر، أكلتها دون أن أعرف طعم اللحم فیها، تركتُ القریة نحو السوق الذی یبعد عن القریة أربعین دقیقة، كنت أفكر حین یلقي اللیل ظلامه أینَ سریري الذی اعتدت علیه، وأین تكون وسادتي، كنت قلقًا شیئًا ما، في السوقِ حینَ ذهبتُ نحو سوق الطیور في منطقةٍ تُسمّی «المشمولي» رأیت «عبدالله» أحد أصدقائي وابناء قریتي كما انه احد ابناء العشیرة وكان بارع في تربیة الطیور فقال:

- تدري بعت حمامي وطیوري وهای آنه جیت اتوادع ویهّ لولاد .

- علی خیر حبیبي، بالسلامه ان شاالله، چان اخبرتني انا اشتریتهن من عندك، حرامات، حمامك خوش حمام، هسه رایح للعسكریة ان شاالله؟

- لا عُمري إنت! انا وین والخدمه وین؟ أنا أخدم هذوله؟ اللیلة رایح صوب «بندرعبّاس» ومنّاك رایح صوب «دُبَي».

- دُبي؟ عبدالله ابشرفك رایح الدُبَي؟ ویّامَن؟ واشكثر لازم عندك؟

- إي خویه، رایح الدُبي، عندي صدیق بالبندر؛ گال تعال حتّی انروح سِوآ، تدري دُبي واید ترقَّت، وراح اتصیر أحسن من الكویت، مشاریع بیههَ إهواي. وتعبت من إهنا، ماسمعت هذه الآیة:*إنَّ الذینَ تَوَفّاهُم الملئكةُ ظالمي أنفُسَهُم قالوا فیما كنتُم قالوا كنّا مُستَضعفینَ في الأرضِ أَلَم تَكن أرضُ اللهِ واسعةً فَتَهاجُروا فیها فاولئِك مأوئهم جهنمُ وساءت مَصیرًا*؛ هو رسول الله سافر وهاجر، لیش أنا ما أهاجر؟

- عبدالله، انا تعاركت وي والدي، وصراحه بعد ما ارجع للبیت، اذا تاخذني إویاك وراح اعاهدك كل شی الي تخرجه علي راح انطیك إیاه إهناك، ولا تخاف من أهلي لان یعرفون انا امشي ابراسي.

- ولك لاتورطني وَي هَذولَه المِعدان، ولك اشراح ایفُك أهلي، خلیني أروح وتالي إنتَ تعال.

- ابشرفك أگلَّك مَحَّد إله غرض بِیّه، ولك هِیچ اتگول؟

- اذا ماراح اتصیر طرگاعا علی اهلی طیّب... الساعة سبعة مساءً ابدوّار «ابن سكیت» راح انتظرك.

رجعتُ إلی البیت، جهزتُ نفسي، جمعتُ ملابسي، حاولتُ أن أسرق شیئًا من المال من اختي أو والدي أو أیّ شخص آخر، كانت اُمّي تتابع الأحداث الّاانها لم تُطِق هذا الامر فقالت:

- یومّا عیني، ابوك عصبي وگال فرد شیء، إنت لاتزعل علیه، ترآ هو واید إیحبّك، عیني سمّي بالرحمن وإبقی بالبیت.

- یومّا أنا ماني زعلان. چا هو خطیّة إشگال حتی ازعل؟

- چا لیش جاعِد إتجَمّع ملابسك وإكتاباتَك وحتّی حمامَك ماهتَمّیت بیهن؟

تذكرتُ الحمام؛ أستطیع أن أبیعها بسعرٍ لابأس بهِ، ركضتُ نحو «فؤاد» صدیقي المُقرّب، طلبتُ منهُ أن یبیع حمامی أو یشتريها؛ فتعجّبَ من الأمر وقال:

- شني السالفه؟ انتَ اتبیع حمامك؟ صدگ، چذب؟ أنا ما أصدّگ خویه؟ لیش الك حاجه بالإفلوس؟ ترآ أنطیك قرض بالله.

- إي والله فؤاد، حِیل مِحتاج إفلوس، بس قرض ما أرید، أرید ابیعهن، أحسن.

- طیّب هذه خمس مِیّة ألف، واید علیك؟ باللیل آخذ الحمام.

- أنعَم الله علیك، واید

- چا انت وین بید الله ماشي؟

- انت إخذ الحمام وراح اخبرك بالقضیة، وعینك علی نفسك، أحبّك.

بعتُ الحمام علی «فؤاد»، فجاءَ لأخذها، تتابع أُمّي هذه الأحداث، مسكینة كانت مذعورة، قلقة، طلبت منّي بأن أهدأ. فقلتُ لها یا أُمّي لم انو علی سوءٍ، دعیني أرجوك. الساعة السابعة كان ینتظرني عبدالله في الدوّار، جاء بسیارة بیضاء من صناعة إیرانیة تُسمّی «پیكان»؛ ركبنا خلف السائق، كان السائق بمعیّة شخص لم أعرفه؛ كانت شوارع المدینة فارغة في ذلك المساء المُمطِر، وكان الیوم الأوّل من شهر رمضان، كنتُ أتابع ملامح مدینتي التي أراها حزینة وأتابعها بدقةٍ خوفًا من أن لا أراها مُجددًا، مَررنا علی دكان «حجّي إمحِیسِن»، ذلك العجوز الذي لَم یردّ أحدًا فارغ الیدین، فكان خیّرًا یساعد الضعفاء والمساكین، ذرفتُ دمعةً دون أن یراها أحد، ومن ثمَّ مررنا علی «اسطه قاسم»، ذلك الرجل العصبي، كان یُصلّح السیارات ویحتاج الی مساعدین او ثلاثة أو أربعة وكان یعطي أُجرة لابأس بها، ولكن لم یبق أحد بمعیته، تذكرتُ كیف اشتغلتُ عنده ثلاثة أشهر وكان یحترمني ویودّني لأنَّی أُلبي طلباته كما یشاء، في تلك اللحظة كان یغلق باب الدكان، مررنا علی نهرنا وكأنهُ ینادیني: من بعدك لایأتي الماء ولا یجري كالسابق فكحّل عینیك بآخر میاهی، لأن الأجیال فیما بعد لایصدقون بأنَّه كانت لی عطایا كالاسماك والمیاه العذبة للودیان، سأكونُ محلا لبناء بیوت الأجانب، ذرفتُ دموعًا دون أن یراها عبدالله؛ لم نتبادل أی حدیثٍ وكأننا نخافُ أن تنزل دموعنا إذا تحدّثنا عن أحوالنا، ولكنی في ظلام السیارة وأغنیة «أخي» (برادر) للمُغنّي الفارسي «داریوش» اخذت أمسحَ دموعي خلسة دون أن ینتبه لی أحدٌ و یعاقبني بسبب صغر سنّي، اخذ السائق یشرح باللغة الفارسیة حول المُغني فقال: داریوش مُغنّ سیاسي، عارض النظام البهلوي حتی طُرِدَ من الوطن وبعد الثورة الإسلامیة مُنِعَ من الدخول الیه لانه مطرب، لم یر السائق إهتمامًا من أحدٍ لما قاله، لهذا السبب، بقی ساكتًا إلی نهایة الطریق، سألتُ عبدالله: هل سنغیّر السیارة في الطریق أو سنذهب مباشرةً إلی بندرعبّاس؟ فقال: لا سنذهب مباشرةً مع صدیقي وسیتركنا هناك ویرجع بمفرده وهذا صدیقهُ یجب علینا أن نصطحبهُ حتّی نهایة السفر. لم أرد علی كلامه سِوی هَزّة رأس، تذكرتُ «شیخ فائز» حین قال اذا خفتَ طریقًا علیك بقراءة آیة الكرسي، فأخذتُ ألعب بأظافري وأنظف ماتحتها واقرء آیة الكرسي،كان علینا أن نسیرَ حوالي أربع عَشَرة ساعة، فبندرعبّاس تُبعَد عن مدینتنا نحو1200كیلومترًا، وتُعرَف بمیناءها المُهِم استراتیجیًا واقتصادیًا، بعد مدینة معشور نمتُ ولم أفتح عیناي حتّی بندرعبّاس، لم نواجه صعوبة أو مشكله في السیر فوصلنا الساعة السابعة صباحًا إلی بندرعبّاس، نزلنا إلی مقهی علی الشاطیء، لم تختلف بشرتهم منّا، وحتی لغتهم كانت عربیة إضافةً إلی مفردات فارسیة راسبة في لهجتهم، فأكثرهم یعرفون اللغة الفارسیة ویتكلمون بها، ولدیهم طور خاص في التكلُّم بالفارسیة حتّی سُمّیَت لهجتهم بــ«البندریة»؛ كان یجب علینا الاتصال بالسیّد «عثمان» فهو الذي سیصبح دلیلنا للنزوح نحو دُبِي. بعدما أكلنا البیض والبصل والخبزَ وشربنا الشاي الساخن ، طلب السائقُ أن یستأذن ویذهب إلی بیتِ خالته لِكي ینام ویرجع في المساء نحو البیت وهو یضحك، فابتسم عبدالله وقال لهُ هنیئًا لك. لاأعلم لماذا أصابَني إكتئاب شدید؛ لعلَّ الندم هو من أهداني الإكتئاب؛ ذهبَ السائق فطلبنا سیارة أُجرة وذهبنا نحو منطقة تُسَمّی «سورو» نبحث علی العمّ عثمان؛ جاء شاب علی دراجة ناریة وطلب منّا أن نتبعهُ، ولكن عبدالله رفض هذا الأمر، خوفًا من أن تكون حیلة ویسرقوا نقودنا، فطلب من هذا الشاب أن یُنادي عثمان إلی المكان الذي اعتمدنا علیه، حیث تتواجد المارّة، فذهب الشاب ورجع بعد دقائق ومعهُ رجل وسیم، بلحیةٍ سوداء ودشداشة بیضاء یشبهُ أبطال الأفلام التاریخیة، حیّانا بتحیة الإسلام وتكلّم بالعربیة الحجازیة الصحیحة:

- مِن مَنكم عبدالله؟

- فقال عبدالله بشیءٍ من الفخر والغرور: أنا ... أنا عبدالله سیدي... وهل حضرتك عثمان؟

- نعم، أخبرني مصطفی بأمرك ولكن قال یأتیك نفران لاأكثر، وها أنتم ثلاثة؟

- سیّدعثمان، هذا صدیقي ومن ابناء قریتي وأعرفهُ حقّ المعرفة، طلب منّي أن أتي به لیُكلّمك!

- ولكن انا حجزتُ لنفرین لاأكثر ولا أستطیع أن أغیرَ شیئًا... كما تعلم هذا الأمر في غایة الخطورة...

قالها هامسًا... فَرِحتُ شیئًا ما، فأنا أستطیع الرجوع مع السائق، ولكن كنت أحب هذه المغامرة، فتكلّمتُ بكذبٍ دون وعيٍ: سیّدي عثمان، لدي والد فالج وطریح الفراش، لایستطیع أن ینهض من مكانه، وَ لَديَّ أخوات صغیرات، لم أحصل علی عملٍ في مدینتنا، فواعدني صدیقٌ إن قدمت الی دُبَي سیكون عملي حاضر وراتبه لابأس به حتی استطیع أن أغیّر مجری حیاتنا بإذن الله.

- ولكن...

- وأنا أتكلم خطرت ببالي فكرة؛ ألا وهي أن عثمان سُنّي المذهب إذا أقول لهُ لأسباب مذهبیة طردوا والدي من العمل سیحنُّ علیّ فقلتُ: یا سیّدي عثمان، للأسفِ الشدید المسائل المذهبیة باتت تَزید من النعرات الطائفیة والقتل والنهب فلا مكان لنا هُنا ولا باب رزقٍ لدینا.

- هل انت من ابناء السُنّة؟

- نعم سیّدي عثمان

- طیّب؛ ولكن إن لم أحصل اللیلة علی مكانٍ، سأرسلك غدًا.

- ولكن أودُّ أن أكون مع عبدالله.

- بإذن الله، الساعة التاسعة كونوا علی الشاطیء.

- شكرًا سیّد عثمان، جزاك الله خیر الجزاء.

- لاداعي للشكر، في أمانة الله.

مرَّ الوقت بسرعة ومن خلال أحد أصدقاء عثمان ذهبنا داخل المدینة لِكي نتعرّف علی هذه المدینة، ودخلنا مساجد ابناء السُنّة، وكان الموقف عجیبًا بالنسبةِ إليَّ لأنَّ أوّل مرة كنت أری أحدٌ یصلّي دون تُربة وكان مكتوف الیدین، صدیق عثمان طلب منّا أن نُصلّي صلاة الظهر فَهَمَسَ عبدالله باذني وقال:

- إهنا مَربَط الفَرَس؛ تنفضح ولك! هسّه اشلون اویاك یا سُنّي. انت اتعرف تتوضأ مثل الجماعا؟ أصلاً إتعرف إتصلي؟ انت صلاة الشیعة ماتعرفها.

- والله ما ادری یا عبدالله، الظاهر انا اتورطت، أنا چذبت وصارت مصیبة علي، گلّي شسوي؟

- شوف شني إیسوّي هذا صدیق عثمان ما ادری ابن اخته؛ علی أي حال؛ وانت هم سوّي مثله.

- عفیه خوش فكره.

فدخلنا مكان الوضوء ووقفت جنبًا لجنبِ مع عبدالرؤف. فعندما عَلمَ بأنني لا أجیدَ الطریقة الصحیحة في الوضوء قال: الوضوء هو الأساس الذي تُبنی علیه الصلاة صدیقي، فإنَّ صحَّة الوضوء شرطٌ مهمٌ في صحّة الصلاة، لذلك ینبغي علیك یا صاح أن تعي جیّدًا كیفیة الوضوء الصحیح حتی لاتقع في المحضور وتبطل صلاتك بعد تعبٍ وعناء وقرأ لي هذه الآیة:«یا أیّها الذین آمنوا أذا قُمتم إلی الصلاةِ فاغسلوا وجوهكم وأیدیكم ألی المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلی الكعبین» فانظر یا صدیقي كیفیة الوضوء الصحیحة. فعندما ترید أن تتوضأ علیك أن تنوي بقلبك ثم تقول «بسم الله»، ثم تغسل كفّیك ثلاث مرّات، ثم تمضمض ثلاث مرّاتٍ أیضًا وذلك عن طریق وضع الماء في فمك ثم إخراجه. ثم استنشق ثلاث مرّات وإجذب الماء عن طریق النفس إلی الأنف ثم استنثر الماء فقد قال رسول الله علیه الصلاة وسلم:«بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا»؛ ثم اغسل وجهك كاملاً ثلاث مرّات؛ وحدود الوجه هي منابت شعر الرأس إلی آخر الذقن ومن الأذن إلی الأذن إن كان بالوجه شعر أو لحیة خفیفة وجب غسلها وماتحتها من البشرة وإن كان الشعر كثیفًا وجب غسل ظاهره ثم إغسل الیدین إلی المرافق ثلاث مرّات وإبدأ بالیمین أوّلاً. ثمَّ إمسح رأسك مرّةً واحدةً واذنیك مرّةً واحدة، وإغسل رجلیك إلی الكعبین ثلاث مرّات مع تخلیل المیاه بین الأصابع. هیّا بنا نُصلّي الجماعة مع الشیخ عبدالرحمن الرشداوي أفضل مؤمن رأیتهُ بحیاتي. وتقرّبَ منّي عبدالله وهمس بإذني:

- ها صاحبي بعدنه إهنا وغیّرت دینك ومذهبك، لو ابوك یعلم اشراح إیسوّي؟ راح إیسَوّي عَزَّك حَبِل.

- شوف عبدالله ترآ انا ضحیة صایر، بس ردت أعبر، چذبت چذبه، أصلاً أنا لاأصلّي ولا أصوم ولا أعرف حتی الدین شني، كافي ارجوك لا ألعن ابو ابوي وانت اشمالك هالكثر طائفي؟ خوش صرت سنّي یعني اشراح ایصیر؟ انتفاضة؟ تنتصر السُنّة؟ یابه دكافي، ماتعبتوا من القتل والدم والذبح والنهب والطرد لاسباب ترجع آلاف السنین أحداثهه، عمّي أصلاً أنا ماني مُسلِم ولاني مؤمن ودّي هسّه اصیر هیتلر.

- طیب حبیبي. لیش هیچ عصبي. بس لا حنّیت علی أهلك؟ اترید ترجع؟

لم أرد علیه، فدخلنا المسجد وكان المؤذن یصیح: إغلقوا منافذ الشیطان، وحّدوا صفوفكم، فافضل طریقة أن أكون خلف ذلك الحشد وأفعل مایفعلون كما أوصاني عبدالله، صلّیتُ صلاة الظهر جماعةً، أربع ركعات وبعدها سخرَ منّي عبدالله بأنه یجب ان تكون صلاتي ركعتین لا أكثر والسبب هو كونها صلاة قصر. ولم نذهب لصلاة العصر بل ذهبنا الی السوق لكي نجهّز ونشتري مایلزمنا في السفر، فغضب منّا صدیق عثمان وقال: ما بِكم أنتم الروافض! ألاتعتقدون بصلاة الوسطی؟ غضبتُ من كلامه وقلت لهُ: ماهذا الكره الذي تحملونه علی أهل البیت علیهم السلام؟ فقال: نحنُ لانكره اهل البیت، بل نكرهكم انتم، لأنكم لستم مسلمین، هل نسیت! لم تكن تعرف الصلاة! حاولتُ أن أضربه ولكن عبدالله منعنی، تركتهم ساعة وذهبتُ وحدي في زاویةٍ من الشاطیء ودخنتُ أول سیجارة رسمیًا. لم أعرف انتمائي هل للسُنة ام للشیعة؟ الساعة التاسعة جاء عثمان وقال لي: لم أحصل علی مكانٍ مُحترم لك! ولكن طلبتُ من الأصدقاء أن یجعلونك في اللنج. اللنج اصطلاحٌ غریب؛ لأوّل مرة أسمع به؛ طیّب استاذ عثمان وما هذا المكان اللامحترم؟ أطلبك السماح، هناك حمیر علی متنِ القارب سیأخذونها للشارقة وأنت تكون ضیفًا بین الحمیر. راودتني فكرة الحمیر، وتذكرتُ كتاب «خواطرحِمار» تألیف «الكونتیسة دي سیغور» ما كان سر هذا القدر؟ ولماذا مع الحمیر بالتحدید؟ وهل یعني ان من طلب الهروب من الوطن یُدعی حِمار؟ هل عليَّ أن أنسی طفولتي وانتمائي إلی البشر؟ وهل كنت ُ جحشًا بائسًا یومًا ما؟ وهل سیكون هذا الیوم یوم شقاء لقطیعٍ كان بشرا واصبح الیوم حمیرا؟ وهل كنت مملوكا لفلاحٍ أو صیّادٍ شرسٍ أو قاس؟ یالیتني كنت حیوانا في الغرب، لأن الرفق بالحیوان معروفٌ في الغرب ولو انّ هذا الرفق كان في الشرق قبل الغرب بما سبق إلیه الشرقیون من الحضارة والمدنیة، وبما أوحت إلیهم الأدیان السماویة من رقّة العواطف والرحمة الإنسانیة، جاء صوت استاذ عثمان عالیًا: مابك یا صاح؟ ان تودّ الذهاب مع عبدالله فعلیك أن تكون مع الحمیر وإن تنو الذهاب غدًا سأحضّر لك مكانًا آمنًا. فقلت له: لا سیّد عثمان، سأذهب اللیلة وسأعاشر الحمیر، ربّما تكون أفضل من أشرف المخلوقات، ربّما أخطأنا التفسیر والمقصود من أشرف المخلوقات ، سأكون معهم، لعلّ هذه الحمیر تلهمنی فلسفة ما. ضحك عبدالله وشكر السید عثمان ،أخذ النقود من عبدالله وبقی یعدّها عدّة مرّات، كان یعدَّ الأوراق بیدهِ الیُسری التي كانت تحضن خاتماً عقیقًا یمنیًا،كانت یداهُ صَلبة تعوّدت التعب والاجتهاد والمثابرة، فقال: هذه النقود تنقص ورقة، فعدّها عبدالله وأدرك بأنَّ هذا الشخص الذي جاء معنا قصد اغفالنا، فإنضجر عبدالله وصرخ علیه بغیر لغته، ضحك عثمان وأخذ الورقة،ثمّ صعدنا الی اللنج، اللنج سفینة شراعیة متوسطة الحجم، تستخدم عادةً لصید الاسماك والتجارة البسیطه وتعتبرالسفینة الوحیدة من السفن التاریخیة التي لاتزال تستخدم حالیًا. اللنج سفینة متوسطة الحجم یتراوح طول قاعدتها مابین 15 الی 40 قدمًا. ولها مقدمة مستقیمة تشبه مقدمة السنبوك. كما أن للّنج رقعة في المؤخرة وجمیع اللنجات التي تصنع تكون مزودة بمحرك آلي؛ هذا التقریر الدقیق قاله لي «رشید» أحد خدمة اللنج . أطفأ الأنوار وسِرنا نحو مكانٍ یكتب لي قدرًا جدیدًا. كانت الفاصلة طویلة فالمسافة 259كیلومترًا ویجب أن نسیر ثمان و عشرین ساعة، كیف كان یبحر «الجوهري البندقي» ، فقد سارَ من ایطالیا الی العراق في الربع الأخیر من القرنِ السادس عشر وهو في طریقه الی الهند. لاشك انه كان مجنونًا، طلبتُ من رشید إن كان بمقدوره أن یأتي جنبي للتسلیة لكنه رفض هذا الأمر لإنشغاله مع النوخذه؛ إخترتُ حمارًا من ذلك القطیع كي یكون مخاطبًا لي، فقلت لخلیلي: یا حمارُ أتعرف أنّ المصریین القدماء أو الفراعنه كانوا یكرّمون أجدادك تكریمًا ارتقی إلی حدّ التقدیس حتی إنتهی الی درجة العبادة؟ وكان ملوك العرب یجودون بالرعایة العظیمة للحمیر خاصة وللحیوان عامّة. فإنّ الحمیر حیواناتٌ هادئة ومتواضعة، والحمار رفیق المرء في كدّه، وشریكه في تعبه، ولكن سؤال: لماذا اختاروا الحمیر في هذه اللنج؟ وما هي الفائدة لنقلكم إلی دُبَي عاصمة الرُقي والتكنولوجيا؟ أصابني هوسٌ علی الإجابة عزمتُ أن أخرج من قطیعي وأترك إخوتي لكي أحصل علی جوابٍ یُرضیني ویُرضي إخوتي؛ ولكن تذكرتُ كلام عثمان حین قال: مهما كان الأمر لاتترك مخبأك وها جلستُ مكاني وكان بودّي أن لا أترك صغیرة ولا كبیرة دون أن أسأل عنها المسافرین أو الملاحین ولكن المسافرین في رحلتي كانوا حمیرا، كانوا طائفة من غیر طائفتي وأجسادهم تختلف معي تمامًا، تذكرتُ «شامخ» ابن عمّي؛ كیف كان ینیك الحمیر؟ وهل ینیك الذكر أم الأُنثی؟ وهل توجد نساء فی قطیعي؟ أم كلهم رجال اولئك الحمیر؟ وهل إذا كانت إمرأة في قطیعي تقبل بأن أضاجعها؟ كیف كان «شامخ» یتكلّم مع الحمارة حتی یرضیها؟ لیتني سألتهُ قبلَ أن أترك القریة. كانت الرائحة كریهة تشبه رائحة بعض البشر، وكانت إخوتي تتبوّل عليَّ تعمدًا؛ تذكرتُ أبي عندما یطلب احدنا منهُ شیئًا والآخر أیضًا یطلب نفس الشئ والآخر كذلك إلی آخرنا؛ یغضب ویقول: انتم مثل الحمیر، إذا واحد بال كلهة إتبول. صَدَقتَ بابا، لم أفهم هذا المثل قبل الیوم؛ ولكن حالیًا أعرف هذا المثل والطائفة التي تمثل الدور المهم لتأیید مثلك القدیم. بال أحد اخوتي علی رأسي حین كنت اتثاءب، فغضبتُ وضربتهُ ولكن یدي أوجعتني وجعًا شدیدًا، یا الهي هل تنتهي هذه الرحلة؟ آه كم اشتقت إلی البیت والی والدتي حین تحضّر الافطارفي هذا الشهر المبارك بشتّی الحلویات، «المَحَلبِیّة»، و«لِگِیمآت»، و«الشَعرِیّة»؛كم كنت غبیًا حین لاأعرف النِعَم التي أنعمها الله علي، أحسُّ بالنعاس وهل أستطیع النوم؟ ضحكتُ بهیستریا حین تذكرت تلك الحزورة:« شني شني إیدِش بیك، ویرخیك، ویلعن ابو الجانیك» وكان الجواب هو النوم، نعم النوم. قُربَ «رأس الخیمة» جاء رشید وقال بأن أجهّز نفسي فاغتنمت الفرصة وسألتهُ: ماذا تفعلون بالحمیر؟ فقال: لأكل الأسود والضباع في حدیقة الحیوانات. یا الهي كم فجیع مستقبل اخوتي! وهل سأكون منهم ؟ الفرق هو أنهم تنهشهم حیوانات لكن ستنهشني ابناء البشر! رجعتُ وهمستُ فی اذن ذلك الحمار الذي كان من المُقرّبین لي فقلت:«قرأت عن عشیرتكم بانكم لستُم ممن یصلح لحمل الأثقال بل من نوع لیّن الأعطاف وانت سریع العدو حتّی تسبق براذین الخیل، وقرأت بأنّ الحمار من عشیرتكم إذا شمّ رائحة الأسد رمی بنفسه علیه من شدّة الخوف؛ فأتمنی أن ترفع معالم العشیرة عند التلاقي»؛ فتذكرتُ حدیث جدّتي التي كانت مُشعوذة وتحب ُّ السحر حین قالت:«من نزع شعرة من ذنب الحمار عند نزوه وربطها علی فخذه أنعظ وهیج الباه، وإذا أُلقي في النبیذ شیء من شعر ذنبه یقع بین شاربیها خصومة»؛ فلاتنسی صدیقي أخذتُ شعیرات من ذنبك البارحه حین كنت تغازل جارتك؛ وصلنا إلی «رأس الخیمة» وقال إمّا ننزل بالشارقة أو بالدیرة، لأن باقي المسافة یجب أن نكملها مشیًا. نزلنا في الشارقة وقال لي رشید: المسافة التي یجب أن نمشیها هی عشرة كیلومترات ومن ثم تركبون أو تمشون نحو دبي لأن دبي تبعد عن الشارقة ثلاثین كیلومترا لا أكثر. عندما نزلنا كنّا مایقارب العشرین شخصًا من شتّی القومیات، لُرّي، كردي، بلوشي، فارسي، ونحن العرب، فأعطاني عبدالله طرفا من الكوفیة والطرف الآخر كان بیدهِ، وقال لاتترك الطرف الآخر من الكوفّیة لأنه اذا ركضنا سیفقد بعضنا الآخر، سمعت؟ فقلت لهُ نَعَم. دخلنا الشارقة وقصدنا الذهاب إلی دبي، دخلنا بستان نخیلٍ اننا سمعنا «قِف»! تلك الكلمة التي سمعتها سابقًا ولكن بشكل «ایست»، قال عبدالله: إركض خویه ولاتوگف. ركضنا مایقارب نصف ساعة و لم یبق من ذلك الحشد إلا خمسة أشخاص؛ فقد أضعت عبدالله عند هروبنا من الشرطة، وكانت الكوفیة بیدي أنا، أنا الذي لم أترك الكوفیة لكنه قد تركها، وصلنا دُبي في المساء لاأعلم كم الساعة، ولحسن الحظ كان رمضان فالطعام في الشوارع وموائد الافطار للفقراء والمساكین وابناء السبیل بأمرٍ من الأمیر، تُری مِن منهم أنا؟ عرفتُ هذا المصطلح «رمضان مُبارك»؛ سابقًا لم یكن مباركا لأنّه في رمضان تتصاعد الأسعار وتشكو النساء حتی أننی اتذكر أُمّي حین ترجع من دكان القریة تقول:«لا هَلَه ابرمضان، إجه وكل شيء غُلَه»؛ ولكن هنا في دُبي تنخفض الأسعار والموائد المباركة لا تختص بأشخاصٍ معینة من رئیس و مُدیر شركة خاصة أو ثري أو ذی حسبٍ رفیع، هنا حقًا رمضان مبارك كما قال الله تعالی. كان فراق اولئك الغرباء من ابناء وطني صعبًا للغایة، لأنه كان علینا ان نجد مكانًا نشتغل فیه، بقیتُ وحدي أسأل أصحاب المحلات، والمقاولین فأقطع المسیر مشیًا علی الأقدام، ولم أحصل علی عملٍ؛ تَعِبَ هذا المراهق الوحید في وطنٍ غریبٍ ولكن من حسب القومیة واللسان أقرب إليَّ من وطني الذي جئت منه. ذهبت إلی مسجد الصدّیق لأُصلّي صلاة الظهر، لأنی عرفت كیفیة صلاتهم، وكان القصد من الدخول هی الإستراحة أكثر من الصلاة؛ جلس جنبي ولد وسیم، بدشداشة خلیجیة وسلّم علي وسألني: هل أنت غریب؟ فقلت نعم. فقال: كلنا غرباء في هذه الدنیا، ومن أینَ أتیت؟ وبما أنّی أعلم بان سیرتنا لم تكن حسنة بین ابناء الخلیج ؛ قررت ان أكذب علیه فقلت: أنا من العراق، من بابل، من رُمح العرب، رُمح الإسلام، أرض گیلگمش. فقال: ظننتك باكستاني. تبسّمتُ مع عَدَم ارتیاحي له،فاستأذن للخروج، خطرت ببالي فكرة، ذهبت الیه خارج المسجد وقلت لهُ: أنا غریب هنا، جئت بحثًا عن عملٍ، أعلم بأنّك انسان راقي ولدیك معارف، أرجوك إن كانت لك صلة بأحدٍ أوصه بي لعلی احصل علی عملٍ شریف. فقال: في نهایة هذا الشارع مطعم إسمه «مطعم الأصیل»، إذهب هُناك وقل لأصیل اَرسَلَني «عبدالجبّارمُحمّد العنزي» إلیك. شكرتهُ وركضتُ نحو المطعم؛ دخلتُ مطعم الأصیل، مطعم لابأس بهِ، شِبه فاخر، وكان صاحب المطعم ینتظر زبونًا لیفتَح رزقه في ذلك الیوم،كان یرتدي سترة زرقاء جدیدة بأزرارٍ صفراء مُدَوّرة وكانت أرض المطعم مغسولة بالماء استعدادًا لإستضافة الزبائن، كانت طاولة المطعم مُغطّاة بفاتوراتٍ، وكأنهُ یعدُّ مبالغها مجددًا وإضبارات غیر مرتبة تحت الطاولة بغلافٍ أصفر جاعلا رجلهُ الیُسری دون حذاء أو جوراب علی رزمةٍ منها ویتلاعب بأصابعه النظیفة البیضاء التي كانت تحمل شعرًا قلیلًا، سلّمتُ علیه، فردَّ علي بهز رأسهِ، وبعد أن دقّق فترة قلیلة بملابسي وكأنهُ عرف الأمر، همّ بالحساب، فقلتَ لهُ:

- مرحبا، جِت أدور علی شغل، وگلت أجي الخدمتكم.

فقال: - حبیبي إذا عندك شغل گول نشتغل إویاك، شوف وضعنه گاعدین ننتظر مشتري واحد ماكو.

- انا جِت من قِبَل عبدالجبار، هو گال روح صوب مطعم الأصیل.

فكانَ یتصنّع الجهل بالإسم الذي لفظته، أو كأنهُ لم یسمع هذا الإسم، فقلت مجددًا:

- استاذ، عفوًا، انا أرسلني «عبدالجبّار محمد العنزي» وقال لي إنّك رجل فكر.

- [فنهضَ من مكانه وكأنهُ حسّ شیئًا من الخطورة] أهلاً وسهلاً، شرّفت، انت من الأهواز صحیح؟

- اشلون؟

- لأنی عشت بالأهواز مدة تسع إسنین وأعرف لهجتكم ولو تشبه اهل الجنوب، بس عدكم اصطلاحات مُعیّنة.

لم أجب علی سؤاله لانی كذبت علی «عبدالجبار» وقلت لهُ أنا عراقي اذ انه لو علم بانی كذبتُ علیه سیطردني من المطعم ولا أعرف ما هو دور عبدالجبار في هذا المطعم. عندما لم یسمع جوابًا؛ ردَّ مؤیّدًا لقبولي:

- طیّب چا ابقی إهنا، إونام إهنا، یشتغلون ویّاك اولاد من العراق؛ وصاح لزملائه الثلاث وقال: شوف حبیبي هذا شحرور، هذا غسّان، وهذا مُنذِر. فردَّ شحرور قائلاً: أهلاً وسهلاً بِك أخي، تفضّل إلی غرفتك حتی أنطیك ملابس وبإذن الله من باچر راح تشتغل، بس هسّه إرتاح انت لأن تعبان.

فحینما كان شحروریتكلّم رأیتُ وشمًا علی یدِه أعجبتني الجملة: «حزینة إعیونچ، شتعودلچ بغداد؟».كان «مؤیّد الأصیل» صاحب المطعم وكان مُغنّیًا أو مطربا كما یسمونه؛ وفي نهایة كل اسبوع تأتي الغواني فوجا فوجا إلی مطعم الأصیل للرقصِ والسكر والدعارة، فیطلب منّي أصیل أن أهتمّ بنفسي وأحلق ذقني وألبس ملابس رسمیة، ویقول:

- شوف یابه إنتَ جاي إهنا گاعد تتعب لازم اتونس نفسك إشوي، انا انگّص من معاشك قلیل وانت إگعد إشرب ونیچ واتونس، لاتضل طایح حظ. اطلب وحده واخذهه الغرفتك ونام اویاها وتونس یآبَه طِز بالدُنیَه.

- مشكور استاذ أصیل، بس انا ماأرید هیچ شی، ارجوك عِفنِي، لازم أجمّع نقود اشوي وتالی ربك كریم، نلحگ علی هیچ أشیاء.

لست ملتزمًا ولكنی كنت خجولاً یومها،كیف أستطیع مضاجعة فتاة نهضت توًا من تحت شاب آخر؟ أنا أناني، أرید زهرتي لنفسي، لنفسي؛ لاأطلب إلا النقود، لأنني بحاجةٍ إلیها في ذلك البلد، یسكر الجمیع وعليَّ أن أقوم بخدمتهم وكانت الأغلبیة عراقیین.

- حبیبي جیب البُطُل

- حبیبي جیب الدجاجه

- حبیبي ودّي الإگلاصات

- حبیبي نظّف المكان؛ إحنه رایحین إنّام.

وكنت أنظف وحیدًا حتّی طلوع الفجر، فجرُ الجمعة كانت تعجبني طقوسه، مرّت سنة كاملة وانا اشتغل روتینیًا، لم یحدث لي حدثٌ مهمٌ في هذه السنة، عادةً ما أكون في المطعم لأنهم حذروني من الشرطة وأخاف أن أُسجَن هنا ولكن لم یفتني فجر الجمعة وأنا اجلسُ علی الشاطیء الفارغ من ضجیج اولئك المُتزَمّتین أبكي لحالي ولغربتي ولانی أصبحت خادمًا ونادلًا لِمَن؟ لمومسات وفاسقین وبنات جاء بهن الفقر إلی هُنا كي یبعن جسدهن بخمسین دولارًا؛ إنهُ عمل تتقزّز منه النفس؛ لحد ألان لم أتصل بأهلي، عزمتُ أن أتصل بهم الیوم، بعد ما رجعتُ إلی المطعم أخذتُ الهاتف وهممت بالاتصال، صفر سته، ثلاث اثنین، ثلاث اثنین اثنین، ولكن نسیتُ الرقم، حاولتُ اعادة الاتصال لكن دون جدوی، فقد تركتني الذاكرة الأهوازیة حین تركتها سنة كاملة. حاولتُ أن أنام لكن داهمتني ذكریات وخواطر أهلي؛ اشتقت لأهلي ولأمّي بالذات حین تركتها كانت حُبلی؛ تُری ما كان المولود؟ هل أُخت لشعبیة ام أخ ثامن لها؟ خرجتُ من المطعم مجددًا ، لم أكن طالب اللذات آنذاك كما كنت أحافظ علی نقودي بشكلٍ عجیب، خوفًا من التكدّي، دُبي ستكون عن قریب عاصمة تجارة العالم لأنها تضمّ أضخم وأفضل مراكز للتسوّق في العالم، عندما أمشي في شوارع دبي أستمتع بكل لحظة من زمنها ویغمرني احساس غریب وشعور بالمتعة والبهجة والراحة النفسیة لولا وجود الشرطة الباحثین عليّ جراء دخولي بصورة غیر شرعية.

عزمتُ أن أذهب إلی سوق «دبي مول» لانی أستطیع أن أكون خارج المطعم حتی الساعة الواحدة ، سوق دبي مول أكبر سوق تجاري في العالم وأكبر الوجهات الترفیهیة بالشرق الأوسط كما أظن؛ «حیث یتضمن مایزید علی 1200 متجر بیع كما یضم العلاقات التجاریة الفاخرة و من أهم نقاط الجذب هي حلبة التزلج علی الجلید ودارسینما تضم 22 شاشة عرض اضافة الی دبي أكواریوم اكبرواجهة عرض للكائنات البحریة والتی تضم مئات أسماك القرش والاسماك المُزخرفة والمُلوّنة والأسماك التزئینیة والكائنات البحریة العجیبة التي لم ترها سِوی في الأفلام وفي دُبِي»، كذلك یتضمن معرضا خاصا وحدیقة للحیوانات البحریة، أضحك حین أذكر وطني الذي أتیت ُ منه، لا توجد فیه حدیقة للبشر حتی فكیف بحدیقة للحیوانات؟ واعدتُ نفسي بان اذهب كل اسبوع إلی مكان ٍ معین مثلًا «مارینا مول» أو «سوق المهرجانات»، أو «سیتي سنتر» الذي یضم 430 متجرًا عالمیاً والذي یقدم منظومة من الترفیه الجدیدة والفریدة من نوعها؛ إلهي هل حقًّا ابناء العرب غیّروا هذه الصحراء إلی أرقی مدینة في العالم؟ بارك الله بجهودهم لیتنی كنت منهم أو یقبلوني كضیف أو خادم أو نادل شرعي، علی أیة حال أسیرُ وأتابع البنایات والحوانیت التي لم نر مثلها في البلاد. وأنا أتابع هذه الأحداث الجمیلة، اذ جاءت یدٌ قوّیة علی كتفي وصرخ صاحبها «قف!»؛ كاد ان یتوقف قلبي، إنهارت قواي وحین التفت نحو صاحب الیَد، رأیت «عبدالله» مبتسمًا خلفي، تعانقنا عناق الغرباء، بكیتُ حینها، آه كم هذا المخلوق وسیم، كأن «الفلاحیة»بأكملها حضنتني ، آه یا عبدالله وأنا أبكي:

- وین چنت ولك هاي سنة؟ ولك عفتني وحدي بین اذیابه!

- چا ماسمعت عمامي النصّار شتگول: المایتعب مایشرب فوح! وانا رحت اتعب حتی اشرب فوح، گِلّي انت وین؟ اشسویت؟ ولك والله انت زلمه، سنة عشت وحدك؟ وإهنا؟

- خویه اسكت یا عیشة! انا مسجون ابسجن مگحبا، الخوف والطرد، والخدمة طیّحت حظّي.اتصدّگ عبدالله أجمع شورتات وكاندومات كل خمیس وأجیب إبطولة عرگ للإگحاب؟

- یابه عادي! بیهَه افلوس لا؟ یا شارع انت ساكن؟

- شارع الرقة، هو من أقدم شوارع إمارة دبي سیاحیًا ویحتوي عددا من الشقق السكنیة ومعالم سیاحیة رائعة هناك؛ اشتغل إبمطعم الأصیل، وانت وین؟

- انا ابشارع المراقبات، یعتبر هذا الشارع یا صدیقي أبرز وأكشخ الشوارع اهنا، لأن یحتوي علی عدد من الفنادق الرائعة والراقیة.

- سولف شني جری علیك؟ انا ركضت ورا هذا العجمي وضمّینه روحنَه بالنخیل حتی راحوا وطلعنه.

- انا من شردت دخلت بیت، طلع انسان محترم، شافني، ودخلني داخل وگال شني إسمَك: گِتلَه إسمي عبدالله، وگال: تعال اشتغل عندي، ومایحتاج تطلع برّآ، خفت صراحة، بس بعد وین المفر، اتگول قیامة صار علینه الرمي، ومن بعد شهرین دوّرت علیك بس ماطحت بیك، اتصلت علی اهلك عرفت بان انت مو راجع وگتلهم إحنه بدبي ولاتحاتون بینه.

- عفیه علیك یا نشمي.

اصبح دبي بعیني أجمل مّما كان، نشتغل طوال الإسبوع وفي نهایة الإسبوع نخرج أنا وعبدالله إلی الشاطیء والأسواق والشوارع مثلاً زرنا شارع «البولیفارد»، الذي تمَّ تصمیمه وفق أعلی معاییر الجودة الحدیثة والرقی لیكون هذا الشارع الجزء الأبرز والرئیسي في دبي وهو عبارة عن طریق من اتجاه واحد علی الیسار. كان شارع الــ«جي بي آر» یحتوي علی عدد كثیر من المقاهي الراقیة والمطاعم الفاخرة وبعض المحلات التجاریة وبیوت الدعارة وكل ما دخلنا في هذا الشارع یقول عبدالله:«ها ها.. لو إهنا اولاد الأهواز چان إشطلّعهُم من هذه الابیوت؟ مایلطعون إلا ومعمصین علی وحده» فأضحك ثمّ یردف قائلاً:«ترآ هاي هي الجنّة! شرب ونوم وونسه لا بعد رایح لدورگ إلمَن؟» وشارع الثاني من دیسمبر الذي كانت فیه اول تجربتي الجنسیة آنذاك. تغیّرت حیاتي بشكلٍ جمیل، المطعم، والسهرة مع عبدالله، والسُكر، وحسناء نختارها علی مزاجنا، في أحد الأیام كنتُ في المطعم منهمكا في العمل، لانی كنت انا من یجهز القهوة ویقدم الأكل للزبائن، جلست فتاة جمیلة علی الطاولة القریبة من الباب وكان رقم الطاولة {8}؛ اخرجت من حقیبتها جریدة، وأوراق مُبَعثرة وقلم وهمّت بالكتابة، قدّمتُ لها القهوة فشكرتني بإستحیاء، سرقتُ النظرإلی الورقة فكان مكتوبا فیها نصّ حفظتُ أشطرًا منه: «ألا وهو یوم الاثنین، وقد فقدتُ ظلّي بعیدًا، أسیرُ نحوك، في إزدحام الفندق الأصیل، كزبونٍ فقد آخر دینارهُ علی سیجارةٍ سوف تنتهي، كدخانٍ تهرب مني، لوني الزیتوني یفتقر أغصانك الخضراء، وظلّي یهدي لك مِرآة...» فعندما انتبهت الفتاةُ بأني أسرق النظرات إلی وریقاتها، تبسمت وشكرتني مرّةً أخری، اعجبتني تلك الجُمَل، لم أكن أعرف هل هو نثر أم نظم، لأنی تعلمت الشعر علی اسلوب عنترة بن شدّاد وحفظت الكثیر منه، بقت جالسة تكتب وأنا أتابعها في حینٍ وآخر؛ كان المطعم شِبهَ فارغ، فطلب منّي «شحرور» أن أبقی في المطعم لیذهب ویرتاح حتی العصر وبعدها یجب أن نجهز العشاء، جلستُ أتابع تلك الفتاة الجمیلة، وهي تكتب بالعربیة، لم أر قبل هذا احدا یكتب بالعربیة ماعدی امورنا الدراسیة التي كان اعظمها بحوثاً فنّیة حول الصرف والنحو. طلبت منّي أن أُقدّم لها قهوة أُخری، أخذتُ قهوة علی ثلاثة اشكال: «برازیلیة» و«عربیة» و«اندونیسیائیة» ومزجتها معًا، حتّی جهزتُ أروع خلطة وجعلتُ الشوكولاته المُرّة الفاخرة وكأس ماء وهمتُ نحوها. جعلت القهوة علی الطاولة وركضت عیناي نحو الورقة بعد ان تركت سفوح الصدرِ؛ لم أر غیر هذه الجملة «فالعیدُ عید وأنت رمادٌ عنید»؛ أعجبتني الجملة، رجعتُ إلی مكاني، وهي تكتب ارتشفت شیئاً من القهوة، طاب مذاقها للسیدة، نظرت الي وقالت: واو... بَزّاف خطرة، بصح لدیدة! واشتا هادي؟ لم أفهم تلك اللهجة آنذاك لأنی لم أسمعها من قبل فقلتُ لها:

- عفواً!

- ماكانش منها حبیبي؟

- القهوة؟

- نعم، واش ادیرلها؟

- اذا تعنین القهوة فأنا مزجتُ بین القهوة العربیة لمرورتها، والبرازیلیة لدسومتها، والاندونیسیائیة لذوقها، فهذه الخلطة نوعًا ماكانت اختباري لنفسي، لأنی أحبُّ الكافئین بشكلٍ جنوني فأمزج انواع القهوة لكي أحصل علی جودة عالیة.

- روعة، كم سنّك حبیبي؟

- أنا ، أنا، واحد وعشرون

- ماشاءالله! اعتقدت أصغر من هذا

- عفوًا سیدة هل حضرتك شاعرة؟

- نعم، شاعرة، وناقدة وروائیة.

- هل أنتِ من مصر؟

- لا حبیبي، انا جزائریة وطبعًا انت عراقي؟

- لا بل من الأهواز! هل تعرفین الاهواز؟

- بالطبع أعرف الأهواز، لديّ أصدقاء ادباء صاحبي فكرة ومدرسة ادبیة خاصة بهم، أعرف مجموعة یرئسها الدكتورجمال عبدالزهراء، ففي مهرجان قصیدة النثر في الأهواز حضرتُ مع الوفد الجزائري وتعرفت علی الشاعر «یوسف سرخي» والشاعر «هادي سالمي»، و«علي دورقي» و«توفیق وبدر نصاري» الأخوین الودودین، والشاعر «سعید خجسته» والشاعر «ابراهیم دیراوي» ومُنَسّق هذا المهرجان ولد وسیم «حاج جاسم نگارش» فهذه حركة ادبیة عُرِفَت في السنین الأخیرة وتُدعی «الحبرالأبیض» هل تعرفهم؟

- نعم أعرفهم واعرف الصراعات الادبیة التي مثِّلَت بجسد الأهواز وتركت أشلاءه بعیدًا، فمدرسة الشعر الشعبي لاتقبل المدرسة التي تحتوي علی شعراء باللغة الفُصحی، وأیضًا الجبهة الشعبیة فیها اختلافات عدیدة فشعراء القصیدة العمودیة لایؤیّدون شعراء القصیدة السیّابیة أو التفعیلة، والشعر الفصیح ایضًا علی ثلاث جبهات، الجبهة الأولی الشعر العمودي ورائد هذه الحركة الدكتورعباس عباسي الطائي ورجال الدین، والحركة التفعیلیة وعلی رأسها الدكتور عبدالعزیز حمّادي والحركة النثریة التي رائدها الدكتور جمال نصّاري، فهذه الجبهات تعطي للادب الأهوازي طابع فوضوي قبل أن تجمع شملهم نحو هدفٍ مُعَیّن .

- واو، تعرف هذه الأشیاء، بالتأكید إنَّك شاعر، صحیح؟ وهل تحب القراءة؟

- بالطبع.

- سأهدي لك دیواني، واكتب لك رقمي كلما اشتقت الي، اتصل بی، سأفرح عند اتصالك

- بالطبع، شكرًا، حتمًا

أعطتني الدیوان بغلافه الأبیض وعنوانهُ «عندما افترقت أیدینا» وكتبت لي « إلی صدیقي العزیز أهدي حصیلة هزیمتي»؛ أعطتني الكتاب وذهبت بعیدًا، بقیتُ أتابع خطواتها حتی غابت عن أنظاري، ركضتُ نحوالكتاب لأحصل علی اسمٍ أو علی جملةٍ لاأعرف لماذا وكأنني أغار منها ومن ماضیها، لماذا فجأةً أصبحت مهمة لهذا الحد؟ هل صحیح ماقیل عنّا نحن الشرقیون؟ یری المرأة آلة الفساد والتُهَم ویعومُ في خضمِّ التُهَم والإساءة للمرأة الشرقیة بدلَ أن یصرفَ همّهُ لمستقبلٍ زاهرٍ لها؛ اول قصیدة كانت: «أنا أخطو خطوات حین ترتشف شراییني، سریرك الفُضّي لایطیق افتراقي، جسدك متحجر تخرج من أنايَ نیران كسل قدیم، لاترنو الی ترائبي فقُطّعَت ذات لیلة، حین انولدت بسریرٍ»؛ لاأعلم لماذا كنت أحسُّ بأن هذه القصیدة رصاصة خلاص، وهل هي حبیبتي حتی اعاقبها علی ماض ولست اعلم بأن الكتابة جریمة ،هل هي جریمة بالفعل؟ أخذت الكتاب لغرفتي ورجعتُ الی المطبخ؛ فجأة ركضتُ نحو غرفتي، أخذت الكتاب وفتحتُ الصفحة الأولی لكي أقرء اسمها، كان اسمها الجمیل «بیروت عُمَر»؛ قررتُ أن لا أتصل بها لانّي لاأطیق أن أمرض نفسي بأفكارها وروابطها العادیة؛ فأكثر من خمس قصائد كانت مُهداة الی رجال لایعرفهم أحد إلا هي. فمثلاً القصیدة الثانیة كانت مُهداة إلی «عبدالغفور سي شاكر» ولا أعرف بالتحدید من هذا؟ هل كان حبیبها سابقًا أو لایزال حبیبها؟ هل لأنها رأتني غریبًا هنا أرادت أن تشفق عليَّ؟ مستحیل ان أقبل شفقة أو محبة بالكذب. صح أنا شرقي، وبمجرد بسمة وإهداء كتاب صرتُ أغیر علی المسكینة وأبحث في مفرداتها مثل رجال الأمن حین یبحثون عن أدلة تقنعهم بصلب الضحیة وها أنا افتش عن حجج ضد هذه الشاعرة ولكن كل هذا الأمر من اللاوعي، لأن رجال الدین وآباؤنا علّمونا بأنَّ النساء جنود الشیطان، وإذا أراد الشیطان أن یتلبّس بلباس ٍ یختار لباس النساء فحیثما تكن جریمة لاشك بوجود إمرأة خلفها وللأسف لم نسع إلی تغییر هذا النمط الفكري وهذا الاسلوب المُتعَفّن. في نهایة الاسبوع جاءت «بیروت» وطلبت منّي أن نأخذ جولة علی الشاطیء وناكل شیئاً أو نشرب عصیرًا. طلبت الإذن من «أصیل» فقبل أن أخرج معها، تذكرتُ عبدالله؛ فهذا الوقت كان مخصصا له ولكنّي خنتهُ؛ هذا الأمر سبّب لي تأنیب الضمیر، ضحكتُ شیئًا ما، متی تتركنا هذه التقالید البائسة، خیانه، انتقام، حقد، وتُهَم كانت تسكن بداخلنا حتّی النخاع، یجب أن أترك هذه التقالید، خرجنا نحو الشاطیء والصمت سید الموقف. كأنني أخجل أن أفتح باب الكلام وهي تنتظرني أن أبدء الكلام حتی قالت:

- مِن متی حضرتك في دُبي؟

- حوالي سنة وثلاثة أشهر.

- وهل درست في الأهواز؟

- نعم تعلّمنا اللغة الفارسیة وكتابتها ولكن لأسباب لم أكمل دراستي.

- هل تعرف القراءة و الكتابة بالعربیة؟ وكیف تتكلم العربیة إن كانت دراستك بالفارسیة؟

- نعم سیده بیروت أعرف ان اكتب واقرأ وأقول الشعر أیضًا؛ سیده بیروت نحن عرب، ابناء عشائر وأمهاتنا عربیات، لم نتكلم غیر العربیة ولدینا طقوسنا وتقالیدنا العربیة الخاصة بنا.

- جمیل؛ قلت إنّك شاعر؟

- نعم انظم الدارجة والفُصحی ولكن كتابتك كانت تختلف، أحس بأن كتابتك شعر ولكنه یختلف عمّا قرأت.

- أنا اكتب قصیدة النثر.

- جمیل، قرأت قصائد نثریة ولكن لم أستوعبها لحد الآن وكما تعلمین لنا تیّار نثري في الأهواز.

فأخذت تشرح لي منهج القصیدة النثریة وشعراءها وطریقة كتابتهم فوعدتها بأن أكتب لها قصیدة نثریة حسب ما قرأت وحسب ماعلمتني إیّاه؛ سألتني هل لدیك قصة غرام؟ قلت لها بأنَّ المجتمع لایسمح بمخالطة الأولاد والبنات؛ فتعجبت من هذا الأمر ووصفت مجتمعنا بالبربري، أزعجني كلامها لكنی كظمتُ غیظي خشیة فساد لیلة الغرام المُحتملة، عندما قصدنا الرجوع قالت سأوصلك الی المطعم وبعدها ساستأجر سیارة واذهب الی سكني، سالتها عن سكنها فقالت هل تودّ أن تأتي معي إن سمح لك صاحب الفنُدُق؛ لم أُفكر بالامر، فقلت لها مباشرة بأنّی أود أن اصطحبك إلی سكنك، سرنا نحو دبي القدیمة؛ فكان هذا مركزًا للمدینة فیما سبق؛ تُعرَف هذه المنطقة بأسواقها والتوابل وأسواق الطعام الطازج وموانئ مراكب ، دخلنا شارعاً لم أعرف اسمه؛ كان ضیّقاً بالنسبة لباقي الشوارع و من ثمّ دخلنا عمارة تُسمّی «عمارة الأمیر للطُلّاب» فكانت شقّتها في الطابق الثاني، دخلنا البیت وقلبي یخفق؛ آه یا بیروت! هل دخلَ قبلي أحدٌ هذه الشقة؟ أتساءل مع نفسي، وهل هناك في تلك الغرفة وفي تلك الزاویة الضیقة التي دخلتیها لتغییر ملابسك برزتي بسیماء حبیبة إلیه؟ هنا في بیتك فاق القدرُ من نومةٍ تشبه نوم ذلك الحمار الذي أصبح آیة لنبيٍ مجهول عزا نفسهُ بنفسه! برزتي فجأة امامي، امام هذا الفتی الشرقي حیث لایدركه فروید بشهواته، یقتل المستحیلات ویعیش دائرة الممكنات، برزتِ بتنورةٍ وردیة؛ ومن كان المُنسّق لهذه البدلة؟ هل الخیاطة فن من فنون الرسم والموسیقي؟ أراك وكأنك اغنیة تزدهر، ظهر ابداعك الشخصي وذوقك الراقي في تنسیقه وانا عائم في بحر ترائبك المحلقة نحو فمي، وتعابیر وجهك المستطیلي المائل إلی الحمرة وشعرك المجدول في ضفیرتین كثیفتین، سألتني: أعَجَبَتك بذلتي؟ فقلت لها: یا بیروت! انتِ الفاتنة، أنتِ أعطیتِ هذا الفستان جماله، أنتِ الأجمل. فقالت: لاتجامل حبیبي. تذكرتُ ماجده الرومي حین غنّت «یابیروت» «یابیروت ست الدنیا یا بیروت»، حقًا ست الدنیا! تعالي یا ماجده فهذه بیروت، أخرجتها من یدِ الإحتلال كأنّ فیها كل الأراضي المحتلة وها لقد انتصرت الأمة علی الغاصب. سألتني هل انت جوعان؟ لا یا بیروت لستُ جوعانا بل جعتُ وذبتُ في معانیك التي تمحو كل شیء وتذیبُ الجلید، یا بیروت أریدُ أن تسمعي كلامي، فقالت: تفضّل؛ یا بیروتُ همتُ في ابتسامتك من بدایة الأمر، الم تعرفي بأنني فتی شرقي، وانسی كم هوعمري ولكنني یا بیروت انا صعب الغرام، إن همتُ بك سیكون من الصعبِ الخلاص مني، فأنا طفلٌ أحتاجُ الحنان ولحد الآن لم اطلبه من احدٍ ولكن لا اعرف لماذا اخترتیني انا، فانا لا املك شیئاً ولا حتی جمالاً ولستُ وسیماً كما ترین، بیروت اخاف من أن تكون شفقة، فانا لا احتاج لمن یشفق عليَّ، فقالت: ما بك حبیبي؟ قالتها بشیء من الخوف وكأنها فهمت خطأها باغتراف هذه المسیره. فقلت: بیروت أحبك... قالت: وانا ایضاً... تقرّبت منّي وقبلتني علی خديّ، لمستُ یدیها، كانتا كالثلج ، ترتجف تلك الفتاة التي أخرجت لتوّها مارداً من نیران شرقیة ؛ كشفت عن صدري ثم أراحت وجنتیها علی صدري ورفعت عینیها إلي وقالت: لاتخف سأكون الی جنبك وستری مدی هیامي في غمّازاتك الجمیلة، قبّلت صدري، طوّقت یديَّ علی ظهرها؛ أبعَدَت یديَّ، أخذتُ شعرها، دفعتني وقالت: مهلك، لیس الآن ، تراجعت وذهبت نحو المرآة، صفّفت شعرها ورتّبت فستانها وذهبت نحو المطبخ، تعالَ نشرب شیئاً، تبعتها الی المطبخ في تلك اللحظة عرفتُ مامعنی الشرق والاختلاف بین مجتمعنا وباقي المجتمعات، فغشاوة شهوتي سلبتني استقراري فاصبحت ثوراً یری نقطة حمراء ولایعرف الا افتراسها، لكنها رفضتني تواً فكیف لي أن اتقرب مجدداً؟ لعبت دور الشخص الراقي وطلبتُ منها أن أدخل دورة المیاه لأغسل وجهي ویديَّ؛ ارشدتنی للمكان، لاطاقة لي، خلعتُ بنطلوني وأخذتُ شیئًا من الصابون المائع ولمستُ قضیبي الذي اصبح جمرةً، داعبته حتّی استمنیتُ وخرج الماء الدافق الذي كاد یقتلني ، رتبت نفسي وخرجت من الحمام، كأنها علمت بالأمر، لأنها اصبحت تعاملني ببرودةٍ، شربنا القهوة وطلبت منّي أن ارجع الی الفندق؛ وددتُ أن أخُرَّ ساجدا علی رجلِها وابكي حتّی لاتطردني من هذه الجنّة ولكن عزّة نفسي الشرقیة منعتني من هذا الأمر، وانا ارتبُّ نفسي للخروج تذكرت اغنیة ام كلثوم حیث تقول:

حیّرت قلبي معاك وانا بداري وخبي

قل لي أعمل ایه ویّاكولّا أعمل إیه وی قلبي

بدّي اشكي لك من نار حبي بدي احكي لك علّی في قلبي

وأقول لك علّي سهرني وأقول لك علّي بكاني

وأصور لك ضنی روحي وعزّة نفسي منعاني

وانا اودّعها اعتذرت منها، وقلت لها بأن تاتي غداً حتّی اهدي لها قصیدة ومرّت الایام والاسابیع ولم تأت بیروت، لم أعد ذلك الشخص، لم أعد كما كنت، كأنّ جزءاً منّي مات أو بقی في بیتِ بیروت، كان ینبغي لي أن أرتدي ثیاب الحداد إلّا أن قلبي ارتدی ثیاب الحُزن وجسدي ثیاب العُزلة ورئتيَّ جلستا في مدخَنة السجائر، باتت السُحُب السوداء تُخیّم علی عینَيَّ الشرقیتین اللتین أصبحتا تمطران في العزلة ، أصبحتُ أخلو بنفسي كي لایری أحدٌ دموعي أو یسمع نحیبي وأنا أستمع لماجده الرومي حین تغنّي «یابیروت»، فقد كان جسدي في الفندق وخیالي غائبا عني حاضرًا في تلك الشقّة، بالرغم من انشغالي في الفندق لم أنس بیروت ولو للحظة، أصبحتُ عصبیاً كمدمن لم یتعاط المخدرات ، لم یزرني عبدالله وانا لم اخرج من المطعم خوفاً من أن تأتي ولم اكن حاضراً، كان المطعم مزدحماً ، طلب منّي شحرور أن أجهز البصل للسلطة، ولكن لم اُلَبّ طلبه فطلب منّي بشدة وبعد أن اصبح المطعم فارغاً ذهب الی اصیل صاحب المطعم ، ناداني بشيء من العصبیة و حین دخلت غرفة اصیل صفعني شحرور بقوةٍ، ووقفا خلفي غسّان ومنذر، علمتُ بأن هذه حالة انقلاب علی هذا الفتی الوحید، كرهتُ العراقیین كلّهم حینها ، كظمتُ غیظي ولم اتشاجر فقال اصیل:

- اذا شحرور گال شیء ؛ گول صار، سمعت؟

- نعم، سیدي، صار.

فضحك العراقیون كلهم علی هذا الفتی الأهوازي، الذي خانتهُ بیروت وكل الاوطان العربیة، ذهبتُ الی غرفتي وبكیتُ طوال اللیل، لیس خوفاً بل ذُلٌّ، ذهبت في الصباح الباكر الی محل عبدالله ورویتُ لهُ القصة بأكملها، فقال:

- طیّب، هسه اشراح اتسوي؟

- ارید ارجع للاهواز، بس قبلههَ ارید أگضي شغلا وارید مساعدتك.

- انا بالخدمة، انت اطلب روحي، بس ارجوك، لاتسوي شیء وحدك، انت گول شني ناوي علیهم.

- ارید باچر اطگ شحرور، واعرّف نفسي للسفارة.

- ماتتندم؟

- لا یا عبدالله، ماضل شیء عندي اهنا، لازم ارجع.

- طیّب، باچر الساعة سبعه، حلو اجی صوبك؟ حتي اكض لك شحرور وانت طگه، بس عندك شیء؟

- اي نعم، عندي رینگ بوكس.

- صار بس هسه من ترجع صیر عادي.

- صار

رجعتُ الی المطعم وجمعت ملابسي ونقودي، كنتُ اعرف بان اولئك العراقیین كانوا یجمّعون نقودهم التي یأخذونها كبخشیش و یضعونها خلف المِرآة في صندوق خشبی؛ دخلتُ غرفتهم واخذت النقود كلها، جعلتُ ملابسي امام الباب الرئیسي، الساعة السادسة نزل شحرور من غرفته وسألني:

- منت نایم؟

- بلي، چنت نایم، بس صلّیت وبعد ماغفیت.

- خوش، شوف شني ناگصین، حتّی اروح اشتري للمطبخ

دخلتُ المطبخ وانا اتابع خطواته، جلس علی الكرسي المطل علی الباب الرئیسي، بقی یدور علی الكرسي المتحرك كطفلٍ حصل علی ادواتٍ للّعب، دخل عبدالله، ولحسن الحظ لم یعرف عبدالله لانه لم یأت الی المطعمِ خوفاً من طردي، فحین دخل عبدالله، تسمّرَ شحرور وقال: تفضّل اخي؟قال لهُ عبدالله: أتفضّل ،نعم، قطعاً، ولم ینهض شحرور من مكانهِ، حتّی امسكهُ عبدالله وجئتُ متلبّساً بآلة قتّاله، ضربتهُ علی جبینه، حتی اغمي علیه، واللكمة الثانیة، علی انفه، حتّی تطایر منهُ الدم، عند صراخه، نزل غسّان لیری ماهو سبب الصراخ، ذهب نحوه عبدالله وامسك بهِ وضربهُ ارضاً، لكمهُ علی انفه ، علی مؤخرة رأسهِ، امسك برأسهِ، وضربهُ علی الارض عدّة مرّات حتی اغمي علیه، تركناهم ممدّدین علی الارضِ، خرجنا انا وعبدالله خارج المطعم وركضنا مسافةً ثم وقفنا، حضنني عبدالله وقال اذهب الی سفارة وطنك كي تحمیك وقلت لهُ: عبدالله اضل أحاتي بیك، خاف ایعرفونك؛ فقال: لاتحاتي بیّة یا نشمي، انت روح وانا راح اودّي الإفلوس علی احساب ابوك، من توصل، لأن یاخذون الافلوس بالسفارة، فقلت: صار، عمري عبدالله، عینك علی روحك، انا من اوصل راح اتصل بیك. فسرتُ نحو السفارة مذعوراً، وصلتُ الی السفارة واخبرتُ الحارس بأنني جئت الی هُنا بصورة غیر مشروعة وضربتُ عراقیًا و أخافُ أن یقتلونني، ادخلني في السفارة حتی جاء لي معاون السفارة وسألني علی القضیّة، شرحتُ لهُ الموقف وحین قلت له بان المضروب عراقِیٌّ، ضحك وقال: قسماً بعلي بن ابیطالب إنّك رجّال، لاتخف حبیبي سارسلك الی الوطن وساتصل بأصدقائي هناك كي لایسجنونك ولكن سیكون علیك دفع مبلغ قلیل للغرامة، وإن لم تملك نقودًا انا سأعطیك النقود، وسأحجز لك علی أوّل طائرة، منسقّین مع المطار، فقلت له: شكراً سیّدي، عفواً، أودُّ أن ادعو لك في صلاتي أودّ أن أعرف الاسم المبارك؟ فقال: انا سید كشاورز

- »لماذا وحدك ألا تخاف أن تذبل، ویذبل عودك الأسمر؟

- ألا تسمعین إیوهان موریتز ماذا یقول لسوزانا؟

إنّ النساء وحدهن یذبلنَ«

لِمَ تأخّرتَ حبیبي، ألم تقل أنك تخاف حتی من ظلی بان یلمسنی؟ بقیت ُ في الشارعِ بإنتِظارك عَشرَ دقائق، أخافُ ان یقتحم الناس طهارتي بنظراتهم القبیحة،فَقُلت لَها: حَبیبتي، تأخرت قلیلاً لاتؤاخذیني، لأنی ذهبت نحو «طَلحة» كي أشتري الحَشیشَ؛ لَم یَكن في مكانِهِ المَعهود، فاضطررتُ للذهاب الی مكانٍ آخر لأحصل علی الحشیش، فقالت تغازلني: «لابأس حبیبي، اشتقت لك یا وسیمُ؛ سأقضمك یا توته، أنا مشتاقة لك لاغیر، دعنا نذهب لِلبیت»، سرنا الی البیتِ، وصلنا مساءً، دخلنا البیت، ركضنا نحو الكنبة، تلاصقت الشفاه، حنّ المُتیمون لبعضهم، طلبت منّي أن اجهز شیئاً للأكلِ، عادةً لم تأكل شیئًا لأنَّ مَعِدَتها لیست علی مایرام، فتخاف أن تفسد علینا السهرة، ولكن في تلك اللیلة طلبت منّي أن أجهّز العشاء لنأكل معًا، تَفَقّدتُ الثلاجةَ، كان الباذنجانُ یومي الي بأنك لاتَعرُف غیرَ طَبخي انا والطماطم، أخذتُ الباذنجانَ وجهّزتُ عشاءً، أكلنا بتمعنٍ؛ فقالت: لابأس بطبخِك؛ قالَتها وهيَ تضحَك، عرفتُ بأن طبخي لم یعجبها وكنت اعرف بأنی لا أجید الطبخ؛ قلتُ لَها: ألا تعلمین بأنَّ أحد العُلماء یقول استكثروا لنا من الباذنجان فأنّهُ حار في وقتِ الحرورةِ وبارد في وقتِ البرودةِ ومعتدل في الأوقات كلّها وجیّد في كل حال؟ ضحكت وقالت:«حقًّا إنَّك مُصیبة في اللسان»، لاأستطیع أن أناقشك، فقلت لها: لاتنسی أمرًا واحدًا، وهو إنَّك أبلغ منّي. فضحكت وسألتني عن جاري الجدید، فكان فضولي یراقب الناس كلّهم، یراقب امرأةً مطلّقة تسكن بالقُربِ من بیتي كانت تعیش مع بناتها الثلاث، إمرأة كالنمرة، تحارب الحیاةَ للعیشِ بأمانٍ؛ ولكن هذا الخبیث لأجل مطامعه الشهوانیة كان یتهَمَهُنَّ ویقول: هذا بیت دعارة، یجب أن تترك هذه المرأة وبناتها البیت وإلا سأتصل بالشرطة وأخبرهم، یومها هدّدتهُ المرأة بأن تشج رأسهُ بالحجارة إن اقترب من بیتها مرةً أخری واخذت تصرخ: أیها الناس هذا طلب منّي أن أسمح لهُ بمضاجعتي، فرفضت وبقی یتهمني، عندما اصبحت الفضیحة أقرب إلیه من حبل الورید ركض نحو المرأة لیضربها، كانت المرأة هائجة كالنمرة الثائرة ترید تمزیق هذا البشر الخبیث الشهواني العدیم الغیرة والإحساس، قدّر الجیران موقف تلك المرأة وشجاعتها، وكانوا كلّهم متفقین ضد ذلك الرجل العدیم الغیرة وزاد من حماستهم بسرعة فائقة أنهم عرفوا انّ المرأة إن لم تكن حصّة هذا الرجل لربّما ستكون حصّتهم ، لذا صرخ أحدهم رادعا ذلك الرجل الحقیر وهمّ بضربه، وصرخ الآخر بأنه یجب علیهِ أن یترك بیته ویذهب الی مكانٍ آخر، وجاء شابٌ وضربهُ أرضًا وشجَّ رأسه وحطّمَ أنفه، بعدها عرفت بأنَّ هذا الشاب كان یعشق بنتها الأصغر سنًّا والأجمل بین بقیة البنات كما انه طلب مضاجعتها كذلك؛ سألتني حبیبتي بغُنجٍ: حبیبي انت تعرف أنا حلزونه صح؟ تعرف بانه اذا نفض اللیل حزنه وكنت معك وبین ذراعیك استطیع أن أنام وأغفو وأحلم أحلاما وردیة، ولكن ان كنت بعیدة عنك سأكون كالطُرموق، أمصُّ دم اللیل وأحرق أنوار القمر وابیع النجوم لغجریةٍ بعیدة.

- شني هاي، أصبحتِ شاعرة؟ گمت اخاف منچ ها! لو سرقة أدبیة مثل باقي الرَبُع؟

- أریدك ثلجًا كثلج ابراهیم، بردًا وسلاماً، لأن جسدي شمس صیفیة، أرجوك لاتتركني، انا لاأطلب منك المستحیل.

- مابك حبیبتي؟ صارحیني؟ هل أنتِ حامل؟ هل علم أمرك أحدٌ ما؟

- أتعرف شیئًا واحدًا! أتعرف إنني عزمتُ أن أنتحر وأتخلّص من حبك ولكن حبك كاللعنة؛ سیتبعني حتی جهنم وهناك یداعبني ویسرق أحلامي، عشقك بدایة الموت ونهایة الحیاة وعذاب حدیث؛ علّمني، كیف تسرق كل شیء حولي حتی أحلامي؟ مَن أنتَ؟ هل انت قاتل همجي بربري كتب نصوص «مهلاً یا قاتلي» بجنونٍ اسطوري؟ أتعرف! إنّك جئت بمارد الحب الذي نام وضاع منذ قرون، وها أنت أتیت بهِ بهذا العصر اللاإنسانیة، كیف تسللت إلی جسدي وروحي وسریري؟ هل أنت أعظم أم حبك؟ هل تعرف لماذا أحبك؟ لأنك أهدیتني جناحین أطیر بهما إلی برّ الأمان.

- حاولتُ تغییر مزاجها، فاحتضنتها، وقلت عفویًا: حبیبتي، ألماستي، إنك تولدین من جدید، كل عام وكل لحظة وتُبارك الأزهار بقدومها، حُلوَتي، أهدي لك قبلاتِ حُبٍّ قبل المساء، مُحَمّرة بالشفقِ الذي سرق لونه من خدّیك، الیوم میلادك أعتقد أنك نسیتي ولكني لم أنس.

انهمرت الدموع من عینیها الكبیرتین الجمیلتین وقالت: لا حبیبي، بل الیوم میلاد زوجتك الشرعیة.

أخطأت التوقیت، وها أنا هربتُ من الصالة بحُجّة التدخین الی المطبخ، لكنی لم أفلح لانها تعرفني حق المعرفة، جاءت إلی المطبخ وقالت: إن هذا الأمر یتنافی ومعتقداتي الغرامیة؛ أرید أن اخبرك بأمرٍ حتّی تعرف لماذا اطلب منك الحنان، وأنزعج إذا حاولتَ نبش قبرعتیق وأكره حین تحاول أن تعرف ماضيي، الیوم سأصبح جریئة و أَشرح لك كل شیء دون كذِبٍ ودون خجل؛ أرجو منك أن تَستَمِعَ إليَّ، أرجوك...طیّب حبیبتي، أستَمِع إلیك.

فقالت: «إنّنا معشر العرب عامةً والاهواز بخاصةٍ، نمتاز بحقارةٍ لا یجارینا فیها أي شعب من شعوب العالم، اننا نعرف كیف قتل أخینا، لأنّ شعبنا یحترف القتل، یقدّر القاتل والحثالة والسفلة ویحتقر العالم، والفنان، والأدیب، نشید بالحریة ونحن عبید وسنبقی كذلك، نحترف السرقة والتهمة ونحسبها فضیلة احتفظنا بها من عهد أجدادنا القدامی، انظر الی الدول العربیة وانظر أحوال هذا الذي تسمّونه اسلامًا، أتعرف قصّة ولادتي؟ أتعلم إلی أینَ ومَن أنتمي؟ هل تسخر مني اذا قلت لك بان جذوري تمتد حتّی الاهرام؟ لقد صرفت عائلتك ثروة طائلة علی تثقیفك، وعندما أردت الزواج تَرَكتَ بناتَ قومِك اللاتي یَنتَظِرنَ كثیرًا كی یأتي إلیهن أحد ابناءِ قومهن بحجة حدیثٍ ویخرج رغیفًا حارًا بنمط الحداثة یشطره الی نصفین ویقدم لهن نصفا، وذهبت و تزوجت من أجنبیة عاشت برفاهٍ تحت مظلّةٍ لایمكن لها أن تعذر حیفًا یلحق بك كرجلٍ واحدٍ ترك قومه خشیة أن یأتوه بفتاةٍ تكون عائقًا في طریقه المهني،أنت لست مُدانًا بأي جرمٍ؛ كما هو العُرف، لكنكم الیوم فاشیون من النوع القَبَلي، تطاردون النساء في كل العالم، كالوحوش الضاریة، اكتسحتنا موجة جهلكم الی مراحیض مجتمعكم، إمّا أن الفتاة لاتدرس! اوإذا درست علیها أن تتزوّج من تختاره لها القبیلة، هذا مایُسمّی الجهل، إنما مجتمعنا القبلي وحش متعصب یجدر الابتعاد عنه، انت استطعت الفرار باختیارك الأجنبیة وعُزلتك المطویة علی التدخین وكما اعرف أنّ یومك الجیّد مرهون بوجود التدخین الجیّد، وبالتدخین تحاول أن تترك لكآبتك حریّة المشي علی هواها، لا یا حبیبي، إنّك مجرم! وعلیك أن تفكر مرّة أخری بعد أن فشلت بنمط عیشك، وإلا یجب قتلك، إنني أعرف انك تفكر بهذا الأمر وهذا سبب ادمانك وعُزلتك وفرارك المتواصل من مجتمعك البائس، یجب علینا نحن النساء ان نفكر بهذا الأمر بدلًا منكم، انت حصة الفتاة الأهوازیة ولایمكننا أن ننسی ذلك. إنّك اخونا وزوجنا وابونا وجدنا وفي عروقنا یجري دم واحد ولانقبل بأن یمتزج بدم آخر أو یؤخذ مِنّا، ولا أعرف هل أُتابع مصالح طائفتنا المندرسة أو عواطفنا البائسة؟؛ اعلم حبیبي ان في ذلك الصیف الذي كان قد شارف علی نهایته قُبِلَت إضبارة والدي لیكون مواطنا كویتيا، سافر والدي إلی الكویت لیكون سائقًا لأحد الشیوخ بتوصیة من عمّي الذي كان فَلّاحا عند الشیخ،وكان والدي لم یَتَجاوز العِشرین فتزوّجَ بَعدَ مُدّةٍ طویلةٍ مِن امرأةٍ مصریةٍ تُدعی «نجیبة» أنجبت «نجیبه» أخي «عادل»، واختي «شیخة»، واختي «علیاء» وأنا؛ فعندما ولدتني كان قد اشتدَّ الخلاف بینهما لأجل العقائد المذهبیة، لأن والدي عندما تزوج لم یكن یعرف ما هو الدین، كان منهمكا بالسُكر والتدخین لذاعندما تزوّج من والدتي لم یسأل عن مذهبِها، لأنه لم یعتقد بالدینِ قبل ذلك، فهي كانت سنیّة المذهب، ولكن قبل ولادتي المشئومة فجأةً تغیّر والدي وأخذ یتردد إلی المسجدِ وَلَو انی علمت بأنه كان منافقًا للغایة وسبب لجوءه للصلاة كان تهدید الشیخ له لعدم التزامه بها وانه سیكون سبب طرده، تعرّف علی شیخ المسجد «عبدالعزیز الحسناوي»؛ وعندما تعرّف علی منهجیة الشیعة، طلب من والدتي أن تغیّر مذهبها لكنها رفضت ؛ فقررا ان یتمّ الطلاق بعد أن تلد أُمّي طفلها وكان الحظ لولادتي، تمّ الطلاق وأنا عمري یوم واحد، تركت أُمّي المستشفی بدوني، أخذني والدي وتزوّج من كویتیه كي ترعی ماتركت نجیبه، كانت أُمّي الجدیدة طیّبة ، أخلاقها حمیدة؛ كان اسمها «ایناس»، تحترم العائلة؛ تمشّط شعري، تلعبُ معي حتّی لا أحسّ بفقدانِ حنان الأم ولو انی لم أعرف شیئاً ولم ألمس أماً أو أرضع ثدیها؛ كنت فی ربیعی السابع عندما سرق والدي نقودًا من أحد المتاجر، فأقیمت علیه دعوة وحكمت المحكمة العلیا بأن یُطرد هو والعائلة، رفضت ایناس ان تأتي معنا، فجاءت لتودیعنا في المطار؛ بكیتُ حینها كثیرًا، طالبة مجئ أُمّي، لكنها رفضت والمحكمة العلیا ایضا رفضت وجود أي أحد من العائلة في الكویت، رجعنا خائبي الأمل لكن والدي جاء بمالٍ لابأس بهِ، تزوجت أُختي شیخة من شخصٍ أجنبي ولأجل المهنة التي أجبرتهُ سكن في العاصمة طهران، ثم تزوجت علیاء من أحد ابناء العشیرة الذي كان متشددًا ، عصبيا یشك بأظافر نفسه حتی اجبرها وإیّانا ان لانری بعضنا إلا في المناسبات، ولسوء حظي لم یأت لطلب یدي الا ابن عمّي ذلك الهمجي الذي طلبتُ منه ان یتركني لانی لا أصلح للزواج، فتهمني بقصة غرامیة حتی كادوا یذبحوني؛ طلبت منه ان یمهلني حتی أدرس لكنه رفض هذا الأمر وقال: ادرسي وانتِ في بیتي. تزوجتُ رغماً علی أنفي ودخلت مرحلة جدیدة في حیاتي، فعندما حملتُ، لاجل صغر سنّي و صعوبة الحمل طلبت منّي شیخة أن اذهب الی العاصمة طهران لمتابعة علاجي، أخذني زوجي الی طهران وعندما كنت في المستشفی، كانت بجنبي امرأة عربیة، تعجبت لأنَّ أهم الاطباء هم في الامارات وقطر والكویت، فسألتها من أین جئتي؟ فقالت من الكویت؛ عجیب لم أكن كویتیه یومها لكنّ قلبی خفق وحنَّ الی لهجتها التي كانت و لهجتي توأمان؛ رحبتُ بها وبعد لیلةٍ وضحاها عندما ذابت ثلوج الغربة واستعرت نیران الوطن، سألتها عن الكویت وعن أحواله، تعجبت منّي حین أتكلم عن الكویت وكأني لم أتركه منذ عشرات السنین، رویتُ لها قصّتي وقصة امي واسمها الذي كان یأتیني في كوابیسي، «نجیبة عبدالكریم ناجي»؛ قالت: لم اعرف هذا الاسم ولكن سأسأل زوجي لأنه یعرف الكویت والعوائل التي تسكن في الكویت، في إحدی زیاراته سألت زوجها وروت لهُ قصّتي فقال اعرف هذا الاسم، وكأنهُ خجل ان یقول انها كانت خادمه في بیت أحد أقربائه، نعم حبیبي، أُمّي كانت خادمة في الكویت، طلبتُ منه أن یسأل لي ویتابع هذا الأمر وكان انسانا مؤمناً كما واعد وفی؛ جاء مستبشراً وقال اتصلت بأحد اصدقائي الذي كان موظفاً في مجلس الوزراء المُوقّر وأخبرني بمكانها وعرفتُ بأنها تزوجت من نجارٍ مصري، في محافظة الفروانیة، كنت اعرف هذه المنطقة لأن والدي كل یوم جمعة یأخذنا الی محافظة من محافظات الكویت ، مناطق الكویت السكنیة تُقسَّم اداریاً الی ستّ محافظات؛ محافظة الأحمدي، ومحافظة العاصمة، ومحافظة الفروانیة، ومحافظة الجهراء، ومحافظة حولي، ومحافظة مبارك الكبیر، فعندما كنّا في الكویت كنّا نسكن في محافظة الأحمدي، سُمِیَت بالأحمدي نسبةً إلی الشیخ « أحمد الجابر الصباح» والمحافظة تأسست في عهده سنة 1946 میلادی؛ فكانت تقع جنوب العاصمة بثلاثة وثلاثین كیلومتراً، وتشمل الجزء الجنوبي من دولة الكویت بمساحة إجمالیة 120/5 وكانت ثاني أكبر محافظة بعد محافظة الجهراء، فیا حبیبي، الوالد خادم والوالدة خادمة، ولكن هنا في بلدنا نحن اسیاد بمالِ غیرنا فكم نحن مساكین، طلبتُ من «ام عبدالله» عندما ترجع تذهب الی هذا العنوان وتطلب من امّي ان التقي بها ولو لمرّة لأنی لا أودّ أن أموت ولم أعرف أُمّي، بعد انجابي بإبنتي التي سمیتها «نجیبة» علی اسم والدتي، بعد اقلّ من شهر؛ اتصلت ام عبدالله وقالت بأنَّها تكلمت مع والدتي وكان لنا الإذن ان نذهب ونزورها، ولأجل ضیق الحال وفقد المال تأخرنا مایقارب الشهرین حتی ذهبنا جمیعاً الی الكویت عدی والدي؛ استقبلتنا ام عبدالله في المطارِ وأخذتنا الی بیتها وفي الیوم التالي ذهبنا نحو محافظة الفروانیة؛ وصلنا الی المحافظة وسرنا نحو منطقة العارضیة التي تبعد 14كلم الی الجنوب الغربي من العاصمة وقد اطلقت علیها هذه التسمیة لاجل «عبدالله بن خلف بن دغام العارضي المطیري» الذي كان یسكن هذه المنطقة ، دخلنا طریق 51 الفاصل بین قطعة سبعة وسته؛ وصلنا الی باب ذلك النجّار المصري لینحت قلبي من جدید بعد أن ارهقهُ الماضي الكئیب دون أمّ ودون حنان،كاد قلبي أن یخرج من مكانه؛ طرقنا الباب ، فتحت الباب فتاة جمیلة تشبهني الّا انها لیست مرهقة من ماض كماضيّي، أخذتها بحضني وهي تضحك قلت لها مااسمك: قالت سعاد، قلت وما اسم ابوك: قالت داود مُرسي فقلت لها وما اسم امك: قالت نجیبة، آه الدمُ؛ آهٍ للدمِ! حبیبي، كاد الدم أن یصرخ؛ كادت ان تنهار خلایا الدم الحمراء، كادت ان تعانق سعاد بسعادة، قلت لها أین والدك؟ وقبل أن تجیب سعاد خرج استاذ داود النحّات المصري الرشیق؛ كان یشبه «أحمدزكي» بسُمرته وطوله الذي یضیف الی رشاقته رشاقة؛ طلب مِنّا الدخول وكان یعلم بمجیئنا، دخلنا ونحن نتفقّد البیت حتی صرختُ: یومّا، یومّا. ولكن لامجیبَ؛ طلبَ منّي استاذ داود أن أجلس، رفضت الأمر وقلت: أینَ والدتي؟ قال: سأشرح لك. قلت: الآن. قال طیب: الوالدة في ذمّةِ الله.

بكت حبیبتي ونهضت من مكانها، وما ان دخلت الغرفة حتی أنّت بأعلی صوتها، بكیتُ حینها، قصّة مؤلمة، لا أرید أن أسأل باقي الأحداث؛ عليَّ أن أُهدّء حبیبتي التي هي الآن ضیفة بحضرةِ الحُزن، حاولتُ أن المسَ یدها؛ لكنها رفضت وقالت دعني لوحدي، خرجت من البیت لأشتري مثلجات من المحل التجاري القریب من بیتي، وأنا اختار المثلجات فجأة واذا بی خفتُ أن تنتحر في بیتي، ركضتُ نحو البیت، فتحتُ الباب ودخلتُ الغرفة، صرختُ هل انت ِ بخیر، فقالت نعم. لاتخف ان عزمتُ علی الإنتحار سأنتحر عند أهلي، لأني أعشقك ولاأرید أن أوذیك بشیء. طلبتُ منها أن تهدأ لكي نتحدث لكنها رفضت وقالت أحتاج الی النوم. في صباح الیوم التالي من تلك اللیلة التي لم أحرك فیها ساكناً وبقیت للفجرِ أراقب حبیبتي وهي نائمة، أنظر إلی ملامحها بتمعنٍ، جهزت الإفطار، صببتُ الشاي ودخنتُ سیجارة، انتظرتها أن تفیق ولكنها في خلودٍ، رَنّ هاتفي، لم أرد علیه، اتصل مرّةً أُخری، لم أودّ أن أردّ علی هذا الاتصال لأن الیوم هو یوم عطلتي ولا أرید أن أكون في مجاملةٍ مع أحد الزملاء، لأن بعضهم كانوا یستغلون الفرصة وعندما أراد أن یغیب من المدرسة یطلب منّي الحضور في صفوفه؛ هذه ظاهرة بارزة عند الزملاء، ولكن الاتصال لم یكن عادیاً، مسكتُ نقّالي وقلت: ألو

- ألو، مرحباً استاذ

- نعم، تفضّل! من حضرتك؟

- انا من الاستخبارات، منطقة البیضاء، أطلب منك أن تحضر غداً الساعة الثانیة لتفسیر وتوضیح بعض الامور.

- عفواً أستطیع أن أسأل أي امور؟

- الامور التي جرت في المدرسة بینك وبین الطلاب والتی بسببها أصبح كلامك یدور بین الناس وصار التشنج في المجتمع لایُطاق.

- أي تشنُّج استاذ؟

- ارجوك أن تأتي إلی الدائرة غداً لكي نتحدث.

- طیّب بإذن الله.

- شكراً في أمان الله.

خفتُ قلیلا وحاولتُ اخفاء ذعري، ما الحدث المهم في المنطقة حتی صار تشنجاً؟ كنت اعرف ناسي حق المعرفة فإنهم لایحركون ساكناً؛ ولم ادخل السیاسة أو اتدخل بامور سیاسیة ماعدی الحدث المهم الذي دارَ بیني وبین الطلاب حول ذلك الشیخ ولم أتهم شخصاً بل كان الأمر في غایة الأهمیة والكلام یحمل شرافة كما طلبوا الشكلانیین والبنیویین من المتكلم. التجأت الی حبیبتي، حضنتها، قبّلتها وهي نائمة؛ فقالت: مع من تكلمت؟

- - لیس مهماً

- ولكن أود أن أعرف.

لم أكذب علیها یوماً لأنها كانت تكره الكذب والمجاملات وأنا لا أجامل ولا أكذب علیها لأن الصدق كان ینجیني فی كثیرٍ من التشنجات فقلت لها: اتصل علي شخص یقول بأنه من الاستخبارات وحول تلك القضیة التي قلتها لك سابقاً طلبوا منّي أن أحضر في الدائرة للإستفسار.

- طیّب ومتی ستذهب بإذن الله؟

- غداً الساعة الثانیة

- سأكون معك.

- ولكن لن یسمحوا لك بالدخول، فكوني في البیت حتی ارجع أو اوصلك الی بیتك لعلَّهم لا یسمحون لی بالخروج.

- ستنتهي بإذن الله وانا سآتي معك حتی باب الدائرة وان لم یسمحوا لك بالخروج سأعالج الامر فلنحتفل الیوم.

- قُل بفضلِ الله وبرحمتهِ فَبِذلك فلیفرحوا هُوَ خَیرٌ مِمّا یجمعون.

قرأت هذه الآیة من سورة یونس وبدأت تلك الخطابة العجیبة وكأنها وداعٌ الی قیام یوم الدین، طلبتُ منها أن تشرح بعض الامور وبعض الكنایات لكنها لم تقطع خطابتها التي تشبه خطابة عالم من عصر سقراط؛ افلاطونیة المفردات ارسطوئیة التعابیر جاحظیة الإیجاز حتی أنهت خطابتها بقوله: «وماظنُّ الذین یفترون علی الله الكذِبَ یومَ القیامة* إنَّ اللهَ لذو فضلٍ علی الناسِ ولكن أكثرهم لایشكرون» ذهبت الی الحمام وعلی غیر عادتها عندما خرجت من الحمام جمّعت ثیابها وقالت إنّك لاتودّ أن أكون معك خوفاً من أن تُتهم بالزنا، إن كان بمقدورك أوصلني إلی البیت وإن كان یضایقك هذا الأمر سأذهب بمفردي، طلبتُ منها أن تشرح الأمر لكنها كانت عازمة دون تردید، أوصلتها الی بیتها ورجعتُ إلی البیت مذعورًا، جلستُ علی الكنبة ضجرًا، أری طنینًا كطنین الذباب یترنح جوف رأسي، كما أهجس خشخشة خبز یابس یلاك بین فكي انسان مجهول، من هو یا تُری؟ هدیر سیارة اسعاف، صوت دراجة ناریة، صراخ طفل برئ، جلجلة فناجین، لیتني امتلك سلاحًا واطلق نار هواجسي علی جمیعهم، شعرتُ لحظتها بتأنیب في ضمیري، ثم انطرحتُ علی سریري منتظرًا غدي البائس.