ست سنوات يا قبيلة؟!
سؤال بصوت واهن، بكلمات حزينة تدرجت بالانخفاض حد التلاشي حين وصلت الى ذكر اسمها .
أسئلة كثيرة تلت ذلك السؤال، اسئلة لا تعد، لا تحصى . لكن، هي ما سمعت ايا منها كانت اسئلة صامتة، في القلب فقط . فأنا في مثل هذه الحالات، في المآسي والقلق والأحزان امتنع تماما عن الكلام، موانع لا اعرف مصدرها تحجب قدرتي على التكلم، يحصل بدل ذلك حوار داخلي، حديث مع النفس، من النوع الذي يسميه المنظرون مونولوج . سؤال واحد آخر بصيغة طلب ظهر الى العلن ولم ترد عليه، اربكتها المفاجأة .
البرنامج الذي أعددته لذلك اللقاء يتضمن قراءة في مجلة نسائية والاستماع الى اغنية بمسجل صوت صغير، صغير بحجم الكف . في المجلة بحث بعنوان هل يتسع قلب المرأة لحب اكثر من رجل بوقت واحد، ويحتوي المسجل على اغنية واحدة تتكرر اعادتها الى نهاية "البث" ؛ تخونوه بصوت عبد الحليم حافظ .
وحدث الانهيار العصبي حين دعوتها الى مقارنة بيني وبينه، مقارنة قد يكون الجسد هو الحاكم بها ؛ اي العشيقين الذ واصدق؟
لم اقل لها إنني صرت مدمنا بسببها، ترجمت ذلك بفعل، كان اللقاء صباحا، اول الصباح . وضعت الكأس على طاولة صغيرة امامي، تناولت شربة عاجلة اتبعتها بملء الكأس مجددا، وتكرر ذلك لخمس مرات خلال جلسة "المحاكمة" التي استغرقت ثلاثا وستين دقيقة . بدأت استعرض اهم احداث الاثنتي عشرة سنة منذ التعارف الاول، اعوام الحب الستة وسنوات الهجر الست الأخر،
وحاولت ان ابدو متماسكا، ذكرت الورقة الكبيرة التي كنت ارسم فوقها نهرا ازرق وزهرة بيضاء واكتب بحروف متموجة بالأصفر ؛ انت اجمل فتاة في بابل والنجف وكربلاء وبغداد والموصل، كانت تتابع حركة اصابعي، تبتسم وتند عنها ضحكة عند تغيير "الماجك" لأكتب بالأخضر ؛ انت اجمل فتاة في بابل والديوانية والسماوة والناصرية والبصرة . تمسك الورقة، يداها مغريتان، مدهشتان بحرارتهما التي تزداد مع الوقت، لا تبردان ابدا . تسألني
- لماذا كررت بابل
- لأنك عشتار، ملكتها
- ولماذا هذه المدن
- هذه هي التي زرتها الى الآن
وذكرت الثوب الازرق، النيلي بالورود الحمر، والخاتم، المحبس الذهب بالشذرة الماروني، كنت قد وعدتها بهما لمناسبة قريبة، وذكرت ذلك اليوم الذي جازفت وزرتها فيه في المعهد، رغم علمي بتشدد الادارات في المحافظات الجنوبية، قلت لها في الدقائق القليلة التي توفرت عند مغادرة المدير الغرفة لأمر طارئ، وهو كان قد امرني بأن اتحدث معها بحضوره، قلت لها لدي مقترح مغامر، نذهب غدا الى بغداد ادعوك الى الغداء في "نفر تيتي"، مكان جميل، رومانسي، ساحر والأهم هادئ، ووافقت بسرور لكن ما جاءت في اليوم التالي حسب الوعد والموعد ولم أرها بعد ذلك لست سنوات كاملة .
الآن تعود رغبة في عودة المياه لمجاريها، كما قالت.
سألتها
- اية مياه، الآسنة؟
لم تعرف ما جرى لي خلال تلك السنوات كيف مرت شهورها وأيامها ولياليها، السيئة القاحلة المريرة، ادمنت الخمر، عدت ثانية للطبيب النفسي وهذه المرة ليس بسبب الخوف انما للكآبة الحادة - المزمنة التي ستفضي الى الموت انتحارا حسب ما يقول علم النفس الجنائي . للمرة الثانية اراجع الطبيب النفسي . في المرة الاولى وكنت طالبا في الكلية (طب الاسنان)، كانت بسبب خوف اما الثانية فبسببها هي
الطبيب في الخمسين، يداه كبيرتان، اكبر مما ينبغي باصابع طويلة، يبدو ساهما، يتحدث باسلوب خطابي، كل شيء في غرفته اسود،الكراسي الجلدية، سرير الفحص، المكتبة واطارات الصور المعلقة على الجدران .
سألته عن الحالة "الغريبة" التي تنتابني اثناء مأزق او موقف صعب، حين ينبغي ان اتحدث خلاله مع اخرين، فأصمت، تضيع الكلمات او ارددها مع نفسي دون تحريك الشفتين حتى، ولم اقل له إنني وبسبب هذه الحالة خسرت صديقتي، ملكة جمال المحافظات التسعة، بسببها حصل الانفصال كما اظن، يوم دعوتها الى لقاء للحديث عن قراري بإعلان الخطوبة لكن لم اتطرق للموضوع طيلة الساعة التي جلسنا فيها معا فقد فعل المونولوج الداخلي فعله . لم اقل لها سبب امتناعي عن التحدث في الامر، وكان السبب حدثا له حكاية:
في الكلية كتبت في استمارة وزعتها السلطة معلومات اغاظتهم، بعد اشهر، اثناء الامتحانات النهائية "اختطفت" من الشارع، كان ضابط الأمن الذي قام بالمهمة وسيما وانيقا، تحدث معي اول الامر بلباقة وكياسة، ثم وبلحظة تغير الموقف، كانت السيارة الفولس واغن المنتظرة صغيرة، قلبوا مقعدها الامامي ليلقوا بي كيفما اتفق في القسم الخلفي، وفي الاقبية المظلمة تدافعت الايدي والارجل المنتقمة "المؤدبة" لتبليغ الرسالة التي انتهت بتهديد صريح "لو عدت مرة اخرى فلن نتعب انفسنا، سنلقي بجثتك فوق مزبلة على "القناة" .
في السنة التالية اكملت الدراسة والتحقت بالخدمة العسكرية طالبا في دورة الضباط المجندين، كنت قد نسيت امر الاستمارة وما تبعها من نتائج .
يوم دعوتها لأعرض فكرة درستها لأشهر عديدة ؛ كنت قد بنيت الموقف على اساس انني سأصبح ضابطا، وبمبلغ معقول من المال، نقنع اهل "الحل والعقد" بإتمام اجراءات الخطوبة .
في اليوم الذي سبق لقاءنا الموعود استلمت امرا من "جهة عليا" يمنعني من حمل الرتبة . حين جلست الى جواري كنت اقلب الكلمات استبدل واحدة بأخرى دون ان تعرف هي ذلك فقد كنت امارس عادتي المرضية في الحالات الصعبة بعدم اظهار الكلام .
لم نتقابل بعد ذلك اللقاء الفاشل، اختفت وضاعت اخبارها . كل محاولاتي لرأب الصدع فشلت، وساطات عديدة لأصدقاء مشتركين لثنيها عن المقاطعة لم تفلح . اخيرا اتخذت القرار الحاسم ؛ اقتحم المعهد ! سأوضح لها الموقف على حقيقته . دخلت المعهد، اقتادني حارس متجهم، فورا الى غرفة المدير، اعلنت بكلمات واضحة، واثقة سبب المجيء، المدير اربعيني بملامح تبدو محايدة، غرفته واسعة بأثاث يدل على ثراء . فهم القصد، قال لي بلغة آمرة: تتحدث معها هنا امامي .
قلت لها
- ما الامر؟
التمعت عيناها بومضة بددت حزن اشهر الجفاء المؤلمة حين قلت:
- الدواء تركته لك ببيت شقيقتي
وكانت هذه الجملة سرا بيننا يمثل موعدا للقاء يتم في ساعة محددة يوم الاربعاء التالي .
ما جاءت في الموعد ايضا . الان تحضر في اليوم المحدد وفي الساعة المحددة لكن بعد ست سنوات . اسألها
-هل صحيح كنت على علاقة بطالب معك في المعهد؟
اجابت بشكل غير مقنع . قلت لها بوجه حاولت ان يكون غاضبا اريد جوابا من كلمة واحدة !
وبعد مقدمات وشروح طويلة تضمنت ما يعرف باللف والدوران، اجابت بصعوبة، ب "لا"، "لا" مترددة، خجولة .
انشدت وبعد ان بلغ بي السكر مداه، مترنما بمقولة حورت مطلعها
- ا ل خ ي ا ن ة / كنز .. لا .. يفنى
ثم بجد ؛ لن اتحدث عن الحب لكن قبولك بي يرتب عليك التزاما اخلاقيا،
كان هذا الكلام هو الجزء الذي اتذكره من محاضرة طويلة عن القيم والمبادئ والاخلاق وما يسمى بالحب، المحاضرة التي تضمنت اجزاء من المقالة المنشورة في المجلة عن "حب النساء" والتي القيتها على مسامعها وهي صامتة، مطرقة، لكن نسيت اغلب ما ورد فيها بعد ذلك، وهو امر حسن، فالذي اعدته على مسمع طبيبي كان كافيا . قلت له جئت هذه المرة لطلب المساعدة في اتخاذ قرار .
*** ***
لم يصدر القرار، لا عن جلسة العيادة النفسية ولا قبل ذلك عن جلسة المحاكمة.
بعد ستة اشهر من القلق والتفكير والمزيد من الخمر، وفي ليلة ظلماء عاصفة اختفى العاشق الرومانسي والمثقف ليحل محله الرجل ذو العينين الحمراوين والكف الجاهزة للانقضاض، "الذكر" الشرقي .ليلة شهدت المونولوج الاخير، مونولوج النهاية . اتذكر الان بعضا من ذلك الحوار الداخلي الصامت الذي امتد الى الفجر، وكان حوارا لا يصلح للنشر، على اية حال