يفضح الناقد الفلسطيني المرموق الأسلوب الأميركي الأخرق في مشروعه الصهيوني الجديد لتصفية القضية الفلسطينية. ويؤكد أن هذا المشروع ليس إلا حلقة في سلسلة طويلة لنزع حق الفلسطيني في أرضه لصالح الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. ويرى أن هذه الحلقة الأخيرة لن توهن عزم الفلسطينيين في تمسكهم بحقوقهم رغم التردي العربي.

الأسلوب الأميركي في العدل والمساواة

فيصل درّاج

 

بدا دونالد ترامب في "حلّه الأخير" كما لو كان يتوجّه إلى شعب فلسطيني من أطفال، لا تاريخ له ولا خبرة. اكتفى بتوزيع الهدايا الصغيرة معتمداً على عنصرية متوارثة، تعبث بمبدأ تساوي الحقوق بين البشر، فما يحتاجه "الرائد الأبيض" يغاير حوائج "الهندي الفقير"، وعلى غطرسة مسلّحة تعاقب الرافضين. أعاد اختراع التاريخ والجغرافيا، ورسم خارطة جديدة تلبيّ صَلَفه ورغبات الحاشية الصهيونية المحيطة به.

ليس الاختراع القائم على الكذب دخيلاً على تصوّرات الصهاينة والمتصهينين، منذ "أدب الرحلات الغربية" إلى فلسطين، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلى زمن الصفقة الخاسرة. فقد استولد اليهود حقهم الإلهي في "أرض الميعاد" من أسطورة شعب الله المختار، التي فصلت منذ زمن بعيد بين "أبناء الله" والفلسطيني الملتبس بالتراب والعراء. وحين زار الأديب الأميركي الشهير مارك توين فلسطين، في القرن التاسع عشر، ربما لم يرَ في مرج ابن عامر أي شيء "يتحرك"، كما قال، مساوياً أرض فلسطين بالصمت والخراب. صدّق بدوره الأساطير الدينية، وكذبّ حقول القمح والقرى الفلسطينية.

"استولد اليهود حقهم الإلهي في "أرض الميعاد" من أسطورة شعب الله المختار، التي فصلت منذ زمن بعيد بين "أبناء الله" والفلسطيني الملتبس بالتراب والعراء". لم يكن المندوب السامي البريطاني اليهودي الصهيوني السير هربرت صموئيل، الذي أشرف على استعمار فلسطين في السنوات الخمس الأولى من عشرينيات القرن الماضي، مختلفاً، إذ ساوى، كلامياً، بين"الأقليات الدينية المختلفة" حين كان اليهود يمثلون خمسة بالمائة من المكان، وعرب فلسطين. زاد، فعلياً، عدد اليهود وهو يمدّهم بالسلاح والخبرة ويسلمّهم وظائف نافذة، وعمل على حمايتهم من "توحش الأقلية المسلمة". بيد أن تلك الأقلية المفترضة كادت أن تهزم الجيش البريطاني في ثورة 1936 ـ 1939، وألجأته إلى استعمال "البراميل المتفجّرة" إلى درجة ندّدت بها بعض الصحف البريطانية، آنذاك.

"وعد ترامب الفلسطينيين "ببعض الهدايا"، وأهدى القدس إلى دولة إسرائيل، واعتبر فلسطين كلها حقاً يهودياً متوارثاً، يستجيب "لتعاليم الرب" والرغبات الصهيونية والظلم الاستعماري القديم والجديد."

لم يشذّ الرئيس الأميركي هاري ترومان عما اعتنقه سابقوه، فتدخّل عام 1948 في قرار الأمم المتحدة وقسم فلسطين إلى دولتين متساويتين، ظاهرياً، بين العرب واليهود الذين كانوا يمثلون آنذاك ثلث عدد السكان، أو أقل. اشترى ترومان ضمائر ممثلي بعض الدول برنين النقود وفتنة الدولار. كان الإنكليز، قبل قيام الدولة، قد استأنفوا سياسة صموئيل، فدعموا اليهود بالسلاح، وتركوا لهم مخازن أسلحتهم، بعد رحيلهم. ما أتى به ترامب لا يختلف عمّا أتى به سابقوه، من أنصار المشروع الصهيوني، وإن كان السياقان الدولي والعربي تركا عنصريته مطلقة السراح. كان الرئيس الأميركي ويلسون قد قال بعد الحرب العالمية الأولى "بحقوق الدول المستقلة في تقرير مصيرها"، واستثنى الفلسطينيين من "بلاغته الإنسانية" الزائفة.

أخذ العربي الفلسطيني من أيام مارك توين إلى زمن ترامب أربع صفات على الأقل: اللاّموجود الذي يسوّغ غيابه وجود طرف ينتفع بأرضه، وبخاصة إن كان الطرف قد سكن الأرض قبل ألفي عام وظفر برضى إليه كما يدّعي اليهود، هذا "الرضى" الذي تضمن ألوهيّته استمراره. وهناك الهمجي الكسول الذي ترك مرج ابن عامر موحشاً، لا زرع ولا ضرع، وهو ما أثبت المستشرق الفرنسي اليهودي مكسيم رودنسون نقيضه في دراسة نشرها عقب قيام إسرائيل في مجلة كانت شهيرة عنوانها: "النقد الجديد". بل إن فضائل التمدّن، وهو نقيض "التوعرّ"، هو ما دفع أطرافاً غربية متعددة إلى أخذ جانب الطرف الإسرائيلي، بعد أن اعتبرته ديمقراطياً حداثياً على خلاف عرب لا يعرفون "حقوق الإنسان".

إذا قفزنا فوق صفة اللاجئ التي اختارت الفلسطيني ولم يخترها، نصل إلى صفة ازدهرت قبل الأوان: الإرهابي، التي يختصر فيها فلسطيني يطالب بحقوقه، لا فرق إن كان فدائياً في زمن مضى، أو من أنصار "الدبلوماسية وسلام الشجعان" في فترة لاحقة، أو مطالباً "بخيار الدولتين"، كما هي الحال منذ زمن. فكل فلسطيني لا يعترف بحق الصهاينة في استيطان فلسطين إرهابي، وكل فلسطيني يطالب بحقه في أرض أجداده إرهابي، وكل فلسطيني لا يسلمّ بالسياسة الإسرائيلية التوسعية إرهابي أيضاً. وقد تتضاعف الصفة إن كان الفلسطيني صريحاً في انتسابه إلى الإسلام، فهو على ما هو عليه، لأنه لم يرحل عن أرضه، ويعتنق ديناً إرهابياً، كما جاء في مبادئ "الإسلاموفوبيا"، أي "رعب الإسلام"، المنتشرة في العالم الرأسمالي، منذ عقدين على الأقل. بهذا المعنى فإن "صفقة القرن" تنشد السلام وتعاقب "لا مرئيين إرهابيين"، رغم تناقض العبارة.

بلاغة استعمارية عنصرية
انطوى خطاب ترمب على طبقات من البلاغة الاستعمارية العنصرية، فاعتبر الفلسطينيين شعباً من الأطفال، لا يليق بهم حوار سياسي جدي، وليست لهم حقوق تساويهم بغيرهم من البشر، ناهيك أن تكون لهم حقوق تحاكي حقوق الإسرائيليين أو ما يشبهها، ولو من بعيد.

توسع في خطابه الصهيوني المتطرّف، فأوساط من الإسرائيليين لا توافق على آرائه، مطمئناً إلى غطرسة تذكرّ بعتاة المستبدين (هتلر وموسوليني على سبيل المثال)، وتخاذل عربي، باستثناء حالات قليلة، يشرح معنى "سقوط الأمم"، وسياق عالمي تساقطت قيمه وسار لاهثاً وراء لعبة المصالح. وإذا كان الفلسطينيون جسّدوا الحلقة الأضعف بعد خروجهم من بيروت عام 1982، ولم يكن ذاك الزمن كالذي نعيش، فإن السياق الراهن يجعل منهم، موضوعياً، صورة عن صبي فقير في العراء، يعوّض فقره بالرفض الصريح، ويستر عريه الشامل بخبرة مقاتلة راكمها من أيام النكبة إلى اليوم. بل إن هذا الصبي، الذي اتخذه ناجي العلي رمزاً له، عرف مساراً تكاثرت فيه النكبة الأولى إلى نكبات، دون أن يعرف الاستسلام ولغة "تربيع الدائرة".

جسّد ترامب، كما نتنياهو وأتباعه بداهة، مبدأ: الإنسان اللامرئي، الذي يظهر صوته ولا يعترف بحقوقه، فالذي لا يُرى لا حقيقة له. فإن ذكّر أحد بحقوقه حرم من "نعمة الدولار"، ذلك الدولار الغريب الذي ينهب من العرب ويعاقبون به. وبداهة فإن الرئيس الأميركي يثبت وينفي معتمداً على سياسة القوة ـ الحقيقة مبرهناً للمرة الألف، بعد الألف، أن قوة الكلام من قوة المتكلم، كما قال عالم الاجتماع الفرنسي النبيل بييّر بورديو مرتاحاً، أي ترامب، إلى صامتين عرب، وعجز الذين ألقى بهم ضعفهم في العراء.

اعتماداً على قناعة القوي ـ الخالق، ولو إلى حين، وعد ترامب الفلسطينيين "ببعض الهدايا"، وأهدى القدس إلى دولة إسرائيل، واعتبر فلسطين كلها حقاً يهودياً متوارثاً، يستجيب "لتعاليم الرب" والرغبات الصهيونية والظلم الاستعماري القديم والجديد، الذي اختصر عدد الهنود الحمر، في نهاية القرن التاسع عشر، إلى "مليونين"، بعد أن كانوا قبل مجيء "أبطال الغرب الأميركي" 112 مليوناً. هكذا تصبح فلسطين ملكية صهيونية ـ أميركية، ويحق لإسرائيل أن تكون دولة يهودية خالصة، طالما أن الفلسطيني إنسان لا يرى، وأن حقوقه أكثر لا مرئية، وأن "الخالق الأرضي المسلّح" ينسب إسرائيل إلى وعد إلهي، ويجرد الفلسطينيين من حقوق توارثوها منذ مئات السنين.

"جسّد ترامب، كما نتنياهو وأتباعه بداهة، مبدأ: الإنسان اللامرئي، الذي يظهر صوته ولا يعترف بحقوقه، فالذي لا يُرى لا حقيقة له. فإن ذكّر أحد بحقوقه حرم من "نعمة الدولار". هكذا يبدو ترامب، وقد تغطرس إلى حدود "التألّه"، رئيساً للولايات المتحدة ولدولة إسرائيل ولكيانات عربية اعتزلت السيادة، متناسياً إرادة الفلسطينيين المقاتلة، وقاعدة تقول: ما ارتفعت امبراطورية إلا وأشارت إلى امبراطورية قادمة. عرف الفلسطينيون المتموّل اليهودي الكبير روتشيلد وحافظوا على هويتهم، ومرّ على بلادهم هربرت صموئيل وقاوموه، واستقوى عليهم هاري ترومان وظلوا فلسطينيين في مواقع اللجوء والشتات، ولاحقتهم الطائرات الإسرائيلية وبقوا يطالبون بأرضهم.

قال خليل السكاكيني، المربّي الفلسطيني الشهير، قبل عام 1948: "لو ترك الناسُ جميعاً القدس لبقيت فيها وحدي". وما قاله السكاكيني لا يزال أبناء شعبه يعملون به، رغم اختلاف السياق. إنها الذاكرة الوطنية المتحررة من قيود الزمن والمكان، التي تتمسك بالأرض والكرامة، مجابهة الغطرسة الاستعمارية ببطولة البقاء، ومواجهة المخرز المتعدد الوجوه بحدقات العيون.

 

(عن ضفة ثالثة)