تواصل (الكلمة) هنا نشر دراسات الباحث الفلسفي التونسي الذي يمدها بدراسات قيمة حول أعلام الفكر الغربي. وميشيل فوكو الذي يتناوله في دراسة هذا الشهر أحد أكثر فلاسفة القرن العشرين تأثيرا في الدراسات الإنسانية المختلفة، كما أن دراسته عن الجنون كانت رسالته للدكتوراة التي طرحت اسمه ومنهجه بقوة في هذا المجال.

فوكو والجنون الغربي

محمد المزوغي

 

1 ـ رسول ما بعد الحداثة:
في إحدى دروسه حول أرسطو، قال هايدغر كلمته الشهيرة، بأن ما يجب معرفته عن حياة فيلسوف ما ـ أرسطو في هذا الشأن ـ هو أنه رجل وُلد وعَاش ومات. وهذا، إلى حدّ ما شيء صائب لأن التنظير الفلسفي لا يجب أن يرتبط ارتباطا وثيقا بشخصيّة الفيلسوف ولا ينبغي أن تُشرّطه كلّيّا ظروفه الحياتيّة أو نظرة زمانه للعالم. إن حُبست الفلسفة في الإطار الشخصي فإنها قد تفقد كثيرا من معناها الكلّي وتغدو تعبيرا عن نزوات فردية فاقدة لروحها الشموليّة ولكلّيتها التي مَيّزتها دائما عن بقية التعابير الثقافية الأخرى.

أعتقد أن ميشال فوكو يدفعنا، بل يُحرّضنا على قراءة قسطٍ كبير من أعماله على أنها نابعة من صُلب تجاربه الشخصية. ولقد اعترف في آخر حياته بأنه ينتمي إلى ذاك الصنف من المفكرين الذين تختلط أفكارهم بتصرفاتهم، أو بالأحرى فإن كتاباته وبحوثه النظريّة هي انعكاس لما عاشه وجرّبه في حياته الشخصية. وهذا الاعتراف البيّن والمُحيّر للغاية يُرْبكنا إلى حدّ بعيد لأنه ليس فَلتة من فلتاته المعتادة، بل قناعة راسخة فيه(1). وقد أقرّ في بعض حواراته بأن مفتاح قراءة فيلسوف ما يَكمُن في دراسة سيرته الذاتية، واكتناه سلوكاته الحياتيّة وأخلاقياته العمليّة. في سنة 1983 أعرب عن فكرة أن كاتبا مَا لا يخلق أعماله من خلال كتاباته فقط بل إن العمل الأكثر أهمية، في نهاية المطاف، هو الكاتب ذاته في صيرورة كتابة نصوصه. الحياة الخاصة للفرد ومُيولاته الجنسية مُترابطة أشدّ ما يكون عليه الترابط بإنتاجاته الأدبية: العمل الأدبي يشمل سواء الحياة في كلّيّتها، أو النصّ المكتوب ذاته.

الانجذاب نحو التجربة وما تحمله من زخم وِجْداني، تُسيّر إنتاجات فوكو النظريّة وتتحكّم في مجراها. وقد صرّح، في يوم ما، لَِكاتب سيرته، د. إيربون، قائلا: «في كلّ مرة أقدمتُ فيها على انجاز عمل نظري ما، كان ذلك على قاعدة من عناصر تجاربي الخاصة». كل جزء من كتابات فوكو يمكن اعتباره كما لو أنه شذرة من سيرة حياته الشخصية، شذرة تكشف عن خبايا طبيعته وعن ذكرياته البعيدة وتجاربه الراهنة. حسنا، ولكن ما هي النتائج على المستوى العِلمي لهذا الارتباط الوثيق بين النظرية البحت والممارسة الحياتية؟ حتى في هذا المجال فإنه لا شيء يمكن أن نستقيه مباشرة، وبصريح العبارة مِن كتابات فوكو، لكن من خلال حواراته الصحفية فإن الرجل يقود قارئه إلى المسك بحقيقة أغراضه.

في حوار له مع المثقف الإيطالي دوتشو ترومبادوري (Duccio Trombadori) أعْرَب فوكو، دون مُواربة، عن تلك النتائج قائلا بأن أعماله لا تملك أرضية نظرية متواصلة ومُنسّقة، بل لا تخضع حتى لقاعدة منهجيّة ثابتة. هذا بالإضافة إلى أنه ليس هناك من كتاب ألّفه لا يَحمل في طيّاته ثقل تجربة شخصية مباشرة مع موضوعاته، مثل الجنون، المستشفى العقلي، المرض وحتى الموت: «وبهذا المعنى أعتبر نفسي مُجرّبا أكثر مني مُنظّرا، لا أطوّر أنساقا استقرائية لتطبيقها على حقول مختلفة من البحث. حينما أكتُب، أفعل ذلك خصوصا لتغيير نفسي ولعدم التفكير في ذات الشيء الذي فكرتُ فيه سابقا(2)».

لا أدري ما حَدا بفوكو إلى التفوّه بمثل هذه العبارات، يُمكن الثناء عليه لاعترافاته الجليّة ولصراحته الشفافة ولكني أعتبر، بِجدّ، أن صدقه يعطي صورة واضحة نوعا ما عن فلسفته، وقد يختلجنا الشكّ حتى في كونه فيلسوف. فعلا، لقد رفض الرّجل هذه التسمية(3) وقال بأنه مجرّد صُحفي (Je suis un journaliste). فكرة العمل كـ "تجربة" شخصية تُوحي فعلا بأن صاحبها يرفض مسار البحث المُنسّق، بحيث أننا لا نعثر على إطار منهجي ثابت أو، على الأقل، لا يمكننا استمداد إشارات مَنهجية نستطيع من خلالها ربط المقدمات بالنتائج: «ليست هناك قاعدة ثابتة، نهائية، لكن سلسلة من الأفكار حول أعمال اكتمَلت، بإمكانها أن تساعدني على تحديد مواضيع أخرى ممكنة للبحث». الثابت على كل حال هو أن فوكو يفتقد للمنهج، بل إنه ضد فكرة المنهج ذاتها: «أنا لا أبني منهجا عاما، صالحا نهائيا لي وللآخرين. ما أكتبه لا يفرض شيئا، لا علَيّ ولا على الآخرين. في أقصى الحالات، هو ذو طبيعة أداتيّة وحالمة(4)».

مُحَاوِر فوكو لم يُصدّق ما سمعه. إنه أمر يدعو للاستغراب حقا، وفعلا الرجل لم يتمالك من توجيهه هذه الملاحظة ـ الاعتراض: «ما تقوله يؤكّد نشاز موقفك، وبمعنى ما، يُفسّر المصاعب التي جابهها نُقاد ومفسّرون وشرّاح لمحاولة تنسيق (أفكارك)، أو إضفائك مكانة محدّدة في مجال الفكر الفلسفي المعاصر(5)». كيف كانت إجابة فوكو؟ مرة أخرى إجابة استفزازية: «لكن أنا لا أعتبر نفسي فيلسوفا. ما أفعله ليس هو بِضربٍ من ضروب التفلسف، ولا هو بالاقتراح على الآخرين بألاّ يفعلوها(6)». المبرر الوحيد الذي قدمه فوكو لتدعيم فكرة أنه ليس بفيلسوف، (وأريد التذكير هنا بأن نعت شخص ما بأنه فيلسوف أصبح تقريبا سُبّة بعد أن اطّلع المثقفون الباريسيون في الستينات على نصوص هايدغر التي دعا فيها للتّخلي عن الفلسفة)، أقول المبرر الذي قدمه فوكو بكل اعتزاز، هو أن الكُتّاب الذين تأثر بهم بعد سنوات التكوين الجامعي (من نيتشه إلى باطاي، مُرورا بكولوسوفسكي وبلانشو) لم يكونوا فلاسفة بالمعنى الدقيق والمُؤسّساتي للكلمة، والشيء الذي فَتَنه فيهم هو غربتهم عن اصطناع الأنساق ومجافاتهم للفكر النسقي وذلك بسبب أنهم «منشغلون بالقيام بتجارب شخصية(7)».

وهذه التجارب تختلف عما يُنظِّر له المنهج الفينمينولوجي الذي يرغب دائما في إدراك معنى التجربة اليومية، لكي يعود ويُؤكد الدّور التأسيسي للذات، للأنا. لكن فوكو يرفض أي دور للذات المتعالية في اكتناه المعنى، ولا يريد أن يتجرّد من تجربته المتفرّدة المعاشة. فنيتشه، وباطاي وبلانشو، على عكس النهج الفينمينولوجي التأسيسي، يرغبون في الوصول، عن طريق التجربة «إلى تلك النقطة من الحياة الأكثر قُربا من استحالة العيش، أي إلى نقطتها الحدّيّة(8)». ولذلك فإن هذا الصنف من التجربة، لا يُدعّم الأنا، بل إن مهمّته هي افتكاك الذات من نفسها، لكي تصبح مغايرة، وتصل إلى حدّ انعدامها وانحلالها التام. الدرس الذي تَعلّمه فوكو من هؤلاء الكتّاب يتلخص في فكرة نزع الذاتية: "تجربة حدّية" تَفتِقه من ذاته، بحيث أن كُتبه، كما اعترف بذلك، بقدر ما هي رتيبة، مملّة ومتبحّرة، يقول بأنه قد «تصوّرها كتجارب موجَّهة إلى نزعي من ذاتي، إلى الحؤول دوني ودون أن أكون نفس الشخص دائما(9)».

لكن إذا استحوذ البعد الذاتي التجربي المُعاش على هموم المفكّر، ماذا يتبقّى من مجال لمصداقية نتائج تحاليليه العلمية؟ ما هو معيار الحقيقة في هذا الصنف من التنظير؟ فوكو يستخدم في كتبه مجمل الترسانة النظرية الكلاسيكية من برهان منطقي، تقديم حجج نصّية تاريخية، إحالات إلى مفسرين مبرزين، إقامة علاقة بين الأفكار والوقائع، ولكن كل هذه العملية، حسب رأيه، هي مجرّد خدعة، تمويه، ثمّ «مَن الذي فكّر يوما ما في فعل شيء مختلف عن التمويه؟(10)». هذا، تحديدا، ما فعله فوكو حيث يعترف بأنه لو أراد أن يُنجز عملا تاريخيا حول مؤسسات العلاج النفسي في أوروبا بين القرن السابع والتاسع عشر، لما كتب "تاريخ الجنون". المشكلة الأساسية ليست هي تلبية الأغراض العلمية للمؤرخين المحترفين. كلاّ، غرضه شيئا آخر، ألا وهو دعوته لنفسه ولمن يتوجّه لهم كي يُقِيموا تجربة مع حالتهم الراهنة، مع ما هم عليه الآن: «إذن مع تجربة حداثتنا بحيث أنها تسمح لنا بالخروج منها ونحن قد تغيّرنا(11)».

لا نفهم كيف يمكن ربط هذه الصيرورة بمعيار الحقيقة؟ ما علاقة التحوّلات الذاتية المابعدية لأثر عمل ما بالحقيقة؟ عن هذه الأسئلة فوكو أجاب بتقديم مثال كتابه "تاريخ الجنون" وتأثيراته المتأخرة على وعي الناس. هذا الكتاب، حسب زعمه، أهمّيته لا تكمن في الحقيقة التي قدّمها بل في التأثير الذي أحدثه وفي تغيير نظرة الناس لتجربة الجنون. والتجربة في حدّ ذاتها متعالية عن منطق الثنائيات، فهي ليست بصحيحة ولا بخاطئة، هي دائما تمويه، شيء مُصطنَع، يوجد فقط بعد اختلاقه لا قبل «كذلك إذن هي العلاقة الصعبة مع الحقيقة، الصيغة التي تكون فيها هذه الأخيرة مُدمَجة في تجربة غير مرتبطة بها والتي، إلى حدّ ما، تُحطّمها(12)».

لكن هذا تقييم ما بعدي من طرف فوكو لعمله، فبعد المأزق النظري الذي سقط فيه، والاعتراضات المحرجة التي قدمها المختصون، لم يجد له من مهرب إلاّ التركيز على الجانب العملي المفترض توليده. مبدئيا مَن يؤلف كتابا ما فإنه لا يفكر بما سيُحدِثه في المستقبل، هو يقدّم عمله كدراسة علمية لظاهرة اجتماعية أو فيزيائية ما، ونتائجها قابلة للنقاش، للدحض أو للتأييد. لا أحد يستطيع أن يتنبّأ بمصير كتابه، لا أحد يقدر أن يراهن مسبقا على تأثيراته وإلاّ سيصبح نبيّا عوض أن يكون مجرّد باحث. التاريخ الأدبي يعلّمنا بأنه غالبا ما يمكث الكتاب على الرفوف، دون أن يكون له أثر مباشر على الوعي الجماعي، وهناك مِن الكتب التي لم تُعط أكلها إلاّ بعد وفاة أصحابها. المنهج العلمي يرفض، على كل حال، أن يُضحّي الكاتب بالدقة في التحليل والصرامة المنهجية لأغراض عَمَلية ولتكهنات قد تتحقق في المستقبل أو قد تموت في حينها. فوكو وصف سارتر بأنه آخر المتنبئين، لأن دور المثقف الجديد هو استحداث أدوات وتقنيات تحليل، لفَهم الضروب المختلفة التي تتمظهر فيها السلطة. لكن اعتُرض عليه بأنه هو أيضا تقمّص دور المتنبّي، وأخذ يتكهّن بأحداث مستقبلية، وبالاستعمالات الممكنة التي ستخضع لها أفكاره. ردّ فوكو كان، مرّة أخرى، ردّا في منتهى الاستفزاز: أنا صحفي.

2 ـ تجربة الجنون في العالم الغربي:
في نهاية القرون الوسطى اختفى مرض الجذام من العالم الغربي، لقد كان اختفاء هذا الداء غريبا، وحسب فوكو، السبب في ذلك يعود إلى بعض الممارسات الطبية المشبوهة، وأيضا إلى الفصل العفوي بين المرضى وغير المرضى، ونتيجة أيضا للقطيعة التي حدثت، بعد انتهاء الحروب الصليبية، مع البؤر الشرقية للعدوى(13). لكن اختفاء الجذام لم يَقض على البِنَايات التي كان يُعالج فيها المرضى، بل إن تلك الأماكن نفسها شهدت لعبة الإقصاء بعد قرنين أو ثلاثة من الزمن. فعلا، لقد حل الفقراء والمشردون الخاضعون للإصلاح، والمرضى النفسانيون محل المصابين بالجذام. هذا التغيير المؤسساتي لازمه تغيّر في المخيال الجماعي لعصر النهضة، المتمثل في سفينة الحمقى. في البداية كانت مجرّد تأليف أدبي مستعار، ثم «أصبحت تأليفات هذه السفن من الألحان الشائعة، حيث يبحر الطاقم المكوّن من أبطال ينتمون إلى المخيال ومن نماذج أخلاقية أو أنواع اجتماعية في رحلة طويلة رمزية إن لم تأت بالثروة، فإنها ستكون صورا عن قدرهم وحقيقتهم(14)». فوكو يقول بأن هذه السفن التي تنقل حمولتها الجنونية من مدينة إلى أخرى وُجِدت فعلا، والحمقى كانوا يعيشون حياة الترحال والتيه، وهذه الممارسة كانت سائدة خاصة في ألمانيا. السفينة والماء وإبحار المجانين تحمل دلالات رمزية كبيرة: «فالماء قد يكتسح كل شيء، إلاّ أنه يفعل أكثر من ذلك، إنه يُطهّر. وبالإضافة إلى ذلك فالإبحار يُسلم الإنسان إلى قدر غير مُحدّد، كل إنسان يُسلم نفسه إلى قدره... إن إبحار المجنون هذا هو في الوقت ذاته تمييز صارم وانتقال مطلق».

المجنون ـ على الرغم من المفارقة ـ هو موضوع داخل الخارج، والعكس صحيح. وهذه الوضعية، يقول فوكو «بالغة الرمزية وستظلّ هكذا إلى يومنا هذا، إذا كان بإمكاننا الاعتراف أن ما كان يشكل قديما قلعة مرئية للنظام، قد تحوّل الآن إلى صرح لضميرنا(15)». فوكو يركّز على هذه الرمزية، ويُبحر في تداعيات مشحونة خطابة أدبية(16). لكن الشيء المحقق عنده، هو أن في هذه المرحلة كان هناك «ترابط بين الماء والجنون في ذاكرة الإنسان الأوروبي(17)».

كيف حدث هذا الترابط؟ ولِمَ العودة من جديد، وبشكل فجئي، في القرن الخامس عشر، إلى ثيمة المجنون والبحر؟ هذه العودة يفسرها فوكو على أساس أنها ترمز إلى القلق الذي اكتسح فجأة الثقافة الغربية في نهاية القرون الوسطى. ذلك أن المجنون يمثل تهديدا وسخرية لاذعة من العالم ومن تفاهة الرجال وضعفهم. وهذا المنحى تدعمه الأعمال المسرحية والانتاجات الأدبية، بما في ذلك أيضا النصوص الشهيرة التي تنتمي إلى النزعة الإنسانية لإيرازم (Erasme) وفلايدر (Flayder) مثلا، ثم فنّ الرسم مع بوش (Bosch) وبروغل (Brueghel). إذن، النتيجة حسب فوكو، هي أن نظام التواريخ صريح في التأكيد على هذه الصيرورة الترميزية. الترابط المحكم الذي يدعمه المسار التاريخي جعل فوكو، كما رأينا أعلاه، يقيم تماثلات بين الموت والجنون: لقد حلّت سخرية الجنون محلّ الموت وجدّيته، فالفزع أمام الحدود المطلقة للموت تمّ استبطانه على شكل سخرية دائمة. والحياة ذاتها ليست إلاّ تفاهات وكلاما عبثيا وصولجان مجانين: «الرأس فارغة وستتحوّل إلى جمجمة. إن الجنون هو الحضور المسبق للموت».

عند هذا الحدّ يسترسل فوكو في تداعياته الأدبية، ولا ندري هل أن ما يكتبه هو مجرّد سرد قصصي أم نقد أدبي أم صحافة، والكتاب مشحون من أوّله إلى آخره بهذا الأسلوب، حيث تتداخل الأقنعة والجُثث والموت والسخرية والضحك في جوقة صاخبة دونما انسجام أو تنسيق. تِتِمّة الفقرة جاءت على هذا النحو: «الجنون هو الحضور المسبق للموت. إلاّ أنه يُعدّ أيضا شكلها المهزوم، شكلا يَتجنّب كل العلامات اليومية التي تشير إلى قوّة حضوره، وتشير أيضا إلى أنّ فريستها ضامرة. إن ما كان الموت يكشف عنه ليس سوى القناع ولا شيء آخر. فمن أجل اكتشاف تكشيرة الهيكل كان يكفي نزع ذلك الشيء الذي لم يكن لا حقيقة ولا جمالا، بل صورة فقط من الجبس والبهرج. إننا ننتقل من القناع العبثي إلى الجثة، وتستمرّ نفس الابتسامة. إلاّ أن ما يوجد في ضحك المجنون هو أنه يضحك مسبقا من ضحك الموت، والأخرق وهو يتنبأ بالمأتم، ينزع عنه سلاحه. إن صراخ "مارغو المجنونة" هو الذي سيسود في أوج عصور النهضة، وتلك ثيمة ستتردّد في أغاني نهاية القرون الوسطى على جدران كامبو سانتو(18)».

الجنون، إذن، في كامل فترة القرن الخامس عشر كان مربوطا بالموت، بالعدم، وسيظل كذلك لفترة طويلة كما يتبيّن من التجربة الكلاسيكية للجنون. وفي ميدان الكتابات الأدبية والفلسفية، تتخذ تجربة الجنون في القرن الخامس عشر شكل هجاء ساخر. إيرازم مثلا أفرغ الجنون من أشكاله المرعبة، وحاول مدح "الوهم الهادئ" الذي يحرر النفس "من همومها الشديدة ويعيدها إلى أحضان كل أشكال المتعة". هذه المتعة لا تستهوي الحكيم الذي يبقى دائما في منأى عنها. فهو يراقب الجنون من بعيد «وإذا كان يمدحه فلأنه قادر على الاستهزاء به من خلال ضحك الآلهة الذي لا ينتهي. ذلك أن جنون الكائنات البشرية هو فرجة إلهية(19)». لكن على الرغم من وجود تداخلات بين النظرتين فإن الفصل بينهما لا يزال في اتساع. وهنا يدخل العنصر التراجيدي والكوميدي ليباعدا بين الطرفين «فمن جهة هناك سفينة للحمقى وعلى ظهرها وجوه شقية تتوغل شيئا فشيئا داخل ظلام العالم في مشاهد تتحدث عن الكيمياء الغريبة للمعرفة، وعن التهديدات القوية للحيوانية ونهاية الزمن». هذا هو العنصر التراجيدي، أما الكوميدي فهو «سفينة للحمقى تُشكّل عند الحكماء أوديسا مثالية وتعليمية للعيوب الإنسانية(20)». النظرة الأولى عبّر عنها الفنانون التشكيليون بصورهم الصامتة، حيث امتلك الجنون من خلالها «قوّة بدائية للكشف: كشف يقول إن عوالم الحلم واقعية، وأن الغشاء الرقيق للوهم ينفتح على عمق لا قرار له، وأن التأرجح الآني للصورة يضع العالم فريسة لصورة مقلقة تستوطن لياليه بشكل دائم(21)». أما الثانية التي اختصت بها النزعة الإنسانوية فقد انحبست ضمن الكون الخطابي، وهنا مرّة أخرى يفتّق فوكو مواهبه الأدبية، محاولا إظهار التناقض على الشكل النيتشوي في "مولد التراجيديا" بين جماحة ديونيزوس وعقلانية أبلون، ونصه هنا يقطر نيتشوية، دون أن يصرّح بها. لكن يكفي تذكر ترسانة المقولات النيتشوية، من مأساة، وحلم وسكر وهذيان حتى تبدو الصورة جليّة. يقول فوكو واصفا النظرة الإنسانوية: «في الجانب الآخر سيُنظر إلى الجنون مع برانت وإيرازم وكل تقاليد النزعة الإنسانية ضمن ما يُحيل عليه الكون الخطابي. سيتهذّب الجنون وستُهَذب ملامحه، ولكنه سيُلقِي بأسلحته أيضا. سيُغيّر من سلميته وسيولد في قلب الإنسان ويُنظم سلوكه ويُعمل على خلخلته. سيمتدّ بسلطانه إلى المدن ذاتها. فالحقيقة تُهدّئ الأشياء، أما الطبيعة فتتجاهله، وسيختفي سريعا عندما يظهر ما هو أساس في الكون: حياة وموت، عدالة حقيقة. وقد يكون كل الناس خاضعين له، إلاّ أن سلطته ستكون دائما تافهة ونسبية، لأنها ستكشف عن نفسها داخل حقيقته الرديئة في أعين الحكيم. فالمجنون عند الحكيم سيصبح موضوعا، وسيكون كذلك في أردأ صورة لأنها ستصبح موضوعا لضحكه. واستنادا إلى هذا، فإنه سيكون أسير أمجاده. فالجنون حتى وإن كان أحكم العلوم، سينحني أمام الحكمة التي سيظل في نظرها جنونا. قد يكون للجنون الكلمة الأخيرة، ولكنه لن يكون أبدا آخر كلمة في الحقيقة وفي العالم(22)».

لم تختفِ التجربة التراجيدية تماما من الوعي النقدي للجنون، على الرغم من "الظلال التي بدأت تبتلعه" في القرن السادس عشر، بل واصل حضوره من خلال تلك الصفحات التي كتبها صاد (Sade) وأعمال غويا (Goya). وكذلك التجربة المعاصرة للجنون لا تعكس حقيقته الإيجابية، لأن الوعي التراجيدي كان مخفيا وراء الوعي النقدي للجنون «إن هذا الوعي هو الذي أيقظته كلمات نيتشه الأخيرة، ورؤى غويا الأخيرة. وهي أيضا التي بدأ يستشعرها فرويد في أقصى مسارات فكره: إنها تلك التمزقات التي أراد أن يرمز لها من خلال ذلك الصراع الأسطوري بين الليبيدو وغريزة الموت. وهذه التجربة أيضا هي ما يتمّ التعبير عنها في أعمال أرتو التي كانت تطرح على فكر القرن 20، لو أنه انتبه إلى ذلك، الأسئلة الأكثر إلحاحا والأقلّ قدرة على جعل السائل يفلت من الدوار داخل هذا العمل الذي لم يتوقف عن التصريح أن ثقافتنا فقدت بؤرتها التراجيدية يوم أبعدت نفسها عن الجنون الشمسي الكبير للعالم. وأَبعَدت التمزقات التي تحققت داخلها باستمرار "حياة وموت الجنون"(23)».

*     *     *

لقد استفزّ هذا الكتاب حساسية الفلاسفة، ليس فقط من جانب التحدّيات الفكرية التي طرحها عليهم، بل أيضا من جهة أسلوبه المثير ذي الطابع الأدبي المُنمّق. المفكّر خوزي مركيور (J. Merquior) شخّص هذه الخاصية في كتابات فوكو، لكنه أسندها إلى ميزة تفرَّدَ بها الإنتاج الفلسفي في فرنسا بالمقارنة مع طريقة التفلسف السائدة في العالم الأنجلوسكسوني. حيث إن الفلسفة هناك هي عموما أكاديمية في الأسلوب وتحليلية في المنهج، أما في العالم الفرنسي فقد اتخذت منحى مغايرا. الكل ابتدأ، حسب مركيور، مع هنري برغسون، الذي كان معاصرا لصاحب الفينومينولوجيا هوسرل، وقضى فترة طويلة، مثله مثل زميله الألماني، في التدريس الجامعي. لكن مع مرور الزمن بدأت كتاباته تأخذ شكل محاولات، في الوقت الذي أصبحت دروسه محل متابعة من طرف جمهور عريض. بعد وفاته سنة 1941 طلع نجم جديد، اسمه جون بول سارتر، يمتلك مواهب أدبية عالية جعلت منه مَعلما حيا للفكر الفرنسي حتى الستينات. مثلما هي الحال بالنسبة لبرغسون، فإن سارتر جمع بين الطاقة الأدبية الراقية وحرية في التنظير خالية من أي همّ تحليلي. الفلسفة ـ الأدبية هي خليط من عناصر مشتتة، نادرا ما استقرّت على شكل أدبي صريح مثلما فعل نيتشه، بل بالإحرى اتخذت صبغة بحوث مركّبة مثل "التطور الخلاق" لبرغسون، أو "الوجود والعدم" لسارتر، أو "فينومينولوجيا الإدراك" لميرلوبنتي، ومع ذلك فإنه بالنسبة لمفكر تربى في الفلسفة التحليلية النتيجة مساوية.

أين يتموقع فوكو؟ يقول الدارس بأن نقطة انطلاق فوكو تبدو أنها مرتبطة بتزحزح طفيف لهذا النمط من التفلسف الأدبي. فعلا، في فترة ما، بدا كما لو أن الفلسفة الأدبية، بعد استنفاذ التيار الوجودي طاقته الحيوية، مرت بمرحلة أزمة داخلية ووجدت نفسها في مفترق طرق عليها أن تختار: إما التحوّل إلى التحليلية، أو ابتداع إستراتيجية جديدة للبقاء. الفلاسفة الشبان اللامعون اختاروا النهج الثاني: فعوضا عن جعل الفلسفة أكثر صرامة، قرّروا تطعيمها بمواد العلوم الإنسانية (اللسانيات، الأنثربولوجيا البنيوية، الدراسات التاريخية لمدرسة الحوليات، التحليل النفسي، علاوة على الأدب والفن الطلائعي). بعملية ضمّ محتويات جديدة مستعارة من حقول معرفية أخرى، الفلسفة ـ الأدبية نجحت في كسب حيوية داخلية. فوكو إذن ينتمي إلى هذا التراث الفلسفي ـ الأدبي المتألق، أكثر منه إلى تراث الصرامة التنظيرية. لقد حاز هو ودريدا على الصدارة بين رهط المفكرين الجدد. فعلا، "غراماتولوجيا" دريدا، التي سُمّيت فيما بعد "تفكيكية"، عرّفها بأنها تَمَلّك جذري لنظرية سوسير في اللسانيات، أما فوكو فقد توجه إلى التاريخ، وبالتحديد إلى حقول لم يتمّ استطلاعها أو سبرها من قبل في الحضارة الغربية، مثل الجنون، المعتقلات، الأرضية المفهومية لعلم البيولوجيا، تاريخ الطب، الخ...

3 ـ الجنون في ظلمة الأنوار:
أرى أنهم لم يَتَجنّوا على فوكو أولئك النقاد الذي تفطنوا إلى أن السمة المميزة لتفكيره هي معاداة العقلانية، والتشكيك في الروح الوضعية والأنوار. فكتابه الذي نحن بصدده، هو في العمق دفاع عن تجربة الجنون في ذاتها، عن اللاعقل، مقرون بمقولات نيتشوية واضحة، ومطروز بتقنية مَدرَسة الحوليات. أما أسلوبه في الكتابة وطريقته في التعبير فهي مخاتلة كما وصفها ميركيور، من حيث «الجمع بين التدقيق وإثارة الوجدان. بهذا النثر ذي الطلاء الأدبي فهو يحصل على ما يصبو إليه، أي يروي ويُدين في نفس الوقت(24)». ولكن المرمى الأساسي لفوكو هو إعادة اعتبار اللاعقل بإحياء أساطير التراجيدي، ثم التقليل من شأن العقلانية بل واتهامها بالقهر والتسلّط خصوصا في عصر الأنوار. تاريخ الغرب في تعامله مع المرضى العقلانيين، هو كلّه تاريخ تهميش واضطهاد، أما التقدّم المزعوم هو ليس إلاّ تقهقرا.

عصر النهضة أعاد للجنون صوته لكنه تحكّم في مصادر عنفه، أما العصر الكلاسيكي فقد جاء لكي يُسكته بقوّة. الفيلسوف العقلاني ديكارت، صنّف الجنون في خانة الحلم وألقى عليه كلّ أشكال الخطأ. فالجنون ـ حسب تأويل فوكو لديكارات ـ مَقصيّ عند الذات التي تشك، كما سيكون من المستحيل ألاّ تفكر هذه الذات أو تكون منعدمة الوجود(25). لقد حصّن العقل نفسه ضد الجنون، وزال خطره من الممارسة العقلية «إن شك ديكارت يتخلص من سحر الحواس، ليخترق عالم الحلم، نبراسه في ذلك الأشياء الصحيحة، إلاّ أنه يُقصي الجنون باسم ذلك الذي يشكّ، ولا يستطيع أن يخرج عن العقل وأن لا يفكر وأن يكون منعدم الوجود(26)». وابتداء من هذه الفترة «استُبعد الجنون نهائيا». لقد حدثت قطيعة أو، كما يسميها فوكو، أقيم خطّ فاصل (une ligne de partage) تستحيل معه إمكانية تلك التجربة التي كانت سائدة في عصر النهضة وبمقتضاها يتداخل العقل واللاعقل(27).

لقد ابتدع العصر الكلاسيكي دُورََ حَجزٍ واسعة (vastes maisons d internement) أُسست لغاية تدجين ظاهرة الجنون ولعزل أولئك الأفراد، أي المجانين، من المجتمع كشريحة من الناس غير قابلة للتأقلم مع محيطها. ولم يعثر الطبيب بينيل (Pinel) والطب النفسي عامة، على المجانين إلاّ داخل أماكن الحجز تلك. هنا تتنزّل أحكام فوكو وإدانته للأطباء النفسانيين: لقد وجد هؤلاء الأطباء المجانين في تلك الأماكن، لكن لا يجب أن ننسى أنهم «سيتركونهم هناك، وهم يَفتَخِرون بكونهم "خلّصوا" هؤلاء المجانين(28)». هذا الموقف الإقصائي، حسب فوكو، هو في تضارب مع وضعية المجنون في القرون الوسطى، من حيث علاقتها بالرحمة والبؤس. فإذا كان المجنون يُنظر إليه كشخصية مقدّسه، وله حضور مألوف داخل عالم إنسان القرون الوسطى، فذلك راجع، في نظر العمل الخيري القروسطي، إلى كونه يُحيل إلى سلطة غامضة للبؤس، «كان يُنظر إليه باعتباره آتيا من عالم آخر». أما في العصر الكلاسيكي فهو يمثل فقط مشكلة بوليسية في علاقة بنظام الأفراد في المدينة: «كان يُستقبل قديما لأنه آت من عالم آخر، والآن يُقصَى لأن مصدره الأرض وليس شيئا آخر، ويُصنّف ضمن الفقراء والبؤساء والمشرّدين». النتيجة هي أن المجنون تم عزله وتحييد خطورته على الفضاء الاجتماعي «لقد خرج من دائرة الذين لهم الحق في الصّدَقة، ونُزعت عنه حالة التمجيد وأصبح مع الفقر والبطالة، تجلّيا من تجلّيات الجدل المُحايث للدّول(29)». التاريخ كما يرويه فوكو من خلال ظاهرة الجنون ليس فيه تقدّم البتة، فهو يَسير تراجعيّا من حسن "نسبيا" إلى سيّئ على الإطلاق. في نهاية القرون الوسطى كان هناك نوع من التعامل الطبي الإنسانوي مع شخصية المجنون، وليس من المستحيل، حسب رأيه، أن يكون تحت التأثير المُحدِّد للشرق والفكر العربي، حيث أسست هناك مستشفيات للمجانين(30). لكن في العصور اللاحقة لم يتم تطوير نظرة تحررية للمجنون وبقيت وضعيته في حالة دونية.

ما يُميز القرن السابع عشر، ليس هو سَيره الحثيث في طريق الاعتراف بالجنون، ومِن ثمّ إلى الاعتراف العلمي به، بل بالعكس، وقع إدماجه في بوتقة لا يُمكن تمييزه فيها، بحيث إنه حُبِس مع مرضى التناسل، والملحدين والجنسمثليين، وفقَدَ بذلك من شخصيته المُتفرّدة حتى ضاع في أجمة اللاعقل. فوكو يُطمئن القارئ بأنه لا يريد أن يَحكم على هذه التجربة هل كانت تَقدّمية أم رجعية لأن غايته هي الكشف عن مصير وبنيات تجربة الجنون كما تعاملت معها الفترة الكلاسيكية «وذلك من خلال تحديد المراحل الزمنية والتتابعات التاريخية»، وبالتالي فإن الأمر «لا يتعلق بحكم قيمة، ولا بتسجيل سلبي لإفلاس المعرفة(31)». لكن في حقيقة الأمر، وعلى الرغم من تطميناته هذه، فإن الكتاب يَعجّ أحكاما قيمية، بل يزخر استنكارا وإدانة، وذلك لأن فوكو لديه إطار مرجعي "قيمي" أوَّلَ من خلاله التاريخ والأحداث، بحيث غدت العصور الحديثة، التي يتباهى بها التنويريون، مجرّد حلقة في سلسلة من التهميشات والاقصاءات. الحداثة الغربية، بكل ترساناتها العلمية، لم تُحرّر المجنون بل زادت في نَكَده وتهميشه. وعقل التنوير والمادية والإلحاد الذي يُمثل أعظم كسب لأوروبا في ميدان التحرّر الديني الاجتماعي هو أيضا قَهر للجنون.

الشخصية الرمزية لعالم التنوير هي فولتير (Voltaire)، لكن فولتير طرَد المجنون، جعل منه الآخر المختلف، النشاز، الحالة الخاصة: بين المجنون والشخص الذي يقول هذا مجنون أحدِثَت هوّة كبيرة. الجنون أصبح ينتمي إلى مقولة الإضافة (le relatif) ومَدحور في القطب الآخر من العالم. هذا الشكل الجديد من الوعي، دشّن ـ حسب فوكو ـ صنفا مُستحدَثا من العلاقة بين الجنون والعقل «لا يتعلق الأمر بجدلية متواصلة، كما كان عليه الأمر في القرن 16، ولا بتقابل بسيط ودائم، ولا بدقة الفعل كما كان سائدا في بداية العصر الكلاسيكي. فمن جهة، لا يوجد الجنون إلاّ في علاقته بالعقل، أو على الأقل في علاقته بالآخرين الذين في عموميّتهم يُمثلون العقل ويمنحونه قيمة ضرورية. ومن جهة ثانية فهو موجود من أجل العقل(32)». إنها علاقة مزدوجة مع العقل: عقل مأخوذ كمعيار، وعقل محدَّد كذات للمعرفة. لكن إن اعترض أحدهم بأنه في كل عصر، كانت هناك طريقتان لإدراك حقيقة الجنون: إحداهما أخلاقية على قاعدة المعقول، والأخرى موضوعية طبّية على أرضية عقلانية، فإن فوكو يدعم هذا الاعتراض مقدما مثال شيشرون، حيث كان هناك بالنسبة إليه جنون في شكل معقول (insania) وجنون في شكل عقلاني (furor) لم تقدر حتى النزعة الأخلاقية لشيشرون على الخلط بينهما. الحدث الجديد الذي طرأ في القرن الثامن عشر يتمثل في نوع من الزحزحة التي أدت ببنيتي المعقول والعقلاني إلى التلاحم والانصهار في وحدة تُجَابه وحدة أخرى.

كيف استطاع فوكو أن يُدرك الروح الجديدة السارية في القرن الثامن عشر إزاء ظاهرة الجنون؟ ما هي النصوص، الأحداث، الأفكار المدعّمة لهذا المنعرج؟ النصوص قليلة، بل شحيحة، وفي بعض الأحيان مُختلقة. مِن موسوعة التنويريّين، يُقدّم تعريفا مبتورا، ومُجتثا من سياقه يرى أن: «الانزياح عن العقل دون معرفة ذلك، لانعدام الأفكار، معناه الغباء. الانزياح عن العقل والوعي بذلك، لأننا تحت نير عبودية هوى عنيف، معناه كون المرء ضعيفا. أما الابتعاد عنه بثقة وباقتناع تام، فهذا فيما يبدو هو ما نُطلق عليه الجنون». فوكو يقول بأن هذا التعريف غريب (étrange définition)، ولكن، على غرابته، نجد فيه نصف مخبّأة كل الحركة التي حدّدت لاحقا طريقة التفكير في الجنون. هذا النص المقتضب يدلّ على أن التصوّر الجديد يرى أن المجنون لا يُمكن أن يكون كذلك بذاته، بل فقط في أعين طرف ثالث، هو الوحيد الذي يستطيع أن يُميّز بين العقل، وممارسة العقل.

الروح العلمية المُساوقة لهذه النظرة المتميّزة بِبُعدها التّصنيفي، ساهمت في بروز وتطوّر طبّ خاص حيث الزوج طبيب ـ مريض سيُصبح فيه العنصر المكوّن. هذا الزوج، بالصور الخيالية التي يتواصل بها هو الذي سيُنظّم عالم الجنون وفق أنماط جديدة «إنّ علاجات التسخين أو التبريد أو الإنعاش أو التهدئة، كل هذا العمل المشترك بين الطبيب والمريض وكل الانجازات المخيالية، ستنبعث منها أشكال باثولوجية، ستعجز التصنيفات عن استيعابها(33)». الحصيلة هي أن القرن الثامن عشر تتقاسمه ظاهرتان: هناك من جهة وعي يزعم معرفة المجنون دون واسطة، ومن جهة أخرى علم يدّعي تقصي كل أشكال الجنون بما فيه كل الأعراض التي تُظهر حقيقته. بين الجهتين لا شيء، الفراغ. الغائب عن الساحة هو العلاقة الرابطة بين المجنون وجُنونه: المجنون والجنون غرباء الواحد عن الآخر. اللاعقل هو هذا. أليس الحجز هو بالصيغة المؤسساتية لهذا الفراغ بين المجنون والجنون؟ وهنا يُسرّح فوكو خياله ويُطلق عنان خطابته الأدبية إلى درجات عليا (انظر الصفحات: 225 ـ 227 من الترجمة العربية).

4 ـ دفاعا عن التنوير:
ضربات فوكو أصابت رمزا كبيرا من رموز التنوير والمادية، أعني الفيلسوف فولتير، من خلال مقاله عن الجنون في المعجم الفلسفي. لكني أتساءل: أمِن واجبنا أن نخجل من القول بأن العاهات النفسية ناتجة عن أعراض في الدّماغ؟ هل من الحصافة في شيء إدانة من يتبنى هذه المقولة، أو النكران عليه؟ لو جاز لنا إدانة فولتير على هذا الرأي لجاز أيضا إدانة جالينوس وابن سينا وجميع أطباء العهد القديم وصولا إلى علماء النفس المحدثين. ثم هل من الضّرر في شيء ربط التأثيرات النفسية بالجهاز العصبي، كما فعل فولتير حينما قال بمنطقه المستقيم: "المجنون هو مريض يشكو دماغه من خلل، مثلما هو أمر المصاب بالنقرس الذي يشكو من آلام في رجليه، دون أن يعرف شيئا لا عن عجزه غير المفهوم عن المشي، ولا عن عجزه غير المفهوم عن التفكير". إلاّ أننا لو تمعنّا بعمق في نص فولتير لأدركنا أن هذه ليست بفكرته الشخصية، لقد طرحها كفرضية من بين الفرضيات الأخرى، ثم أخضعها لنقد صارم، بل إنه عمد إلى إعطاء الكلمة للمجنون وبيّن في الأخير أنه هو الناقد بِجدٍّ لأطروحات العقلاء الذين يزعمون إعطاء تفسير عقلاني لجنونه. لا واحدة من التفسيرات المقدَّمة تَخرُج سليمة من مَكَنَة نقده، لا واحدة منها تستطيع تعليل ظاهرة فقدان العقل. وأخيرا فولتير، مفعّلا باقتضاب أدبيات الجنون الساخر، يصل إلى نفس النتائج التي توصّل إليها إيرازم، وهو أن المجنون قد يكون في جنونه أعقل من العقلاء.

الروحانيون يرون أن النفس هي جوهر خالص، غير خاضعة لأي نقص مَهمَا طرأت على البدن من عاهات خارجية. لكن ـ وهنا يكشف فولتير التناقض ـ إن كانت النفس خالصة كما تزعمون ولا يضرّها شيء مما يحدث للبدن، لِم يُبعَثُ بها هي وظَرفها إلى دار المجانين (Petites ـ Maisons)؟(34).

أما الإحساسيون فهُم لا يرون أي فارق بين الملكات الذهنية والحواس لأنهما يَخضعان لنفس التأثيرات بحيث أن «المجنون هو مريض يشكو دماغه من خلل، مثل المصاب بالنقرس الذي يشكو من آلام في رجليه». هذه هي الجملة التي أوّلها فوكو على أنها رأي فولتير في الجنون، ومنها استخلص مُجمل نتائجه. لكنه لو تابع سياق الجملة، ولم يبترها، لرأى بأن فولتير يتحفّظ إزاء هذا الرأي. وفعلا، يقول بالحرف: «بعد ألف تخمين، ربما ليس هناك إلاّ الإيمان كي يُقنِعنا بأن جوهرا بسيطا وغير مادّي يمكن أن يَكون مريضا(35)». فولتير يحاول في نصه إظهار التهافت الفكري، وبَسْط التناقضات المنطقية التي غالبا ما يقع فيها الحكماء أمام المجنون الذي يبدو أحْكَمهم، وأكثرهم حصافة. يقولون له إن نفسه، على الرغم من فقدانها الحس السليم، لا تَقلّ نقاوة وخلودا من نفوسهم، لكنها نازلة في مكان غير مُلائم، في منزل مغلق النوافذ، يَنقصه الهواء. المجنون يردّ مبينا الدور المنطقي الذي سقط فيه هؤلاء الحكماء: فهم يفترضون ما هو موضوع المسألة، أي يسلّمون بما يجب البرهنة عليه. المجنون يعترض مرة أخرى قائلا: إنّ نوافذ روحي مفتوحة مثلكم، أرى نفس الأشياء التي ترونها وأسمع نفس الكلمات التي تسمعونها، وبالتالي «يجب أن تكون نفسي هي التي تستعمل حواسها استعمالا سيّئا، أو أنّ نفسي ليست في ذاتها إلاّ حسّا مُشوّها، كَيفًا مُتَفسّخا. في كلمة واحدة، إما أن نفسي مجنونة بذاتها، أو ليست لديّ نفس بالمرّة(36)».

لكن اللاهوتي قد يتدخّل لكي يُواسي المجنون زاعما بأن الله ربما خلق نفوسا مجنونة كما خلق نفوسا صحيحة بمحض إرادته. هذا اللاهوتي الجبري لا يُقنع المجنون الذي يَردّ بأنه لو اعتقد في هذا الرأي لأصبح أكثر جنونا مما كان عليه، ثم يسأله: «أنت الذي تعرف الرحمة أكثر من أي شخص آخر، اخبرني لماذا أنا مجنون؟». عند هذا الحدّ يقول فولتير: إن بقي شيء من الورع والتواضع في حوزة هؤلاء الحكماء اللاهوتيين لأجابوه هكذا: "نحن لا نعلم شيئا". إنهم لا يفهمون كيف أن دماغا يمكن أن تَعتَمِل داخله أفكار متهافتة وغير مُنسّقَة، وأكثر من ذلك، فهُم لا يفهمون كيف يُمكن لدماغ آخر أن تَكون فيه أفكار مُتماسكة ومُتّزنة. ضَعُف الطالب والمطلوب، لقد عَجزَ جميع العقلاء عن الإجابة، هؤلاء الرجال «يعتقدون بأنهم حكماء ولكنهم مجانين مثله(37)». المجنون أخيرا، حيث يتكلم باسمه فولتير، يُلقنهم درسا في أخلاقيات الجنون: «مساكين هؤلاء الناس الذين لا يمكنهم معرفة سبب مرضي ولا معالجته. ارتجِفوا من أن تَصِيروا مثلي تماما، أو أن تَفُوقوني حتى. أنتم لستُم في منزلة أشرف من ملك فرنسا شارل السادس، وملك إنجلترا هنري السادس والإمبراطور فينكيزلاس (Venceslas) الذين فقدوا ملكة التفكير في نفس القرن. أنتم لا تملكون روحا أكثر من بليز باسكال، جاك أبّادي وجُونثان سوِيفت الذين ماتوا ثلاثتهم مجانين. على الأقل هذا الأخير أسس لنا مستشفى(38)».

كل محتوى النص المُقتضب، ولكنه ثريّ بالأفكار العميقة والسخرية الثاقبة التي اعتادها فولتير، يُلخّصها فوكو في هذه الجملة وهو أن «فولتير يَخلص إلى أن الجنون ليس إصابة للحواس لأن الروح، بطبيعتها، ليست من نظام الحواس، إنها مختلفة عن كل الحواس وعضوها الرئيس هو الدماغ». هذا خطأ فادح، كما بيّنتُ أعلاه، لأن فولتير لا يُقرّر، لا يأخذ موقفا، بل إنه يَعرض الآراء الأكثر شهرة لكي يُجريها على مِشرَحة النقد، يَسخر من الحكماء التقريريّين، ومن جمهرة اللاهوتيين ويجعل من المجنون أحْكَمهم وأبلغهم حصافة. لكن فوكو لا يعبؤ بالنصوص بقدر ما يَهمّه إظهار التسلسل والتقهقر في مسار الفكر الغربي، ثم إصدار حكمه النهائي. فولتير حسب رأيه: «قد انزلق، دون أن يدري، من مشكلة طبية...إلى قضية فلسفية لا يُمكن بالحق أو الواقع أن تَحلّ مَحلّها (...) ولكن نص فولتير من خلال ما يشتمل عليه من تناقض ومن تعسّف، والاستعمال المفرط والقصدي للخدع، لا يملك صفة التمثيلية فيما يتعلّق بتجربة الجنون بما كانت تشتمل عليه في القرن 18، من حيوية وكثافة وسمك(39)».

*     *     *

الأمر المُقلِق عند فوكو، كما أكدتُ أعلاه، هو تعريجه على التاريخ كما لو أنه حركة تراجعيّة خالية من أي نوع من التقدّم، بل هو وَمضات متقطّعة اللاحقة منها أبشع من السابقة. لكن إذا خرجنا من النطاق الضيّق الذي حصر فيه فكر التنوير والمادية، فسنحصل على مشهد رائع، وأفق رحب من التقدّم الأخلاقي الذي يهمّ الإنسانية عامة، وخصوصا منها الإنسانية المقهورة، أعني العبيد وسود إفريقيا. الوثائق التاريخية والأدبيات الفلسفية المساوقة لها تثبتُ بما فيه الكفاية أن القرن الثامن عشر شهد في فرنسا ثورة فكرية إنسانوية ذات صدى بعيد. ويبدو أنّ نزعة الرفق بالإنسان (philanthropie)، مهما كان هذا الإنسان، ومن أي جهة أتى، التي تسربّت إلى أذهان المفكرين الشبان في نهاية القرن الثامن عشر، نابعة من تأثيرات فولتير نفسه، أي مِن فولتير المدافع عن المضطَهَدين، والحَامي للأبرياء المَتهُومين ظلما. لقد سرّب في الجيل الذي جاء بعده بقليل هذه الروح المدنية الأخلاقية، التي في الأخير تُرجمت إلى التزامات سياسية عينية(40). كوندورسيه (Condorcet) الذي عاصر فولتير في أواخر حياته كان من بين المعارضين بالقول والفعل للعبودية. وهو كمثقف كوني من بين الأوائل الذين كان لهم الفضل في إثارة تلك المسألة أمام الرأي العام آنذاك، في فرنسا وفي أوروبا. لقد وَضَع الوعي الأخلاقي الغربي أمام مسؤولياته في أبشع أنواع المتاجرة: «كم نحن متهافتون في أخلاقنا وفي مبادئنا. نحن ندعو للإنسانية، وكل سنة نكبّل بالأغلال عشرين ألف من مواطني إفريقيا!(41)». وفي كتابه الذي خصصه لعرض وإدانة العبودية، كوندورسيه، يقدّم كل الحجج النظرية والعملية لنقض العبودية وإظهارها على وجهها الحقيقي، أي كمؤسسة عدوّة للإنسان ومذلة لكرامته(42). المفكّر بريسو (Brissot) التزم بأكثر حزم بالدفاع عن الحقوق المدنية والأخلاقية للسود، ناقدا التصوّر العنصري الذي يرى فيهم عرقا متخلّفا بالطبع. بريسو يُفكك كل هذه المزاعم ويرى أن التخلّف لا يعود إلى طبيعة الأسود بل إلى مجرد عوامل تاريخية واجتماعية. ولكي يدعم هذا المنحى الإنسانوي الجديد فإن بريسو أسس بمعية مجموعة من المثقفين «جمعية أصدقاء السود (Société des Amis des Noirs)» للمساهمة في تحريك الرأي العام وتوعيته بالانتهاكات التي يخضع لها الأفارقة. الوثيقة المؤسسة لهذه الجمعية جاءت على شكل إدانة متحمّسة للعبودية، ومن المحتمل جدّا أنها دوّنت من طرف كوندورسيه. إن خطورة مسألة استعباد الأفارقة والمتاجرة بهم تفرض التزاما مباشرا وعاجلا لا يمكن تأجيله أو التراجع عنه، ذلك على الرغم من الصعوبات التي يجابهها مشروع من هذا القبيل. المحرّر يعترف بالمصاعب وحتى العراقيل التي لاقتها جمعيّة فتيّة للقيام بمهامها الإنسانية، ولكن، على الرغم من كل العوائق السياسية والمصلحية التي تقف أمام تحقيق هذا المشروع يجب التذكير، يقول المحرر: «بأننا لسنا أمام طبقة محدودة من التعساء التي يجب تحريرها، بل أُمَمٍ بأسرها، إنها جزء من العالم مسحوقة تحت ثقل أغلالها، تطالبنا بالحقوق المقدسة للإنسانية(43)». نحن هنا، كما يعلّق الدارس الإيطالي مورافيا (Moravia)، في مستوى إعلان "المبادئ الخالدة لسنة 1789" وباسم هذه المبادئ غدت إشكالية محدّدة، كإشكالية العبودية، عند كوندورسيه وأصدقائه، مطروحة كمسؤولية جماعية على الضمير الإنساني. فعلا «الإنسانية بأسرها يَهمّها مناقشة النظام الحالي(44)». لقد ناهضوا بصريح العبارة المركزية الأوروبية، ومُركّب الاستعلاء المتمكّن من ذهنية الإنسان الأوروبي في تعامله مع الشعوب الإفريقية. الإنسان الأوروبي هو المسؤول عن عذابات الرجل الإفريقي، عن تخريب أخلاقه، وجعله في مكانة دونية: «بعد حرمان الأسود من كل ملكاته الأخلاقية، اعتبرناه ينتمي إلى أمة أسفل منّا، ولذلك فإن مصيره هو حمل أغلالنا. ما هذا الخليط الفظيع من الجور والوحشية!(45)». أمام هذه الوضعية يجب التحرك وفضح المعاملات اللاإنسانية، الإهانات والانتهاكات المتواصلة التي يقترفها الغرب في حق السود الأفارقة. ولفعل ذلك فإن جمعية أصدقاء السود كَوّنت شبكة من الارتباطات مع نوادٍ أخرى ملتزمة هي أيضا بالكفاح ضد العبودية. لم يكتف هؤلاء المثقفون الكونيون بهذه الإجراءات بل إنهم تحركوا على صعيدين: الأول صعيد الرأي العام لمحاولة تغيير العقليات ضد المصالح الوضيعة (bas intérêts) والأحكام المسبقة التي تعارض مبادئ الإنسانية. الثاني، على صعيد القرار السياسي حيث أنهم توجهوا إلى الدولة عارضين عليها المساهمة في تغيير تلك الوضعية المزرية وذلك بجمع كل المعطيات (rassembler tous les faits)، والتحري منها، وطرح الخطط الجديرة بتغيير النظام الحالي: إنها الثقافة العلمية، كما يعلّق مورافيا، في خدمة القضايا الراهنة للإنسانية، فالفكرة الموجهة والمصطلحات المستخدمة نابعة من روح الذهنية الوضعية: تجميع الوقائع، تحليلها، مقارنتها، القيام بحسابات وبيانات، تحديد مخطط العمل الذي يحتوي ضمنيا على حل للمسألة المطروحة: «إنها الفلسفة (la philosophie) التي تتقدم لكي تضيء (éclairer) بأنوارها (lumières) السلطة السياسية(46)».

أما على الصعيد الثقافي فإن هذه الحركة الناشطة ضد العبودية جلبت لها التأييد من بعض كبار المثقفين آنذاك. ميرابو (Mirabeau) مثلا يُدين بعبارات نارية مؤسسة العبودية: «المتاجرة بالسود لا يمكن إدانتها بعبارات صارمة جدّا. إنها تجارة مُهينة للإنسانية، وحشية، كافرة، شيطانية(47)». هذا هو مثال المثقف الكوني الذي يُلقي بنظره بعيدا، ويهتم بالإنسانية جمعاء وبعذابات المقهورين في كل رقعة من الأرض. ديستوت دي تراسي (D. de Tracy) أحد كبار هؤلاء المفكرين، دخل هو نفسه المعمعة وخاض معركة الدفاع عن العدالة بحصافة ودقة كما يصفها بريسو تبقيان مثالا للإنسان المستقيم. ومن المتوقع أن يهبّ ريح هذه الثورة التنويرية ويؤثر حتى في الإنتاج الأدبي، حيث اعتمد أصحابه نهج الرواية للتعبير عن التحولات الجديدة. تلك مثلا كانت الحال مع المفكر والقاص سيباستيان مرسييه (S. Mercier) الذي كانت تربطه صداقات ودّية بالفلاسفة. وقد كتب في روايته الطوباوية "عام ألفين وأربعمائة وأربعين" صفحات يصف فيه تمثال رجل أسود وُضع في الساحة العامة: مكشوف الرأس، مبسوط اليدين، فخور العينين، مهيب الاستقامة، وقد كُتب تحت قدميه: «إلى المُنتقِم للعالم الجديد!(48)». لقد خلقت الطبيعة، أخيرا، هذا الإنسان الباهر، هذا الإنسان الخالد (cet homme immortel) الذي جاء ليُخلّص العالم من الطغيان الأكثر وحشيّة، الأطول أمدا، والأكثر إهانة. عبقريّته، شجاعته، صبره، عزمه، انتقامه الفاضل كُتب لها النجاح: لقد كسّر أغلال بَنِي وطنه. الكثير من العبيد المضطهَدين تحت أبشع أنواع العبودية لا ينتظرون منه إلاّ إشارة واحدة، لكي يخلقوا أبطالا. لقد حرّروا رجالا وانتقموا لشعوب مضطهَدة، والكل بفضل هذا الرجل الباهر الذي نزل كالصاعقة على المدينة الظالمة. إنه مَلك الموت الذي مَنحه إله العدالة سيفه: لقد قدّم البرهان على أن الوحشية ستُعاقَب عاجلا أم آجلا، وأن العناية تَختَزن مثل هذه الأنفس القوية وتُرسلها إلى الأرض لكي تُعيد القسط الذي أتلفته ضراوة الجشع(49).

*     *     *

وبخصوص الإشكالية التي تهمنا في هذه الصدد، لعلاقتها المباشرة بموضوع كتاب فوكو، أعني حالة المرضى ووضعية المِصَحّات في ذاك العصر، فإنه كما رأينا موقف المثقفين الحازم بشأن العبودية، كذلك لا يمكن أن تغيب عنهم الحالة الصحية والأوضاع المزرية التي يعشها المعوزون. واحد من بين الذين تألقوا في هذا الميدان هو المفكر كابانيس (Cabanis)، الذي درس الطبّ وتشبّع من مبادئ فلسفة التنوير، وقد دوّن ثمرة بحوثه الميدانية في كتاب بعنوان "ملاحظات حول المستشفيات" (50). إن الأوضاع الصحية وحالة المستشفيات كانت من بين المشاكل الخطيرة التي يعاني منها المجتمع الفرنسي آنذاك، ولقد اختار كابانيس هذه الإشكالية بالذات التي كانت محل درس ونقاش في الدوائر الحكومية وبين المثقفين، لِمَا تجمعه في ذاتها من هموم علمية واجتماعية سياسية. الفكرة المحورية هي ضرورة إصلاح المستشفيات وجعلها أكثر فاعلية، وذلك بالتخلي عن النظام البُنياني القديم، أي باتخاذ وحدات صحية صغيرة موزعة على نطاق واسع لكي يتوفّر العلاج لأكبر قدر ممكن من المواطنين. أجمل الصفحات ـ كما يقول المفكر الإيطالي مورافيا ـ من كتاب كابانيس هي تلك التي يكشف فيها للرأي العام الوضعية المزرية للمستشفيات: المرضى يُرمون جميعا في غرفة واحدة، ينامون على أسرة مكتظة بحيث أنهم يتنفسون ويلامسون بعضهم بعضا في مشهد مقرف، عيادات الأطباء وفحوصاتهم للمرضى سريعة وغير دورية، النظام الغذائي ناقص، أما النظام العلاجي فهو عام ومساوٍ للجميع بدون تخصيص، أو إدراك للضرورات الفردية. هذه الطرق في العلاج مربوطة بتصورات طبية قديمة عفا عليها الزمن. كل مريض، يؤكد كابانيس، يحتاج إلى معاينة خاصة وعلاج مناسب لحالته الشخصية. المحافظة على النظافة غائبة من هذه المستشفيات ولا يوجد فيها حتى أدنى مستوى لحفظ الصحة. إن المستشفيات الكبرى عوضا أن تُعالج وتُداوي فهي، نظرا لانعدام المحافظة على قواعد النظافة، أصبحت بؤرا لتفشي أمراض جديدة ثم نقلها إلى المجتمع. ولذلك فإن كابانيس ينصح العاملين على المستشفيات، لكي يكون الطب صالحا للمرضى ويقدّم لهم الخدمة اللازمة، أن يعمل الطبيب العام والجراح جنبا إلى جنب حينما تدعو الضرورة، يجب عليهما أن يقوما بزيارات دورية يوميا للمريض حينما يكون ذلك في مصلحته، وأن يُسمَح لهما بتنظيم غذائه وأدويته، وبتحديد كميتها وكيفيتها ووقتها. وعلى المرضى أيضا أن يتنفسوا هواء نقيّا، وأن تكون لهم أسرّة نظيفة ومريحة، وأن يكونوا مخدومين من طرف أشخاص يَجمعون بين العطف والصبر والتي بدونهما تُقوّى الآلام التي يُرغب في تخفيفها. على رأي كابانيس هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها في مستشفيات كبيرة ولكنها سهلة المنال في مصحات صغيرة.

ومن جهة أخرى فإن كابانيس يُركز على فكرة أن المشاكل الصحية مرتبطة بالحالة الاجتماعية والسياسية في البلاد. فعلا، ضعف المساعدة الاجتماعية هو مؤشر على أزمة عامة في المؤسسات الحكومية، فالنقائص التي يعتبرها البعض تخص المستشفيات وحدها، هي على العكس من ذلك، تابعة لأسباب أشمل «تؤثر في المجتمع بكليته(51)». وهذه الأسباب هي بالدرجة الأولى أسباب مادية: إنها المرض الأكبر (la grande maladie)، كما يسميها كابانيس، للدولة المتمدّنة، وتتمظهر في سوء توزيع القوى السياسية، والفوارق المذهلة في الثروات. هنا، يكمن المنبع الأصلي لكل الاضطرابات الاجتماعية والكوارث التي تُرافقها، ويضيف بأن الفوارق الكبرى ليست مفروضة من الطبيعة وإنما هي نتاج نهج سياسي معيّن(52). ضد هذه الأوضاع المتدنية فإنه، كمثقف ملتزم، يتدخّل لكي يُحمّل الدولة مسؤولياتها في تغيير الوضع الاجتماعي ومساعدة المعوزين. فاللامساواة المستفحلة في صلب المجتمع لا يمكن السكوت عنها لأنها مُحقّرة لإنسانيّة الإنسان: إنها وحشية، طغيانية وكارثية (cruelles, tyranniques, désastreuses). ولذلك فالواجب الملحّ للدولة هو العمل على القضاء عليها وعلى المؤسسات المتسبّبة فيها أو الناتجة عنها. إذا كان الفقراء مواطنين مثل الآخرين فهم ينتمون عن جدارة لنظام الدولة، وبالتالي «فإن المساعدات التي تضمنها لهم القوانين تمّ التصويت عليها باسمهم: يجب أن تُمنح لهم لشمولية المساهمين فيها(53)». وبخصوص المجانين فإن موقف كابانيس كان متقدما جدّا، ويُعتبر ثوريا في ذاك الوقت: فبِحُكم دراساته الطبية واطلاعه المباشر على وضعية المِصحّات، وربطه علاقات مع الأطباء المختصين ومنهم الطبيب النفساني والفيلسوف بينيل (Pinel) الذي شن عليه فوكو حملة في كتابه الذي نحن بصدده، استطاع أن يشخص بدقة المعضلات ويقترح الحلول المناسبة.

لقد طرح كابانيس جملة من المسائل الحساسة بخصوص المرضى العقلانيين مؤكدا على ضرورة أن يتمتّع المجنون بحقوقه الإنسانية والاجتماعية التامة: لا ينبغي إطلاقا خلط الحالة الصحية الطارئة بالوضعية القانونية للمريض، وبالمثل لا يجب استغلال سلطة الحَجْر لأسباب غير طبية، وأخيرا يجب تخويل الأطباء المختصين فقط الحق ـ الواجب في الحكم على الصحة العقلية لمرضاهم الذين هم تحت العلاج. لم يكتف بهذا، بل إن كابانيس وجّه اهتمامه إلى المساجين ووضعية السجون عامة، وذلك طبقا لنظرة إنسانوية تنويرية. فعلا، فهو كأحد أتباع الفيلسوف المادي هيلفيتيوس (Helvétius) يرى أن الأخطاء المقترفة من طرف الفرد تعود، في جزء كبير منها، إلى مسؤولية المجتمع، وبالتالي فمن الواجب التعامل مع المذنبين بحسب المبادئ الإنسانية، فَهُم أناس تعساء وفي غالب الأحيان، لم تُخَرَّب أخلاقهم إلاّ من طرف رذائل القوانين ذاتها.

السمة المميزة للنظرة التنويرية التي حكمت كتابات كابانيس تكمن في تأكيده الدائب على الرابط الوثيق بين وضعية اجتماعية محدّدة والحالة السياسية العامة. الفيلسوف الشاب انطلق من مشاغل إنسانية عينية وراح يطوّر تلك المشاغل للوصول بها إلى زاوية سياسية بحتة. انطلاقا من تحليل الأزمة الصحية في المستشفيات، ومن إدانة تَخلّف نظام السجون، ارتقى إلى نقدٍ حماسي موجه ضد عدم التوازن الاجتماعي والسياسي. وهذا ـ حسب الدارس الإيطالي مُورافيا ـ هو تطوّر ضروري «إنه تطوّر ممّن اكتسب وعيا، في اللحظة المناسبة، بضرورة المرور من مرحلة الإدانات للتقاليد إلى الالتزام السياسي والثوري(54)».

5 ـ خَطابة الجنون:
إذا عدنا إلى نص فوكو لا نجد شيئا من هذا القبيل ويبدو، إن لم أخطئ، أن السبب في ذلك هو انشغاله بإدانة التنوير والعقلانية، وانتقائه بعض الجمل والفقرات من هؤلاء الكتاب الذين ذكرت، لتدعيم إداناته. لم يكونوا مجحفين، إذن، أولئك الذين رأوا في عمل فوكو، منافحة عن الجنون في ذاته، وأن تعريجه على الرجال والأحداث ليس إلاّ محاولة انتقاء مدروسة، لكي يُسيِّر كل شيء حسب مخطّطه المسبق. هذا الموقع الذي وضع فيه نفسه، جعله يتغاضى عن كل الإسهامات الجديدة التي قدمها رجال التنوير في سبيل تحرير الإنسان من العبودية، وهي إشكالية تمس الإنسانية جمعاء في ذاك العصر، كما بيّنتُ من خلال التزامات كوندورسيه التي ترجع في مثالها إلى فولتير، نموذج المثقف الكوني. ويمكن أن نحدس جدّة هذه الحركة الثقافية والفكرية إن قارنّاها بأفكار نيتشه بخصوص نفس الإشكالية، أعني مشروعية العبودية ومدى أخلاقية أن يملك ويستغلّ إنسان ما إنسانا آخر مثله. نيتشه أدان التحرّر وليس العبودية ومثاله، كما رأينا سابقا، هو ذاك العالَم الأسطوري الذي ابتدع جزءا كبيرا منه بمحض خياله وجعل منه المرجع الأساسي لما ينبغي أن تكون عليه المجتمعات الغربية المعاصرة، أعني العالم اليوناني القديم. فوكو الذي أعلى من شأن نيشته ووضعه كمثال يُحتذى به في التنظير والعمل، ثم رأى فيه رمز التحرّر من سجن العقل، كان عليه أن يُراجع هذه النقطة لكي يتيقّن من أنه أخطأ في الحسبان. لكن فوكو لا يمكن أن يفعل ذلك لأن منطلقاته ومسلماته لا تسمح له بذلك، فهو مهموم بإدانة الجميع: فلاسفة، أطباء، عصورا تاريخية بأكملها.

الأحداث والظواهر تمرّ من سيئ إلى أسوأ، أو تَنتقل من خارطة إلى أخرى دون تقدّم يُذكر. فالحركة الإصلاحية التي بدأت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر لم تَضطلع بإصلاح المؤسسات، أو تُجدّد في روحها، بل قامت بتحديد أماكن عزلة المجانين، بحيث أن «الجنون لم يُكسِّر دائرة الحجز، بل بدأ يَنتقل إلى مكان آخر ويَبتعد شيئا عنه. إن الأمر شبيه بإقصاء جديد يتمّ داخل الإقصاء القديم(55)». أما النقد السياسي للحجز فإنه لم يساهم مساهمة جديّة في تحرير المجنون، ولا شيء فيه يُنبئ عن اهتمام فيلانثروبي أو طبّي ذي نزعة تحررية إنسانية. لا، بالعكس لقد رُبط الجنون، أكثر من أي وقت مضى بالحجز(56). في هذه الفترة بالذات أحدِثت هوّة كبيرة في قلب الحجز، عَزلت المجنون، وأدانت كل من لا يندمج فيه ولا يتصف بالعقل. إن تواجد المجنون في دور الحجز أصبح يمثل ظلما، ولكن فقط للآخرين. أما بشأن المستعمرات، فإن فوكو، على عكس مفكري القرن الثامن عشر، ينظر إليها من زاوية أخرى، أي تقريبا من زاوية الرجل الغربي فحسب، وليس من منظور الرجال والنساء الأفارقة المختطَفين والمهجرين قسرا من بلادهم لكي يلاقوا في المستعمرات أبشع أنواع العذاب. يقول بأنه في سنة 1717، تزامنا مع تأسيس شركة الغرب، سيندمج اكتشاف أمريكا كلية في اقتصاد فرنسا «وتمت الاستعانة بالمحتجَزين...لقد أصبح الناس يُحبَسون لكي يُرسَلوا إلى الجُزر، يتعلّق الأمر ساكنة متحركة بأكملها لإبعادها واستغلالها في الأراضي المستعمَرة. وأصبح الحجز مستودعا يُوضَع فيه المهاجرون مؤقتا لكي يُرسلوا في الوقت المناسب إلى المنطقة المناسبة(57)». ولا كلمة واحدة عن الانتهاكات والعذابات التي لاقاها الأفارقة المستعبَدون في أمريكا.

أودّ أن أذكر القارئ بما قاله فوكو عن كتاب "تاريخ الجنون"، والتقييم البَعدي الذي أضفاه عليه. هذا الكتاب، حسب زعمه، أهمّيته لا تكمن في الحقيقة التي قدّمها بل في التأثير السياسي الذي أحدثه، وفي تغيير نظرة الناس لتجربة الجنون. إذن، طبقا لهذا الطرح، فإن الحقيقة تأتي في مرتبة ثانية أو ثالثة، ومكان الصدارة للجانب العملي المَصلحي. لكن هذا التقييم المابعدي من طرف الشخص نفسه لعمله، حتى وإن حالفه الحظّ في استحداث بعض التغييرات، لا يوافق تماما مجرى الأحداث، فكتابه أصبح مانفستو المناهضين للطب النفسي لأن مغزاه وهدفه هو الإجهاز على أية مقاربة علمية للظواهر النفسية، وخصوصا لظاهرة الجنون.

الجنون في العصر الكلاسيكي يبدأ حينما تُشوَّش علاقة الإنسان بالحقيقة، انطلاقا من هذه العلاقة الغامضة تبرز ملامح جديدة. الجنون، يقول زاكياس (Zacchias) يتمثل في عدم قدرة العقل على التمييز بين الصواب والخطأ. "عَمَى" هذه هي إحدى الكلمات التي تُعبّر بِجدّ عن ماهية الجنون الكلاسيكي(58) (l essence de la folie classique)، وهنا مرة أخرى ينهمر شلال الخطابة ليَجرف في وحله كل شيء. وأستسمح القارئ لإيرادي نبذة منه: «إنه يتحدّث عن تلك الليلة وعن شبه نوم يُحيط بصُور الجنون، ويمنحها، في صلابتها سلطة غير مرئية، ولكنه يتحدث أيضا عن الاعتقادات غير المؤسسة بشكل صحيح، وعن الأحكام الخاطئة وكل ذلك العمق المليء بالأخطاء الذي لا يمكن فصله عن الجنون. إن الخطاب الأساسي للهذيان يكشف بهذا، من خلال سلطاته المكونة، كيف أنه لم يكن خطاب عقل. وعلى الرغم من تناظرات الشكل، وعلى الرغم من دقة معناه، فقد كان يتحدث، ولكنه كان يفعل ذلك داخل ليل العمى، لقد كان أكثر من النص الرخو واللامُنظّم للحلم، لأنه أخطأ. ولكنه أكثر من جملة خاطئة، لأنه كان منغمسا في ذلك الظلام الشامل، ظلام النوم. إن الهذيان باعتباره مبدأ للجنون يشكل نسقا من الجمل الخاطئة في التركيب العام للحلم(59)».

في مقابل هذه الظلمة التي تُلحّف اللاعقل (الجنون) والنظرة التي تجمعه بالحلم والخطأ، هناك نظرة أخرى ترى فيه مجرّد عقل مُنبهر (raison éblouie). ولِوَصف هذا الانبهار فإن فوكو يَعمَد مرة أخرى لاستخدام تقنيته المعتادة، ألا وهي الخطابة الأدبية ذات النفح العرفاني، على الشكل الهايدغاري من خلال لعبة النور والظلمة: «إن الانبهار هو الليل في واضحة النهار، الظلام الذي يسود في قلب النور في حالاته القصوى. إن العقل المُنبهر يفتح الأعين على الشمس ولا يرى أي شيء، أي لا يرى. إن تراجع الأشياء نحو عمق ليل يلازمه في حالة الانبهار، له ملازم مباشر هو القضاء على الرؤية ذاتها. ففي اللحظة التي يرى فيها الأشياء تختفي في الليل السري للنور، فإنه يرى نفسه في اختفاءها(60)».

التراجيديا والفلسفة هي أكثر الفقرات نيتشوية في عمل فوكو، إنها تُحاكي بزخم من الخطابة الرنانة، وبأسلوب أدبي مُهَستَر، استيهامات نيتشه حول التراجيديا، بحيث يصيبنا حقا نوع من الغثيان. وللتأكّد من ذلك أدعو القارئ للإطلاع عليها (الصفحات 312 ـ 314 من النص الفرنسي، الترجمة العربية، صص: 264 ـ 267).

ثم لا تغيب، كما هو مرتقب، مصطلحات هايدغارية بحتة (اللاوجود، الموت، اللاحقيقة، القدر...)، ولكنها مُوَظّفة في مواضع غير مواضعها أو تبدو، في العديد من الأحيان، مُسقطة من السماء(61).

وليس أقل منها خبطا واعتباطية تأويلاته لشخصية ابن أخ رامو (Le neveu de Rameau)، فقرات كاملة تعجّ بخليط من الأسماء القديمة والحديثة، رايمون روسال، هولدرلن، نرفال، كل هذه الأجَمة من الأسماء، الغاية من ورائها إبهار القارئ، والمنافحة عن تجربة الجنون بإضفائها قيمة أدبية وفلسفية خارقة للعادة.

أنا أعتبر الأسلوب والمنهج والأهداف خارجة عن نطاق البحث الفلسفي الجدي، فهذه التقنية قد تكون، على الأكثر، دليلا على خيال خصب ومهارة في التركيب، لكنها تُضَحِّي بروح الفكر الفلسفي، هذا إن لم تُجهز عليه بالكامل. لكن علينا أن نسجّل لفوكو، على كل حال، مقدرته الرائعة في تطويع أحداث تاريخية ووثائق طبيّة لأغراض غير مُعلن عنها، أغراض نيتشوية هايدغارية، معادية للعقلانية والتنوير. وهذه الأغراض لا يمكن التفطّن إليها بسهولة أو حدسها من أوّل وهلة، فهي تطفو على السطح باحتشام، حيث يُسرّبها صاحبها على شكل قَطَرات، ثم تختفي لكي تعود مرة أخرى، وذلك في العديد من صفحات كتبه(62).

هذه الملاحظة لا بدّ من البوح بها لأن تقنية فوكو في التورية تضغط نفسيا على القارئ وتأرّقه حتى، أما أسلوبه في تسريب ما هو غير معلن عنه فإنه قد يستثير حساسية القارئ ويُدخل في ذهنه نوعا من البلبلة: القاعدة النظرية الغير معلن عنها والتي سيّرت تقريبا جميع تحليلاته هي الهايدغارية. لن أبالغ إن قلتُ بأنها عبثت بعقل فوكو ودمّرت حسّه الفلسفي، وذلك بانتشارها المكثف في دقائق عديدة من أعماله واكتساحها مجمل تحليلاته التي تبدو غريبة جدا عن مجال تفكير الفيلسوف الألماني هايدغر(63). فعلا، ما دخل المسائل الطبية بهايدغر؟ كيف يمكن الوصل بين تاريخ الطب ومقولات "الوجود والزمان"؟ مرّة أخرى نشهد لفوكو ببراعته في وصل ما لا يمكن وصله، في لمّ الشتات وجمع المتناقضات والمصالحة بينها.

في "مولد العيادة" ومنذ الكلمات الأولى يُعلن عن مشروعٍ تاريخي لَبِنَاتُه الأساسية مُصاغة من مفاهيم هايدغارية بحتة: "المكان، اللغة والموت(64)". عبارات هايدغارية من قبيل "إقامة الحقيقة في النواة المظلمة للأشياء"، "غياب فلسفة أولى"، عالم "القدر"، "لغة أصيلة"، "قرار الكلمة"(65). كل هذا جاء في مشروع معلن عنه بنوع من الزهو والأبّهة على أنه مبحث تاريخي وفي الآن نفسه نقدي، لتحديد شروط إمكان التجربة الطبية كما عرفها العصر الحديث(66). لكن في حقيقة الأمر ما يُهيمِن على هذا العمل هو شيء آخر: إنه استعراض لأغراض فلسفية وإسقاطها على مجال الطب وتاريخه. فعلا، إذا سلخنا من كتابه المعطيات الطبية التاريخية، فإننا سنحصل على مُركَّز من الهايدغارية، بل في العديد من الفقرات تختلط الأفكار الهايدغارية بالمعطيات التاريخية ولا ندري مَن يتكلم، أهو التاريخ أم هايدغر: «المرض يُنظر إليه أساسا في فضاءِ انعكاسٍ بلا قرار، وفي تلاقٍ دون تحوّل. لا يوجد إلاّ مستوى واحد ولحظة واحدة. الشكل الذي تتبدى فيه أصليا الحقيقة، هو السطح أين النتوء يتمظهر ويضمحل في نفس الوقت(67)». أما الخاتمة فهي الموضِع الذي تتمظهر فيه بجلاء مقولات هايدغر الشهيرة: مِن "الموت" إلى "النهائية"، مرورا بالتقنية، وصولا إلى شعر هولدرلن وريلكه، وختامها "غياب الآلهة"(68). إنه أمر يدعو للشفقة حقا. ما دخل غياب الآلهة بموضوع نشأة العيادة الطبية؟ ما الآلهة؟ وما مَحلّها من الإعراب؟

6 ـ مأساة المَجنون:
بعد أن اختفى المجنون من حلبة الواقع الاجتماعي، وسُحب منه الحق في الكلام، أعيدت إليه، في فترة لاحقة، شخصيته كاملة وأصبح طرفا قابلا للتحاور معه والمساءلة. وتستمرّ التغيرات في نظرة المجتمع للمجنون، بحيث إن لِكُل حقبة تقريبا نظرة خاصة تجعلها في قطيعة تامة مع سابقتها. فالتطورات تَحدُث عن طريق الانقلابات الفجئية: «فجأة وفي ظرف بضع سنوات (Brusquement, en quelques années) في منتصف القرن 18، بَرَزَ خوف(69)»، خوف من عدوَى المجانين لم يكن متواجدا من قبل. ثمّ، في فترة لاحقة، ودون أن نعلم السبب، دخل الجنون ضمن دورة جديدة(70) (un nouveau cycle)، في القرن الثامن عشر حدثت «ظاهرة مفاجئة (phénomène..soudain) شبيهة بالاعتقال الكبير في القرن 17 ولكنه مثله مثل سابقه مرّ دون أن يثير اهتمام أحد(71)»، ثمّ «فجأة (Brusquement) عادت الممارسة القديمة في حجز المجانين(72)».

هذا هو الفانوس السحري ـ كما وصفه سارتر ـ الذي عوّض به فوكو السينما، إنها مجموعة من المشاهد النّقطيّة (مِن نُقطة)، المنفصلة، ووحدات من اللّقطات التي تمرّ أمامنا باستمرار دون رابط منطقي سببي: كل شيء حدث فجأة، بقفزات من غير سابق إنذار.

لقد طحن فوكو كل شيء في مَكَنَة إدانته حتى إن عصر الوضعية، الذي حاول فيه الأطباء معالجة المجانين والتعامل معهم بروح إنسانية، بدا في أعينه مجرّد صخب وصراخات متعالية من طرف الأطباء، كلّ واحد يدّعي لنفسه بأنه هو الأول الذي خلص المجنون من الخلط بينه وبين المجرمين، وفَصَلَ براءة اللاعقل عن ذنب المجرمين(73).

لكن هناك لحظة ما توقف فيها مجرى التاريخ، الذي صُوّر على شكل كليشيهات انحطاطية، لكي يعود القهقرى ويَكشف الوجه المشرق للجنون. هذه ليست حالة تاريخية، ولا مسارا حضاريا معينا، بل مجرّد قصة لديدرو، بعنوان "ابن أخ رامو". كيف كانت ديناميكية القضية وحيثياتها؟ فوكو يَرويها لنا على هذا النحو: في الوقت الذي حصّن فيه ديكارت نفسه، عن طريق اليقين، من أنه لا يُمكن أن يكون مجنونا، أو واحدا من أولئك المعتوهين، ابن أخ رامو خرق هذا الحظر واعترف عن وعي منه بأنه مجنون، ولكنه وعي مستعبد. فهو مجنون لأنهم نعتوه بذلك وتعاملوا معه كذلك(74)، اللاعقل فيه يسبح على السطح. رواية ابن أخ رامو تخرق التسلسل التقهقري المتقاطع المكسور الذي رسمه فوكو، وهو نفسه يعترف بتفرّد هذا العمل في مجرى تاريخ الجنون الغربي: وجود هذه الشخصية يغوص في عمق الزمان القروسطي وينبئ بالأشكال التي سيتخذها اللاعقل في العصر الحديث، مثل تلك المعاصرة لـ نرفال، وأرتو، ونيتشه(75). لقد مرت حياة ابن أخ رامو دون أن يستشعرها القرن الثامن عشر، والتساؤل عن معنى هذه القصة يعني المكوث خارج كرونولوجيا التطوّر، وإلقاء نظرة على الثقافة الغربية "من تحت زمن المؤرخين". ابن أخ رامو يجب محاورته كنموذج لمنعرج تاريخي حاسم، فهو يرسم في بريق اللحظة، خطا منكسرا يذهب من سفينة المجانين إلى همسات أرتو.

إذن، شخصية المجنون، عادت للظهور مرة أخرى في شخصية رواية ابن أخ رامو على شكل ساخر، مثل بهلول القرون الوسطى فهو يعيش وسط أشكال العقل، إنه موضوع للتملّك، للحاجة التي تمس محتوى ومعنى وجوده: دون الجنون فإن العقل سيفقد حقيقته وسيغرق العاقلون في رتابة وخواء. العقل الذي لا يكون هو ذاته إلاّ بامتلاك الجنون يكف عن تعريف نفسه بنفسه، ونقيضه يُصبح "عقل العقل"، من حيث أن العقل لا يُتعرّف عليه إلاّ بضرب من ضروب التملّك(76). مع ابن أخ رامو، عثر فوكو على الحالة المتفرّدة التي تقطع رتابة تقهقر تاريخي يغلب عليه اضطهاد العقل للجنون، إنه يروي الإرجاع الساخر، وعدم الثبوت في كل شكل من أشكال الحكم التي تدين اللاعقل كشيء خارجي وغير جوهري «إن العقل يصعد شيئا فشيئا نحو من يُدينه، ليفرض عليه الاستعباد المنحطّ، ذلك أن الحكمة التي تعتقد إقامة رابط للمحاكمة والتحديد مع الجنون ـ تكون قد طرحت في الوقت ذاته رابطا امتلاكيا وانتماء غامضا: "هذا مجنوني"، وذلك أنني أمتلك ما يكفي من العقل للتعرف على جنون هذا المجنون(77)».

لقد تحولت علاقة العقل بالجنون إلى علاقة امتلاك، ومن هنا أصبح العقل يَفهم ذاته عن طريق نقيضه: إن العقل لا يمكن أن يحكم على الجنون دون أن يضع نفسه موضع تساؤل ضمن علاقات امتلاك، ولذلك فإن اللاعقل ليس غريبا عن العقل، بل «يوجد داخله، يحاصره ويمتلكه ويحوّله إلى شيء، ويحيل هذا الأمر بالنسبة للعقل على ما هو داخلي، وعلى ما هو شفاف وجلي أيضا. فبينما تحتل الحكمة والحقيقة في العقل مواقع خلفية، لا يشكل الجنون دائما سوى ما يمكن أن يمتلكه العقل منه "فمنذ مدة طويلة كان هناك مجنون الملك... ولم يكن هناك بشكل رسمي حكيم الملك"(78)». كل هذه الاستتباعات الفلسفية، والنتائج النظرية والعملية المتفرّدة وجدها فوكو في تلك الصفحات القليلة لديدرو (dans ces quelques pages de Diderot) بحيث أن «قدر الجنون في العالم الحديث يجد تجسيده في هذه الصفحات، ويكاد يكون جزءا منه(79)».

ولكلّ من شك في هايدغارية فوكو، فإن عليه أن يعتبر بأقواله هذه حول لعبة الوجود واللاوجود، تَخفّي الحقيقة وجلائها المنسوبة هذه المرة إلى الجنون، من حيث هو «حقيقة الحقيقة، وأيضا كخطأ مكشوف، ذلك أن الخطأ الجلي هو هذا الكائن في كينونته، واللاكينونة التي تحوّله إلى خطأ وكلاهما وضع في واضحة النهار(80)». ثم الأخرى بشأن الهذيان، الذي اتخذ في صُلب الجنون معنى جديدا، وأصبح «بؤرة لمواجهة أبدية ولحظية، مواجهة بين الحاجة والافتتان، بين عزلة الكينونة وتلألأ الظاهر، وبين وميض المباشر وكينونة الوهم(81)».

وبخصوص الديكارتية فإن فوكو يذهب، بكل يقين، إلى أن الدرس الأكثر مناهضة لها يأتي من ابن أخ رامو وليس من لوك وفولتير وهيوم: «عندما نتصوّر أن مشروع ديكارت كان قائما، مؤقتا، على الشك إلى أن يظهر الحقيقي في واقع الفكرة البديهية، أدركنا أن لاديكارتية الفكر الحديث، في مواطنها الحساسة، لا تبدأ مع مناقشة الأفكار الفطرية، أو الطعن في البرهان الأنطولوجي، بل من نص ابن أخ رامو هذا(82)».

على كل حال، وعلى الرغم من تدخلات العلماء لتحسين أوضاع المرضى والفقراء في القرن الثامن عشر، فإن الجنون تحرر واقتلع من وسط التجارب القديمة التي كان مسجونا فيها. وتحرره لم يكن وليد مشاعر الفيلانثروبيا، ليس باعتراف علمي وضعي، بل بما يربطه بالحياة العامة للناس، حيث يدركون بؤسهم وتقضهم أشباح اللاعقل. في هذه الجهات المظلمة تكوّن ببطء التصوّر الحديث للجنون، لم تُصطنَع مقولات جديدة، بل كانت ثاوية وتم فقط اكتشافها بفضل هذا التراجع «لقد كان هناك عمل "للتمييز" جعل الجنون يبدو معزولا داخل وجه اللاعقل الكبير والجلي والمدمر، سنوات قبل إصلاح بينال وتوك(83)».

ولم يكن هناك تقدم ولا حتى إنسانية في معاملة الأطباء النفسانيين للمرضى، وفوكو ينبّه «يجب أن نتحاشى بدقة، البحث في السياق الزمني الذي تم فيه إصلاح بينال وتوك، عن شيء يمكن أن يُشكل حدثا: حدوث اعتراف وضعي بالجنون، وحدوث تعامل إنساني مع المستلبين(84)». ولم يبرز هناك حتى وعي جديد أو تقدم في سيرورة الفكر الطبي واستخدام الحجز. فوكو يُنبّه مرة أخرى أن الأمر لا يتعلق «باستنارة، ولا يتعلق حتى بوعي يكون قد كشف، ضمن تبادل معرفي، عن أن المحتجزين كانوا مرضى، بل يتعلّق بعمل غامض تواجه داخله الفضاء القديم للإقصاء المنسجم والوحيد التكوّن والمحدود بدقة، بذلك الفضاء الاجتماعي للمساعدة التي شرع القرن 18 في تفكيكه، وحوّله إلى كيان متعدد الأشكال، وجزأه وفق الأشكال السيكولوجية والأخلاقية للإخلاص(85)».

أخيرا جاء الفرج وتمّ التعرف على الجنون في حقيقته التي ظلت مجهولة لمدة طويلة، هذا ما يدعيه تاريخ الطب العقلي الكلاسيكي(86). بَطَلا هذا التحول المعرفي هما بينال في فرنسا وتوك في انجلترا. فعملهما يبدو وكأنه صور مؤثرة لتلك الإنسانية التي عُومِل بها المرضى. لكن هذه الصور الجميلة، كما يصفها فوكو، لم تستثره كثيرا لأنه يشكك في صحتها، بل يَعتبرها مخاتلة لأنها تخفي على كل حال، أشياء خلفها، وتقدم قِيما أسطورية في ثوب حقيقة واقعية. فوكو يعترف بتلك الصور المشرقة كتعبير رمزي لا أكثر.

مجهود أجيال كاملة من الأطباء والفيلانثروبيين، يَشطبه هكذا بجرة قلم: الخطيئة التي اقترفاها بينال وتوك هي محاولة موضَعَة الجنون، وكشف حقيقته وذلك بتشكيل «حقل يجب أن يبدو فيه الجنون من خلال حقيقةٍ خالصة وموضوعيّةٍ وبريئة في الوقت ذاته... ما سيربحه الجنون على مستوى دقة قدره العلمي، سيخسره على مستوى القوة في التصوّر الملموس... فكلما كان موضوعيا، كان أقل حسما. والحركة التي حررته لكي تراقبه، هي، في الوقت ذاته، العملية التي ستبدده وتُخفيه في كل الأشكال الملموسة للعقل(87)».

أما بالنسبة لعمل توك فالخطيئة تنبع من تصوّره للعلاقة بين الطبيعة والجنون «الطبيعة في الجنون لا تُدمّر بل تُنسى، أو بالأحرى تَنتقل من الروح إلى الجسد، بحيث إن الجنون يضمن، بشكل من الأشكال، صحة جيدة، ولكن إذا ظهر مرض ما، فإن الطبيعة، وقد أصابها اختلال ما، تظهر من جديد في الذهن، أكثر صفاء وأكثر وضوحا كما لم تكن أبدا من قبل(88)».

وعلى هذا الأساس فإن تحرير المجانين الذي يعزى إلى توك وبينال هو مجرد أسطورة(89)، فعملهما يبقى في العمق عملا اضطهاديا، والتحرر الذي اعتقد المؤرخون أنهم كانا يصبوان إليه أفضى، في حقيقة الأمر، إلى نتائج عكسية: «إن بينال وتيوك في مواقفهما البسيطة التي رأى فيها الطب العقلي الوضعي، وبشكل مفارق، أصوله الأولى، قد استبطنا الاستلاب، لقد وضعاه في الحجز، وحدداه كمسافة فاصلة بين المجنون ونفسه، ومن خلال ذلك خلقوا الأسطورة. والأمر يتعلق حقا بأسطورة عندما نجعل من الطبيعة مفهوما، ونجعل من تحرير حقيقة ما بناء جديدا للأخلاق، ونجعل من شفاء عقلي، ما قد لا يشكل سوى اندماج خفي في مجتمع اصطناعي(90)».

النتيجة المُحققة هي أن الطبيبين توك وبينال أداما الخرافة والأسطورة، وموّها على الطب النفسي «إن خرافات بينال وتوك تنقل قيما أسطورية سيقبلها الطب العقلي باعتبارها بديهيات طبيعية. لكن كان هناك وراء الأساطير ذاتها عملية، أو بالأحرى سلسلة من العمليات، نَظّمت بِصَمتٍ العالم المارستاني والطرق العلاجية والتجربة الملموسة مع الجنون في الوقت ذاته(91)».

ثم إنه من الضروري، على حد زعم فوكو، تصفية الحسابات مع الأفكار السائدة حول عمل هذين الطبيبين وإعادة تقييم معاني انجازات كل واحد منهما: «يجب أن نُعيد النظر في قيمة الدلالات التي تُنسب إلى عمل توك: تحرير للمجانين، القضاء على الإكراهات، إقامة وسط إنساني(92)»، هذه كلها مجرد ادعاءات يكذبها الواقع العيني، حسب التقييم السلبي الذي ارتآه فوكو: «إن الأمر لا يتعلق هنا سوى بتبريرات، فالعمليات الواقعية كانت مختلفة. وفي الواقع فإن توك خلق مارستانا حيث حل القلق المغلق للمسؤولية، محل الرعب الحر للجنون... فأشكال الرعب الأبدية التي كان المستلب ضحية لها، نقلها توك إلى قلب الجنون نفسه(93)». وفي خضم هذه الاتهامات المسترسلة اعترف فوكو بأن المارستان الذي ابتدعه توك، يخلو من سياسة العقاب، ولكن هذا الاعتراف المقتلع عن مضض، يتضارب مع إدانته لعمل هذا الطبيب، ولذلك فهو يطوّق انجازاته لكي يَجد منفذا لإدانة ذات بعد لاتاريخي: «إن المارستان لا يُعاقِب، هذا صحيح، ولكنه يقوم بأكثر من ذلك، إنه يُنظّم العقاب. إنه يُنظمه من أجل المجنون باعتباره وعيا للذات في علاقة غير متبادلة مع الحارس. ويُنظمه من أجل الإنسان العاقل باعتباره وعيا بالآخر، وتدخلا علاجيا على نفسه وعلى الآخر، ومن الاعتراف بوضعه كموضوع، والوعي بالذنب، يجب أن يعود المجنون إلى وعيه كذات حرّة ومسؤولة، ويستعيد تبعا لذلك عقله(94)».

أما بينال فإن عمله الطبي كان يندرج في إطار نظرة اجتماعية أخلاقية على شكل قوالب جاهزة يُؤطّر فيها المريض طبقا للتقاليد التي يفرضها المجتمع. فالمارستان أصبح بين يديه «أداة للتوحيد الأخلاقي والإدانة الاجتماعية. كان الأمر يتعلق بسيادة أخلاق، من خلال شكل كوني، تُفرَض من الداخل على كل من كان غريبا عنها، وحيث الاستلاب معطى سابقا على تَجلّيه من خلال الأفراد(95)». بينال كان يرغب في إقامة تركيب أخلاقي بورجوازي وسحبه على كل أشكال اللاعقل، وذلك بمحاولة «ضمان استمرارية قيميّة بين عالم الجنون وعالم العقل، ولكن من خلال التمييز الاجتماعي الذي يَضمن للأخلاق البورجوازية طابعا كونيا فعليا، وتمكّنه من فرض نفسه باعتباره حقا على كل أشكال الاستلاب(96)». وبالإضافة إلى البعد الأخلاقي فإن بينال استخدم في مصحّته لعلاج المرضى ثلاث وسائل أساسية: وهي الصمت، الاعتراف أمام المرآة، المحاكمة الأبدية. وجميع هذه الوسائل يقدمها فوكو في صورة جدّ مأساوية، بحيث أننا إن صدقناه في تحاليله واعتبرنا نتائجها فلا مهرب من التضامن مع المجانين وإدانة الأطباء الذين هم حقا في وضع جلادي المرضى لا مُحرِّريهم. أكثرها مأساوية هي الوسيلة الأولى، أعني الصمت الذي انتهجه الطبيب إزاء المجنون، وهي وسيلة، حسب النص الذي استشهد به فوكو من بينال، أدت ظاهريا إلى تحرير المجنون من قيوده وعودته إلى صوابه. ومن إحدى النصوص المقتضبة لبينال، تنهمر الخُلاصات والنتائج الخطيرة، والتي هي في تضارب تام مع تفاؤل بينال: «إن الخلاص يتخذ هنا معنى مفارقا. فالزنزانة والقيود والاستهزاء والفرحة الدائمة، كل هذه العناصر تشكل في هذيان المريض ما يشبه عنصر حريته... ولكن القيود التي سقطت، وذلك الإهمال، وذلك التحفظ وضعاه ضمن دائرة يمارس فيها حرية فارغة. لقد سُلّم في صمت إلى حقيقة لا يعترف بها أحد، وعبثا حاول إبرازها لأن لا أحد كان يَنظر إليها، ولا يمكن أن تُثير حماس أحد، لأنها لم تصل حتى حدّ المهانة... فعوض الإكراه البدني، منحت له حرية بالغة المحدودية والعزلة... لقد خلصوه من قيوده، ولكنه الآن مقيّد بفضيلة الصمت والخطأ والعار(97)».

إن معاملة المجانين في العصر الكلاسيكي، لم تك، على كل حال، أرقى وأفضل مما هي عليه الحال في عصر النهضة، فتقنية الصمت هي أشد نكالا، مقارنة بذاك الحوار الذي لم يتوقف بين العقل والجنون في عصر النهضة(98).

هذا هو الصمت المطبق الذي ألجمَ المرضى، وفرّق بينهم وبين محيطهم، مِن المفروض أن يكون الأمر على هذه الشاكلة، ولكن فوكو بعد أن شدد على هذه النقطة فهو يحدّ من صلوحيتها ويقول بأن «هذا الصمت لم يكن كلّيا: فاللغة داخله انخرطت في الأشياء المعبّر عنها واقعيا(99)». هذه مفارقة: كيف يمكن أن يكون هناك صمت وحوار في نفس الوقت؟ ما الوسيلة لتحقيق التواصل؟ كيف يمكن حل هذه المعضلة؟ الحل مرة أخرى يأتي من استيهامات هايدغر، يكفي تفعيل مقولاته الشبه فلسفية من عدم، وغياب اللغة حتى نحصل على مبتغانا. ولكن عن طريق هذه المقولات الغائمة الضبابيّة يمكن حل كل المشاكل بأبخس الأثمان ودون عناء كبير. الحوار في السجون ودور الحجز بين العقل واللاعقل كان «حوارا صامتا هو في الأصل صراع(100)». لكنه يبقى دائما حوار حتى وإن غابت عنه اللغة، ومن المفروض أن تبقى منه آثار يمكننا تتبعها واستقصاء معانيها. هذا ممنوع علينا ذلك لأن حسب سفسطة فوكو «لم يبق من هذا الحوار أي أثر، إن الصمت مطلق، فلا وجود للغة مشتركة بين الجنون والعقل». ماذا يوجد إذن؟ غياب اللغة هو الموجود وكفى. أنا أشفق من هذا الخبط، ولكن عليّ أن أواصل في عرض أفكار فوكو بأمانة كي لا يُحكَم علينا بالتعسف.

فوكو لم يكتف بإدانة أعمال الطبيبَين، بل إنه ضَرَبَ في العمق ما اعتُبر إلى حدّ ما تحريرا للمجانين. فهو يَحمِل بأقصى جهده على توك وبينال متهما إياهما بأنها استعملا التزوير، والاضطهاد في طريقة معالجتهما للمرضى، وأكثر من ذلك فقد عملا على تحويل دُور العلاج إلى محاكم تفتيش. فعلا، قناعة فوكو هي هذه: «العدالة التي كانت سائدة في مارستان بينال، لا تستعير من العدالة الأخرى طرقها في القمع، لقد اخترعت طرقها الخاصة، أو بالأحرى كانت تستعمل الطرق العلاجية التي انتشرت في القرن 18 في ممارسة العقاب. وهذا لا يشكل أقل المفارقات في العمل "الفيلانثروبي" و "المحرر" لبينال، وهو تحويل الطب إلى عدالة، والعلاج إلى قمع(101)».

إنها اتهامات في غاية الخطورة، بل هي إدانة صريحة لذاكرة طبيب عُدّ، في أدبيات تاريخ الطب العقلاني، من بين الأوائل الذين تعاملوا بإنسانية مع المرضى، واجتهدوا في سبيل تحريرهم. مؤرخ الطب النفسي غريغوري زيلبورغ (G. Zilboorg) وصف بينال بأنه رجل دمث الأخلاق، ويمثّل خيرة العقول المتنورة في تلك الفترة الحرجة من تاريخ فرنسا. والدليل على ذلك تصوره الإنسانوي لوضعية المريض. إن المصابين بالأمراض النفسية ـ يلاحظ بينال ـ بعيدا عن أن يكونوا أشخاصا مذنبين، يستحقون العقاب، هم أناس مرضى، بحيث أن وضعهم التعيس يستحقّ كل الرفق الذي تحتاجه الإنسانية المتألمة. يجب العمل بأبسط الطرق كي نعيد إليهم عافيتهم العقلية. على هذه الكلمات يعلق مؤرخ الطب النفسي زيلبورغ، بأن بساطة، وتقريبا سطحية هذه الكلمات تذكّر بالتصرفات الإنسانية لجون فاير (J. Weyer) الطبيب الشخصي للدّوقا ويليام يوليش (Jülich)، الذي رفع صوته ضد اضطهاد المجانين مطالبا بتدخّل الأطباء في المحاكمات التي يخضعون لها دوريا، هذه المطالب الإنسانية، يقول المؤرخ، تُرجمت إلى الواقع من طرف طبيب الثورة الفرنسية(102).

لكن مع فوكو علينا أن ننسى مآثر هذا الطبيب وأمثاله، وعلينا أيضا أن ننسى ما دوّنه مؤرخو الطب النفسي، فوكو لا يطيق كلمة فيلانثروبيا ولا يعترف بكلمة تحرير بتاتا، حينما يكتبهما فهو يعمل دائما على وضعهما بين ظفرين، لأن عالم المارستان هو، حسب تصوره، عالم المحاكمات والتعذيب: «إن استعمال الدوش أصبح عنده (بينال) قانونا بشكل صريح، إن الدوش هو العقاب المعتاد لمحكمة منعقدة باستمرار في المارستان وتديرها عناصر من الشرطة(103)». لقد تحوّل المارستان إلى جحيم، إلى زنزانة للتفنن في تعذيب المرضى، والمسؤول عنها والقائم عليها هو الطبيب بينال. كل المجانين يَخضعون لهذه المعاملات القاسية اللاإنسانية، العقاب عن الخطأ والاعتراف بالذنب. كلا، مرة أخرى فوكو يحد من صلوحيات استنتاجاته، يتراجع ويقول: «هناك مجانين يفلتون من هذه الحركة ويقاومون التركيب الأخلاقي الذي تقوم به. وهؤلاء يجب عزلهم في المارستان، ليشكلوا ساكنة جديدة، ساكنة لا يُمكن أن تُطبّق عليها هذا النوع من العدالة(104)». هذه يسمّيها فوكو عزلة ثانية، جزاء للعصيان الذي لا يُمكن التسامح بشأنه حتى في حالة الجنون، لأنه يتجرّأ على «مقاومة التماثل الأخلاقي الاجتماعي الذي يُشكّل السبب الرئيسي للمارستان كما كان يتصوّره بينال(105)». إذن ليست أغراض علاجية، ولا غايات طبية هي المحرك الأساسي لأعمال الطبيبين، بل الإقصاء والتهميش الذي يفرضه المجتمع البورجوازي على كل من خرج عن أطره الأخلاقية والاجتماعية.

صيرورة الاضطهاد والتهميش والإقصاء لا تتوقف، فالأوضاع الطبية سائرة باستمرار من سيء إلى أسوأ، ويتجلى ذلك من خلال تحول المصحّة إلى محكمة تقاضي اللاعقل وتقصيه: «لقد وُضع اللاعقل في السابق خارج أية محاكمة، لكي يُوضع بشكل اعتباطي تحت سيطرة العقل. أما الآن فهو خاضع للمحاكمة: ليس مرة واحدة لحظة الدخول إلى المارستان من أجل التعرف عليه وتصنيفه وتبرئته بشكل نهائي، إن الأمر على العكس من ذلك، إنه يندرج ضمن محاكمة أبدية لن تتوقف عن مطاردته ومعاقبته والإعلان عن أخطائه ومطالبته بالذعائر المشرفة، وإقصاء هؤلاء الذين قد تؤدي أخطاؤهم إلى إلحاق الضرر بالنظام الاجتماعي. والجنون لم يَسلم من هذه الاعتباطية إلاّ لكي يَدخل فيما يُشبه المحاكمة التي كان يُوفر لها المارستان البوليس والمحققين والقضاة والجلادين، محاكمة يُصبح فيها كل خطأ من أخطاء الحياة، من خلال خاصية من خاصيات المارستان، جريمة اجتماعية مراقَبة ومدانَة ومعاقبة، محاكمة لا نهاية لها سوى بداية أبدية في شكل مستبطن للندم(106)».

فوكو لا يتزحزح عن إدانته المارستان، ولا يتوانى من مواصلة توجيه ضربات قاسية للطبيب بينال، وكأن هذا الطبيب نشاز في تاريخ الطبّ، بحيث أنه عن قصد منه تخلى عن مهمة العلاج وأصبح مجرد دمية في يد مجتمع قاس يفرض عليه محاكمة ومعاقبة أضعف خلق الله، لكأنّ بينال لم يقرأ ميثاق أبقراط، لكأنه قِطعة خشب هامدة، معدوم الضمير، ولا روح إنسانية فيه. هكذا يصوّره لنا فوكو، وهكذا كان الحال لميراثه الذي تواصل من بعده: «إن مارستان العصر الوضعي الذي يعود شرف تأسيسه إلى بينال، ليس ميدانا حرا للمراقبة والتشخيص والعلاج، إنه فضاء قانوني حيث الاتهام والحكم والإدانة، ولا يُمكن التحرر منه إلاّ من خلال صبّ هذه المحاكمة في العمق السيكولوجي، أي من خلال التوبة. سيُعاقَب الجنون في المارستان، حتى وإن تمّت تبرئته خارجه. إنه محبوس منذ مدة وإلى يومنا هذا داخل عالم أخلاقي(107)».

تجربة توك وبينال فاشلة على طول الخطّ، لم تُحرّر المرضى ولم تتقدم بعلم الطب النفسي، لقد كانا أصحاب "شبه علم"، ومجرد أذيال لسلطة مموهة. فعلا، هذان الطبيبان «لم يُدخلا علما، ولكنهما أدخلا شخصية لا تَستعير من سلطات هذه المعرفة سوى القناع، أو على الأكثر مبررات هذه السلطات(108)».

أما الطبّ الوضعي الذي هو، بشهادة المؤرخين، إحدى الإسهامات الكبرى في تقدّم الطب وآخر مرحلة من مراحل نزع الخرافة في التعامل مع المرض، فهو يحوز على حظه من الإدانة. الطب الوضعي لا تَقِلّ شناعات عن شناعات أعمال توك وبينال: عصر كامل وعلومه مدانة بدون رجعة. الوضعية زادت من التشويش والغموض والتسلّط في التعامل مع المرضى العقلانيين، أضفت هالة من القدسية على الطبيب وضخمت من دوره إلى حد الإعجاز: «بقدر ما كانت الوضعية تفرض نفسها على الطب العقلي خاصة، كانت هذه الممارسة تزداد غموضا، وتزداد سلطة الطب العقلي إعجازا، ويزداد الزوج طبيب ـ مريض انغراسا في عالم غريب. لقد أصبح الطبيب، في تصور المريض كائنا معجزا، فسلطته التي كان يستمدها من النظام والأخلاق والعائلة، يبدو أنه يستمدها اليوم من ذاته، باعتباره طبيبا يؤمن الناس أنه مالك لهذه السلطات(109)». لكن في حقيقة الأمر، هذا التمجيد لسلطة الطبيب، والتغني بالموضوعية العلمية داخل الممارسة الطبعقلية، هي مجرد أساطير كرسها الطبيب والمريض على حد سواء، وربما ترجع في جذورها إلى تلك القوالب الأخلاقية التي استخدمها توك وبينال لإصلاح أوضاع المرضى. إنها، حسب ذهنية فوكو المعادية للوضعية، مجرّد «تشييء من طبيعة سحرية، لم يكن بإمكانه أن يتحقق إلاّ بتواطؤ مع المريض نفسه، وانطلاقا من ممارسة أخلاقية شفافة وواضحة منذ المنطلق. ولكن تم نسيان ذلك شيئا فشيئا، بقدر ما كانت الوضعية تفرض أساطير موضوعيتها العلمية... فما نسميه الممارسة الطبعقلية هي تكتيك أخلاقي معاصر لنهاية القرن 18 وحُوفِظ عليه في طقوس الحياة المارستانية، وغطته أساطير الوضعية(110)». ثم جاء فرويد، صاحب التحليل النفسي، وقَلَبَ كل شيء ما عدا الإبقاء على شيء واحد ألا وهو تضخيم الشخصية الطبية وخصائصها الإعجازية ومنحها سلطة إلهية. «لقد نقل إليها، في هذا الحضور وحده المختبئ وراء المريض وفوقه، وضمن غياب هو في الوقت ذاته حضور كلي، كل السلطات التي أصبحت موزعة في الوجود الجماعي للمارستان، لقد جعل منها نظرة مطلقة، والصمت الخالص المكبوت والقاضي الذي يعاقب ويُجزي ضمن محاكمة لا تصل إلى حدود اللغة، لقد جعل منه المرآة التي من خلالها يحتضن نفسه وينفصل عنها ضمن حركة تكاد تكون ساكنة(111)».

مشروع فرويد هو أيضا فاشل، لم يُخلّص المريض نهائيا من الاضطهاد ولم يتقدّم في مسار تحريره عما كانت عليه الحال عند توك وبينال، لقد اكتفى فقط بوضع كل اللبنات التي أعدها توك وبينال بين يدي الطبيب. فهو قد خلص المريض ظاهريا من الوجود المارستاني الذي وضعه داخله المحرران «ولكنه لم يُخلّصه مما كان يُشكل أساس هذا الوجود، لقد قام بتجميع سلطاته، ومدّدها إلى الحدّ الأقصى، ووضعها بين يدي الطبيب، وخلق بذلك الوضعية التي يجسدها التحليل النفسي حيث أصبح الاستلاب، من خلال قطيعة بالغة الذكاء، غير مستلب، لأنه أصبح، داخل الطبيب، ذاتا(112)». التحليل النفسي لا يستطيع سماع صوت اللاعقل وفك رموز علامات المجنون، سيظل غريبا عن العمل المستقل للاعقل «إنه لا يستطيع تحرير ولا تسجيل ما هو أساسي في هذا العمل، والأدهى من ذلك أنه لا يستطيع شرحه(113)».

كل مقاربة علمية للجنون ميئوس منها، وأية محاولة لفهمه لا تؤدي إلاّ إلى الفشل الذريع. ومن المستحسن، على كل حال، أن يكون الأمر كذلك، لأن في اللاعقل تتمظهر أرقى العبقريات الإنسانية، ويُتاح إنتاج إبداعات فكرية عظيمة «فمنذ نهاية القرن 18 لم تعد حياة اللاعقل تكشف عن نفسها إلاّ من خلال التجسد في أعمال كأعمال هولدرلن ونيرفال ونيتشه وأرتو، وهي أعمال لا يمكن اختزالها في هذه الاستلابات التي تشفي وتقاوم من خلال قوتها الخاصة ذلك الاعتقال الكبير الذي يطلق عليه عادة، من خلال قلب للمعنى، تحرير المستلبين على يد توك وبينال(114)».

فوكو، بعد أن طاف بالقارئ لأكثر من 600 صفحة، يختتم عمله بصفحات مأساوية، مشحونة عبارات هايدغارية، مُركّبة على قصر من الإدانات المضمرة للعقل، لكن يتخللها مدح مفرط للجنون وأعمال الجانين مثل أرتو وهولدرلن ونيتشه.

مصطلحات الهايدغارية هي هذه(115): "تحويل الجنون إلى لاكينونة الخطأ"، "حضوره (المجنون) ضمن المشاركة المرئية ـ المضيئة والمظلمة ـ للكينونة واللاكينونة"، لغة الجنون هي "لغة الغاية النهائية، والبداية المطلقة: نهاية الإنسان الغارق في الليل، واكتشاف نور في نهاية هذا الليل، هو نور الأشياء في لحظة بدايتها الأولى"، سلطة الجنون هي "عودة الغنائية، من خلال لمعان لحظي، تقوم دفعة واحدة بإنضاج زوبعة النهاية، وتُنيرها وتعمل على تَهدِئتها ضمن الأصل المستعاد"، "إن النور ليس ممكنا إلاّ في ليل الجنون، نور يختفي عندما ينمحي الظل الذي يبدّده"، "الإنسان في عصرنا الحاضر لا حقيقة له إلاّ في لغز المجنون الذي هو كذلك وليس كذلك. فكل مجنون يحمل ولا يحمل في داخله حقيقة الإنسان الذي يكشف عن كل خباياه من خلال إسقاطات إنسانيته".

ليس هذا فقط بل إن هايدغارية مبحثه عن الجنون تتجلّى في العمق من خلال اقصائيته الغربية التي هي ليست بعيدة عن ذهنية هايدغر، وتحديدا في كيفية تعريفه للإنسان الذي جاء على شاكلة "الرسالة في الإنسانوية": «ونعني بذلك واقعة ثقافية خاصة بالعالم الغربي منذ لقرن 19: تلك المُسلّمة المكثفة التي حددها الإنسان الحديث، والتي استفاد منها جيدا: لا يتميز الكائن البشري بنوع خاص من العلاقة مع الحقيقة، بل لأنه يمتلك حقيقة هي ملكية خاصة ممنوحة ومستترة في الوقت ذاته(116)».

أما مدح الجنون، والإشادة بوحشية الطبيعة، والتي تذكّرنا بمدح نيتشه في "جينيالوجيا الأخلاق" للعنف والتعذيب، فهو يَعرضها من خلال أعمال صاد (Sade) ببرودة دم يُحسد عليها: «يبدو لأول وهلة أن بإمكان الطبيعة الانتشار بكل حرية، في القصر الذي سينعزل فيه بطل صاد، في الأديرة والغابات الأرضية حيث يتواصل بلا توقف احتضار ضحاياه. فالإنسان يعثر فيها على حقيقة نسِيَها رغم تجليها: هل هناك رغبة غير سوية، والحال أن الطبيعة هي التي وضعتها داخل الإنسان، وهي التي علّمته ذلك من خلال الدرس الكبير للحياة والموت الذي لا يتوقف العالم عن ترديده؟ إن جنون الرغبة، والجرائم الغير معقولة، والأهواء التي فاقت في لامعقوليتها كل شيء، هي حكمة وعقل لأنها من نظام الطبيعة. فكل ما قمعته الأخلاق وقمعه الدين والمجتمع السيئ في الإنسان يعود أخيرا إلى طبيعته... إن بطء الانتقام، كما هي وقاحة الرغبة، ينتميان معا إلى الطبيعة. فلا شيء يخترعه جنون الإنسان ولا يكون إما طبيعة ظاهرة وإما طبيعة مستعادة(117)».

الدرس الذي نستخلصه من جنون صاد وغويا هو أن اللاعقل سيواصل «سهره في الليل، ولكنه يُعيد، من خلال ذلك السهر، ربط الصلة مع القوى الشابة. فاللاكينونة أصبحت قوة للتدمير. ومن خلال صاد وغويا امتلك العالم الغربي إمكانية تجاوز العقل من خلال العنف، واستعاد التجربة التراجيدية من وراء وعود الديالكتيك (118)». بعد صاد وغويا أخذ الجنون شكل قطيعة مطلقة في العمل «إنه يشكل اللحظة المكونة لاندثار ما، ويؤسس في الزمن حقيقة العمل، إنه يرسم الحافة الخارجية، خط الانهيار، الهيئة ضد الفراغ(119)». باقي النص هو مجرّد هذيان وخروج عن الصواب، وكأني بفوكو أصيب بالجنون، لكن شيئا وحيدا لا أريد السكوت عنه وهو أن الرجل يُحاول ترهيب القراء بآثار المجانين، ويَنصحهم بالمرور جميعا أمام محكمة الجنون، بعد أن تحقق له النصر على يد رجال من طراز هولدرلن ونيتشه وأرتو: «حِيلةٌ وتَفوّقٌ جديدان للجنون: هذا العالم الذي كان يَعتقد أنه يَعرف حجمه ويُبرّر وجوده من خلال السيكولوجيا، عليه الآن أن يُبرّر وجوده أمام الجنون، ذلك أنه في سعيه ونقاشاته يقيس حجمه بلا محدودية عمل كعمل نيتشه وفان غوغ أو أرتو. ولا شيء داخله، وخاصة ما يمكن أن يعرفه عن الجنون، يضمن له أن أعمال الجنون هذه تبرّره(120)».

*     *     *

فوكو يترك في نفس قارئه إحساسا بالمرارة وخيبة الأمل، وذلك لاتهاماته المتقاطعة، ولكثرة استفزازه للمؤرخين، وخصوصا لِرَسمِه صورة بشعة للعلاج العقلي وللأطباء الوضعيّين. اتهام صناعة الطب النبيلة بأنها صناعة قهر مَبنية على الاضطهاد والقمع للجنون هو أمر، مِن وجهة نظر تاريخية وأخلاقية، لا أساس له من الصحة وذلك لسبب واحد وهو أنه غير مدعّم مباشرة بوقائع التاريخ، ولا يستسيغه مجرى الأحداث الفعلي. ليس الطب النفساني (Psychiatrie) كَفَنِّ علاج وكَنسق مفهومي وفكري هو المسؤول عن الانتهاكات التي خضع لها المجانين، ولم يكن الطب النفسي خادما مُطيعا لعقلٍ ظالم ومستبدّ. لقد قلب فوكو التاريخ رأسا على عقب، وتغنّى بعصور وسطى كان المريض العقلي يُعامل فيها بقسوة، وغالبا ما كان عرضة لأصناف التشريد والتهميش، ولكنه، على العكس من ذلك، يَنقم على العصور الحديثة لأنها حاولت دراسة الجنون دراسة عقلية والتعامل مع المرض كعاهة نفسانية لها أسبابها الطبيعية.

أستاذ الفلسفة الإسلامية بالمعهد العالي للدراسات العربية والإسلامية. روما
E- mail:
mohamedmzoughi@yahoo.it
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ـ M. FOUCAULT, Vérité, pouvoir et soi in, Id, Dits et écrits II, pp.1596 - 1602. «Chacun de mes livres représente une partie de mon histoire. Pour une raison ou une autre il m a été donné d éprouver ou de vivre ces choses».
(2) ـ D. TROMBADORI, Colloqui con Foucault, Castelvecchi, Roma 20052, p. 30.

انظر أيضا،

M. FOUCAULT, Dits et écrits. II, Paris, Gallimard 2001, pp. 860 - 914

(3) ـ لقد سأله أحد الطلبة من جامعة لوس أنجلس: «هل تعتبر نفسك فيلسوفا أم مؤرخا» فأجابه فوكو: «لا هذا ولا ذاك».

Ibid, p. 466. & p. 475. «Un étudiant: Vous considérez ـ vous comme un philosophe ou comme un historien? M. Foucault: Ni l un ni l autre».

وفي إحدى حواراته لسنة 1982 قال بأنه ليس بكاتب ولا فيلسوف ولا حتى وجه من الوجوه الشهيرة في الحياة الثقافية: هو مدرس فحسب.

Ibid, Vérité, pouvoir et soi, p. 1586. «Je ne suis ni écrivain, ni un philosophe, ni une grande figure de la vie intellectuelle: je suis un enseignant».

(4) ـ D. TROMBADORI, Colloqui con Foucault, Ibid, p. 31.
(5) ـ Ibidem.
(6) ـ Ibidem.
(7) ـ Ibidem.
(8) ـ Ibid, p. 32.
(9) ـ Ibidem.
(10) ـ Ibid, p. 33.
(11) ـ Ibidem.
(12) ـ Ibid, p. 35.

(13) ـ ميشيل فوكو، تاريخ الجنون، م. س، صص، 23 ـ 25.
(14) ـ ن. م، ص، 29.
(15) ـ ن. م، ص، 32.
(16) ـ يقول مثلا: «وقد لعب الإبحار والماء هذا الدور. فالمجنون المحتجز داخل مَركب لا يستطيع فكاكا منه، قد أسلم أمره للنهر ذي الأذرع المتعددة، وإلى الماء ذي السبل المتعددة ـ إنه يُسلم نفسه إلى عالم اللايقين الرهيب الموجود خارج كلّ شيء. إنه مسجون ضمن السبل الأكثر حريّة والأكثر انفتاحا: إنه موثق بشدة إلى الملتقيات اللانهائية. إنه بؤرة المرور بامتياز، أي أسير العبور. الأرض الذي سيحط بها تجهل عنه كل شيء، كما لا تعرف اليابسة التي تطؤها أرجله من أي أرض هو آت. فلا حقيقة له ولا وطن له إلاّ في ذلك الامتداد الخصب بين البراري التي لا يمكنه الانتماء إليها...».
(17) ـ ن. م، ص، 33.
(18) ـ ن. م، ص، 37.
(19) ـ ن. م، ص، 47.
(20) ـ ن. م، ص، 48 ـ 49.
(21) ـ ن. م، ص، 49.
(22) ـ ن. م، ن. ص.
(23) ـ ن. م، ص، 50.

(24) ـ J. G. MERQUIOR, Foucault. Fontana Press/ Collins London ـ Glasgow 1985 (trad. It., Foucault; Salvatore Maddaloni, Laterza Roma ـ Bari 1988. p., 14).

(25) ـ ميشيل فوكو، تاريخ الجنون، م. س، ص، 67. «إن استمرار الحقيقة في الوجود لا يشكل ضمانة على سلامة الفكر من الجنون، كما لا يحميه من الخطأ، أو الخروج من الوهم. إن الأمر يتعلّق باستحالة أن يكون المرء مجنونا، وهو أمر أساسي، لا بالنسبة لموضوع الفكر، بل بالنسبة للذات التي تفكّر. ويمكن أن نفترض أننا نحلم لنتماهى مع ذات حالمة للحصول على "مبررات للشك": ستبدو الحقيقة أيضا باعتبارها شرطا للحلم. إلاّ أننا في المقابل لا نستطيع افتراض أننا مجانين ـ ولو عن طريق الفكر ـ ذلك أن الجنون هو بالذات الشرط الأساسي لاستحالة الفكر: "لن أكون أقل شذوذا في هذه الحالة أيضا"».
(26) ـ ن. م، ص، 69.

(27) ـ M. FOUCAULT, Histoire de la folie, op. cit, p. 70. «Désormais la folie est exilée... Une ligne de partage est tracée qui va bien rendre impossible l expérience si familière à la Renaissance d une Raison déraisonnable, d une raisonnable Déraison».

(28) ـ ميشيل فوكو، تاريخ الجنون، م. س، ص، 70.
(29) ـ ن. م، ص، 86.
(30) ـ ن. م، ص، 142.
(31) ـ ن. م، ص، 147.
(32) ـ ن. م، ص، 203.
(33) ـ ن. م، ص، 225.

(34) ـ VOLTAIRE, Dictionnaire philosophique, in uvres complètes de Voltaire, T. XVIII, Paris, Hachette 1876, p. 89.
(35) ـ VOLTAIRE, Dictionnaire philosophique, op. cit, ibid. «Enfin, après mille raisonnements, il n y a peut ـ être que la foi seule qui puisse nous convaincre qu une substance simple et immatérielle puisse être malade».
(36) ـ Ibidem.
(37) ـ Ibidem.
(38) ـ Ibid, p. 90. «Pauvres mortels, qui ne peuvent ni connaître la cause de mon mal, ni le guérir, tremblez de devenir entièrement semblables à moi, et même me surpasser. Vous n êtes pas de meilleure maison que le roi de France Charles VI, le roi d Angleterre Henri VI et l empereur Venceslas qui perdirent la faculté de raisonner dans le même siècle. Vous n avez pas plus d esprit que Blaise Pascal, Jacques Abbadie, et Jonathan Swift, qui sont tous trois morts fous. Du moins le dernier fonda un hôpital».

(39) ـ ميشيل فوكو، تاريخ الجنون، م. س، ص، 233.
(40) ـ انظر:

 S. MORAVIA, Il tramonto dell illuminismo. Filosofia e politica nella società francese (1770 ـ 1810), Laterza, Roma ـ Bari 1986. 2, pp. 87 - 100.
(41) ـ «Quel funèbre coup d il! quel profond sujet de réflexion! Ah! que nous sommes inconséquents dans notre morale et dans nos principes. Nous prêchons l humanité, et tous les ans nous allons porter des fers à vingt ـ milles habitants de l Afrique». Règlement de la Société des Amis des Noirs, cit, in S. MORAVIA, Il tramonto dell illuminismo, op. cit, p. 89.
(42) ـ CONDORCET, Réflexions sur l esclavage des nègres, MDCCLXXX. Epître dédicatoire «Mes amis quoique je ne sois pas de la même couleur que vous, je vous ai toujours regardé comme mes frères. La nature vous a formés pour avoir le même esprit, la même raison, les mêmes vertus que les blancs. Je ne parle ici que de ceux d Europe, car pour les bancs des Colonies, je ne vous fais pas l injure de les comparer avec vous... Si on allait chercher un homme dans les Iles d Amérique, ce ne serait pas parmi les gens de chair blanc qu on le trouverait».
(43) ـ Cfr. Règlements de la Société des Amis des Noirs, S. l. (Paris) n. d. (1789), p. 2. «mais si leur infortune se trouve liée à des grands intérêts politiques, si leurs chaînes sont encore resserrées par les forces aveugles du préjugé, s il est enfin des grandes obstacles à vaincre, ces obstacles doivent ـ ils nous faire oublier que ce n est pas non plus une classe limitée de malheureux qu il s agit de secourir, ce sont des nations entières, c est une partie du monde qui, écrasée sous le poids de ses fers, réclame auprès de nous les droits sacrés de l humanité».
(44) ـ Ibid, p. 10.
(45) ـ «C est après avoir privé les nègres de toutes ses facultés morales que nous le déclarons d une nation inférieure à la nôtre, et dès lors destiné à porter nos fers. Quel monstrueux assemblage d injustice et de cruautés!». Ibid, p. 6.
(46) ـ S. MORAVIA, Il tramonto dell illuminismo, op. cit, p. 93.
(47) ـ MIRABEAU, Considérations sur l ordre des Cincinnatus, p. 296; cit, in S. MORAVIA, Il tramonto dell illuminismo, op. cit, p. 93.
(48) ـ S. MERCIER, L an deux mille quatre cent quarante. Rêve si l en fût jamais, S. l, 1786, p. 194. «Je sortais de cette place, lorsque vers la droite, j aperçus sur un magnifique piédestal un nègre, la tête nue, le bras tendu, l il fier, l attitude noble, imposante. Autour de lui étaient les débris de vingt sceptres. A ses pieds on lisait ces mots: Au vengeur du nouveau monde!»
(49) ـ Ibid, pp. 194 - 196.
(50) ـ J. G. CABANIS, Observations sur les hôpitaux, in uvres, vol. I, p. VIII. cit., in S. MORAVIA, Il tramonto dell illuminismo, p. 97.
(51) ـ Cfr, J. G. CABANIS, Observations, cit., p. 7.
(52) ـ Ibid, pp. 28 - 29. «La grande maladie des états civilisés est la mauvaise distribution des forces politiques, et la disproportion choquante des fortunes. Voilà la source de presque tous les désordres publics, et des calamités qui les accompagnent... Les grandes inégalités ne sont pas du fait de la nature».
(53) ـ Cit, in MORAVIA, Ibid, p. 102.
(54) ـ S. MORAVIA, Il tramonto dell illuminismo, op., cit, p. 107.

(55) ـ ميشيل فوكو، تاريخ الجنون، ترجمة عربية، ص، 400.
(56) ـ ن. م، ص، 413.
(57) ـ ن. م، ص، 415.
(58) ـ M. FOUCAULT, Histoire de la folie, op. cit, p. 309.
انظر الترجمة العربية، ميشيل فوكو، تاريخ الجنون، م. س، ص، 261.
(59) ـ ميشيل فوكو، تاريخ الجنون، ن. م، ن. ص.
(60) ـ ميشيل فوكو، تاريخ الجنون، م. س، ص، 262 ـ 263. عوضا عن كلمة "افتتان" ومشتقاتها التي نقل بها المترجم كلمة (éblouissement) الفرنسية فضلت كلمة "انبهار".

(61) ـ «Ainsi la mort réelle qui allait résulter de la mort imaginaire est ـ elle écartée de la réalité, par la seule réalisation de la mort iréelle. L échange du non ـ être avec lui ـ même s est fait dans ce jeu savant: le non ـ être du délire s est reporté sur l être de la maladie... L accomplissement du non ـ être du délire dans l être parvient à le supprimer comme non ـ être même... le délire en effet est supprimé en tant que non ـ être puisqu il devient être perçu; mais comme l être du délire est tout entier dans son non ـ être, il est supprimé en tant que délire». M. FOUCAULT, Histoire de la folie, op. cit, p. 420.
(62) ـ Cfr, Ibid, pp. 440 - 455.

(63) ـ لقد اعترف هو نفسه ودعّم رأي محاوريه درايفوس ورابينوف من أنه كان متأثرا بهايدغر. لم ينكر ذلك بل تعجب كيف غابت هذه الحقيقة عن المفكرين الفرنسيين. (personne en France ne l avait jamais souligné). فوكو، أقوال وكتابات 2، ص، 1599.

(64) ـ M. FOUCAULT, Naissance de la clinique, Paris, PUF, 1963 Cérès Editions, Tunis 1995, p. V. «Il est question dans ce livre de l espace, du langage et de la mort».
(65) ـ M. FOUCAULT, Naissance de la clinique, Ibid, «le séjour de la vérité dans le noyau sombre des choses», p. XI; «Il est probable que nous appartenons à un âge de critique dont l absence d une philosophie première nous rappelle à chaque instant le règne et la fatalité», p. XIV; «langage originaire», ibid; «la décision de la parole», p. XVI.
(66) ـ M. FOUCAULT, Ibid, p. XIX. «La recherche ici entreprise implique donc le projet délibéré d être à la fois historique et critique, dans la mesure où il s agit, hors de toute intention prescriptive, de déterminer les conditions de possibilité de l expérience médicale telle que l époque moderne l a connue».
(67) ـ Ibid, p. 5. «La maladie est perçue fondamentalement dans un espace de projection sans profondeur, et de coïncidence sans déroulement. Il n y a qu un plan et qu un instant. La forme sous laquelle se montre originairement la vérité, c est la surface où le relief à la fois se manifeste et s abolit».
(68) ـ Ibid, p. 274. «Cette expérience médicale est par là même apparentée à une expérience lyrique qui a cherché son langage de H?lderlin à Rilke. Cette expérience... est liée à une mise au jour des formes de la finitude, dont la mort est sans doute la plus menaçante, mais aussi la plus pleine. L Empédocle de H?lderlin, provenant de sa marche volontaire, au bord de l Etna, c est la mort du dernier médiateur entre les mortels et l Olympe, c est la fin de l infini sur la terre, la flamme revenant à son feu de naissance et laissant comme seule trace qui demeure ce qui justement devait être aboli par sa mort: la forme belle et close de l individualité; après Empédocle le monde sera placé sous le signe de la finitude, dans cet entre ـ deux sans conciliation où règne la Loi, la dure loi de la limite; l individualité aura pour destin de prendre toujours figure dans l objectivité qui la manifeste et la cache, qui la nie et la fonde... et là ouvre la source d un langage qui se déploie indéfiniment dans le vide laissé par l absence des Dieux... .l importance de la finitude dans le rapport de l homme à la vérité et dans le fondement de ce rapport».

(69) ـ ميشيل فوكو، تاريخ الجنون، م. س، ص، 371. النص الفرنسي، ص، 445.
(70) ـ ن. م، ص، 391. النص الفرنسي، ص، 472.
(71) ـ ن. م، ص، 397 ـ 398. النص الفرنسي، ص، 480.
(72) ـ ن. م، ص، 398. النص الفرنسي، ص، 481.
(73) ـ ن. م، ص، 409.
(74) ـ «إنه مجنون لأنه أخبر بذلك وعامله الناس باعتباره كذلك: لقد أرادوني أن أكون أضحوكة، وكنتُ كذلك». ن. م، ص، 359. فرنسي، ص، 431.
(75) ـ «إنه وجود موغل في الزمن، وقد استقطب مجموعة من الصور القديمة، من بينها صورة عن تهريج يُذكّر بالقرون الوسطى، ويُعلن عن الأشكال الأكثر حداثة للاعقل، تلك الأشكال المعاصرة لنرفال ونيتشه وأنطونين أرتو». ن. م، ص، 360. فرنسي، ص، 432.
(76) ـ «فبدون الجنون سيُحرم العقل من واقعه، سيكون رتابة فارغة، ومللا من ذاته، صحراء حيوانية ستكشف له عن تناقضاته: "والآن وقد افتقدوني، ما عساهم فاعلون؟ سيصيبهم الملل كالكلاب...". ولكن العقل الذي لا يستمدّ وجوده إلاّ من امتلاكه للجنون، لن يتحدد بعد ذلك استنادا إلى هويته المباشرة، وسيستلب في هذا الانتماء... إن اللاعقل يصبح عقلا للعقل، في حدود أن العقل لا يعترف على اللاعقل إلاّ من خلال الامتلاك». ن. م، ص، 361.
(77) ـ ميشيل فوكو، تاريخ الجنون، ن. م، ص، 361.
(78) ـ ن. م، ن. ص.
(79) ـ ن. م، ص، 362.

(80) ـ «dans cette mesure la folie... apparaît comme la vérité de la vérité, et tout aussi bien comme erreur manifestée, car l erreur manifestée, ce sont, portés en plein lumière du jour, et cet être qu elle est, et ce non être qui la fait erreur». M. FOUCAULT, Histoire de la folie, op. cit, p. 435.

(81) ـ ميشيل فوكو، تاريخ الجنون، م. س، ص، 365. فرنسي، 438.
(82) ـ ن. م، ص، 364.
(83) ـ ن. م، ص، 430.
(84) ـ ن. م، ص، 436.
(85) ـ ن. م، ص، 437.
(86) ـ ن. م، ص، 471. «هذه الصورة مألوفة لدينا. لقد ألفها تاريخ الطب العقلي كله، وكانت وضيفتها هي الكشف عن أسرار ذلك العصر السعيد الذي تم فيه أخيرا التعرف على الجنون وفق حقيقة ظل الناس يتجاهلونها لمدة طويلة».
(87) ـ ن. م، ص، 479.
(88) ـ ن. م، ص، 480.
(89) ـ ن. م، ص، 482. «تلك هي سلطات دار الشفاء الأسطورية: سلطات تتحكم في الزمن وتعارض التاريخ وتعود بالإنسان إلى حقائقه الأساسية، وتكتشف فيه الإنسان الطبيعي الأول والإنسان الاجتماعي الأول الذي لا يحده زمن ولا تاريخ»
(90) ـ ن. م، ص، 488.
(91) ـ ن. م، ن. ص.
(92) ـ ن. م، ص، 491.
(93) ـ ن. م، ن. ص.
(94) ـ ن. م، ن. ص.
(95) ـ ن. م، ص، 500.
(96) ـ ن. م، صص، 500 ـ 501.
(97) ـ ن. م، ص، 502.
(98) ـ ن. م، ن. ص.
(99) ـ ن. م، ن. ص.
(100) ـ ن. م، ن. ص.
(101) ـ ن. م، ص، 506.

(102) ـ G. ZILBOORG & G. W. HENRY, A History of Medical Psychology, W. W. Norton & Company, Inc., New York, 1941. Trad., it, Storia della psichiatria, a cura di Marisa Edwards, Feltrinelli, Milano 1963, pp. 284 sg.

(103) ـ ن. م، ن. ص.
(104) ـ ن. م، ص، 507.
(105) ـ ن. م، ن. ص.
(106) ـ ن. م، صص، 507 ـ 508.
(107) ـ ن. م، ص، 508.
(108) ـ ن. م، ص، 510.
(109) ـ ن. م، ص، 512.
(110) ـ ن. م، ص، 513.
(111) ـ ن. م، ص، 514.
(112) ـ ن. م، ن. ص.
(113) ـ ن. م، ن. ص.
(114) ـ ن. م، ن. ص.
(115) ـ انظر الصفحات 633 ـ 642 من النص الفرنسي.

«Dans cette affirmation qui, transformant l image du rêve en non ـ être de l erreur (p. 633); la folie n est possible qu à partir d un moment très lointain, mais très nécessaire où elle s arrache à elle ـ même dans l espace libre de son non ـ vérité, se constituant par là même comme vérité (p. 635); La folie ne parlera plus du non ـ être, mais de l être de l homme, dans le contenu de ce qu il est, et dans l oubli de ce contenu (p. 637); le retour lyrique par une fulguration instantanée qui, mûrissant d un coup la tempête de l achèvement, l illumine et l apaise dans l origine retrouvée (p. 639)».

(116) ـ م. فوكو، تاريخ الجنون، م. س، ص، 531.

«Et par là nous entendons un fait culturel propre au monde occidental depuis le XXe siècle: ce postulat massif défini par l homme moderne, mais qui le lui rend bien: l être humain ne se caractérise pas par un certain rapport à la vérité; mais il détient, comme lui appartenant en propre, à la fois offerte et cachée, une vérité». M. FOUCAULT, Histoire de la folie, ibid, p. 653.

(117) ـ ن. م، ص، 534 ـ 535.
(118) ـ ن. م، ص، 537. (مع تصويب لعبارة "من خلال" إلى "من وراء")
(119) ـ ن. م، ص، 538. (مع تحوير)
(120) ـ ،. م، ص، 539.

M. FOUCAULT, ibid, p. 663. «Ruse et nouveau triomphe de la folie: ce monde qui croit la mesurer, la justifier par la psychologie, c est devant elle qu il doit se justifier, puisque dans son effort et ses débats, il se mesure à la démesure d uvres comme celle de Nietzsche, de Van Gogh, d Artaud. Et rien en lui, surtout pas ce qu il peut connaître de la folie, ne l assure que ces uvres de folie le justifient