يكشف لنا الروائي العراقي المرموق، في روايته القصيرة المكثفة عن الثمن الفادح الذي دفعه العراق، ولايزال من أجل بناء عالم جديد، يتناءى ويبتعد مع توالي النكبات عليه. وكيف احتاج الراوي إلى مخاضَ عمرٍ شرسٍ كي يفهم كيف يتعامل أقرب أصدقائه مع متغيرات الحياة القاسية في تشبث غريزي بالحياةِ.

لبناءِ عالمٍ جديد (رواية)

سلام إبراهيم

 

أجلسُ على حافةِ الستين. خلفَ النافذة، الليل أبيض. خلف النافذة تهبط الأضواء وندف الثلج من سماء بيضاء. تهبط بروية وهدوء وكأنها تنسج مأساة وحدتي، أسترخي على كرسيّ الهزاز وسط الصالة أمام نوافذها الزجاجية الثلاث العالية المشرفة على امتداد الشوارع البيضاء ونفسي منقبضة فرط البياض، يقال إن المحتضر يرى قبيل رحيله، في اللحظات الأخيرة شلالاً من الضوءِ الأبيض الذي تعشي له العيون. هذا ما أفضى به من توقف عن الحياة للحظات وعاد بتدخلٍ طبي. الشوارع خالية. زوجتي تنام في الغرفة الأخرى. صرت قليل الكلام بعد أن كنتُ لا أملُ منه.

وحدي .. وحدي .. وحدي والستون تفرش أيامي، تحتل لحظتي، تحيط بيّ، تحاصرني في سهري، في سكوني، في حركتي، في أنفاسي، في نومي، في يقظتي. أحملق في جدران الصالة التي امتلأت بصورهم. حشدٌ من الأحباب. حشدٌ من الوجوه المنيرة الضاحكة. حشدٌ غادر الواحد تلو الآخر هناك بعيداً في الرحم الدامي.

كنت أظن قبل سقوط الدكتاتور، بأن همومي كلها ستزول بزواله، فأتمكن من زيارة الأهل والأحباب، أرى أمكنتي الأولى وأشم هواء وتراب مدينتي، وأكون خالي البال وأنا أراهم أحراراً والأفق أمامهم مفتوح. فكنت أحلم بذلك اليوم سائراً أو قائماً أو جالساً أو نائماً. وكنت أمارس طقوس أشواقي السرية دون بوح، فكنت أتخيلني وأنا أرمي نفسي في حوض السباحة كأنني أقفز إلى نهر الديوانية وأغط فيه، فأرى وأشم وألمس بقلبي وأنا في غمرة الماء بيوت "حي رفعت" وحدائق المعسكر في الجهة المقابلة ناسياً ما حوليّ من نساءٍ مثل جنيات القصص بلباس السباحة يعومّنَ ويقفزن ويخرجن من حوض الماء الناصع الزرقة.

أنفصلُ مع كل قفزةٍ عن وجودي الغريب، مستمتعاً بالأخيلةِ التي تنهضُ من عمقِ السنين حيةً في الماءِ. لكن حتى هذه اللُعَبْ السرية فقدتها عقب الاحتلال، وزياراتي السنوية الطويلة للرحم الملتهب. فقدتها وأنا أفقد الحبيب تلو الحبيب، ليتحولوا من جديد إلى خواطر وصور فوتوغرافية معلقة بالحائطِ تطلُ من سكونها على وحدتي أنا وزوجتي الحزينة، هاهم يحيطون بيّ بعيونهم البارقةِ وبسماتهم الحارقةِ مخففينَ من وطأةِ الوحشة وثقل البياض خلف النوافذ وسكون الصالة وقفر الشوارع المغطاة بالثلج.

متع الأشواق الصغيرة الطائرة فقدتها، فأصبحتُ كلما رميت جسدي في حوض المسبح أراهم يغوصون جواري بأجسادهم العارية وعيونهم المفتوحة. كل غطة أرى أحدهم حياً يجاورني في عمق الماء، صامتاً، مفتوح العينين، وشعر رأسه يتمدد في الماء خلفه، تمتد اللحظة الحية حتى ظهوري إلى السطح، وضجيج السابحات والسابحين الذين يقابلوني ببسمة وتحية كلما التقت نظراتنا.

- أي جحيم يلاحقني يا إلهي!

أدمنت الحوض، ووجوههم رسخت في نفسي طاردةً أشواقي المجردة القديمة المتعلقة بظل أو شجرة أو جدار بيت أو لذة مساء في شارع أو بستان إذ بردت بتكرار الزيارة مفسحة المكان لذوات حيةٍ حميمةٍ وآخرها حبيب قريب كنتُ ألمسهُ وأصحبهُ وأحدثه ويحدثني طوال اليوم في بيته والبارات والحدائق والزحام في تجوالنا ببغداد.

ليس في الماء فحسب بل بتُ أراها بوجوه المارة مكتشفاً لعبةً جديدةً من لعبِ الأشواق الطائرة تتلخص في الجلوس على مصطبةٍ في شارعِ المشاة وسط كوبنهاجن، ومتابعة الوجوه الخاطفة فأرى شيئاً من ملامحهم في قسماتِ المارةِ، وعندما أجد وجهاً يشبه أحد الأحباب، أقوم بالسير في أثره كي أشبع عيني من ملامحهم الحية في وجهه .. لعبة متعبة فشلت في الكف عنها فأورثتني مزيدا من الأشواق المستحيلة.

أقوم من كرسي مغموراً بالبياضِ المتدفق من النوافذِ لأملأ كأسي بالعرق الخالص، فبدون السائل الأبيض السحري لا نوم ولا راحة، ولو لساعات من زحمة الوجوه الحبيبة الباسمة المحدقة بوحدتي والتي عاشرت أعوامي الغضة.

مازال الفقد جارياً مثل نهرٍ والستون تلوح دانية أكاد ألمسها بأصابعي.

طفح بيّ الكيل. أكاد أفيض بهم. فهيا معي يا من تلاحق حروفي علَّ البوح يخفف شيئاً من ضنى أشواقي المبرحة.

* * *

استيقظتُ قبل آذان الفجر كما خططت. السكون يعم كل شيء، الفراش والجدران والبيت، ومن النافذة العريضة بانت النجوم تلهث بضوئها في صفحة السماء الصافية، نجوم طفولتي البعيدة نفسها التي كنت أتتبع جريانها في عمق السواد، لم أترك نفسي لأشجان الطفولة وسمائها فذلك يثني من عزمي. تسللتُ إلى الحمامِ على أطراف أصابعي كي لا أوقظ أخي وزوجته، وأديتُ طقوسَ استقبال الفجر، ارتديتُ ملابسي، ودلفتُ من الباب إلى الحديقة، سحرتني السماء الساكنة الفريدة، التي لم أعثر على مثيلٍ لِسحرها في بلدان المنافي. كسكران ترنحت وأصداء تمتمة أمي تصلي الفجر في الصالة، على بعد ثلاثة أمتار من وقفتي أسمعها مثل حفيف ثوب في سكون. تسكرني رائحتها الطيبة وهي تعانقني فجراً بعد كل إجازة كلما توجهت إلى جبهة الحرب مع إيران، قارئة أدعية تحفظني من كل مكروه. كدتُ أعود إدراجي، فأصدقائي نصحوني بلزوم البيت إلى أن يهدأ الوضع وأعود من حيث أتيت. الوضع خطير في المدينة. والمليشيات الدينية تسيطر على النصف الجنوبي من المدينة، بينما تسيطر الحكومة على قسمها الشمالي والمركز . ومحلتنا "حي العصري" تقع على خط التماس.

انتزعتُ حالي بعناء من الشجن وهاجس الخوف مخاطباً نفسي:

- قد لا تراه إلى الأبد!.

وخطوت باتجاه باب البيت.

في منتصف المسافة، صدحت أصوات المؤذنون منتشرة في عتمة أول الفجر.

"الله أكبر..

لا إله إلا الله"..

تَخافَتَ خطوي .. تخافتَ حتى سَكَنَ في عمقِ السحرِ. وقفتُ مثل مسكين على باب الزمن شاما ًرائحة أمي، وحفيف ثوب صلاتها الأبيض وهي تعد نفسها لمواجهة ربها، وقتها كنتُ أسهر في غرفتي أقرأ حتى مطلع الفجر.

دوى في صمتي السؤال موجعاً:

- ماذا فعلَ بك المنفى؟!

بتثاقلٍ، عاودتُ الخطو مقترباً من الباب، أصبحتُ جوار شجرة أبي، تتدلى من أغصانها كرات النارنج البرتقالية في الفضة المنهمرة من السماء. زرعها شتلة وقال لي ضاحكا:

- ثمرها أحسن مزة!

هبت عليَّ رائحته. مزيجٌ من نشارة الخشب وعرق المسيّح فترنحتُ قليلاً وأنا أمد يدي لأزيح لسان الباب. تماسكتُ وسحبتها. عبرت العتبة مجاهداً للخروج من سحر الماضي ووطأته حتى لا يوهن عزمي. إذ قررت ذلك برغم كل شيء، شبه الحرب الأهلية الطائفية، احتمالات خطفي أو قتلي، لكن بعد ثوانٍ هجمتْ عليَّ أطياف طفولتي من أركان البيوت وزوايا الشارع والرصيف. كورتُ نفسي تفادياً لذلك الهبوب المعذب، كاد يصيبني الوهن. رمحت بقامتي وخاطبت نفسي:

- ماذا بك؟ ماذا؟! ركبتَ أشد الأخطار. كدت تموت غريباً. فلم تخشاه وأنتَ وسط الأحباب والأهل؟!

أطبقتُ بابَ البيتِ الحديدي بهدوء فضاع صوت الإطباق في ضجيج المؤذنين. توقفت هنيهة جوار السياج يهزني شعورٌ قديمٌ رافقني منذ ليل الزنزانة الأولى؛ رغبةٌ واهنةٌ تنتابني لحظة الاستيقاظ فجر كل يوم؛ رغبة في معانقة الكل، المرأة والشجرة، العدو والصديق، الضوء والظلام، الماء والنار، التراب والعشب، الله والحشرة، حلمٌ صغيرٌ بحب جميع ما في الكون. حلمٌ أشتعل في ليلِ قبو ضيقٍ عفن وأنا شبه عارٍ أنزف وأرتجف من شدة البرد والذعر، حلمٌ ظلَّ متوهجاً في خنادق الحرب، وبين الثوار في جبال العراق حيث نزعت فكرة قيام مدينة فاضلة بالقوة، الإحساس المبهم نفسه، إحساسٌ مجردٌ يُسقط الأسباب، الذرائع، المعنى. ينتابني الآن وأنا أتوجه نحو بغداد التي عادت مجهولة على محبيها. إحساس استولى على كياني قبل أكثر من أربعين عاماً وهم يدفعونني على درج ينزل إلى فسحة بالكاد تسع الجسد بعد حفلة تعذيب في بناية وجدتها مهجورة وسط الديوانية جوار الجسر الرابط بين شارع السراي وشارع سينما الثورة. في خضم هذا الشعور القديم الجديد أتساءل:

- لم يحدث كل هذا؟!

- ولم لا يحب الإنسان أخاه الإنسان؟!

سيعاشرني السؤال طوال العمر وفي مختلف الأمكنة، سيتردد في لحظات الشرود، الشعور بالعجز، والخسارة في تجربة، أو مآزق، وفي الفواجع التي لا عدَّ لها. ها هو ذا ينبعث صارخاً مع خفوت أصوات المؤذنين والأدعية، وخطواتي باتجاه مركز المدينة المشتعلة منذ أشهر بقتالٍ لا معنى له، فالمتقاتلون من الطائفة نفسها، اللون نفسه. حثثت خطوي في الشارعِ العريضِ المظلمِ مخاطباً خياله:

- سأراك.. سأراك برغم كل شيء!

عند مدخل شارعنا، من خلف جدار مسجد جامع واجهني ضوء شديد السطوع أعمى بصري وصوت خشن:

- أرفع إيدَيكْ!

انصعت للأمر والملثمون أحاطوا بيَّ بارزين من جهتي الشارع وهم يوجهون فوهات بنادقهم صوبي.

شردتُ بعيداً عنهم أفكر بالمشهد مخذولاً، ها أنذا في شارعِ طفولتي قرب بيتي أرفعُ ذراعيّ مستسلماً لمجهولينَ يحتلونَ ترابَ وهواءَ وفضاءَ سنواتي الأولى التي كنتُ أظن بعودتي سوف أسترجع نكهتها. لبثتُ ساكناً في حزمةِ الضوءِ المسلطة على وجهي أنتظرُ الفرجَ. تعالى لغطٌ قطعهُ صوتُ شاب يافع موجه لي:

- العفو عمي!

أنزلتُ ذراعيّ. حدقتُ إلى وجه محدثي الذي أضاءتهُ حزم ضوء البطاريات اليدوية. لم أتعرف عليه، لكن ملامحه ليست غريبة. همس معرفاً بنفسه:

- أني ابن "حسن" عمي!

ابن جارنا، رفيق قديم كنا معا نخوض نضالاً ضد الدكتاتور حالمين بمجتمع لا غني فيه ولا فقير.

أعتذر لائماً خروجي بهذا الوقت، وأخبرني بأنه يحمل نفس رسالتنا أنا ووالده فهو خرج من أجل إقرار الحق في زمن غير زمننا. ثم أقترب مني حتى كاد يلاصقني وهمس قرب أذني:

- مِثِلْكُمْ عمي أحنه نريد العدالة والمساواة ومجتمع ما به فقير!

قبّل رأسي وفسحَ لي طريقاً. فقدرتُ أنه آمر المجموعة.

انتابتني رغبةٌ بالضحك حال ابتعادي. كدتُ .. لكن السحر والجو المريب جعلاني أكتمها. فرحت أتأمل مفكراً في هؤلاء الذين زاحموا حلمنا القديم؛ حلم المساواة الذي جعلني أخوض الأهوال وأتغرب أكثر من عشرين عاما، ذلك الحلم ترفع رايته هذه الميليشيات القاسية، قبل أيام وقفت شاهداً على حفلة جلد علنية لزملاء أحبهم وسط المدينة، كبسوا شقتهم في شارع الصيدليات، وذنبهم أنهم يشربون سراً ويتسامرون. سيقوا نصف عراة صباح اليوم التالي إلى وسط المدينة. قرب المحافظة القديمة مقابل سوق التجار عند مدخل شارع المكتبات، جُلدوا حتى الإغماء. عذبوا وقتلوا حلاقات المدينة، باعة الخمر، أسروا عشرين جنديا مسكيناً وأعدموهم أمام أنظار الناس في الساحة الفاصلة بين حي العصري وحي النهضة، شخصيات برزت عفوا بعد الاحتلال، - جمال سيد نور – المعلم الذي أصبح عقب الإحتلال بفترة وجيزة محافظ المدينة، قتلوه وهو يتناول فطوره في مطعم وسط سوق العروبة بعد إصراره على الترشح في الانتخابات التالية، ابتزوا تجار السوق وأثرياء المدينة، وقتلوا من لم يدفع.

أغراب، حفاة، رثي الملبس، ملتحين، قذري الوجوه، يرمقونَ الناس بحقد، واستعلاء قابضين على بنادقهم من وسطها، متأهبين للقتالِ. لم ألتفت. كنت أقارن بين هؤلاء وبيننا حينما كنا في ثمانينيات القرن الماضي نرفع السلاح بوجه الدكتاتور في الجبال. لم نقتل جنديا أسيراً، بل كنا نطلق سراحه ونخّيره بين البقاء في صفوفنا، أو العودة إلى أهله، أو اللجوء إلى إيران. لم نبتز أحداً، نعالج مرضى القرى. وكنا نشارك العائلة غرفتها الوحيدة في القرى التي ليس فيها جوامع، فنقضي ليلتنا نائمين جوارهم.

- ويقول لي .. إنهم مثلنا يحلمون بالمساواة.

حثثت خطاي متشوقا للقاء "أحمد" متخيلاً شكلهُ بعدَ أكثر من عشرينَ عاماً:

- ماذا فعل به العراق في غيابي؟!

تساءلت مع نفسي مستعيدا طرفاً من تلك الأيام فحينما تعرفتُ عليه، كنت في محنةٍ مركبةٍ، محتدماً بالثقافةِ والحوارِ والكتبِ، مزدحماً بالأفكار التي أود اختبارها مع الآخرين. خفتت علاقاتي برفاقِ المحلة لاختلاف الأفكار والاهتمامات، فما حملته من معارف القراءة والكتب عاد لا يناسب رفاق طفولتي فتطلعت لعلاقات برجال يكبرونني سناً يفهمون ما أتحدث به وأتطلع إليه، ومن هنا بدأ المأزق. فكوني جميلاً، شكلي فيه لمسة أنوثة أستطيع تشخيصها كلما تصفحت صوراً من تلكَ الأيام تعرضتُ إلى محاولات اعتداء ممن كان يتصنع الاهتمام بالثقافة والفكر، مما هزّ ثقتي بالمحيط بشكل عام وخلقَ في نفسي شيئاً من الريبِ بالآخرين. تعرضتُ إلى تشويه السمعة، وكنت أدرك وقتها طبيعة اللغط الذي يدور حولي، لكنني لم أهتم، ولم أنكمش بل تماديتُ في علاقاتي وتمردي. في تلك الأيام تعرفت عليه. جمعتنا إعدادية زراعية الديوانية، كنا في المرحلة الأولى وفي الصف نفسه كان يجلس إلى يساري ولا يكف عن التحديق بين الفينة والفنية نحوي بوجهٍ مبتسمٍ طوالَ المحاضرةِ. كانَ يكبرني بسنواتٍ أربع لتأخره في مراحل دراستهِ الإبتدائية والمتوسطة هذا ما سيخبرني به لاحقاً حينما تتداخل علاقتنا ونعود لا يستطع الواحد منا الكف عن الآخر فيما يشبه الإدمان. في الاستراحةِ قدم نحوي بينما كنت أهرج وأضحك مع زملائي الجدد، أستطيع في هذه اللحظة رؤيته على الرغم من مرور أكثر من أربعين عاماً، بقامته الفارعة، ووجهه المدور، وعينيه الواسعتين، ووجنتيه الناتئتين، وأنفه المتناغم مع قوة وضخامة القسمات، وشفتيه الغليظتين الشبيهتين بشفتي أفريقي، شكل هو مزيج من مغولي وأفريقي ببشرة بيضاء ناصعة، نضرة. اقترب بمشيته المتأنية وفي قامته تحدب طفيف، كان أنيق الملبس برغم فقر عائلته التي سأتعرف عليها لاحقا وأصير واحدا منها. وقف على بعد أمتار وأشارَ نحوي. قطعتُ الحديث وتوجهتُ إليه. قال:

- نتمشى!

- نعم!

تسكعنا طوال فترة الاستراحة بعيداً عن الطلاب، بين حقول الورد وسياج المدرسة، منغمرين في حديث لا أتذكر تفاصيله، لكنه يدور حول الكتب والثقافة والحياة وكل ما سيكون مشتركاً بيننا في الأيامِ التاليةِ. صِرنا نتغّيب عن المحاضرات ونهيم بين حقول الإعدادية الشاسعة الواقعة على ضفة النهر جنوب المدينة. كان رقيقا، ذا نبرة خافتة، لا يتكلم إلا عند الضرورة. بالمقابل كنتُ ثرثاراً محتشداً بالحوار والأسئلة والماركسية وقيم الثورة والمساواة. كان ينصت طوال الوقت وفي وجهه دهشة من كلامي. أخبرني بأنه يسكن قريباً من شارعنا، تفصل بيننا ساحة كرة قدم ستتحول إلى مقر لميلشيات البعث لاحقا، فمركز وحدة عسكرية يجاوره جامع بناه "الصرخيون" (وهم مجموعة شيعية ظهرت بعد الاحتلال الأمريكي 2003 يدعي صاحبها أية الله الحسني الصرخي أنه يلتقي المهدي المنتظر في الخفاء ويتداول معه شؤون الدنيا ويدعي أنه زوج ابنته للمنتظر الغائب) تجاوزاً في الركن القريب من استدارة مدرسة الفردوس بعد الاحتلال الأمريكي. عدنا نتصاحب في طريقنا إلى البيت من المدرسة، نقطع الكيلومترات الستة مشياً وسط حقول مهجورة، نطفر السواقي الصغيرة، نسير جوار سياج بساتين نخيل "الچلبي" حتى نصل الشارع المؤدي إلى منطقتهم.

تعلقتُ بهِ بشدة، هو كذلك، سنتكاشف بودنا الفائق لاحقاً بعد توطد العلاقة وصفائها من الشوائب، كنتُ فرحاً به فها أنذا أعثر أخيراً على صديقٍ لا ينوي بيّ سوءاً، لكن في ظهيرةٍ حارةٍ وبعد أن قطعنا مسافةً في حقولِ الحلفاءِ المصفرة. استوقفني جوارَ ساقيةٍ صغيرةٍ. حملقَ في وجهيّ بارتباك وَبَلع ريقه مراتٍ قبل أن يقول:

- أطلب منك فد شي؟!

هالني اضطراب وجهه واحتقان قسماته، وتردده.

قلت:

- أطلب يا صديقي!

لَبَثَ صامتاً، فتعالى ضجيج الساقية القريبة وخفق أجنحة طيور وعصافير تحلق في سماءِ الظهيرةِ. أخذ ينضح بغزارة كمن تورط. حدقتُ إلى عينيه مباشرة. هربَ ناظراً نحو البساتين وامتداد الحقول وبيوت الإسكان القريبة. عاوَدَ النظر إلى عينيّ، ثم خفضَ رأسه ناظراً إلى ما بين قدميه وقال بسرعةٍ:

- أنْسَوي (بَدْلِي)!

تجمدتُ مصعوقاً كأن أحدهم ضربني وأنا ساهٍ على أم رأسي ضربةً ماحقةً، فـ(البدلي) باللهجةِ العراقيةِ تعني أن نتبادل المضاجعة بالتناوب.

ها هو المشهد يرتسم أمامي من جديد وكأنه البارحة وأنا أخوض في فضة الفجر ميمماً صوبه، ها أنذا أرى وجهه المضطرب في الصمتِ ينضحُ بغزارةٍ، من جبهته ووجنتيه، فيمسحهُ بظاهرِ كفيه منتظراً جوابي بفضولٍ، جعلتُ أغلي واحتدمُ في مشاعرٍ مضطربةٍ متناقضةٍ، فقد كنتُ في أعمق أعماقي آسفاً على خسارتِهِ. كم من الوقت قضيناه نحدق بعينيّ بعضٍ؟! لا أدري، لكنني أتذكرُ كيف اشتعلتُ وصرختُ به:

- أنتَ تافهْ وَمُنْحَطْ!

كنتُ ألهث. استدرتُ ومشيت مسرعاً، فأخذ يهرول إلى جانبي:

- أرجوك.. بس اسمعني.. أرجوك.. أرجوك!

لم أبادلهُ كلمةً واحدةً، لم ألتفت نحوه مرةً واحدةً إلى أن وصلتُ بابَ بيتنا الذي وجدته نصف موارب. دلفتُ والتفتُ نحوه كان يقف وفي عينيه توسل ماداً كفيه مردداً:

- اسمعني.. اسمعني !

صفعتُ البابَ خلفي كابتاً رغبةً شديدةً في البصاق على وجههِ.

فشلتْ كل مساعيه لتوضيح الأمر. جربَ مختلف الوسائل. حاولَ التحدث مباشرةً معي فنقلتُ مقعدي في الصفِ بعيداً عنهُ. كتبَ عشرات الوريقات الصغيرة، والرسائل المطولة التي أجدها على كتبي. كنتُ أمزقها على الفور وألقى بها في سلة المزبلة على مرأى منه. بعثَ بالعديد من الوسطاءِ الذين لا يعرفونَ ما جرى بيننا، فلا أنا ولا هو يستطيع البوح بالأمر لذا كان الوسيط يلح مستغرباً قطيعتنا.

لكن ذلكَ الحال لم يدم طويلاً، فبعدَ أيامٍ خطفني رجالَ الأمنِ من مدخل شارعنا بسيارتهم "الفوكس واكن" الوحيدة التي يمتلكونها في ذلك الوقت قبل تأميم النفط. فرملتْ إلى جانبي. نزلَ ثلاثةُ رجال ضخام الأجساد. أحاطوا بيّ. ودفعوني بقسوةٍ إلى باطنها. قضيتُ لياليَ مرعوباً، لا من الضربِ، ولا الشتمِ، فهذا ما عودتنا عليه العائلة والمدرسة والشارع، لكن من فكرة تَجسدتْ وأنا أتأملها في ذلك السن المبكر، في عفنِ غرفةٍ عرضها متر ونصف وطولها متر ونصف جدرانها محفورة بخطوطِ أسماء وتواريخ، وبقع دم يابس تنشر في زوايا جدرانها وأرضها. فكرة تجسدت من فعل الخطف من الشارع ووجودي الغريب الذليل في قبو ضيق رأسي متورم، يوجعني جسدي من كل ناحية، مرعوباً ينتظرني المجهول ومزيد من الضرب والتعذيب والإهانة، كل ذلك وأنا وسط مدينتي، والفكرة هي أن من حقِ الغرباء خطفكَ من شارعٍ وإيداعكَ زنزانةٍ ضيقةٍ، وضربكَ دون أن يستطيع أحدٌ من العائلة، ولا من الجيران، ولا من الأهل، ولا من المدينة أن يخلصك.

مرة واحدة أنزلوني إلى ناصية الشارع لمقابلة أبي الذي راح يكيل اللوم على تورطي بالسياسة التي لا فائدة منها في مشهد أحسستهُ يمثل، فهو الآخر تورطَ فيها في مطلع شبابه، أطلقوا سراحي في صبيحة يومٍ شتوي باردٍ، خطوتُ في الشارعِ المقفرِ مرتعداً لا من البردِ بل من هولِ فكرةِ الزنزانة التي ستعاشرني كل العمر في أحلامي وكوابيسي حتى في المنفى. كان ذلك في شتاء عام 1971. خرجتُ مهزوزاً من الحياةِ نفسها، فبينما كنتُ قبل الاعتقالِ أقاومُ المحيط ومؤامرات الرجال الذين يحاولونَ اغتصابي متباهياً في نجاحي وصلابتي، وجدت أن في استطاعة رجال الأمن فعل كل شيء في جسدي الموثوق في غرفهم الموحشة والمخيفة. أهتزَّ كياني من الجذورِ فبتُ غير واثقٍ من شيء، وأنا لم أبلغ السابعة عشرة، دافعاً ثمن تعلقي الشديد بالكتبِ والقراءاتِ التي ألهبتني وجعلتني أبشر بفكرةِ العدالة والمساواة وحقوق الفقراء. لزمتُ البيتَ ليومين خجلاً من نفسي، من أحلامي، وخيال الكتب والروايات، لا أعرف كيف سأواجه الحياةَ والمحيط، واللحظة تلح عليّ، لحظة ضعفي حينما واجهني وجهاً لوجه من كان مسؤولي الحزبي معترفاً عليّ فصدقتُ مرعوباً أقواله، لم أرَ الشارع طوال أسبوع سجنتُ فيه نفسي حائراً أبحث عمن يخفف عني الشعور الموحش شديد الغموض وقتها، لكن حينما ظهرتُ إلى الشارعِ والمدرسةِ والمقهى أدهشني الانقلاب الجذري في المدينة، فالجميع عادَ ينظر نحوي باحترامٍ لمستهُ في الوجوهِ والنظراتِ وطبيعة الحديث، وكأنني فعلتُ شيئا جللاً، حتى أشقياء المدينةِ المشهورون بشذوذهم وعنفهم وسطوتهم في تلك الأيام التي لم تحكم فيها سلطة "البعث" قبضتها على المجتمع تحولوا إلى سدٍ وفّر لي حمايةً كنتُ في أمسّ الحاجة إليها في وضعي ذاك.

التحول هذا جعلني أستعيد ثقتي بنفسي قليلاً.. قليلا ليدفعني لاحقا إلى المغامرةِ بحياتي، قَبِلْتُ اعتذار أحمد الذي أَقبَلَ نحوي أول يوم أُعاود الدوام فيه، كنتُ على وشكِ دخول قاعة الدرس حينما عانقني وأجهشَ باكياً وكأنني غبتُ عنه سنوات، وقتها كانَ الأمر غامضاً، لكن الآن وأنا على حافة الستين ألمسُ مدى عمقِ رعبِ العراقي الذي صنعَ من لحظةِ إذلالي الأولى بطولةً وكأنني المنقذُ المنتظرُ. منذُ تلك اللحظة أدركتُ صعوبة فكرة تغيير المحيط ناهيك عن حلمِ تغيير العالم، لكن ذاك الإدراك كانَ حساً فقط، هاجساً من الصعبِ البوحَ به، حساً خَطَرَ وَيخْطِر نادراً في سني ذاك، ثانوياً برغم عمقه، لكنه لم يتبلور كفكرةٍ ناضجةٍ، لذا كنتُ أتأرجح بين الحماس واليأس وأميلُ إلى الأخيرِ طوالَ القصةِ، متوقعاً الأسوأ الذي حلَّ في هذه الأيام وأنا أخوضُ في فضةِ الفجرِ الذي تسّرَبَتْ خيوطه خافتةً متغلغلةً في جسدِ الظلام ومرتع طفولتي وصباي وشبابي تتقاتل فيه مليشيات دينية متطرفة. كنتُ أعبر جسر المدينة المُوصل شارع "السراي" بشارع "سينما الثورة" ماسكاً هويتي بيدي لكثرة نقاط التفتيش في المناطقِ التي تسيطرُ عليها الحكومة. في كل نقطة تتكرر النصيحة:

- أستاذ.. وين رايح؟.. بغداد محترگه.. خطف وتفجيرات ما تخاف على حياتك؟!

لا يعرفونَ كمْ مرة مسّني الموت مساً ونجوتُ، فعدتُ واثقاً من النجاةِ مثل مؤمنٍ ببرجهِ. أبتسمُ قائلاً:

- شغله ضرورية!

وخيالُ أحمدَ يطوفُ حوليَّ مع سؤالٍ:

- كيف يبدو الآن؟ وماذا فعلَ بهِ الزمانُ؟!

أتذكر كيفَ رجعنا أصدقاءَ.. ليس أصدقاء فحسب، بل أصبحنا لا نكاد نفترق. أحلُّ في بيتهِ وقتَ ما أشاء، ويحلُّ في بيتي وقتَ ما يشاء. تعرفت على أمه الطيبة التي عاملتني بحنوٍ كحنوِ أمي. صرتُ أقضى يوم العطلة جواره وسط سوق الخضار حيث كان يقف مكان أبيه يبيع الخضرة أيام العطل. في نفس مكان سوق الخضر القائم الآن في فرعٍ جانبي عريض جوار سوق السمك القديم. أجلسُ على طبلةٍ خشبيةٍ ناصيةٍ. أراقبُ حشودَ المتسوقينَ؛ نسوة بعباءات سود رثة، شابات يتسوقن الحب، رجال متعبين يبحثون عن الأرخص. كنت أستمتع بالفرجة. سوق الخضار منفذ النسوة الوحيد لرؤية الشارع والمدينة والتحدث مع الغرباء. أتلصص عليه وهو يتعمد الإطباق على يدِ الشاريةِ وهو يناولها البضاعة، وعندما يستلم مبلغها، فتبرق عيناها شهوةً. سألتهُ كيفَ يتجرأ على اللمسِ، قال: خبرة سوق، من العيونِ والوجهِ والحركةِ أميز بين الراغبة وغير الراغبة.

- اللمسُ عابرٌ يشعل ولا يروي!

قلتها فصيحةً، فرد:

- أحسن من أضعف الإيمان!

ويطلق ضحكةً مجلجلةً فقد كانَ شديدَ الإلحادِ، فأعود أمارس من مقعدي بصمتٍ أضعف الإيمانَ مكتفياً بمضاجعة العيون؛ عيون تبرق، أخرى تلتهم، أصابع ترتجف تفلت طرفي العباءة لحظة الاستلام فتضئ النهود بغتة، فنطلُّ على جنة الجسد المخبوء، على سرَّ أسرارنا، نحلم ونتخيل عريه، ونقضي نصف الكلام بقية اليوم عنه والنصف الأخر عن السياسة، نطالع كتب الماركسية ونحلم بيوم الثورة التي ستنصف كل فقير ومظلوم وتحقق (وطن حر وشعب سعيد). لم أكن أعرف عن نشاطه السياسي شيئاً، فقد كان قليلَ البوح كتوماً، فتصورته متصوفاً متأملاً يفكر في قضيةٍ كبيرة. تفارقنا بعد سنة بسبب رسوبه في السنة الأولى، ففصل لتجاوز عمره الثامنة عشرة دونَ إكمال الإعدادية، وسيق جندياً إجبارياً. قبل أن يسافر إلى الثكنات أوقفني ونحن في مدخل زقاق جامع المدينة الكبير من جهة شارع علاوي الحنطة، وأشار نحو صبية سمراء تحمل كتبها وتمسك طرفي العباءة وتنظر بعينين قلقتين إلى الشارع والناس قائلا:

- ديرْ بالكْ عليها!. لمن أشوفها يوگع گلبي!

أحطتها عند غيابه في المعسكراتِ البعيدةِ بعنايتي الفائقةِ، بحيث عدتُ أجلس ظهيرة كل يومٍ في مقهى "الضويري" بالجديدة في انتظار أوبتها من المدرسةِ. وشيئاً فشيئاً راقت لي الصبية، فتوهمت نفسي عاشقاً، وجهدتُ كي أكلمها. كانت طالبة في الصف الرابع الثانوي، من عائلة فقيرة. تعيش لدى أختها الكبيرة المتزوجة من تاجر قماش، بيتهم جوار مبنى التجنيد القديم. لاحقتها في كلِ مكانٍ. تجدني كل صباحٍ عندَ ذهابها إلى المدرسةِ وفي الظهيرةِ عند عودتها، لازمتُ مدخل زقاقهم، ملأتُ دفتراً من مئة صفحة، بتفاصيل مؤرخة بالساعةِ واليومِ والشهرِ عن لحظات الانتظارِ مع وصف لمشاعري ووصف جمالها. كان بابها موصداً. وفي مساء يوم كانت تزور أختاً أخرى لها، متزوجة في شارع "حسين عطشه" في محلة الجديدة. وفي زقاقٍ ضيقٍ لا مخرجَ لهُ يؤدي إلى بيت أختها حصرتها في الظلامِ وسلمتها الدفترَ عنوةً. أمسكتهُ بأصابعَ غضّةٍ مرتجفةٍ من اقتحامي المباغتِ، ابتعدت منتشياً، وأنا أتخيلها مبحرةً في يومياتي، كنتُ أعّول على دفتري مقدراً بأنه سيجعلها تنتبه ليّ! إذ كانت ذات سحر وجاذبية خاصة جعلتها محط أنظار الشباب، أثمر مسعاي، في أول إجازة له سألني عنها، كدتُ أنفجر ضاحكاً، لكنني تمالكت نفسي بعناء مكتفياً ببسمة لا أستطيع أن أغلبها متوجساً من رد فعله وهو يلح قائلاً:

- أكو شيء.

فأطلقتُ ضحكةَ قصيرةً جعلته يتوسل:

- الله يخليك .. الله يخليك حبيبْ خَلْ أعرفْ القصة!

كنا نتمشى على ضفة النهر من جهة صوب الشامية متجهين نحو جسرها المعلق. دسستُ يدي اليمنى في جيبِ بنطالي وناولتهُ رسالتها الأولى قائلا:

- وهذي رسالة منها!

تسّمرَ جامداً. لمعتْ عيناه، أحسستُ بكيانه يهتز من الدهشةِ وخاطر أن الورقة التي يمسكها بين أصابعه منها. تمالكَ نفسه وسألني:

- لي .. لي!

كان يغرز سبابة كفه الأيمن في صدره غير مصدقٍ، مردفاً:

- أنت صديق عظيم!

كنت أحبس ضحكاً مجنوناً يصول ويجول هازاً جسدي، مردداً:

- افتحها.. افتحها!

أتذكر تفاصيل تلك اللحظة بوضوح، أصابعه الطويلة المرتجفة تباعد حافتي الورقة المدرسية المخططة، خلفه بستان نخيل كان وقتها يحاذي روضة الأطفال الوحيدة في المدينة التي حولها الحرس القومي المليشيا الأولى لحزب البعث إلى معتقل تعذيب في 8 شباط 1963، قرص الشمس الأحمر يهبط ملامساً هاماتِ النخيل. الرسالةُ مكثفةٌ بنصفِ صفحة تنتهي بأبيات أبوذية عن لوعةِ الحبِ والبعاد. كانت عيناه الواسعتان تزدادان توقداً واتساعاً كلما نزلتا مع الأسطر. قرأ الرسالة مرات غير مصدقٍ، ثم رفعَ وجهه الذي شَحَبَ بغتة وبدأ يتصبب عرقاً. فالأسطر تتغزل بيَّ وتنتهي برجاء أن لا نلتقي في شارع بل في مكانٍ أمين، غرفة في بيت بعيدا عن الرقباء كي نمد الوصال على حد تعبيرها. لم يستمر الأمر إلا دقيقة، ثم أنفجر ضاحكاً، تهالكنا على الرصيف من نوبة ضحكٍ عاصفةٍ. وعندما تمالكنا أنفسنا، نهضنا. أقتربَ مني بوجهٍ فيهِ دهشة وحب وعانقني بشدة كما فعل حينما تصالحنا مردداً:

- ولك أنت أجمل صديق وَفَي بالدِنْيا .. خرب عرضك!... خرب عرضك.. يا أجمل سافل!

ستصبح قصة الصبية نادرة علاقتنا، فكلما يثار موضوع حول وفاء الصديق في جلسة مقهى أو جلسة شرب في نادي الموظفين يعيد تفاصيلها ساخراً من شدة وفائي. سيتتبع علاقتي بها طوال خدمته العسكرية، لم أبخل عليه بتفاصيل القبل والعناق واللمس معها في غرف بيوت أقرباء تكون فارغة بالمصادفات التي لا نفوتها بتاتاً، العلاقة التي نَدِمتُ عليها، ولم أزل أشعر بالإثم، لأن الصبية تعلقت بيّ وظلتْ بينما هربت منها مكتشفاً وهمية مشاعري.

أيقظني ضوء سيارة قادمة من طرف الشارع، فانتبهتُ إلى الفجر وهو يُعّري الأبنية القديمة، فاضحاً أكوامَ القمامةَ المكدسة على الأرصفةِ وعرض الشارع، قطعان الكلاب تنبش فيها، رجال الشرطة متأهبين في تقاطعات الطرق، عبرت سينما "الثورة" خلف الشارع إلى يميني بفرعين بيت أخت الصبية السمراء التي أشم الآن رائحة بشرتها الحارة مصحوباً بأنفاسها اللاهثة وهي شبه عارية على صدري في غرفة معتمة:

- أين هي الآن؟!

انبثق السؤال من أعماقي. وودت لو أجدها وأعانقها من جديد لأمسح حزنها والشجن الذي سببتهُ لها. حاذتني السيارة ومدَّ السائق رأسه قائلا:

- استاد.. تكسي!

- إلى كراج بغداد!

جلستُ إلى جانبه، حذرني من السفر، وعلق:

- استاد يبين أنت جاي من الخارج!

- لا!

نظر نحوي بريبة فأضفت

- خوية أني من ملحان حي العصري!

قلتها بثقة قافياً أثر نصيحة أخوتي بأن لا أقول لأحد أبدا بأنني أعيش في الخارج كي لا يطمعون بيّ. خف الريب في نظراته قليلاً، ثم بدأ يشكو من غياب سلطة الدولة وعبث الميلشيات والفساد وتغير أحوال العراقيين راوياً قصص النهب والسلب والحرق واختلاط الحابل بالنابل، ثم خاطبني قبل أن أترجّل:

- أستاذ وداعتك احنه العراقيين لو عبيد نخنع ونجّسس على بعضنا لو همج .. ننهب ونسلب! أي أكو شعب يبوگ رحلات المدارس ويحرگ الدوائر بالانتفاضة بالواحد والتسعين وبعد السقوط بالـ 2003 !

أردف بينما كنت أفتلُ جسدي خارج السيارة:

- والنوبة طلعت قصة الميليشيات .. وداعتك أستاذ لا إسلام ولا صدر ولا بطيخ هاذي عصابات قتل وسلب!.

* * *

قلت له بالفصحى:

- أتريد أن تضاجع امرأة؟!

كنا نجلس عصراً في مقهى على ضفةِ النهرِ. حملقَ نحوي بعينين اتسعتا دهشةً. قرّبَ رأسه ناحيتي، وأدنى أذنه حتى كادت تلاصق شفتيّ وهمسَ طالباً تكرار سؤالي. أعدتُ السؤالَ باللهجة العراقية الفجة. تلعثم، قبل أن ينهال بالأسئلة؛ كيف؟.. أين؟.. متى؟.. كم السعر؟.. ومابين أدوات الاستفهام يردد بذهول ونشوة:

- يعني صدگ!.

كان ذلك حلماً شبه مستحيل طالما تخيلناه، لم نكن نعرف أماكن بغاء في المدينة، ولم نذهب إلى مضارب الغجر في "الفوار" على طريق عفك حيث يباع الجنس والطرب وجلسات اللهو لسببين الأول حرصنا على سمعتنا كيساريين، والثاني لم يكن لدينا مالاً، فانحصرتْ أحلامنا بطالباتِ الثانوية والرسائل وتراسل العيون في الشارع، إلى أن أوقعتُ صبيته السمراء في شباكي. في اللحظة التي قدْمتُ فيها دعوتي لم أكن قد التقيتُ بها على انفراد في غرفة.

- يعني صدگ.. راح أضوگه!

- أي.. باچر الظهر!

- سولف لي القصة، من دلّاكْ؟!

- لا تسأل؟!

قلتها بحزمٍ وخبث موحياً بأن لدي قدرات لا يعرفها، بينما الأمر جرى ببساطةٍ. ففي مدخل شارعنا في "الحي العصري" جوار مخبز حاج جاسم مقهى لمربي الطيور رواده من الموظفين والعمال، سواق، قصابين، نجارين، حدادين، حمالين، كانوا يكنون لي وداً وإعجاباً خاصين بعد إطلاق سراحي. والمقهى إلتجئ إليه عند عودتي مساءً من مقاهي المدينةِ. أبقى حتى ساعة متأخرة من الليلِ، كانوا قبل انتصاف الليل يسدلون البابَ المتحركَ حتى حافة العتبة، ويجلسون حول طاولةٍ جوار قفص الطيور الكبير، ليلعبوا القمار بمبالغ بسيطة. كانَ الجو يأسرني. ليلٌ وطيورٌ تغفو في أعشاشها داخل القفص، والضوءُ يقتصر على مصباحٍ واحدٍ يتدلى من السقف الخفيض فوقَ طاولة اللعب، والعيون المشدودة إلى أرقام قطع الدمينو، والمتفرسة بوجوه بعضها البعض، في محاولة لتخمين ما يضمرهُ اللاعب، من دعاني إلى تلك الجلسات الخاصة جارنا السائق "ناظم" الذي أبدى بيّ اهتماماً شديداً عقب خروجي من المعتقلِ. كانَ يكبرني بعشرةِ أعوام. أنا الآخر تعلقتُ به عندما لمست به شخصية غريبة الأطوار، طيب القلب، كريم، لا يكذب أبدا، مشدوداً لليسار، عمل فترةً قصيرة مع القيادة المركزية للحزب الشيوعي قبل انهيار "عزيز الحاج" وظهوره على شاشة التلفزيون في 1969، الذي كان أتعس يوم في حياته كما كانَ يردد أمامي عشرات المرات، فظّلَ "ناظم" يحلم بقيامِ حركة كفاح مسلح جديدة تكنس البعث الذي يكن له احتقارا ًمطلقاً. في الوقت نفسه يربي الطيور، ويلعب القمار على الخفيف وكان كلما يكسب مبلغاً بسيطاً ينسحب غير آبه لغضبِ اللاعبين، كما أنه مولع بالعاهرات، ويعرف غالبية الأماكن السرية لبيع الجنس المنتشرة في أكثر المحلات الشعبية فقراً. في ليلة من ليالي المقهى كسب مبلغاً والتفت نحوي، وهمس:

- نايمْ ويه وحده لو بعدك؟!

- لا.. لم أضاجع!

كنتُ أتعمد الكلام بالفصحى، فيشعر هو بالفخر رامقاً الملتفين حول المنضدة بعينين منتشيتين متعاليتين قبل أن يقرب فمه من أذني ويقول بصوت خافت جداً:

- باچر الظهر آخْذكْ؟! نلتقي قبل الآذان بنصف ساعة!

وعندما سألته؛ لِمَ في هذا الوقت والجو حار؟ أجاب؛ أن الناس تنشغل بالصلاة ووقت الغداء فتكون الشوارع فارغة ونستطيع الدخول بسهولة.

كان يوم جمعة، الشمس ساطعة تقف فوق رأسينا تصّب حمماً، أقبلَ نحوي وتفحصني، ثم قال:

- جيب سچينه وضمها جوه الثوب!

رمقته باستغراب دون تعليق فأضاف:

- احتياط!

علقت له مستغرباً ومستنكراً:

- ناظم راح أقاتل لو أضاجع فهمنّي؟!

تفحصني صامتاً، فأضفتُ:

- ما أروح!

قلتها مهددا. أمسكني من ذراعي، وسحبني بود قائلا:

- بلاياها!

وراح يطبب على ظهري. توجهنا إلى طرف المدينة من جهة "حي الجمهوري". كنت متشوقاً لأول مغامرة، أهتف مع نفسي بغبطةٍ:

- أخيرا سأمارس الجنس بشكل كامل مع امرأة!

كان يتقدمني بخطوات. قطعنا شوارعَ غير مبلطةٍ، متربةٍ، وسخةٍ، إلى أن ولجنا أزقةَ فقيرةَ، بيوتها طينية، أبوابها متضعضعة، وعند مدخلِ زقاق شديد الضيق خالٍ أشار نحو باب موارب قائلاً:

- أدفع الباب وأدخل!

داهمني الريب فرفضت على الفور قائلا:

- أدخل أنت أولا!

خزرني بعينين متذمرتين. هزّ ذراعه بسخرية، وراح يتمتم بكلامٍ خافتٍ سمعت طرفاً منه:

- سياسي هه يا الله .. يخاف.. يا الله يخاف!

وابتعد مقترباً من حائطِ الطين الواطئ. دفعَ الباب ودخل. بعد دقائق لحقتُ به. الباب يفضي إلى باحة صغيرة متربة تنتهي بغرفتين من طين متجاورتين تشتركان بحائط واحدة، ثمة طفلة في السادسة تجلس في ظل الجدار جوار عتبة الغرفة المواجهة للباب، تقلب بيديها ورق لعب. ثوبها رث ممزق عند الكتف والخاصرة، يداها مسودتان بأظافر طويلة ينحشر تحتها الوسخ تحملق نحوي ببلاهة، وناظم يتكلم مع احدٍ لم أتبين ملامحه الضائعة في عتمة غرفة بلا نوافذ، ثم ظهرت الكتلة فتبين أنها امرأة نحيفة في أواخر الثلاثينات أو هكذا بدت لي وقتها وأنا في السابعة عشرة، ترتدي ثوباً أسودَ رث يصل حتى كاحليها، وتلف رأسها بعصابة سوداء. حنكها موشوم بوشم أخضر ينزل من حافة الشفة السفلى على هيئة خط رفيع ثم يتوسع ليشمل الحنك كله ويضيع تحته، وبين حاجبيها الكثيفين وشمت نقطة زرقاء صغيرة، سقطتْ عيناها الصغيرتان برموشها الذابلة في حفرتين. تحت الشمس بدت ليست ناحلة فحسب بل شديدة الهزال، ببشرةٍ شاحبةٍ كوجهِ ميت. لبَسَتْ عباءتها وخرجت، فبين لي ناظم أنها قوادة تأتى بجاراتها الفقيرات ممن يتمكّنَ من الزوغان من البيت ليتقاسمن ثمن المضاجعة معها لسد الرمق، قال لي بينما كنا ننتظر رجوعها:

- أنت وحظك!

ولما لزمت الصمت رمقني بعينين فيهما ظلال سخرية خفيفة قبل أن يسألني:

- إذا ما لگت تنام وياها؟!

ارتعبت من فكرة النوم مع هذا الجسد الشبح، لزمت الصمت بينما راح يشرح محاسن وأفضال قدومنا بطريقة فريدة تناسب أفكاره وبيئة حياته التي وجدتها وقتها مثيرة للدهشة:

- احنه ثوريين ومثل ما تشوف عينك هذي العوائل فقيرة ما عدهم يلبسون، إذا لزمنا السلطة راح ننقذهم، وهذا شي بعيد مثل الحلم، لكن لمّنْ نزورهم هم نرتاح من سِمْ جسمنا وهم نساعدهم.. على الأقل يشترون خبز!

لم يكن حظي سيئاً. رَجَعتْ بصحبة امرأة متوسطة العمر ملفوفة بعباءة لم تكف منذ لحظة دخولها عن التحديق نحوي والابتسام. دخلتُ الغرفة معها. سددنا الباب وبصعوبة أقنعتها بالتعري الكامل. كانت تنخرط بنوباتِ ضحكٍ متواصلةٍ وأنا أقبل ساقيها البيضاوين الممتلئتين وبطنها الضامرة ونهديها المتماسكين، بينما تمرر أصابعها على بشرة ظهري الطرية مستمرة بنوبات الضحك وأنا أخوض فيها.

سيأخذني إلى عشرات البيوت المنتشرة في المناطق الفقيرة. سأرى رجالاً يرتدون ملابس الريف الأنيقة ويضعون العقال الغليظ على رؤوسهم، يجلسون على فراش وسط ساحات البيوت الفقيرة يمسّدون بأطراف أصابعهم شواربهم الكثة ويتسلمون ثمن المضاجعات. عالم سري، لا يبعد عن بيتنا سوى عشرات الأمتار لم أكن أعلم به.

سأصحبه مرةً إلى بغداد في سيارة دائرة الإحصاء والتخطيط التي يعمل بها سائقاً، كان يتركها في باب المؤسسة، ونذهب في نزهة. مرةً ركبنا من ساحة الميدان الحافلة رقم 4 التي كانت تربط وقتها ساحة الميدان بساحة النصر عبر شارع الرشيد. في زحمة الحافلة رأيته يطبق من الخلف على تلميذة جامعة شابة سافرة جميلة تقف أمامه وبيدها كتبها المدرسية، كان الزحام من الشدة بحيث لا تستطيع التملص منه، فراح يمعن في حشر جسده بها وكأنه يريد الولوج فيها، لبثتُ أراقب قسماته التي تصاعدت النشوة فيها، احتدمَ، سارعتُ بالنهوضِ تاركاً لها مقعدي، فرمقني بعينين احمرتا غضباً، وعندما ترجلنا من الحافلة راح يلعن ديني، تصنعت البلاهة كاتماً ضحكتي، ومستمتعا ًبملامحه المخذولة لفشله في الوصول إلى الذروة التي كان على وشكها كما أخبرني. أتصنع الجد وأكيل له اللوم:

- ناظم عيب.. هذي مو عاهرة! طالبة جامعة!

سنتصاحب في سنوات دراستي الإعدادية قبل دخولي الجامعة وانتقالي للعيش في بغداد، سنلتقي كل ليلة تقريبا في مقهى الطيور. سنتعرف على شخص غريب، أسمر طويل أنيق يسكن في بيت أقرباء له في الحي العصري يدعى "عباس الناصري" يجمعنا هوى يساري متطرف وعداء للجبهة الوطنية التي أعلنت بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي في 17 تموز 1973. سيحاول معنا لتشكيل خلية أولية للقيادة المركزية في الديوانية. نرتاب بأمره. أبحث وأتقصى من صديق قريب جدا من هذا التنظيم. فأسر لي بأن "الناصري" كان طالبا في كلية الإدارة والاقتصاد في بغداد، من قادة اضرابات جامعة بغداد الشهيرة في نهاية ستينيات القرن المنصرم. ومسئول مالية القيادة المركزية. وعند انهيارها اعتقل وأودع في قصر النهاية، والذي أنقذه شخص يدعى "سعد" كان بالإضافة إلى كونه رفيقه ويسكن معه شقةً في الوزيرية وسط بغداد، صديقه الشخصي جدا. "سعد" منحه "ناظم كزار" المشرف على معتقل قصر النهاية وقتها، رتبة ضابط على الفور لتعاونه، فكُلفَ بالتحقيق مع رفاقه القدامى:

- يقال إنهم أتوا به معصوب العينين. أجلسوه على الأرض أمام "سعد" ورفعوا قطعة القماش. تجمد عباس الناصري مذهولاً وهو في مواجهة أعزّ صديق. لم يستمر الأمر إلا دقائق. إذ أعلن "سعد" أن لا علاقة للناصري بالتنظيم. فأطلق سراحه على الفور. ومنذُ ذلك التاريخ يتنقل ضائعاً، شبه متخفٍ. رفضنا أنا وناظم فكرة تكوين نواة خلية ثورية في المدينة خشيةً.

أول يوم وصلت الديوانية. سألت عن "ناظم". أخبرني أخوه الصغير؛ أنه أشترك في انتفاضة آذار 1991 وكان ينقل المؤن والمقاتلين، ويسحب الجرحى والهاربين إلى بادية السماوة كي يعبروا الحدود إلى السعودية، وأثناء عودته إلى المدينة لِنقلِ من تبقى ألقى "الحرس الجمهوري" القبض عليه. حملوه إلى سجن "الرضوانية" ببغداد وبعد ستة أشهر أطلقوه ضامراً صامتاً ليموت بعد أسبوع.

* * *

هبط المساء على النهر والضفة، وكراسي المقهى ووجهينا. كنا نجلس متقابلين نلعب الشطرنج. لم يحرك جندياً أو حصاناً أو فيلاً بل ماتت ذراعاه وبقي لسانهُ يلهج بالأسئلة عن الكيفية التي استطعت بها التعرف على هذهِ الأمكنةِ وقطف تلك المباهج. وكما خططتُ كي أضفي على نفسي وقتها قدرات سحرية لا يتمكن منها على الرغم من أنه يكبرني سناً وتجربةً ويحتك بالنساءِ في السوقِ كلما حلَّ محلَ أبيه في دكانِ الخضرة. حسمتُ الأمر قائلا:

- كافي أسئلة. غدا قبل الآذان بنصف ساعة أنتظرك قرب جامع حي العصري!

هزّ رأسه متعجباً هذه المرة من إعراضي عن القص كما اعتاد من ثرثار مثلي، كنت أخطو أولى خطواتي في معرفة إدارة نفسي والعلاقات مفتقداً براءة ستنأى عني كل العمر بعيداً.

وجدتهُ ينتظرني قبل الموعد بنصف ساعة كما أخبرني، مرتديا أكثر ملابسه أناقةً، حالقاً لحيته، مقلماً شواربه الغليظة، يُشَم منه عطر الكولونيا الرخيصة من مسافة أمتار.

- كأنك ذاهب إلى حفلة عرس!

علقتُ ساخراً بالفصحى، وأنا أفكر بالبيت الفقير القذر، فهو الوحيد الذي لا رجل فيه من بين كل البيوت التي زرتها مع "ناظم"، ولم أجرؤ على زيارة بيت غيره، كنت أسرح متصورا أخيلة "أحمد" في تلك اللحظة، من المؤكد أنه يتخيل مثلما تخيلت؛ مكان وثير وفراش وامرأة بعطر وغواية كما أطالع وأشاهد في الروايات والقصص والأفلام. خضنا في شمس الظهيرة الحارقة في أزقةٍ متربةٍ بعيدةٍ، وكنتُ مستمتعاً أختلس النظر إلى خطواته النشطة، وملامحه المنتشية والمتشوقة لما تضمره اللحظات القادمة، فقد كان يثق بيّ ثقة مطلقة برغم قصتي مع طالبة الإعدادية التي أمّنني عليها، وكنتُ متشوقاً أيضاً لرؤية ردة فعله إزاء عملية بيع الجنس في بيئة فقيرة. لم أقُل له أذهب وأدفع تلك الباب وسألحق بك كما حاول "ناظم" معي، بل صاحبتهُ ودخلتُ قبله. وجدتُ المشهد نفسه وكأنه تجمد منذُ زيارتي الأولى؛ الطفلة الصغيرة تجلس في نفس مكانها مستظلة بفيء الحائط الطيني تقلب ورق اللعب بملابسها الرثة. والمرأة الطويلة الناحلة الشاحبة الملفوفة بثوب أسود تقف أمام عتبة باب الغرفة التي على اليمين. رحبت بنا. واعتذرت قائلة:

- كلهنْ بالزيارة.. ما تدرون بعد يومين أربعينية الحسين!

حبستُ ضحكةً صاخبةً هزّت جسدي بصمت من حظ "أحمد" العاثر.

- والحل؟!

سألتها.

- ما أدَري.. بسْ إذا متوازي فَأَنِيْ حَاضْرة!

التفتُ فوجدته جامداً يحملق بصمت غير مستوعبٍ حوارنا. يبدو أنه لم يفهم شيئا فشتان ما بين مخيلة المكان قبل دخولنا وبين ما يراه.. هذا ما حدث معي بالضبط. وهذا الإحساس كتمته عن "ناظم"، قلت له:

- ماكو غيرها تريد أتنام وياها؟!

أشّرَ برأسه موافقاً. دخلا الغرفة وسدا الباب فبقيت تحت الشمس أحدث الطفلة الصغيرة التي وجدتها ذكية تفهم ما يجري في البيت لكنها تتصنع الغباء، فليس أمامها غير ذلك كي تستمر في العيش. ولا أدري هل كانت بنت القوادة أو بنت غيرها؟! لم تمر أكثر من عشر دقائق حتى خرج "أحمد" بوجهٍ مشمئزٍ. في طريق عودتنا أوقفني وركض نحو جدار بيت طيني مهوّعاً، وركعَ على ركبتيه وراحَ يتقيأ. ثم انتصبَ بإعياء وأقتربَ مني قائلاً:

- هو هذا (....) الذي قضينا عمرنا نحلم به!... هو هذا!

مطلياً بفضة الفجر عبرتُ الشارع العريض الخاوي من جهة مخازن الحبوب إلى گراج واسع تنطلق منه السيارات إلى مدن العراق، فتشني في المدخل جندي يتثاءب، متلمساً جسدي من كتفيّ حتى قدميّ، لم أكن أحمل حقيبة ولا كتاب كما كنت معتاداً في السفر. كنت أحمل هذا الفيض المتدفق من ألق أيام لفّتْ نفسها وغابت في تاريخ شخصي منسي جدا، أحملُ كتاب صديقي "أحمد" الثقيل متتبعاً حكايتنا النابضة في الأحشاء، والطافحة بكل تفاصيلها أمامي في غبطة هذا الفجر الموحش وكأنني أعيشها حيةً من جديد، وبعنفوان تلك الأيام نفسه.

- هل حوّلني المنفى إلى مجرد حالم مسكين يعيش الزمن كما يرسمه لا كما هو في الواقع؟!

- هل.. يا للمحنة؟!

أخطو مثل مخدرٍ نحو مظلات الساحة العالية حيث تقف السيارات بانتظار ركابها، الساحة شبه خاوية، لا أحد من السواق ينادي فليس ثمة ركّاب.

- الإرهابيين الأنذال گطعوا رزقنا!

انتبهتُ إلى رجلٍ قصير القامةِ يقفُ إلى جوار سيارة أجرة صغيرة ويوجه كلامه نحوي:

- أستاذ .. بغداد!

أومأتُ برأسي. كان يرتدي دشداشة بيضاء نظيفة، تفحصني طويلاً بعينين جاحظتين تبرزان من وجه مغضن لوحتهُ الشمس قبل أن ينهد شاكياً من الجميع، الأمريكان، والحكومة، جهل الناس والميلشيات التي لا يدري أحد كيف ظهرت وراحت تقتل الناس باسم الدين، من جيش محمد إلى جيش المهدي، وختم كلامه قائلا:

- الله يحفظنه من اليوسفية! والله، والله يا أستاذ لو ما أولادي العشرة فلا طِلَعِتْ على طريقْ الموتْ هذا!

لم أكن راغباً بالكلام، مشغولاً بصفحات "أحمد"، أود الخلوة والإبحار في خصم تلك الأيام التي كنا نظن فيها أننا قادرون على تغيير العالم. فتمردنا على الأهلِ والمجتمعِ ورحنا نسخرُ من كل شيء؛ التقاليد والدين والأعراف المنافية لحق الإنسان، وكان "أحمد" ملحداً، يجادل أباه الشيعي المتعصب الفقير، هازئاً بالمعممين والحوزة والمرجعية، ناكراً وجود الله، فيشتعل أبوه غضباً ويطردهُ من البيت، فيلجأ لديَّ أياماً نقضيها ساهرين حتى الصباح، كان ذلك قبل أن يرسب في المدرسة ويساق جندياً.

في ليلة من تلك الليالي غادرنا المقهى، ورحنا في جولة تسكع في أرجاء المدينة إلى أن قادتنا أقدامنا إلى رصيف محطة القطار التي أستطيع رؤيتها الآن في فضة الفجر، من وقفتي جنب سيارة الأجرة، عبر الشارع العريض خلف سايلو الحبوب المقابل، كنا في حالةِ نشوةٍ نودُ الطيرانَ إلى مكانٍ غير مدينتنا لمعانقةِ فقراءِ الأرض المجهولين، مفعمينَ بروح الأمميةِ التي رضعناها من الكتب الماركسية وحكايات المناضلين الأكبر سناً الذين يقصونها علينا في المقاهي. وقتها لم نكن قد سافرنا خارج حدود "الديوانية". وفي لحظة جنون قال بصوت عالٍ أقرب إلى الصراخ:

- لنشرد بالقطار!

صرختُ بنشوة:

- هيا بنا.. هيا بنا!

كان قطار حمولة يقترب ببطء قادماً من بغداد في طريقة إلى البصرة، توقف على بعد أمتار من وقفتنا، فهتف بصوت عالٍ:

- هيا إلى الحرية!

وصعدنا عربةً من عرباته المكشوفة. حوض حديدي فارغ سياجهُ قصير. تحرّكَ القطار ببطء وعوى، فصرخنا من بهجةٍ مبهمةٍ وضجيج المحرك يهدر بصمت الليلِ. لم نهدأ، نصرخ ونصرخ ومصابيح المحطة والمدينة تتضاءل متحولةً إلى نقاطٍ تومض وتنطفئ إلى أن غطست بالظلام، كان القمر هلالاً شاحباً يمنح الخلاء ظلاماً أقل كثافة من حلكة غابات النخيل المنتشرة على جانبي الطريق، لم نكف عن الدوران في مساحة حوض العربة، والصراخ في نشوة راحت تتصاعد مع نسمات الليل وإيقاع المحرك .. چك.. چك.. چك.. وعناق فكرة الهرب إلى المجهول، إلى فقراء العالم، وبدأنا ننشد صارخين بوجه الليل وضجيج العربات والظلام الفسيح:

«لبناء عالم جديد ولقبر مشعلي الحروب

في هدى أكتوبر العظيم سائراً موكب الشعوب»

كنا نصرخ بحماس ونشوة .. نصرخ بالكلمات الحالمة فيضيع صراخنا في ضجة القطار والظلام والبرية الممتدة على يميننا حتى الحدود السعودية، نقطع النشيد ونطلق أصوات مبهمة، نرقص، ندور، نهتف:

- المجد للطبقة العاملة

- المجد للفلاحين!

تدمع عيوننا، نكاد نبكي حماسةً، ونروح نغني أغنية أممية أخرى:

- أنا.. أنا

يا سيدي أسودٌ كالليلِ .. كأعماقِ أفريقيا

كأعماقِ أفريقيا

أنا.. أنا

جندي أحمل في يميني سفر جيفارا

وفي يساري أقمار گاگارين.

أقمار گاگارين.

لا لالا... لالي لالي لالي!

جنون والقطار يَمخرُ بنا عباب الليل والظلام والحقول والنواحي والقرى الصغيرة بنقاط ضوئها الشاحبة التي سرعان ما تحتضر كلما ابتعد القطار البطيء. لم نصحُ من النشوة إلا حينما توقفَ القطار لنجدَ أنفسنا في محطة مدينة "السماوة" الصغيرة. فسألنا بعضنا:

- إلى أين نذهب؟!

تلاشى الحماسُ وتبدد الحلمُ. ليس لدينا ثمن تذكرة العودة إلى "الديوانية"، جعلنا نفكر بوسيلةٍ للرجوعِ، لم نجد بداً من انتظار قطار بضائع أخر يصعد من البصرة، في ظهيرة اليوم التالي تسللنا خارج المحطة، وقفزنا عندما تحرك القطار إلى عربة فارغة مفتوحة مغافلين الحارس، جائعين، منهكين، حالمين برغيف خبر وغفوة.

لم أزل أقطع مسافة الخمسين متراً بين سيارة الأجرة وباب المحطة ذهاباً وإياباً، منتشياً بتلك التفاصيل المنسية التي نهضت مع قيام شمس الصباح من رقدتها، فبان ربع قرصها اللاهث حمرة، في أفق الشرق، من خلف البيوت الناصية. تلمستُ قصاصة الورق الصغيرة الراقدة في جيب قميصي، التي بعثها مع شخص قريب لي، فـ"أحمد" كما أخبروني انقطعت علاقته بالديوانية نهائيا منذ أكثر من ستة وعشرين عاما، لذا فشلت كل محاولاتي في العثور على خيط يدلني عليه. قرعت باب بيتهم القديم فتبين أنهم باعوه من زمان. سألتُ، فسمعتُ قصصاً متضاربةً لا تشبه بعضها البعض، مما زاد الأمر غموضاً. قصص عن فقرهم المدقع، وزواج أختيه الفاشلين، الصغيرة ذات الوجه البريء بشعرها الأشقر الطويل، تزوجها عامل شيوعي هرب في حملة 1978 ولم يعد، تاركاً طفلاً لا يناهز الثالثة من عمره، اضطرتْ إلى العمل كعاملة بمصنع النسيج، ولما يئست من عودة زوجها الذي نسيها تماما تزوجت ثانية من صديق يعمل في استعلامات المستشفى الجمهوري القديم، ولم يدم الزواج الثاني غير أشهر إذ أعتقل الزوج الثاني وأعدم وسلمت جثته .. فصرخت في اللطم:

- يا ربي أش لون حظ عندي!

ولاكتها الألسن في بيئة نميمة وتشويه لا يستطع السامع تصديق شيء مما يحكى وينم، أما الكبيرة السمراء المليئة واللاهثة فقد تزوجها أخ الزوج الأول وكان عسكريا ًمطوعاً أُشيعَ كونه شاذاً، كنتُ وقت قصة زواج أختيه الأول موجوداً في المدينة، ولمتهُ على تلك الزيجتين، فبكى وعانقني قائلا:

- ما بيدي شيء!

زوج الكبيرة سيقتل طعناً بالسكاكين في ظروف غامضة على طريق غجر الفوار. التبست ْ الأحوال، ولم يبق للعائلة معيل، فأخ "أحمد" الصغير قُتِلَ هو الأخر في جبهة الحرب مع إيران، وأحمد انتقل إلى بغداد، والأم ماتت كمداً، والأختان العاملتان في معمل النسيج لاكتهما الألسن، نمَّ لي واحد من أقربائه هنا في الدنمرك قبل سفري:

- صاحبك شرد .. ما يگدر لو يگتل وتخرب حياته لو يشرد!. ولا واحد يعرف عنوانه!

لم أعلق بشيء، فأنا تركته يعيش في بغداد ولم يهرب حسب قصّة النمام. الجميع الذين طرقتُ أبوابهم ينتظرون مني رأياً، فما جرى في غيابي على أعزّ أصحابي هو ما أبحث عنه الآن مغامراً بحياتي وسط أجواء القتل الشبيه بالعبث، لكنني الوحيد الذي يبرر موقفه في الهروب في ظل أوضاع لا يستطيع فيها شيئاً، قائلا مع نفسي:

- حسنا فَعَلَ!

وقبل أيام وقع بيدي المفتاح حينما زارني شاب من أقربائي، طويل وسيم، أنيق قدم نفسه قائلا:

- عمي أني أبن أستاذ هاشم!

وأبوه يمّت لي بقرابة درّسنا مادة الأحياء في إعدادية الزراعة. صار صديقٌ لنا، كان معجباً بميولنا اليسارية، لكنه لم يتورط طوال حياته بالسياسة أبداً. ويشتهر في المدينة بجمعه الكتب إذ كان يصرف نصف راتبه في شرائها، لكنه لا يقرأ إلا مجلات خفيفة كالمدار السوفيتية، والمصور المصرية. دعانا أنا وأحمد إلى زيارته في بيته، فوقفنا وسط غرفة كبيرة ينظر واحدنا بوجه الآخر في دهشةٍ من جدرانها الأربعة، بأدراج كتبها المرتبة والمرقمة. رفض بشّدة إعارتنا أي كتاب مردداً؛ الكتاب لا يعار وسرقته حلال لا يستطيع صاحبهُ المطالبةَ بهِ، لذا لا أعير كتاباً. وكان يصطحبنا أحيانا في طريق عودتنا من إعدادية الزراعة التي تبعد أربعة كيلومترات ويقص علينا طوال الطريق قصصاً خرافيةً عن قدراتهِ الهائلةِ ومناقبه؛ كيف لاحقه فحل جاموس وحصره بين الشط وجدار بستان الچلبي، فأضطر إلى مسكه من قرنيه، وفرّه عدة مرات قبل قذفه إلى النهر، يروي مثل هذه القدرات الخارقة بثقةٍ مؤشراً بيده وقسماته محتقنة فرط الانفعال. كنا نمسك أنفسنا بعناءٍ كي لا ننفجر ضحكاً، فتكون قصصه العجيبة حديثُ المدينةِ إذ كنا نشيعها في المقاهي. زارني أستاذنا في زيارتي الأولى إلى العراق عقب الاحتلال بأشهر حاملاً كيس بوله ناحلاً يتكلم بعناء. حضنته وبكينا. وبعدها بأيام سأكون حاضرا في مقبرة النجف، واقفا جوار دكة غسل الموتى ورجل كهل ملتحي يغسل جسده العاري الهامد بسلام.

عانقني ابنه وجلسنا نتحاور فعرفتُ أنه يدرس "مادة الديمقراطية" في دورات تفتحها منظمات المجتمع المدني التي نشأت بمساعدات خارجية لإشاعة الديمقراطية، وقبل أن يغادر قال لي بأنه يحمل رسالة لي من شخص يقول إنه صديقك جداً سلّمها له منذ أكثر من عام. فسألته:

- من هو وأين التقتَ بهِ؟!

فأجاب:

- والله عمي صدفة وقفت أمام مكتبه صغيرة بمدينة "الشعب" وردت أشتري كتاب، فانتبهت إلى صاحب المكتبة وهو رجل كبير ملتحي أشيب الشعر ينظر لي نظرات غريبة فسألته: عمي تعرفني، فسألني مستفهما: عمي أنت من الديوانية؟! فجاوبته: أي عمي، ففرح وسألني عن أثنين بالاسم: عنك وعن والدي؟! فجاوبته الأول أبي، والثاني: خالي، فكتب لك هذه الورقة!

فتحتها، فتعرفت على خطه على الفور، فهو يعتني برسم الحروف.

«بسم الله الرحمن الرحيم

حبيبي

لم أحب في عمري صديقاَ مثلما أحببتك!.

لدي حلم واحد قبل ما أموت؛ .. أشوفك!

لا أستطيع المجيء إلى الديوانية

لمن نلتقي راح أحكي لك

وهذا عنواني».

* * *

نادى السائق عليّ فأخرجني من كتاب "أحمد" ليدخلني في دوامة الحاضر وأمل الوصول إلى بغداد. الشمس قامت من خلف بناية مخازن الحبوب العالية مشعة بلونها الدامي، والحركة بدأتْ تدبُ في أرجاءِ الگراج الواسع. توجهتُ نحو السيارة وجدتُ في حوضها الخلفي ثلاثة ركاب؛ شاباً حليق الرأس، نضر البشرة يحملق بعينين واسعتين واثقتين سيتبين لاحقاَ أنهُ ضابط في الجيش، ورجل جاوز الخمسين بلحية شيباء وشعر غير مرتب، وملابس رثة، يتصنع الثبات بقسماتٍ جافة وعينين ذابلتين ونظرات قلقة، وامرأة ناحلة ملفوفة بالسواد. وجهها شاحب، تنظر نحو الوجوه والسماء والعابرين بعينين جزعتين، سيتبين أنهما ذاهبان للبحث عن ولدهما ومعيلهما الوحيد، المتطوع حديثا كجندي خُطفَ في بغداد. سألني السائق؛ هل أدفع أجرة راكبيّ المقعد الأمامي كي نتحرك. أجبته بنعم، وجلست جواره. أدخلَ مفتاح التشغيل وأداره فتعالى صوت المحرك لكنه لم يتحرك. بل لهج في ترديد دعاء طويل:

- اللهم احفظنا من كل مكروه

اللهم أعمي عنا عيون الأشرار

اللهم!.

فتصاعدتْ أصوات من خلف ظهري تردد أدعية، وآيات قرآنية، حملقتُ في وجه السائق كان يتوسل متهدج النبرة يكاد ينشج، وشفتاه ترتجفان بمفردات الدعاء التي يلفظها ببطء شديد. التفت ُإلى الحوض الخلفي، فهالتني الوجوه، زادت شحوباً على شحوبها. تردد آيات من القرآن، حتى الشاب الذي بدا متماسكاً أصابهُ الجو بالعدوى، فراح هو الآخر يردّد أدعية بقسمات ضارعة مستسلمة، وكأننا مقبلون على الموت. غمرني لغط الأدعية والآيات فأخذني بعيداً إلى محطات رعب عمري الضاجة بالقمع والتهديد بالموت في كل الأمكنة التي سبقت وصولي إلى الدنمرك فلم أرَ رعباً كالرعبِ المرتسم على وجوه الركاب الأربعة. رعبٌ أملس مطلق لم أشعر به لا في نفسي وأنا تحت القصف في جبهة الحرب مع إيران، ولا في وجوه زملائي الجنود رغم أنه يخطف منا في الشهر واحدا أو اثنين في أوقات هدوء الجبهة، ولا في وجوه الثوار في الجبل حينما نُحاصَر ويكون الموت على بعد أمتار، ولا حتى في سراديب الأمن العامة والاستخبارات العسكرية التي حللت في ظلمتها وعفنها ورعبها مرات. كانت وجوه الجنود والثوار والمعتقلين متماسكة على الرغم من أنها قريبة من الموت جداً. أما أنا فلم أكن مكترثاً، لا أدعي الشجاعة، فقد كنتُ قبيلَ لحظاتِ الاعتقال مثلاً أموت من الخوف، لكن عندما أحلّ في الزنزانة تتساوى الأشياء لدي، فأستسلم ويعود لا فرق بين موتى ونجاتي؛ حالة أقرب إلى العبث منها إلى العقل والمنطق. لزمتُ الصمت؛َ هذا ما علمتني إياه التجربة، إذ كنت لا أعرف ما يجري بالضبط، ولم أستوعب بَعْدُ الهول الذي يعيشون به والذي بدا محفوراً في أرواحهم. ها هو يتجلى في أصواتهم وهم يتضّرعون إلى الخالق وقديسيهم من أئمة الشيعة، مستنجدين بمن لم يستطيعوا النجاة بأنفسهم يوم الطف في العاشر من عاشوراء، يستنجدونَ بوجوهٍ مشلولةٍ، مرتجفةِ الشفاه والسيارة لم تتحرك بعد. قلت مع نفسي:

- إنهم في لحظة رعبٍ فاقت لحظة رعب العراقي أيام الدكتاتور.

وتساءلتُ بصمتٍ:

- أية فظائع وأهوال جرت تحت أنظارهم منذ الاحتلال؟!

ـ أية؟!

أستمر لغط الأدعية والتمتمة والتضرع دقائقَ خمساً، إلى أن قطعها السائق بالقول وهو يضغط على دواسة البنزين:

- رددوا الشهادة!

نطقوها بوضوح وبصوت عالٍ، ومع آخر فقرة أردف:

- الله كريم. الأعمار بيد الله!

قلت مع نفسي:

- يبدو أنه الموت إذن!

بدا الأمر مبهماً بالنسبة لي، على الرغم من أنني أشترك معهم في مواجهة المصير نفسه الذي حاولوا دفع بلاه، فلدي مع الموت حكاية طويلة، الكثير من الناس يخشون من الميت وفكرة همود الجسد لكنني كنت أتعامل بحيادية وجدية مع أجساد الموتى من أقربائي ومعارفي الذين ماتوا موتا طبيعيا، أو مع قتلى الحرب في الجبهة والجبل من زملائي الجنود أو الثوار، تحركت السيارة وَعَبرتْ الباب الواسع وأخذت الطريق المعبّد القديم المتوجه نحو الحلة، والسائق يبرر الأمر قائلا:

- ندخل الطريق السريع قرب الحلة أسلم!

فاستفهمتُ فرد:

- طريق الدغارة ملغوم لو سلابه لو مليشيات!

قلت مع نفسي:

- لا طريق آمن إذن!

وهذا ما بددَّ شيئاَ من غرابة خوفهم الأملس من موت يلوح في الطرق والمدن والقرى المنتشرة على الطريق.

قلتُ بصمت مخاطباً صاحبي:

- أحمد هو الموت إذن الذي خشيناه معا في مطلع شبابنا!

أتذكر يا صديقي ذلك المساء الحزين. كنت وقتها أخلد في غرفتي المظلمة في بيتنا مبهوراً بالعالم الذي فتحه لي "تروتسكي" في كتابه "تاريخ الثورة الروسية" حينما قُرعَ الباب، فهببتُ قاطعاً ممر الحديقة لأجدكَ واقفاً محني الظهر مسكيناً، سألتكَ:

- ما الذي جري؟!

نطقتَ بخفوت:

- أبوي مات!

تركت ُ "تروتسكي" والثورة والساحة الحمراء وصحبتك إلى بيتكم القريب. كان صوت العويل والصراخ ينتشر في أرجاء البيت، وكنا نتضايق من طقوس الموت العراقي بحزنها الدامي الذي لم أجد شبيهاً له في تجوالي بمناحي الأرض. شق الثوب من الصدر حتى القدمين، لطم الصدر حد الإدماء. تجريح الخدود بالأظافر،

قلتُ:

- أحمد ما موقعنا وسط النسوان؟!

كن من الجيران والأقارب.

قلتَ:

- ساعدني أريدك فقط تقنعهم بنقله إلى جامع (البو دخن) وإلا سيهلكنَّ من البكاء واللطم.

صمت قليلاً ثم أضفتَ:

- صعبة عليّ أطلب نقله.

دخلتُ الغرفة المحشودة بالنساء وقلت لهنَّ:

- ما يجوز يبات هنا لازم ينّقل لبيتْ الله.

ذهبنا إلى الجامعِ وجلبنا تابوتاً خشبيا قديماً من توابيتِ الوقف. اخترنا أطولها، فأبوك كان طويل القامة، ناحلها. وضعناه في تجويف خشبته وحملناه بمساعدة جيرانكم وأقربائكم إلى الجامع الذي لا يبعد عن بيتكم سوى خمسين متراً. ليلتها بتنا في قاعة الجامع المفروشة بالسجاد، الواسعة المنارة بمصابيح خافتة الضوء معلقة في الزوايا. رقدتُ قربك جوار التابوت على السجاد ملتحفين كلٍ ببطانية بعد أن غادرنا الجميع. كُنتَ غير مصدقٍ أن أباكَ الراقد في جوف الخشب لن تسمع صوته أبدا، وكنت حائراً بكيفية تدبير معيشة عائلتك فأنت أكبرهم، ولديك أخ يصغرك تطوع في الجيش كي يساعد العائلة، لكن ما كان يهوّن عليك هو حماستكَ للشيوعية بحيث رحت تحدثني حالماً عن يوم الخلاص العام من الفقرِ بقيام الثورة التي كان أبوك يسخر منها وهو يحاورنا عن أخلاقية العدالة والحق. فيورد قصة متداولة عن رمي ستالين أمه بالثلج لأنها لا تنتج مقارناً بينه وبين الأمام علي بن أبي طالب. كنت شديد الحماسة لأفكارك متعنتاً تسخر من أفكار أبيك وتخلفه حسب تعبيرك، وكنت أحاول التخفيف من صلابة كلماتك، مبدياً انزعاجي، فقد كنت في أعماقي أكنُّ لأبيك محبة خالصة وأتذكره دائما بقسماته المنفعلة، الجدية، فبرغم بساطته وكدحه كان ذا كبرياء. إضافةً إلى أنني أَجّل الموت إجلالاً، غيرتُ الموضوع وقمت من جوارك إلى مكتبة الجامع الصغيرة، انتقيتُ من صفوف كتبها "شرح نهج البلاغة" لمحمد عبده،

قلت لك:

- سأستعيره!

فانخرطتَ بضحكة عاصفة هزّتْ قاعة الجامع في بحر ذلك الليل العميق. لم أفطن أول الأمر لِمَ تضحك. أوشكتَ على الاختناق وأنا أحملقُ بك مثل أبله إلى أن تمالكتَ نفسكَ قليلا فقلت بالفصحى مشدداً على مخارج الكلمات:

- أعد.. أعد.. ماذا تريد بالكتاب؟!

- أستعيره

قلتها ببلاهة وعفوية، فَصَخَبتْ ضحكتك وأنتَ تردد:

- يگول أستعيره، ههههههههههه، يستعيره يا الله الحلو يستعيره، ههههههههههههههههه!

فانتبهت للأمر، فهدرتُ معك مردداً:

- أستعيره وعلي بن أبي طالب!

مما أشعلنا بالضحك جوار والدك الغافي، فقد كنتُ معروفاً في تلك السنين كأمهر سارق كتب بالمدينة، أخلق الكتاب خلقاً دون أن أدفع، أو بأدق هو من أين لنا الدفع في تلك الأيام بعائلتينا الفقيرتين. ما أن تمالكت أنفاسي من نوبة الضحك، حتى قلت ما أدخلنا في نوبة أشدَّ:

- أستعيره من علي بن أبي طالب نفسه مو من - ألبو دخن -!

ضجت قاعة المسجد. وبغتة توقفنا عن الضحك شاعرين بالذنب من جسد أبيك المستلقي جوارنا ولم يغادره النبض إلا قبل ساعات. قرأت آيات الحمد وقل هو الله أحد متوحداً في الصمت. كنتَ مُلحداً تحدق نحوي بعينين ساخرتين، لكننا قضينا تلك الليلة في حوار حول الموت وسّره، وعن فكرة أن الإنسان لا يدري متى وأين يموت؟! كما تقول آية قرآنية التي تعبر عن واقعة حقيقية فلا أحد يستطيع معرفة كيف يموت ومتى ولِمَ وأين؟!

- هل سأراك اليوم يا صديقي؟!

تساءلت والسيارة تقطع الأراضي الشاسعة المتروكة بأعشابها البرية المهملة ونخيلها المتفرق الممتد حتى الأفق. والركاب يلوذون بصمتٍ يشبه الخرس. وحده صوت المحرك يهدر في الطريق وصمتي.

تحمّلتَ عبء العائلة وأنت يا صديقي الحالم لم تتقن مهنةً ما، حاولتَ بعد تسريحك من الجيش العمل بالنجارة، بنيت دكاناً في ساحة بيتكم المطلة على الشارعِ. فسحة صغيرة ضاقت بقطعِ الخشبِ وأدوات النجارة تَضُمَنا في عطلة نهاية الأسبوع حينما أعود من بغداد حيث كنت أكملُ دراستي الجامعية، فنجلس معاً صباح كل جمعة تحت سقفِ الدكان الخفيض، كنتَ تنجر بصعوبة كرسي أو طبلة فأهرع إلى مساعدتك بخبرتي البسيطة من والدي الذي كان من أمهر نجاري المدينة لكنه أبعدني عن مهنته قائلاً:

- دَراسْتَكْ أحسن لك من النجارة!

فَشِلْتَ، فحولتَ الدكان إلى حانوت لم ينجح أيضا. لا أدري .. هل سوء الحظ لازمك أم كنت لا تقرأ السوق ومتطلباته؟! كنت أفكر بك طوال الوقت برغم بهجتي وانشغالي بأجواء بغداد في أوج توهجها في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين المنصرم. أفكر بكَ وأنا أنعم بوضع مادي يكفي حاجتي كطالب. فالدولة وقتها تمنح طالب الجامعة عشرة دنانير إضافةً إلى سكن مجاني في قسم داخلي، وكانت أخواتي الثلاث اللواتي يكبرنني يعملن مدرسات قد خصصن لي شهريا تسعة دنانير كانت تكفيني. كنت أقارن بين وضعك الصعب ووضعي المرفه وأنا أدور بين بارات ومقاهي بغداد؛ الزهاوي، البرازيلية، البرلمان، حسن عجمي، أم كثلوم، سرجون، بغداد، ألتقي بشعراءٍ ورسامين ومثقفين وكتاب ومتطلبي ثقافة، جو ساحر أخذني وجعلني أحلم بضفافٍ لَمْ أصلها حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها عنك، كان التفكير بك في تلك الأيام يوجع قلبي ويورثني حزنا، فأنزوي شارداً وأنا في جلسة صاخبة بالحوار، أتتبع متاعب يومك وأنتَ تنتقل من مهنةٍ إلى أخرى، دون جدوى، كنت تحلم يا صديقي، لكنك لا تستطيع .. تحلم بالأفضل، لكن قدراتك محدودة، وأتى الحّل من السياسة. ففي 17 تموز 1973 قامت جبهة وطنية بين حزب البعث الماسك السلطة وحزبك الشيوعي، فاكتشفتُ أنّكَ حزبياً مضبوطاً ضبطَ العقال بحيث أخفيتَ عنّي ذلك. الإخفاء حسبتهُ لكِ. فأنتَ عكسي تماماً، فأنا ثرثار لا أسرار عندي، بل فاضح أسرار، لا تدري كم شعرتُ بالفخرِ لاكتشافي شدّة التزامكَ في حزبٍ سريٍ أحبهُ وفشلتُ في أول تجربة للعمل فيه، إذ ضعفتُ في أول اعتقال، كنتُ سعيداً وأنا أراكَ تبكر كلَ صباحٍ إلى مقرِ محلية الديوانية حيث كنتَ تعمل في الاستعلاماتِ. المقر الذي لم أدخله قط. أمنتَ راتباً شهرياً ثابتاً، ساعدكَ على ترتيبِ حياتكَ وأنت أصلاً بسيط التطلب، كم كان وجهك ينضح زهواً وأنت تتوجه نحو مقرٍ تعتبرهُ حجةً ومصلى. مقرٌ سيتكشفُ لاحقاً أن من كان يديره من القادة يتعاون سرا، وعمل مخبرا لدى حزب البعث، حيدر فليح، عبد الأمير ناصر، أبو نجاح وغيرهم. قادتك كانوا عملاء سراً. هذا ما ظهر لاحقا في حملة تصفية اليسار العراقي 1978 سيحبط عزمكَ. أنتَ الذي كنتَ مخدراً بفكرة كونك جندياً تحمل في يمنيك سفر جيفارا وفي يسارك أقمار گاگارين. الأغنية التي ترنمنا بها مثل سكارى في غمرة ليل عربة مكشوفة يجرها قطار حمولة ينزل نحو الجنوب، الفكرة التي خلصني من وهمها الاعتقال الأول وصحبتي لمتطرفين من اليسار العراقي إضافةً إلى خلطة من أفكار فلاسفة تعارض الماركسية بنسختها السوفيتية، لكن على الرغم من ذلك كنا نكّنُ لبعضنا البعض وداً فاقَ الحدود، وداً غذّتهُ قصة علاقتنا وتاريخها.

بعثوك إلى بلغاريا الاشتراكية وقتها في دورة حزبية. كما هي عادتك جعلتَ الأمر سراً، وفاجأتني في رسالة من أجملِ الرسائل، أغرق فيك يا أحمد الآن، غير آبهٍ بما سيأتي في اللحظة القادمة، الركاب حوليَّ مذعورون كأن الموت ينتظرهم واقفاً في الدقيقة القادمة، لكنني واثق من النجاة والوصول إليك. فعمر الشقي بقي، وأنتَ تعرفني شقياً حد أبدو أرعنَ أستطيع الآن تذكر لون ورق رسالتك، كانَ أزرقَ وخطكَ الجميل وأنت تصف ما حولك مركزاً على تفاصيل ما بعد المحاضرات. حفلات رقص وويسكي وشمبانيا وفودكا وبلغاريات جميلات ورفيقات من شتى بقاع الأرض، كنتَ بارعاً في وصف الرقص والوجوه والأجساد مثل سارد خبير، لكنك لم تفض لي بشيء عن تجاربك الجنسية في السفرة تلك لا بالرسائل ولا عند عودتك. ولما كنتُ داعراً حسب توصيفكم لي، ألححتُ كي تقص عليّ طرفاً من تلكَ الخبراتِ، لكنك أحجمتَ كعادتكِ فظننتُ وقتها أن طبيعتكَ الكتومة متمكنة منكَ لكن صمتك ووجهك المذهول حينما أسرد تجاربي الجنسية مع العاهرات والنساء والفتيات جعلني في ريب. وَوَلّدَ لدي سؤالاً محيراً لم أستطع مواجهتك به، إلا بعد زواجك من رفيقتك زواجاً حزبياً غير مكلف. إذ يجري الاتفاق بين عائلتي الطرفين متجاوزين أثمان المقدم والمؤخر المكلفة التي تفرضها الأعراف العراقية على الزوج. وتم الأمر بيسرٍ. أصررتَ على حضوري ليلة دخلتك! زفوك بصخب، وأدخلوك إلى غرفة النوم حيث تنتظرك متبرجه معطره ملساء. لم تدعني أذهب بل قلتَ لي بحزم:

- تبات اليوم هنا!

- أش أسوي أنت راح تنام ويه مرتك!

- تبقى بلا تعليق!

فبقيتُ أنتظر في الغرفة المطلة على الشارع. بعد انتصاف الليل بقليل، عقب نومها وخلود الجميع للنوم تسللت من هجمتك المظفرة، لتقضي بقية الليل معي حتى أذان الفجر تحدثني عن مشاعرك في المضاجعة، فجعلت تعيد وتكرر كلاماً أذهلني، بدأته بتعليق بذيء من تعليقات أبناء المحلات الفقيرة حول العملية الجنسية:

- أَكَلِته وگامَتْ تِمْشْي!

قلت لك:

- أحمد ما بك؟ أي هو خنجر لو كتلة من اللحم الحساس.

- لا تتفلسف .. بلا ثقافة ولا فلسفة! أگلك أكلته وگامت نشيطة وفرحانه!

فانتهزتُ الفرصة لأسألك ذلك السؤال الذي كنتَ تلتزم الصمت وتبتسم كلما سألتك:

- أحمد أبْلْغارْيا ما ضاجعتْ؟!

كنت أظن أنك قد نفستَ قليلاً عن حرمانك، ورطّبتَ جسدك المتخشب من الكبت بتجربة تمحي أثار تجربتك الأولى مع المرأة المسنة الضعيفة في ذلك البيت الفقير التي جعلتك تقيء أحشاءك.

- لا.. ماگدرت وما أعرف واحد أش لون الواحد يقنع وحده ويوصلها للفراش. هذا شيء عجيب بالنسبة لي، هذي وحده، والثانية؛ العاملات رفيقات بلغاريات، والطالبات رفيقات شيوعيات من كل أنحاء العالم، أشعر بهنّ مثل أخواتي وأغضب لمن أشوف الرفاق ما عدهم همّ غير أش لون ينامون وياهن، لكن أكثر من مره ضربتْ جلق على وحده من البرازيل عليها طيز يخبل، كانت تحتك بي وتريد بس چنت جبان. أخ أشگد ندمان!

نعتّكَ بالمتحجر الأيدلوجي، وكلتُ لك اللوم ثم سخرت منك في الأيام اللاحقة ونعتك (بحامي الحما) مع تعليقات لاذعة أخرى.

أجلس ساكناً، على مقعدي الأمامي في طريقي إليك، والسيارة تخوض في ذهبِ الصباحِ، عابرةً قرى ونواح وسهول جرداء، أكادُ انفجرُ ضحكاً، والركاب لا يكفون عن ترديد الأدعية، بوجوهٍ تزداد شحوبا ً كلما قطعت العجلات مزيداً من المسافة. أضج في نوبة ضحك أكتمها مقارناً بينك وبين البدوي أسعد الصعلوك الشيوعي القادم من أرياف "تكريت" الذي يجول حولي ساخراً منك، إذ لم يمض على وجوده في "موسكو" شهراً حتى تعلم لغة التعامل اليومي، ولم تفلت منه فرصة واحدة في مضاجعة روسية. ضاجع العشرات، في لحظة عابرة أو علاقة أيام أو أشهر. حدثني عن تلك التجارب، وكأن روح زوربا اليوناني حلّت به. كان ذلك في عام 1991 وكنا محاصرين ننتظر فرجاً للوصول إلى دول اللجوء، بينما تشهد مدينتنا الفاضلة سقوط مجدها القديم، خرجتُ من المقارنة فوجدتك يا صديقي أكثر من طيب ومسكين، تمارس العفاف بعناء، فالعفيف الملحد أو المتدين يجلد نفسه جلداً في قضيةِ الشهواتِ والغرائزِ، يرفضها في الرأس والتفاصيل ويمارسها في السر والحلم.

في المدينة وأنا أتتبع أثارك أخبروني أنك لا تزال تعيش مع نفس زوجتك القصيرة الممتلئة الطيبة والودودة، بوجهها السمين وتقاطيعها المرصوصة رصاً وكأنها بناء من لحم، والتي كانت تعمل معك في استعلامات المقر، ومن عائلة شيوعية حسب التوصيف السائد لدينا.

ما زلتُ أتذكر ظروفَ نقلكَ إلى بغداد. كنت وقتها أعمل في دائرة زراعة الديوانية حينما شنت السلطة حملة على اليسار. اختفيت وزوجتك وضاعت أخبارك بينما اعتقلتُ أنا مراتٍ ثلاث. لم أذعن هذه المرة. قاومتُ ساعدني في ذلك كوني غير منظمٍ. قاومتُ مستعيداً ثقتي بنفسي المهزوزةِ من أول اعتقال. ومن خلال علاقاتي السرية مع رفاق لكَ مختفين في بغداد. أخبرني أخي "كفاح" الذي يصغرني بثلاث سنوات والذي قضى تحت التعذيب لاحقاً:

- شفتْ صاحبك!

كان في لهجتهِ سخرية، فاستفهمتُ منه:

- صادفته بفروع الحيدرخانه يتلفتْ مَذْعور، ويمشي بصف الحايط، شكله غريب مطّول شواربه وشعره. مشيت وراه مسافة. وقبل ما نطلع للشارع العام بفرع الجامع من جهة شارع الرشيد. لزمته من كتفه من وره، أجه يوگع من الرعب، وما عرفني، كان يرجف ووجه أصفر مثل الليمونة، وعيونه طبت لجوه. فگلت له: أش بيك؟! أنت تصيح لرجال الأمن وتگلهم أنا مختفي!

صمتَ قليلا وعلق بخفوت:

- صاحبك منتهي، قضية وقت!

- لا يا أخي مو معقول!

صرختُ مندهشاً ونحن نتسكع بأرجاء أزقة باب الشيخ

- مثل ما گلت وراح نشوف!

كانَ كلامهُ حاسماً، فتوقفتُ متكئاً على جدارٍ متآكل في زقاقٍ شديد الضيق، وحملقت شارداً في ملامح أخي المتوهجة القوية الصارمة متذكراً تفاصيل أخرى من قصتنا التي سردت صفحات منها، فأنتَ مثلا من ساهمت وبشكل مباشر في تحول "كفاح" من الدين إلى الماركسية، حينما كنتَ تزورني يومياً في سنةِ دراستنا الأولى بإعدادية الزراعة، كنت تتعمدْ فتحَ الحوار في كل جلسةٍ معهُ عن جدوى الدين وتسهب في شرحِ فكرة كيف يخدر الناس؟! وتسخر منه وهو يؤدي طقوس الصلاة، كان وقتها في الأول المتوسط، يعني لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، وقليلاً .. قليلاً سحرهُ كلامكَ عن المساواةِ والحريةِ ومحو الفقر في العراقِ والعالمِ، فكسبته إلى الشبيبة الشيوعية. وها هو يتوقع لك مصيراً بائساً!

لم تمر سوى أشهر معدودة حتى جاءني الخبر اليقين؛ كونك أنهيت اختفاءك، ولم تعد إلى الديوانية. ولما سألتُ كيفَ؟! قال الشاعر الحلاوي "رعد كريم عزيز" صديقنا المشترك، الذي قضى أطول مدة اعتقال في أمن "الديوانية" لكنه بعد شهر من التعذيب ضعف مؤيداً اعترافاتٍ عليه:

- توسط لهم قريب زوجته الحزبي، زارهم رجال الأمن بالبيتْ، صدقا اعترافات ووقعا مادة 200. يا معود محلية الديوانية كلها طلعت بالأمن!

قلت له:

- أريد أشوفه!

- يوم الخميس نسافر إلى بغداد ونبات عنده!

بعد ظهرِ خميس سافرنا لكَ، وقتها لم نخف من فكرةِ خطفنا أو ذبحنا في "اللطيفية" كما هو حال الركاب الجالسين جواري الآن. كنتُ أحمل لك غيظاً فائضاً، لأنني كنتُ أعتقد طوالَ علاقتنا أنك مخلصٌ لفكركَ. عملتَ بصمتٍ وسريةٍ ولم تُكْتَشَفْ في أحلكِ الظروفِ، وكنتُ معجباً بحنكتكَ وأنتَ تختفي في بغداد التي لا تعرفها أصلاً، لكن سأعلمُ لاحقاً أنَّ أهلَ زوجتكَ أصلهم من بغداد وسكنوا الديوانيةَ لضروراتِ التفرغ الحزبي.

- لِمَ وقعّتَ هذهِ الوقعةِ الغبراء؟!

كان السؤال يرّن في نفسي طوال الطريق رغم أن "رعد" كان ينّكت طوال الوقت. كنت أجامله فأضحك والأسئلة تنهال:

- لِمَ يا أحمد.. لم؟!

- لِمَ يا صديقي، لِمَ؟!

- وماذا ستفعل بحياتكَ بعدَ ذلك؟!

تلحُ الأسئلةِ ضاربةً بهجة المسافة.

كنت تسكن مدينة "الشعب" التي كنت أمر جوارها كل يوم حينما خدمتُ كجندي مكلف في الحقولِ المقابلةِ للمدينةِ بعد إكمال دراستي الجامعية، حيث أبكرُ مع صياح الديك مستقلاً سيارات الأجرة من بابِ المعظمِ، وأنزل عابراً جادة كركوك لأصل مشياً إلى موقعِ وحدتي العسكرية. في ذلك اليوم البعيد دخلتها مع "رعد" محتدماً بالغضبِ لسقوطِ نموذجكَ في نفسي، صحيح أنني لم أستطع الالتزام وأميلُ إلى الفوضى قليلاً، لكنني مدله بفكرة المناضل المخلص. وقتها لم أدرك أنا ولا أنت معنى فكرة عزفي عن العمل السياسي وإعجابي بالمناضل حد التدله إذ كنت أتهرب من دعوتك للالتزام بالتنظيم، كنتُ أحسها بالفكرة فقط، ورغم تبلور وعيي وخوضي التجربة بجسدي وكياني لاحقاً بقيت أتهرب من التنظيم وأنا وسطهم في الجبل رافعاً السلاح، وبقيت على حالي أتدله بالمناضل العنيد، وبنفس الوقت متمسكاً بحريتي طوال الرحلة.

عتمة الغروب نشرت ثوبها منذ أكثر من نصف ساعة. نزلنا من السيارة. عبرنا شارعين فرعيين قبل أن يتوقف صديقنا الشاعر أمام بوابة حديدية كبيرة لبيتٍ حسن البناء، قرعها بوجه باش، فتحتها أنت وحينما وقعَ بصركَ عليّ صرختَ باسمي وركضتَ قاطعاً الأمتارَ العشرة الفاصلة، عانقتني كأنك تريد صهري بأحشائك. مرآك خفف من احتدامي قليلا، لكن عقب تناول الشاي. تلبّك الحديث فالغرفة صغيرة، بابها مفتوح على فسحة وسطية ضيقة أيضا، مكتظة بالنساء والأطفال. كنت مزدحما بالأسئلة. همست لك:

- لازِمْ نْطْلَعْ.. أريدْ أَشْرَبْ!

أخذنا سيارة أجرة حتى "باب المعظم". لزمتُ الصمت. أزداد احتقاني والسائق رفع صوت الراديو "حسين نعمة" يغني:

«العزيز أنت.. أنت

العزيز أنتَ يا شمعتنه وأملنه

يا أمل بيتنا وقائد وطنه»

الممجدة بـ "صدام حسين" الذي حلّ محل "أحمد حسن البكر" قبل شهرين. شعرتُ بشدة الحصار .. أنت، والأغنية، ووجه الرئيس المتجهم تارة والمبتسم بافتعال في أخرى وهو يشهق في جداريات ضخمة منتشرة في الساحات، ومداخل الشوارع العريضة، المحروسة بميليشيات البعث، ببدلاتهم الخاكية وبنادقهم المعلقة على الأكتاف. بدأت أفور منك، من نفسي، من المحيط. لم تنفع تعليقات "رعد" الساخرة ونكاته في فك صمتي ووجومي. كنتَ واجماً أيضاً. ذهبتْ فرحتكَ وسقطتَ في الصمتِ. كنتُ أصوب نظري نحوك بين الحين والحين فأراك في دائرة ضوء سيارة قادمة من الاتجاه المعاكس مطرق الرأس، شارداً، بقسماتٍ صبها القلق صباً، فأنت خير من يعرفني، تدرك لِمَ أنا صامت؟! ولِمَ طلبتُ الخروج من البيت؟! وتتوقع مجرى الحوار القادم. ترجلنا في "باب المعظم" وقصدنا نادي "مصلحة نقل الركاب" القريب. دخلنا إلى حديقته الواسعة المزدحمة بالرواد، كان ذلك اليوم يوم لعبة "دنبله" انزوينا في ركن معتم جوار السياج. لم تشرب يومها، بينما عببتُ أنا نصف ربع عرق سادة دفعةً واحدة. فبدأ الخدر يتصاعد قليلاً .. قليلاً ليحل عقدة لساني، قلتُ لك:

- أحكي لي كيف تم الأمر؟!

كنت أقصد اعترافاتك أنت وزوجتك وتوقيعك تعهداً بعدم النشاط السياسي مضاف للمادة 200!. (والمادة 200 تحكم بالإعدام على موقعها فيما لو عمل سرا بحزب أخر غير حزب البعث العربي الاشتراكي). تلكأتَ بالكلامِ. مما زاد من توقدي وجعلني أستعجل رويَ ما سمعتُ، وافقتني بهّز رأسكَ وسط ضجيج الأرقام ولغط اللاعبين. صببتُ ربعَ عرق كامل وجرعتهُ مرةً واحدةً. اتكأتُ على مسندِ الكرسي الخشبي. هبط صمتٌ قلق علينا برغم الصخب، فلم نعد نسمع شيئاً. كنتما تحملقان أنت ورعد في وجهي منتظرين. انفجرتُ في حديثٍ طويلٍ عن خيانتكَ ليّ كصديقٍ، قلت لك إنك أوهمتني طوالَ علاقتنا بشخصية المناضل المخلص بصمتكَ الأسمنتي ونظراتكَ المتأملة، أفضتُ بالحديث فقد أخذتني العاطفة والسكر قلتُ لكَ ساخراً:

- ليش بالبيت.. يعني عمرك النضالي تنزعه في بيتك.. ليش؟!

أمعنتُ في الشربِ والانفعال والكلام حتى سقطتُ من الذاكرة فلا أدري بعدها بماذا تفوهت؟! كل ما أتذكر في الضباب الذي ضعيني هو أني كنتُ أصرخ وأبكي وألوم وأشكو إلى أن سقطتُ تماماً في عدم السكر، لأستيقظ في فجر اليوم التالي واجداً نفسي في غرفةِ بيتكَ الصغيرة وإلى جواري يغفو "رعد"، لا أنتَ أخبرتني بما هذيتُ تلكَ الليلة، ولا صديقنا الذي ألححتُ عليه في طريقِ عودتنا، لكنهُ قالَ جملةً واحدةً:

- أش سويت بأحمد البارحة، خطية!

ولما أخبرته بأنني لا أتذكر حقاً غير ما ذكرته الآن، رفضَ رافضاً قاطعاً التفوه بكلمةٍ واحدةٍ معلقاً:

- يكونْ أحْسَنْ لكْ ما تعْرُفْ!

لكنك ودعتني بعد فطور ذلك الصباح، بعينين ودودتين، وبذراعين مفتوحتين ضممتني إلى صدركَ وكأنكَ لمْ تسمع شيئا .

* * *

لم أركَ بعدها سوى مرةٍ واحدةٍ. بَعثتَ لي خبراً عن وجودكَ بالمدينة. تواعدنا عصراً. ورحنا نتسكع في أرجائها أكثر من أربع ساعات، أعدنا فيها رواية تفاصيل علاقتنا في الأمكنةِ وكأننا سنفترق إلى الأبدِ. درنا في أزقة الجديدة الضيقة وسوق التجار المكتظ. عبرنا الجسر القديم. ومشينا بمحاذاة الشط حتى الجسر المعلق، وشارع بساتين النخيل على طريق بغداد القديم المار في حي الجزائر. وصلنا حتى محطة القطار واستعدنا ليلة هروبنا بالتفصيل، من أي نقطة قفزنا إلى عربةِ القطارِ المكشوفةِ، وفي أي نقطة قفزنا عند عودتنا، متأسفين على اندثارِ تلكَ الأيام المضيئة، مقارنةً بعتمة تلك السنة 1980 التي كانت بوابة ليلِ العراقِ الطويل. كنتُ وقتها أواصل الصلة برفاقكَ السابقينَ المختفينَ في بغداد، أوفرُ لهم ما باستطاعتي من مساعدةٍ، وأنقلُ لهم جريدة "طريق الشعب" التي تحولت، إلى جريدة سرية صغيرة الحرف، متواضعة الطباعة، كنتَ تتخلص بحذقٍ من حديث النضالِ والمستقبلِ بفتحِ بابَ ذكرى منسية من تفاصيلنا الشخصية جداً. لم تترك أية ثغرة حتى بلوغنا باب بيتكم، مددت يدك لتصافحني مودعاً، أعطيتكَ كفي اليمنى وفي باطنها الجريدة ملفوفةً بحجمِ طرفِ الإصبع، أطبقتْ كفانا، فتحسستَ الورقةَ التي تركتها في باطنِ كفكَ المفتوح. رفعتَ ناظريك نحوي مستفهماً همستُ:

- آخر عدد!

كانَ مصباح الشارع المتدلي خلف ظهري يسقط على قسماتكَ التي تحجرتْ بغتةً، بدا عليك أنك لم تفهم شيئاً، فقلتُ لكَ:

- أفتحها يا أحمد!

جمدتْ كفكَ في ظلالِ قامتي. رفعتها إلى جهة الضوء وفضضتها. يا إلهي.. أي رعب أَلَمَّ بكَ حالما وقعَ نظركَ على أسمِ الجريدةِ؟! هاأنذا أرى المشهدُ مجسداً أمامي الآن. حرزتْ قسماتكَ صراخاً وكأنكَ تواجه الموت.

- كم كنتُ قاسياً معك في تلك الأيام؟.. كم؟!

كنت غضاً رغم كل ما مررت به، لم تعجنّي التجارب فسخرتُ من خوفكَ المهول وأصابعكَ تعود إلى الحياةِ مهدودة لتسقط الورقة. لاحقتُ بعينيَّ الساخرتين هبوطها على الرصيفِ، لبثت في وقفتك مُخْرَسْاً، شاحبَ الوجه، والذعر يجول في قسماتكَ، التي رأيتها تتضخم، وأنا أرمقكَ من تحتِ، حينما انحنيتُ لالتقاط الجريدة. نهضتُ. صرتُ بمواجهتكَ. أفردتَ ذراعيكَ لعناقي، لكنني تركتكَ مخذولاً، مرعوباً محطماً تتوسل بعينيكَ.

- كَمْ كنتُ جلفاً.؟!

السيارةُ ضَجّتْ بالأدعيةِ من جديد. السائقُ أطفأ المسجل الذي لم أنتبه له طوالَ الطريقِ. كان يردد مراثٍ حسينية بصوتٍ عذبٍ مصحوبٍ بإيقاعِ ضربِ الصدور.

ورددَ:

- الله الساتر!

سألتهُ:

- شكو؟!

- راح نوصل اللطيفية!

تأملتُ وجوههم؛ السائق والمرأة وزوجها والشاب، كانتْ شاحبةً تبسمل وتردد بلغطٍ مبهمٍ ما يقيها الشر القادم. وجوهٌ لها نفس إيقاعِ رعبكَ حينما سقطتْ الورقة السرية من كفك المفتوح المرتخي، احتجتُ مخاضَ عمرٍ شرسٍ كي أفهم؛ أن ذلك ليسَ جبناً، بل تشبث غريزي بالحياةِ. لم أشعر بالرعبِ كأنني لستُ موجوداً. كنتُ أحملق بحيادٍ عبر زجاج السيارة في بساتين النخيل المنتشرة على جانبي الطريق والشمسُ سَطَعتْ بذهبها المنهمر. السيارات تسير بسرعةٍ جنونيةٍ في كلا الاتجاهين. لاحتْ أمامنا سيارات متوقفة، فأبطأ السائق من سرعتهِ، وراح يستعيذ بالله متضرعاً، كي لا تكون الزحمة نقطةَ تفتيش طيارة، من التي تقيمها مليشيات متشددة تتنكر بزي جيش أو شرطة تقوم بخطفِ وقتلِ من تنتقيه من الركابِ، أشتدّ رعب الركاب حينما ظهرتْ جثثِ رجالٍ حزّتْ أعناقهم مرميةً على جانبِ الطريقِ جوارَ سيارتين كبيرتين متوقفتين، وجمهرة من النساءِ يلتففنَ بعباءاتٍ سود ينخرطنَ بعويلٍ هستيري وإلى جانبهنَ وقفَ بقيةَ الركابِ من الرجالِ ممن لم يذبحوا. أجهشتْ الأمُ بينما ردد الرجال:

- لا حول ولا قوة إلا بالله، لا الله إلا الله .. لا الله إلا الله.

ضغطَ السائقُ على دواسةِ البنزين قائلاً:

- الله سِتَرْنْا لوْ واصْلِينْ قَبِلْ رُبِعْ ساعة چانْ رِحْنا!

وأشارَ بيدهِ نحو سيارةِ حمولة من نوع Toyota ، مكتظة عربتها الخلفيةِ برجالٍ ملثمينَ تنهب الطريق الزراعي في اتجاه البساتين الكثيفة مثيرةً عاصفةً من الغبارِ مردفاً:

- شُوفُوهْمْ ذبْحْوا الناسْ وشْرْدَوا!. لا الله إلا الله.

لا أدعي الشجاعة ولكن لم أكن خائفاً. وبتعبيرٍ أدقَ كنتُ فارغ الإحساس كأنني أشاهد فلماً في التلفاز.

- هل كنتُ غير مصدقٍ ما رأيتُ من مشاهد ذبحٍ؟! أم جلّدني المخاض لكثرةِ ما رأيتُ وحملتُ من قتلى في جبهات الحرب؟!

- هل مات حسي بحيث بتُ عاجزاً عن مشاركةٍ الناس فواجعهم إذ لم يرفَّ لي جفنٌ لعويلِ النساءِ جوار الجثث، ونحيب الأم وتضرع الركاب في السيارة.. هل؟! أم أن عالمك يا "أحمد" فصلني عن المحيط والناس وأحالني إلى كائنٍ يخرج من زمن مضى؟!

لا أدري، ما كان يهمني في تلك اللحظات أكثر من أي شيء آخر هو الوصول إليك، والذي كنتُ واثقاً منهُ، بالرغم من كل ما يجري!

ردد السائق:

- ربعْ ساعةْ وندخلْ بغدادْ .. أسترنا يا ربْ!

تلاشيتُ قليلا.. قليلا عنِ الركابِ وضجيجِ المحرك وسيل الأدعية الضارعة رائياً طيفكَ يحومُ فوقَ الحقول والبساتين الراكضة خلفَ النافذةِ، مغسولاً بضوءِ الشمس الأصفر اللاهث، لم يبقَ سوى ساعة أو أكثر بقليل وأكونَ جواركَ، كنتُ أودَ رؤيتكَ فقط، دونَ تفاصيل، مزيحاً كل الهمس الدائر حولك عن .. وعن!، لاحت بيوت بغداد في الأفق، فسمعتهم يجّرونَ أنفاساً عميقةً وكأنهم كانوا يجْرونَ طوال الطريق.

أنزلني سائق التاكسي في نفسِ الشارع الذي زرتك فيه منذ أكثر من سبعة وعشرين عاماً في مدينة "الشعب". وقفتُ أمامَ البيت نفسه الذي ستخبرني أنهُ يعود لزوجتكَ، باب حديدي صدئ نصف موارب، وسياج من الحجر واطئ، خلفه حديقة صغيرة شهقت في طرفيها نخلتان. الجدار مطبّع بأكف الحناء وأعلى طرفيّ الباب رفرف علمان؛ أخضر وأسود خط على صفحتيهما عبارة "يا حسين يا شهيد كربلاء". ومن عمقِ الدار يأتي خافتاً صوت مراثٍ حسينيةٍ تندبُ واقعةَ كربلاء. خَطوتُ نحو الباب وقرعتها ثلاثاً وهي إشارة قديمة بيننا كنا نتبادلها كي نهبُ لفتح الباب. أعدتُ القرعَ بقوةٍ أشّد فسمعتُ صوتَ خطىً تركض والباب يسحب إلى الداخلِ وصراخكَ مجنوناً:

- سلومي .. سلومي حبيبي!.

تلقفتني بذراعيك وأودعتني صدرك باكياً، أمعنت في شدّي وأنا كذلك، ثم سحبتني من ذراعي عابراً العتبة العالية، وبيدكَ الأخرى كفكفتَ دمعك الغزير، لم أتبين ملامحك فقد أضاعتها لحيتك البيضاء الطويلة، كنتَ تقودني بقامتك الفارعة وحدبتها التي ازدادت بروزاً. دلفنا من باب خشبي متآكل إلى غرفةٍ صغيرةٍ عارية من الأثاث، مفروشة بسجادٍ يدويٍ كانتْ تحيكه أمكَ وأخواتكَ في شوارعكم الضيقة. أجلستني على فراشٍ فقيرٍ مبسوط جوار الجدار، وابتعدتَ لتحكم إغلاق بابيها؛ الذي دخلنا منه، والمفضي إلى أحشاء البيت، عدتَ لتتربع قبالتي مبتهجاً بقسماتكَ التي تخشبتْ بشرتها وملأتها الغضون. أبحرتُ في عينيكَ، فلمعتا ببريقها القديم برغم ذبول أجفانهما. كنت تردد:

- سلومي .. ما أصدگ.. ما أصدگ!

وتمسّح بأصابعكَ كفي وذراعي، وقليلا.. قليلا بدأت تهدأ مردداً:

- حلم من أحلام عمري تحقق! الحمد لله.. الحمد لله!

ورحت تبسمل مرددا آياتٍ قرآنيةٍ بصوتٍ خافتٍ يدغمُ الحروف، مسبل الأجفانِ مترسباً في قاعِ الحروفِ المنغمة، فأعطيتني فسحةً لتأمل وجهكَ، بشرتكَ، شعركَ الأبيض، جسدكَ الهزيل، وأشياءَ الغرفةِ المغطاة جدرانها بالنايلون الملون الرخيص، صورة أئمة الشيعة تتربع الجدران متراصةً، تحكي قصة "الشيعة" من علي بن أبي طالب، وولديه الحسن والحسين والأسد الرابض أمام قدميه بلبدته البيضاء العظيمة ونظراته الواثقة.. إلى موقعة كربلاء ومشاهد مجزرة العاشر من عاشوراء. وتحت الواقعة صور لمحمد باقر الصدر، والحكيم، والسيستاني، بلحاهم البيض المسدلة كلحيتك. التفت إليك. وجدتكَ غارقاً في لغطِ أدعيتكَ مطبقَ الأجفانِ تتضرع إلى الخالقِ والقديسين. قلتُ مع نفسي:

- أي سلام روحي عميق أنت فيه!

لا لوم لدي ولا عتاب كما كنتَ تظن وتخشى، بل كنتُ أغبطكَ في أعماقي على السكينة الغامرة قسماتك التي غضّنتها السنون. فبعدَ عناء العمر، الكل منا يبحثُ عن ساحلٍ.

أردتُ الخوضَ في تفاصيلِ ذلكَ، لكنني لم أستطِع وجدتُ الكلامَ والتفاصيلَ مجرد لغوٍ في تلكَ اللحظاتِ!.

قلتُ لكَ مع نفسي:

- أبارك لك ساحلك...

ولك:

- مقبولة صلواتك!

سألتني بعد صمتٍ:

- وأنتَ يا سلومي؟!

تريثتُ قليلاً، وقلتُ مع نفسي:

- لم أزل في البحرِ واللجةِ!

كنتَ تنتظر مبتسماً بقسماتكَ السارحةِ في سلامها، قلتُ:

- بعدني ما بين وبين!

تبسّمتَ بسمةَ العارف معلقاً:

- گلتُ ويه نفسي؛ ما راح تتغير .. أنت صعب!

أنصتُ لك طوالَ النهار والليل. كنت أطالبك بتفاصيل التفاصيل كأنني أريد عيشها معك من جديد، قصصتَ كل شيءٍ، عن أولادكَ الثلاثة وبناتكَ الست، عن عملكَ والمكتبة التي بنيتها في حديقةِ البيت تبيع فيها الكتب الدينية، وصور الأئمة، وأقراص تربة الصلاة والسبْحات، والشغل ماشي، عن جهادكم زمنَ الحصارٍ حيث صارت اللقمةُ صعبةً، عن تنقلكَ بين مهنٍ عجيبةٍ غريبةٍ، حمّال، نجّار، حدّاد، ماسح سيارات، صبّاغ أحذية، وعمل زوجتكَ كخياطةٍ، وأولادكَ في شتى المهنِ، والبيت الذي ستركم. قُرِعَ الباب ثم دخلت زوجتك القصيرة بحجابها الأسود، سمنتْ كثيراً وَهَرِمَتْ، وخلفها أولادك وبناتك سلموا عليّ وغادروا، بقينا على جلستنا في الغرفة نتقاسم الحكايات والذكريات، كأننا في صِبانا، لم تنس قط رسالة التلميذة السمراء التي أوصيتني بها وأنت تذهب إلى العسكرية. تكلمتَ بخفوت عن مصير صديقنا "عبد الله أبو التمن" الذي بقى شيوعياً ولم تغيره الظروف، فعادَ للعملِ بعدَ الاحتلالِ وسقوط الدكتاتور في مقر اللجنة المركزية في ساحةِ الأندلسِ، وقبلَ شهرين خطفتهُ مليشياتٍ مجهولةٍ، ليعثروا بعد شهرٍ على جثتهِ مشوهةً في مجمع قمامة بطرفِ بغدادَ.

لم نشعر بالوقتِ. كنتَ تقوم أوقات الصلاة. تفرشَ السجادةَ وتوسطْ تربتها. تذهب للوضوءِ. وتعود لتقف متوحداً مع ربكَ تمارس طقسكَ راكعاً ساجداً قائماً. كنتُ أغبطكَ مع نفسي رائياً في وجهكَ صفاءَ العابدِ المتوحدِ، المترفعِ عن شؤون الدنيا، لم ننم حتى الفجر، إذ سقطنا في النوم كلٍ على فراشهِ، متجاورين وكأننا نغفو تحت مصابيح شارعنا في "الحي العصري" حينما كنا نذاكر فنسقط في النومِ مخدرينَ بنسماتِ السحرِ الباردةِ. ودعّتك في اليومِ التالي ورجعتُ إلى الديوانيةِ بعد أن تواعدنا على لقاءٍ ثانٍ بعد أسبوعين.

* * *

أحبس نشيجي بينما السيارة تقترب من مقبرةِ السلامِ الشاسعةِ.

فَشَلَ السائق طوالَ الطريقِ إلى النجف، في جعلي أتكلم، لم تكن لي رغبة لا في الكلام فحسب، بل في الحياة نفسها. دخلنا شارعاً عريضاً إلى اليمينِ، فامتدتْ القبورَ على الجانبين حتى خط الأفق. لم نرَ أحداً. الشارعُ خاو وزحام القبور مظللةً بأشجار السِدر متناثرة تسطع تحت شمس الظهيرة اللاهثة. أصوات رصاص متقطع، وضجيج قذائف مدفع متقطعة يسمع من عمق المقبرة.

قال السائق:

- الله الساتر أش وكت نخلص من الحرب، والله ملينه!

والتفت نحوي قائلا:

- أستاذ حَضّر هويتك، سنعبر نقطة تفتيش جيش المهدي!

من خلفَ بنايةٍ صغيرةٍ ظهرَ ثلاثة مسلحين لفوا وجوههم بكوفيةٍ مرقطةٍ. أشاروا إلينا، فتوقفتْ السيارة. استفهموا عن المكان الذي قدمنا منه وأين نقصد. أخبرهم السائق بأننا قادمون من الديوانية ونقصد "مغسل الموتى" فلدينا جنازة، أعادَ بطاقتينا الشخصية قائلا: انتبهوا كما ترون، الأمريكان وعملاؤهم يقصفون المقبرة، الله يحفظكم!.

بعد مسافةٍ قصيرةٍ وصلنا بناية المغسل الكابية. ترجلنا وسرنا بصمتٍ. كنتُ أسمع وقعَ أقدامنا برغم القصف الذي أشّتد.

كنتُ بعيداً.. بعيداً أخنق عبرتي والوجه التتري يلوح ضاحكاً ملء عيني. شبعتُ نحيباً منذُ ليلِ البارحةِ حالَ سقوطِ سماعةَ الهاتف من يدي في غرفة ضيوف بيتنا، كانَ صوتِ زوجته المتهدج يذبحني بخبره

- صديقك راح مات قتلوه بالمكتبة!

أمطره مسلحون ملثمون نزلوا من سيارة جيب صغيرة بالرصاص وهو جالس وسط كتبه ولاذوا بالفرار، طفقت أنحب وهي تضيف:

- الدفن باچر بالنجف الساعة وحده الظهر!

أمام باب المغسل وقف سبعة رجال. في ركن الجدار وقفت زوجته وحولها أولادها وبناتها ناحبين. عبرتُ العتبة. تجمهرَ الرجال حول دكة الغسل. أفسحوا لي ممراً. فوقع بصري على جسده ممداً عارياً مثقباً بالرصاصِ. اقتربتُ منهُ. توقفَ شيخٌ ملتح كان يهمُ بغرف طاسةِ ماءِ من حوضِ الغسلِ. كانَ سليم الوجه، يبدو وكأنه يغفو. ركعتُ على ركبتي جواره ونزلتُ إليه ودمعي يصّبُ. لامستْ شفتيَّ جبهته العريضة. شممتهُ من عنقهِ. انتصبتُ. رجعتُ خطوتين. باشرَ الرجلُ بغسله.

وبغتةً شهقتُ. خانتني قوايَّ، فتهالكتُ جالساً. حملوني من كتفيّ إلى خارجِ المغسلِ وأجلسوني على مقعدٍ من حجرٍ مركون إلى الجدارِ تحتَ الشمسِ وأماميَّ امتدتْ شواهدَ القبور حتى الأفق وطيفكَ بوجهه الفتي إلى جواري على عربةِ قطارِ حمولةٍ تمخرُ عبابَ ليلِ الجنوبِ يرقصُ هازاً بذراعه الأيمن يتوعد ويهدد الوجود وينشد معي:

- لبناءِ عالمٍ جديد.. ولقبرِ مشعلي الحروبّ!