هذه شهادة كاشفة للكاتب المصري، رغما عنه، كما يروى لنا في شهادته التي تنطوي على اعتزاز مبطن بذلك الإرغام التاريخي الذي اختلطت فيه مصر بالسودان في هويته. تكشف لنا عن الكثير من المسكوت عنه في علاقة مصر المعقدة مع السودان. وعن ثورتها التي يستشرف لها النجاح.

السودان ومصر في مرايا متعاكسة

رؤوف مسعد

 

هنالك مدن تحتفظ أجواؤها برائحةٍ خاصّة أشعُر بها تتخلّل جسدي وحواسّي مثل بيروت وكذلك الخرطوم. هي مدنٌ لا تكفّ عن الصراع مع حكّامها ومع أهلها مثلما شعرتُ أخيراً في رحلةٍ إلى مصر بمدينة القاهرة كما لا يكفّ أهلُها عن التصارع معها وفيما بينهم أيضاً. كان هذا إحساسي بمدينة الخرطوم من سنوات لمّا ذهبْت إليها أستنشق روائحها حين ألقتْ بجعفر نميري في صندوق الزبالة الكبير المخصّص للديكتاتوريّين المخلوعين، كما خَصّص لهم ماركيز جزيرةً خاصّةً بهم في روايته البديعة (خريف البطريرك).

الخرطوم: ولادة مدينة:

تثيرني دائماً فكرة بناء مدينة تتحوّل أو يكون القصد منها أن تصبح عاصمةً ثمّ تُسمّى مدينة الخرطوم تشبّهاً بخرطوم الفيل. فكرة مثيرة تستحقّ عَناء البحث ومتْعتَه! وكأيّ مدينةٍ حديثةٍ فهي لم تولد من فراغ، المتتبّع لتاريخ المدن يكتشف أنّه - دائماً - كانتْ مدينةٌ ما أو حتى بلدة صغيرة في مكان المدينة التي أصبحتْ فيما بعد شهيرة. الإسكندريّة بُنيتْ في موقع قريةٍ صغيرة للصيّادين. القاهرة أيضاً، إلخ. عمْر الخرطوم لا يتجاوز مئات الأعوام. لم تكن سوى بضعة أكواخٍ في عهد «السلطنة الزرقاء»، «سلطنة سنار». قبل ذلك في العهد المسيحيّ حيث كانت العاصمة في سوبا. والسودان اعتنق المسيحيّة مبكّراً بينما اعتنق الإسلامَ منذ حوالي سبعة قرون فقط. كانت بلدة «سوبا» الصغيرة المنسيّة الآن الواقعة على النيل الأزرق جنوب الخرطوم، هي العاصمة. كذلك ازدهرتْ دنقلا في أقصى الشمال، وقبل ذلك كانت العواصم على التوالي مروي والبركل وكرمة.

ليست الخرطومُ مدينةً واحدة، هناك الخرطوم بحري وأمّ درمان، لهذا تجد السودانيّين يطلقون على عاصمتهم لقب العاصمة المثّلثة. ومقابل الخرطوم الحاليّة توجد جزيرة «توتي» التي كانتْ تشتهر بخَلاوي (جمع خلوة) لتعليم القرآن يتولّاه فقهاء قادمون من أرض «المحس» في أقصى شمال السودان. من توتي قبل أربعة قرون، عام ١٧٦٠ كانت بدايات الخرطوم عندما قدِم إليها فقيه اسمه «أرباب العقائد» وبنى مسجده في موقع «الجامع العتيق» الحاليّ واستقرّ حَواريّوه حوله. كان يقيم بالقرب منهم بعضُ الزُرّاع وصيّادي الأسماك.

بعد سنواتٍ وصلتْ قوّات محمّد علي الغازيَةُ (إلى الخرطوم) عندما كانت غابةً كبيرة تتخلّلها أكواخٌ متناثرة. عبرَت إليها القوّات من النيل على مدى ثلاثة أيّام. خمسة آلاف وخمسمائة جنديّ عبروا سباحةً وفوق الطّواف من خشبٍ أو تعلّقوا بذيول جِمالهم وأفراسهم. وطبقاً للبيرقراطيّة التركيّة التي تسجّل كلّ شيء، يوجد تسجيلٌ يقول إنّ ثلاثين شخصاً ماتوا غرقاً وإنّ مائةً وخمسين حصاناً وجملاً نفقَتْ.

لم تلقَ القوّات الغازيةُ مقاومةً تُذكر قاوم أعدادٌ متفرقة من الناس وقدم إلى الغزاة كبيرُهم «الفكي محمّد ود علي» حفيد أرباب العقائد فأعطاه قائد الحملة الأمان. بعد سقوط سنار في قبضة قوّات محمد علي وقع الاختيار على «ود مدني» لتصبح عاصمة بدلاً من سنار. وحين قتل «المك نمر» (الملك) في شندي القائد العسكريّ لحملةٍ مصريّة قادَها إسماعيل بنُ محمّد علي باشا، ثارتْ مناطق كثيرة في السودان على حكم محمد علي والعثمانيّين الأتراك. ومن المناطق التي ثارتْ «رأس الخرطوم» كما كان اسمُها آنذاك.

قاد نسيب محمد علي «الدفتردار» الحملةَ الانتقاميّة لقتل إسماعيل بن محمّد علي وكان قد ذهب إلى السودان ليجمع العبيدُ الذهبَ فوقع تلاسنٌ بينه وبين رئيس للقبيلة هناك اسمُه «المك نمر» أي «الملك نمر»، فأقدم هذا على قتل إسماعيل. وجاء الدفتردار لينتقم لقتل إسماعيل فأحرق ودمّر الكثير من المدن. أصبحت الخرطوم بعد ذلك نقطةً عسكريّة صغيرة في التقسيم الإداريّ التركيّ الذي قسّم البلاد إلى مديريّات والمديريّات إلى مراكز. وقائد النقطة كان برتبة قائم مقام.

محمّد علي ينقل العاصمة إلى الخرطوم:
بعد وقتٍ تمّ تعيين «كاشف» للخرطوم في تشرين الأول / أكتوبر عام ١٨٢٢ فأصبحتْ مركزاً به حامية. فغادر الدفتردار السودانَ إلى مصر. وعُيّن محمد علي عثمان بك جركس حاكماً على إقليم سنار. هذا لم تعجْبه ود مدني (على النيل الأزرق) ففكّر في الخرطوم خصوصاً لموقعها الاستراتيجيّ عند ملتقى النِيلَين بحيث تفتح مباشرة من الشمال على مصر ومن الجنوب على سنار. وافق محمد علي على نقل العاصمة إلى الخرطوم يوم ١٤ كانون الأول / ديسمبر ١٨٢٤. لكن عثمان جركس مات فجأة (كالعادة أيامها!) بعدها بسنة، وتولى «محو بك» الإدارة بدلاً منه. شيّد محو بك مبنى الحكمداري، وهو المبنى ذاته الذي أقام فيه، وفيه قتل شارلز غوردون ليصبح بعد ذلك مقرّ الحاكم العامّ إبّان الحكم الثنائيّ. ثمّ اعتمد بما هو القصر الجمهوريّ، الذي تمّتْ تنحية عمر البشير منه، وهو القصر الذي ارتفع على صاريته علمُ السودان المستقلّ بعدما اُنُزل العلمان البريطانيّ والمصريّ في الأوّل من كانون الثاني/ يناير ١٩٥٦.

في جنوب الخرطوم منطقة جميلة اسمها «الشجرة» اتّخذت اسمَها من أوّل شجرةٍ زرَعها محو بك. وهي شجرة حراز كبيرة. بعده جاء خورشيد باشا وحكم لفترةٍ طويلة وأكمل بناء الخرطوم التي أصبحتْ عاصمة السودان كله عام ١٨٣٢. بنيت المباني الحكومية وثكنات الجيش، كما أمر الناس بأن يبنوا منازلهم من الطوب. كتب الرحّالة أ. ن. هولرويد في عام ١٨٣٧ أنّ سكّان الخرطوم خمسة عشر ألف نسمة، بينهم ألفٌ وستّمائة جنديّ بعائلاتهم، وأنّ بعض أجزائها بها منازل ذات مبانٍ منتظمة فيها أحواشٌ واسعة وتحيط بها الحدائق. أسواقها غير منتظمة ومتاجرها صغيرة. وفي وسط السوق تنتصب المشنقة التي ينفَّذ فيها حكم الإعدام!

عام ١٨٣٨ زار محمد علي السودان، وبالطبع أقام في الخرطوم. نشّطتْ زيارتُه الرحلات الكشفيّة للجنوب بقيادة سليم قبطان الذي فتح الطريق المائيّ لأوّل مرّة بين الشمال والجنوب. بعدها قتلتْ قوّات المهدي غوردون وهزمتْ حاميتَه واستولتْ على الخرطوم قادمينَ إليها من أمّ درمان. أيّامها نقَل المهدي عاصمة دولته إلى أمّ درمان وتدهورت الخرطوم، وتحوّلتْ إلى مدينةٍ خربة لم تستردَّ عافيتها إلّا بعدما استطاعت القوّات البريطانيّة المصريّة هزيمة خليفة المهدي التعايشي، في موقعة كرري بعد تسعة عشر عاماً من تأسيس المهديّة (١٨٨٩ ١٨٩٩).

الدراسة في الخرطوم:
تعرّفتُ على الخرطوم للمرّة الأولى في حياتي وأنا في الحادية عشرة تقريباً، عام ١٩٤٨ حينما تقدّمتُ لامتحان الشهادة الابتدائيّة (التي تؤهّلني للدراسة الثانويّة) من مدرسة «الاتّحاد» في «ود مدني» حيث كنّا نعيش. وكان المتقدّمون للشهادة الابتدائيّة آنذاك يسافرون من جميع أنحاء السودان إلى الخرطوم ليؤدّوا الامتحان في لجنةٍ واحدةٍ عامة. وضعني أبي بمفردي في القطار المتّجه إلى الخرطوم وكان قد أرسل تلغرافاً إلى أسرة الدكتور داود إسكندر الذين استقبلوني عند محطّة السكّة الحديد، وأقمْت في منزلهم وأدّيت الامتحان مع ابنهم «صبحي» الذي يقاربني في العمر. وقد أخذني بعد ذلك في جولاتٍ في الخرطوم التي بهرتْني.

بعد ذلك كنت أعبر الخرطوم «ترانزيت» في طريقي من وإلى أسيوط أثناء دراستي الثانويّة. في عام ١٩٦٥ رجعتُ إلى الخرطوم لأوّل مرّة بمفردي بعد الإفراج عني وعن الشيوعيّين المصريّين من السجون والمعتقلات (وعن مئاتٍ آخرين من تنظيماتٍ يساريّة مصريّة أخرى). يشدّني الحنين إلى ماضٍ ليس بالبعيد. بالطبع أقمتُ في منزل أسرة داود إسكندر. معظم المرّات التي كنتُ أزور فيها السودان كنت أقيم في منزل هذه الأسرة. حتى بعد وفاة الأب، عم داود، ظلّ البيتُ مفتوحاً ومرحِّباً بالمعارف القدامى أمثالي. حتى جاءت حكومة الجبهة الإسلاميّة فقرّرت الأسرة الهجرة من السودان مع آلافٍ غيرها من العائلات المسيحيّة، هرباً من بطش الجبهة خصوصاً بعد إعدام الطيّار المسيحيّ السوداني جرجس القسّ يوستوس الذي كان يعمل على طائرات الخطوط الجوّيّة السودانيّة لاتّهامه «بحيازة» عملةٍ أجنبيّة.

كانت الخرطوم دائماً ولا تزال مدينةً أتحرّك فيها بسهولةٍ وأحبّ أن أقضي فيها بعض الوقت. فهي تجمع بين المدينة الأفريقيّة المنبسطة أفقيّاً والمدينة شبه الحديثة المنطلقة رأسيّاً بعض الشيء. مكتبات ومحلّات لـ«الهامبورغر» وحدائق واسعة. لكنّ من دواعي دهشتي ودهشة من يُقْدم من المشرق العربيّ، أنّ المدينة ليست بها مقاهٍ بالمعنى الذي يعرفه أهل شرق المتوسّط وجنوبِه. وقد سألتُ أصدقائي السودانيّين عن السرّ في ذلك فقالوا إنّها كانتْ موجودةً، ولكنّها اختفتْ بالتدريج، فجماعة الجبهة الإسلاميّة (أي حزب البشير) لا يحبّون للناس أن يتجمّعوا في مقاهٍ!

شوارعها عريضة مظلَّلة. لكن ما أن تبتعد بضعة كيلومتراتٍ عن المدينة حتى يختفيَ النيل، وتجد نفسك بدون نيل واحد بدلاً من نيلَين! تختفي الخضرة وتستولي عليك وعلى الكَون الصحراء. تفصل بين المدن والقرى مساحاتٌ شاسعة من الأرض غير المأهولة. تلمح بين وقتٍ وآخرَ قطعاناً من الماشية وأحياناً أسراباً من الخيل البرّيّ.

في رحلتي الأخيرة منذ حوالي خمسةٍ وعشرين عاماً أحسسْت أنّ الخرطوم أصبحتْ مدينةً مزدحمةً باهظة الأسعار، أغلى من القاهرة! صاخبةً ولا تهتمّ بلديّتُها بنظافة الشوارع حتى الرئيسة منها. ثمةَ «كازينوهاتٌ» على النيل من ناحية الخرطوم يجلس فيها «الأحبّة» وهم يتوقّعون هجمةَ شرطة النظام العامّ.

كنت حينما أنتهي من مواعيدي أشتري جميع الصحف المتاحة السودانيّة والعربيّة. ما أقلها! أختارُ واحدةً من هذه «الكازينوهات» وأقضي بعض الوقت في القراءة ومراقبة البشر. وكنت قد قرأتُ تعليقاً للفريق عمر البشير، رئيس الجمهوريّة، يقول فيه إنّ حظر التجوّل قد عاد بالفائدة على الأسرة السودانيّة حيث أُجبر الرجلُ على العودة مبكّراً إلى أسرته (صحيفة الحياة ٢٠ أيلول / سبتمبر ٢٠٠٠) في معرض إجابته عن سريان قانون حظر التجوّل، وقال إنّه ألغيَ من زمن «لكنّ الناس تعودوا على العودة مبكّرين إلى بيوتهم«!

شمال الخرطوم توجد «الخرطوم بحري»، قرْبَها محطّة القطارات الرئيسيّة وقد جُدّد بناؤها وأصبحتْ «معقولة«.

أمّ درمان بين المهدي وغوردون:
تمثّل أمّ درمان، غرب النيل، إلى الآنَ ما تبقّى من روح المهديّة وتَشدّدها في آن. عادت الخرطوم لتصبح العاصمة ومقرّ الحاكم العامّ البريطانيّ والإرساليّات والإدارات وحاميات الجيش والشرطة وجامعة غوردون التذكاريّة والشوارع المرصوفة المضيئة (أيّام زمان!).

لا يجوز الحديثُ عن الخرطوم بدون الإشارة لشخصيّتين متناقضتين عاشتا في الوقت نفسه في الخرطوم بل وتوفّاهما الله بها وبينهما ستّة أشهر. الأوّل هو تشارلز جورج غوردون الذي خدَمَ في الجيش الإمبراطوريّ البريطانيّ في الهند وكان «يؤجّر» خدماتِه لخديوي مصر الذي أرسله «لينقذ» الخرطوم والسودان من المهدي الذي انتصر عليه وقطع رأسه. الثاني هو المهدي الذي يكفي لقبُه للتعريف به وبمن يلوذ به وبأسْرته التي تواصل حكم السودان بشكلٍ أو بآخر حتى اليوم، خصوصاً أنّ الكثيرين لا يعرفون أنّ منافسه الشيخ حسن الترابي (وهو من عائلة دينيّة مشهورة) متزوّجٌ من شقيقة الصادق المهدي رئيس الوزراء الذي أطاح به انقلاب البشير - الترابي الذي تعاون مع بشير على الانقلاب.

غوردون في النهاية ضحيّة ظروفٍ تاريخيّةٍ كما أنّه نتيجةً لهوَسه الدينيّ وتعصّبه، قرّر أنّ مقاومة المهديّة عملٌ من أعمال التقرّب من الله، فهو مزيجٌ من النمط التقليديّ للحاكم الكولونياليّ، والمبشّر المسيحيّ المتعصّب، ويرى أنّ رسالة الرجل الأبيض هي «تنصير المتوحّشين الأهالي السود«! حين احتلّت بريطانيا السودان أسّست الإدارة البريطانيّةُ «كلّيّةَ غوردون التذكاريّة «تخليداً لذكراه ونصبتْ تمثالاً له. تطوّرت هذه الكلّية بعد الاستقلال لتصبح «جامعة الخرطوم» واختفى التمثال! ولم يبقَ من المهدي سوى قبّته الفضّيّة فيما أحفاده يحاولون نفخ النار في «المهديّة«.

الولادة السودانيّة:
على مركبٍ بخاريٍّ عام ١٩٣٣ كان والدي القسّ الإنجيليّ ووالدتي (المصريّان) يعْبران النيل في رحلتهما الأولى إلى السودان، ومعهما أخي الأكبر وأختي الكبيرة. سيعمل والدي باعتباره قسّيساً في الكنيسة الإنجيليّة في مدينة بورسودان حيث سأولد أنا وآخي الآخر. يسافر الوالد بعدها مع الأسرة ليستقرّ في «ود مدني» حيث وُلدتْ أختي الصغرى ثريّا. وسيقوم الوالد برحلاتٍ «تبشيريّة» إلى جنوب السودان من وقتٍ لآخر، ويحضر معه إلى الشمال أي إلى ود مدني «الجنوبيّين المتنصّرين» الذين ستتكفّل بهم الإدارة البريطانيّة.

في مدني، المدينة التي أعتبرها قد ساهمتْ في تكويني الإنسانيّ وتشكيل مراهقتي، وبالقرب من بيتنا أذكر أنّي رأيت ذاتَ مرّة، وأنا بعدُ صبيٌّ أتهجّى الحروف العربيّة، لافتةً معلّقة على مبنىً ومكتوباً عليها «حزب الأمّة: السودان للسودانيّين». وحينما أشرت لأبي عليها أجاب بامتعاضٍ «موش شغلك!«. هكذا وصلتْ إليّ أوّل صدمةٍ بأنّ السودان ليس «بتاعنا» بل لأهله السودانيّين. فقد كنت أعتبر، مثل غيري من المصريّين المقيمين في السودان، أنّ السودان «بتاعنا»، ألسنا نحن مَن يحكمه؟ ألا يرتفع عليه العلَم المصريّ بهلاله ونجومه الثلاث (علم ما قبل ثورة ١٩٥٢) مع العَلم البريطانيّ الذي يتوسّطه الصليب الكبير الأحمر؟ ومَن هم هؤلاء السودانيّون؟ معظمهم مسلمون؛ يغيظني أولادهم في الشارع يصيحون «نصراني حطب النار»؛ ويقولون إنّهم سيمْتطونني يومَ القيامة لأذهب بهم راكبين فوق ظهري إلى الجنّة، ثمّ أقبع بعد هذه التوصيلة في النار مع أمثالي من النصارى!

في الوقت ذاته لم أستطع، أيّامها - بسبب أحاسيسي العرقيّة الموروثة - أنْ أتماهى مع الجنوبيّين الذين يدينون بذات ديانتي. كنت أراهم وأتعامل معهم كما يتعامل معهم أهل الشمال ومعظمُ المصريّين والإنكليز: مجرّد عبيد! كانوا - ولا يزالون - خدَمَ البيوت ومنظّفي الشوارع. أيّامها لم يكن في السودان صَرف صحّيّ. كانت المراحيض في أحواش البيوت، ملتصقةً بالجدار الخارجيّ الذي توجد به فتحةٌ تُفضي إلى «جردل» تحت المرحاض. وكان الجنوبيّون هم مَن يقوم بحمل هذه الجرادل واستبدالها بجرادل فارغة. فكيف يمكن أن يرى الناس العاديّون أيّامها هؤلاءِ الجنوبيّين إلّا من خلال مهنتهم الوضيعة الغريبة؟

من المهمّ ملاحظة أنّ بداية الثلاثينيّات ليست بالفترة البعيدة عن عهد العبوديّة السابق. فلم يتمّ تحريمُ تجارة الرّقّ رسميّاً إلّا منذ حوالي مائة وسبعين سنة (أي في سنة ١٨٣٢) ولم يتمّ بالفعل القضاءُ عليها تماماً إلّا بعدها بحوالي خمسين سنة. سوف يرحل والدايَ في هجرتهما المعاكسة الأخيرة ليموتا ويُدفنا في مصر. وسوف أرجع أنا مرّاتٍ متعدّدة إلى السودان، لكنّي لم أذهب إلى جنوبه. فحين أصبحتُ مستقلّاً في حياتي كان الجنوب - ولا يزال - ميدانَ حربٍ أهليّة خطرة. رجعت مراراً إلى السودان يشدّني إليه الحنينُ والرغبة في استعادة اكتشافه. سأتعلّم مجدّداً أساطيرَه ورجاله وأنبياءه وزعماءه وحروبه وسَحَرتَه ونساءه وكبرياءَ أهله ومعاناتهم.

«السودان لنا وبريطانيا إن أمكنا
في نهاية الأربعينيّات، بالتّحديد في العام ١٩٤٩ كنتُ أدرس في الصفّ الثانويّ الثاني، بالقسم الداخليّ بكلّيّة الأميركان بأسيوط في مصر، وكانت المظاهراتُ الوطنيّة المعاديةُ للإنكليز على أشدّها. كنتُ أقتربُ من الثالثةَ عشرةَ من عمري. لم أكن بالتأكيد على درجةٍ ناضجةٍ من الوعي الوطنيّ، لكنّي اشتركت في المظاهرات باعتبارها من أعمال الرجال. كنّا نهتف «السودان لنا وبريطانيا إن أمكنا»! تذكّرت هذا الشعار بعد ذلك بسنوات عديدة حين أعلن السودان في استفتاءِ تقرير المصير «رغبته في الاستقلال». وجديرٌ بالقول إنّ كثيرين من أعضاء المنظّمات الوطنيّة المصريّة ما زالوا يحسّون بالأسف على «ضياع» السودان من مصر إلى أيّامنا هذه.

في مقالٍ مترجَم من العربيّة إلى الإنكليزيّة منشورٍ في صحيفة أهرام ويكيلي Ahram Weekly الصادرة عن مؤسّسة الأهرام الصحافيّة المصريّة، يحكي الكاتب عن «علاقة» مصر بالسودان وكيف كانت «الإدارة المصريّة» تنظر إلى السودان في أيّام الحكم الثنائيّ على أنّ السودان «بتاعها». والمقال نتيجةُ بحوثٍ عن «تاريخ الأهرام السياسيّ» يقوم بها مركز الدراسات التاريخيّة ويدرس موقف الأهرام من القضايا الاجتماعيّة والقوميّة منذ تأسيس الصحيفة وحتى عهدٍ قريب. كان يرأس المركز إلى حين وفاته مؤرّخٌ مصريٌّ معروف هو الدكتور يونان لبيب رزق، ينشر دراسته في الأهرام بعنوان «الأهرام: ديوان الحياة المعاصرة» وقد نشرتْ أهرام ويكلي الأسبوعيّة بتاريخ ١٤ تموز / يوليو - ١٩٩٩ مقالاً بعنوان Out of Sudan الخروج من السودان. الفقرات التالية لهذه الدراسة من ترجمتي:

«في نهاية النصف الثاني من ثورة ١٩١٩ المصريّة كانت مشاعر الوطنيّين المصريّين قويّةً تجاه السودان. فقد قامتْ بريطانيا خلال تلك السنة بإنشاء بعض المشاريع المتعلّقة بالريّ في السودان. فجاءت كتابات الأهرام تؤكّد على حقّ مصر في معرفة كيفيّة تأثير هذه المشاريع عليها. مرّةً أخرى يحْدث الصدام بين مصر وبريطانيا حين هيّأت الأخيرة فرصةً لوفدٍ سودانيّ لزيارة لندن ولقاء الملك. رأسَ الوفدَ السيّد علي الميرغنّي (الراعي الدينيّ لحزب الأشقّاء) وقد تأكّدتْ مخاوفُ المصريّين حين أوعز البريطانيّون إلى بعض القادة الدينيّين في السودان - ومنهم الميرغنّي - بتأسيس صحيفة حضارة السودان التي نشرتْ في عددها الأوّل مقالاً يطالب السودان بأن ينأى بنفسه عن الحركة الوطنيّة المصريّة، وأن يعلّق الآمالَ على بريطانيا التي كرّستْ نفسها لتَقدُّم السودان، وأن يتذكّروا المصاعب التي وقعتْ عليهم من الإدارة المصريّة في المرحلة السابقة للثورة المهديّة«.

وحين كتبتْ صحيفة لندن تايمز «المصريّون شعبٌ مختلف عن السودانيّين» شنّتْ الأهرام حملةً تؤكّد فيها أنّ السودان من ممتلكات مصر ونشرتْ سبعة مقالاتٍ متتالية في النصف الأعلى من الصفحة الأولى بدون توقيعٍ، ما يعطي الإحساس بأنّها مكتوبةٌ بقلم رئيس التحرير. عنوان المقال الأوّل «من محمّد علي إلى عبّاس ١٨١٢ - ١٩٠٣» وتحدّث عن بداية سياسة محمّد علي المتعلّقة بالسودان في عام ١٨١٢ حين «بدأتْ بعثات الحاكم المصريّ إلى السودان ثمّ إلى حاكم سنار محمَّلةً بالهدايا وتطلب صداقته. وكانت البعثة مشكّلةً من رجال عسكريّين وباحثين كتبوا التقارير الضافية وقدّموا خططاً لغزو السودان. في عام ١٨١٦ أرسل محمّد علي فريقاً ثانياً ليبحث عن الذهب في جبل زبرا ويرسم خرائط بذلك«.

عام ١٩٠٣ هو العام الذي تبلورتْ فيه السياسة البريطانيّة الخاصّة بالسودان بعد أربع سنواتٍ من هزيمة الثورة المهديّة وتأسيس ما أُطلق عليه «الإدارة الثنائيّة للسودان». عدّدت الأهرام إنجازات الإدارة المصريّة للسودان وذُكر أنّ قومندان فرقة للبوليس المصريّ في السودان قام من ضمن ما قام به «بتأسيس مدينة الخرطوم ومدن أخرى، وواصل انتصاراتِه العسكريّة حتى إثيوبيا. وبنى المساجد والمدارس الأوّليّة، وعلّم الأهالي أن يرتدوا الثياب المنسوجةَ المغزولة، بدلاً من جلود الحيوانات«. وأعادت الأهرام نَشْر خطابٍ أرسله بطرس باشا غالي (جَدّ بطرس غالي وزير خارجيّة السادات ومبارك) إلى اللورد كرومر عام ١٨٩٩ يقول فيه «أنّ حكومة صاحب السمو الخديوي لم تفقد على الإطلاق رغبتها في إعادة احتلال السودان. وأنّ هذه المنطقة هي بمثابة الحياة لمصر. وأنّ انسحاب مصر من السودان كان مؤقّتاً ونتيجةً لظروف قاهرة«.

كيف نظر مؤرّخون سودانيّون إلى مصر:
ومن الناحية الأخرى، ناحية السودان، نرى كيف ينظر المؤرّخون السودانيّون إلى العلاقة بين مصر والسودان. يوجد مركز هامٌّ للدراسات السودانيّة في جامعة أمّ درمان الأهليّة هو مركز محمّد عمر بشير. أنشئ تخليداً لذكرى البروفيسور محمد عمر بشير مؤسّس ورئيس جامعة أمّ درمان الأهليّة. هدفه «دعم وتطوير وتنمية البحوث في مجال الدراسات السودانيّة المعاصرة». من ضمن مجموعةٍ هامّةٍ من الدراسات أصدر المركز دراسةً صغيرةً قيّمة بعنوان (السودان في عهد الحكم الثنائيّ، ١٨٩٩ – ١٩٥٦) للدكتورة فدوى عبد الرحمن علي طه، المتخصّصة في تاريخ السودان الحديث.

قدّمت الباحثةُ تاريخ السودان الحديث «من غزو محمّد علي عام ١٨٢٠ - ١٨٢١» (لاحظْ أنّها لم تستخدمْ كلمة «فتح» الممجوجة) تقول: شهدت البلادُ منذ ذلك الوقت وحتى نَيل استقلالها ثلاث حقَبٍ تاريخيّة رئيسيّة لكلٍّ منها استراتيجيتها وسماتُها المميّزة:
١ العهد التركيّ المصري ١٨٢١ - ١٨٨٠ والذي يُعرَف أيضاً بالعهد العثمانيّ أو العهد الاستعماريّ الأوّل في السودان.

٢ فترة الثورة والدولة المهديّة ١٨٢١ - ١٨٩٨ والتي سعتْ إلى إلغاء النظام العلمانيّ واستبداله بدولةٍ إسلاميّة متشدّدة، على نسَق دولة الرسول وخلفائه الراشدين.

٣ فترة الحكم الثنائيّ الإنكليزيّ - المصريّ ١٨٩٩- ١٩٥٦ والتي كان فيها الإنكليز حكّامَ البلاد الفعليّين، وتُعرف هذه الفترة بالعهد الاستعماريّ الثاني.

تكتب الباحثة عن مرحلة الحكم الثنائيّ «بنصيحةٍ من اللورد كرومر قنصل بريطانيا في مصر أقرّت الحكومات البريطانيّة المتعاقبةُ فيه بأنّ الوقت غير مناسبٍ لإنهاء حكم المهديّة في السودان بل أنّها أمرتْ مصر بإخلائه. غير أنّ الحكومةَ البريطانيّة قرّرتْ في آذار / مارس ١٨٩٦ فجأةً ودون استشارة الحكومة المصريّة إعداد حملةٍ قوامُها الجنودُ المصريّون وقيادتُها عسكريّة بريطانيّة تمكّنتْ من القضاء على المهديّة في موقعة «كرري» عام ١٨٩٨ وأقامتْ حكماً جديداً عُرف بالحكم الثنائيّ. (…) لم تكن فترة الحكمِ التركيّ المصريّ في جنوب السودان، والتي تمثّلتْ في استغلال موارد الإقليم بالتركيز على جلب العنصر البشريّ المشكلة الوحيدة التي جابهتْ حكّامه الجدد. فقد ووجهت الإدارة البريطانيّة بمقاومةٍ متصاعدة من قبائل الجنوب«.

بالنسبة إلى مياه النيل «ارتبطتْ مسألة الريّ في السودان بمياه النيل في علاقة الحكومة المصريّة مع الإدارة البريطانيّة، وهي قضيّةٌ سياسيّة لأنّها تمسّ مصر. وافق كرومر (المفوض السامي البريطانيّ في مصر) على أسبقيّة «حقوق» مصر في مياه النيل، وكذلك فعل تقرير اللورد مِلنر من بعده. لكنّ هذا لا يعني أنّ الحكومة البريطانيّةَ لم تستخدم مياه النيل كسلاحِ تهديدٍ لمصر، الأمر الذي جعل الحكومة المصريّة تحرص على توقيع اتّفاقٍ حول مياه النيل عام ١٩٢٩ مُنحتْ مصرُ بموجبه نصيبَ الأسد في تلك المياه، ولم يمنح السودان سوى نسبةٍ ضئيلةٍ جدّاً منه«.

وذكرت الباحثة أنّ «الإدارة البريطانيّة أدركتْ أنّ زعماء الطرق الصوفيّة هم الذين يؤثّرون في الرأي العامّ السودانيّ، ويتمتّعون بنفوذٍ شعبيٍّ واسع. كانت تلك سانحةً للسيّد عبد الرحمن المهدي ليَخرج من عزلته التي فرضها عليه البريطانيّون، فساعد الإدارةَ البريطانيّة، خصوصاً أنّه اتّخذ سياسةً واقعيّةً، ولم يلجأ إلى سياسة التصادم المسلّح ضدّهم. لهذا ساهمت الإدارة البريطانيّة في عمليّة إحياءِ مهديّةٍ جديدة، استفادتْ منها في محاربة النفوذ السياسيّ المصريّ في السودان«.

هكذا ظهرت الزعامات الطائفيّة - السياسيّة «فأصبحت الطائفيّة موجودةً في كلّ النشاطات السياسيّة. ثمّ أفرزت الصراعات قيامَ الأحزاب السياسيّة السودانيّة تحت رعاية الطوائف الدينيّة. جاء تكوين حزب «الأشقّاء» بعد اكتساحهم لمؤتمر الخرّيجين. ترتّب على ذلك توثيقُ العلاقة بين الميرغنّي ومصر، خصوصاً أنّ الميرغنّي كان متأثّراً بالشائعات بأنّ عبد الرحمن المهدي يسعى لتنصيب نفسه ملكاً على السودان بمعاونة الإنكليز. الأمر الذي أدّى لدعم طائفة الختميّة التابعة للميرغنّي لحزب الأشقّاء. وقد رفع حزب «الأمّة» التابع للمهدي شعار «السودان للسودانيّين«.

تجارة الرقيق السوداني:
في دراسة ماجستير عن «الرقيق في مصر في القرن التاسع عشر» للباحث المصريّ عماد أحمد هلال ونشرتها «دار العربي المصريّة للنشر»، نجد وثائقَ عن سياسة محمّد علي وأحفاده تجاه السودان، ولاسيّما في موضوع الرقّ كما يتّضح من عنوان الدراسة. وتؤكّد الدراسة أنّ تجارة الرقّ كانت موجودة في مصر - مثل غيرها من دول العالم القديم والجديد - قبل عصر محمّد علي. لكنّ الدراسة تُلقي أضواء هامّة على موقف محمّد علي من التجارة خصوصاً أنّ مصدرَها الأساسيّ بالنسبة له كان السودان، ومن هنا بعَثَ بحملاته المعروفة التي «فتحت» السودان حسب تعبير معظم المؤرّخين المصريّين وبعض السودانيّين. تؤكّد الدراسات الحديثة بالوقائع والأرقام أوّلاً، احتكار محمّد لتجارة الرّقّ، ثانياً، استغلال محمّد علي للرقيق في «بناء مصر الحديثة»، كما يحلو للعديد من «القوميّين المصريّين» الإشادة به دون ذكر مصير هؤلاء الأرقّاء، أو حتى الإشارة إلى دور الرقيق - خصوصاً السودانيّ - في مشاريع محمد علي العسكريّة والمدنيّة.

سأورد هنا فقراتٍ قليلةً لبعض الوقائع والأرقام من هذه الدراسة الهامّة والنادرة: «ركّزت الدراساتُ التاريخيّة التي تناولتْ تاريخ مصر الاجتماعيّ على كثيرٍ من طبقات المجتمع، لكنّها أغفلت الرقيق، الذين كان نصيبُهم لا يتعدّى أسطراً قليلة«. «منذ بداية العهد العثماني كان الرقيق من السّلَع التي تُصدّرها السودان إلى مصر، كما كانت تجارتُه رائجةً ورابحة طوال هذه الفترة«. ... «وبغضّ النظر عمّا إذا كانت هناك سياسة استعماريّة من عدمه، فإنّ ما يتحدّث عنه المؤرّخون على أنّه من أسباب الفتح، كالبحث عن المعادن، أو جلب الماشية والجِمال، أو كشف منابع النيل أو مطاردة المماليك الهاربين إلى السودان أو غير ذلك ... ليس إلّا نتائج لهذا الفتح فلم نسمع في فترة الفتح عن اهتمام محمّد علي بشيء من ذلك.

السبب الحقيقيّ والأساسيّ والمحرّك لعمليّة فتح السودان، هو جلْب العبيد اللازمين لمصلحة مصر. فقد صرّح محمّد علي، ولمّا يكتمل الفتحُ بعد في إحدى رسائله العديدة التي يطلب فيها بإلحاحٍ من قادة جيشه في السودان إرسال العبيد إلى مصر قال: غرضُنا الوحيد من انتداب نجلنا إسماعيل باشا إلى ديار السودان، وإيفاد ولدنا البك الدفتردار إلى بلاد كردفان، بهذه الاستعدادات والتكلفات الكثيرة، معزّزين بسوادٍ عظيمٍ من الجنود، ومزوّدين بكثيرٍ من المهمّات هو الاهتداء إلى طريقةٍ لجلب هؤلاء العبيد المطلوبين لدينا«.

»أصبحتْ قوافل الرقيق تجلب إلى مصر ما بين خمسة آلاف إلى ستّة آلافٍ من الرقيق سنويّاً». ويورد الباحث وثيقة عن الرقيق الذين دخلوا مصر عام ١٨٤٠ كالتالي:

جوارٍ زنجيّات ٣٠٠٠

جوارٍ حبشيّات ١٧٠٠

عبيد زنوج ٢٧٠

عبيد أحباش ١٢٠

خصيان ٤٠٠

مجموع ٥٤٩٠«.

يضيف الباحث «في عام ١٨٥٠ أصبحت الدولة (في مصر) مسؤولةً في عهد عبّاس عن تدبير الفلّاحين للعمل في أبعاديّات (أراضٍ زراعيّة شاسعة) كبار الملّاك. لذلك توسّعتْ في استخدام الرقيق السود في الزراعة. استمرّ عبّاس يجلب الرقيق من السودان للعمل في زراعة الأرض حتى أواخر أيّامه. وبالرّغم من صدور أوامر سعيد - الذي خلَف عبّاساً - بمنع تجارة الرقيق، إلّا أنّ عدد الرقيق العاملين في الأراضي الزراعيّة قد زاد زيادةً كبيرة في عهده، بسبب تسخير الفلّاحين لحفْر قنال السويس، وتطهير الترَع، حيث بلغ عدد الفلّاحين المسَخَّرين في عهده ثلاثمائة ألف فلّاح، بالإضافة إلى المُسَخّرين في أشغال السكّة الحديد بين القاهرة والإسكندريّة، وبناء القناطر الخيريّة«.

ويذكر الكاتب عن عهد إسماعيل «شهدت السنوات الأولى من عهد إسماعيل استخدام مئات من العبيد في مزارعه الشاسعة خاصّة مزارع قصب السكّر بالصعيد؛ كما جلب مئاتٍ أخرى للعمل بمزارع قصب السكر في الفيّوم. جميعهم كانوا من العبيد الذين تمّ تحريرهم من أيدي تجّار الرقيق المقبوض عليهم. ففي السودان، حاول غوردون إعادة الرقيق المحرَّرين إلى بلادهم، لكنّه وجد أنّ الطرق لا تزال خارجة عن سيطرة الحكومة، ومزدحمةً بتجّار الرقيق. وخاف الزنوج من العودة إلى بلادهم فأرسلهم غوردون إلى مصر، وأطلق عليهم اسم «العبيد الرافضين للحريّة (!)». بالطبع هذا ما كتبه غوردون في وثائقه!

يقول الباحث «وبذلك كان للرقيق دورٌ بارزٌ في النهضة الصناعيّة التي شهدتْها مصر في عهد محمد علي، حيث عملوا في مصانع الغزل والنسيج، وفي المصانع الحربيّة المختلفة. وفي مصانع السكّر» وفي جيش محمد علي «حيث بلغ عدد الأورط في الجيش المصريّ في كانون الثاني / يناير ١٨٢٣ ثلاثين أورطة كلّ أورطة تتكوّن من حوالي ٨٠٠ جنديّ أي أنّ جملة الجيش المصريّ كانتْ أربعةً وعشرين ألف عسكريّ، منها أربع عشرة أورطة كلّها من الرقيق من ثكنات أسوان وفرشوط«.

ويورد الباحث إحصاءً هامّاً من نوعٍ نادر «إنّ عدد الذين تُوفّوا من الرقيق السود في الجيش وفي المصانع من أيلول / سبتمبر ١٨٢١ إلى آب / أغسطس ١٨٢٥ بلغ ٥٥٦٦ رأساً منهم ٤٢٠١ من العبيد المجندين. فإذا كان عددُ الذين تمّ جلبهم من السودان ثلاثين ألفاً وعدد مَن ماتوا منهم ٤١٠٢ فإن الباقي هو ٢٥،٨٩٨ يقارب إلى حدٍّ كبيرٍ العدد الذي تكوّنت منه الآليّات الستُّ في مطلع ١٨٢٤ وهو أربعةٌ وعشرون ألف جنديّ«. ثمّ جاءتْ معاهدة ١٨٧٧ الخاصة بتحريم الرّقّ التي وقّع عليها إسماعيل بالرغم من التعنّت الشديد من رجال الدين في مصر، فقد عارضها شيخ الإسلام ومفتي الدّيار، زاعمَين أنّه مخالفٌ للأصول الدينيّة، وانضمّتْ لهذه المعارضة هيئةُ كبار العلماء بأسرها«.

سنوات تكويني السودانيّة:
تقول شهادة ميلادي السودانيّة إنّي مصريٌّ، محدِّدةً جنسيّتي تحت خانة القبيلة المكتوبة أيضاً بالإنكليزية Tribe، وهي الشهادة التي أثبتتْ مصريّتي ذات يومٍ في مبنى «المجمّع» الكافكاوي بميدان التحرير حين حاولوا (أي الضبّاط الذين يديرون حيوات الناس في مصر) إجباري على طلب استخراج »إقامةٍ» لي في مصر بعد عودتي من تغريبة اثنَي عشر عاماً ما بين بولندا والعراق ولبنان واليمن الجنوبيّ وإثيوبيا. لكنّ إصراري على مصريّتي، ورفْضَ كتابة طلب إقامة أجبر الضبّاطَ إيّاهم على طلب ملفّي من أضابير المجمّع، حيث أثبتتْ شهادة ميلادي السودانيّة «مصريّتي«.

قضيت سنوات التكوين كما أسمّيها في السودان في مدينة أخرى غير تلك التي وُلدتُ فيها أي «بور سودان» اسمها «ود مدني» ويُطلق عليها عاصمة «الجزيرة» أي عاصمة النيل الأزرق القادم من هضاب الحبشة، ليقترن بشقيقه الأبيض القادم من بحيرة فيكتوريا الأوغنديّة في منطقة واضحة بالخرطوم اسمها «المقرن» تستطيعُ أن تطلّ عليها من فوق جسرٍ يربط العاصمة الكبرى الخرطوم بشقيقتها أم درمان، تلك التي اتّخذها محمّد أحمد المهدي مقرّاً لكرسيّه الدينيّ وسلطته الدنيويّة. قال عن نفسه إنّه «المهدي» في خطابات بعَثَ بها إلى الجنرال غوردون باشا الحاكم البريطانيّ الذي حكم السودان باسم لندن والقاهرة.

علاقة مصر الدولة والشعب بالسودان تبدو دوماً علاقةً ملتبسةً وغيرَ واضحةٍ، حتّى من العديد من الوطنيّين المصريّين الذين يبكون على «ضياع» السودان من مصر بعد استقلاله واختيار شعبه الانفصالَ عن مصر التي كانت «تستعمره» لحساب تركيّا حيث كانت مصر آنذاك «خاضعةً» لها، وهكذا سوف يعلن المهدي أنّه المهدي المنتظَر، ويطالب مصر والأتراكَ بالانسحاب من السودان، بل ويقاتل جيشهما وينتصر عليهما، ويعلن أنّ عاصمته هي أمّ درمان. وسوف «تستعيد» مصرُ السودان لكنْ باعتبارها شريكةً صغيرةً مع لندن، وقد أخضعه «لورد كتشنر أوف خرطوم» هذه المرّة للملكة فيكتوريا. وسوف يطلَق على نظام الحكم في السودان الحكمَ الثنائيّ أي على الاستعمار الإنكليزيّ المصريّ للبلاد منذ العام ١٨٩٩. وكانت قد اشتعلت في بريطانيا بعد مقتل غوردون بواسطة جنود المهدي حركةٌ تطالب بالانتقام له، بإرسال حملةٍ إلى السودان. وهكذا تدور الأيّام لنصبح في عام ١٩٥٦ حين وافق الرئيس جمال عبد الناصر على استقلال السودان عندما أجمع الساسةُ السودانيّون على المطالبة بالاستقلال الكامل.

مصريٌّ رغماً عنه:
قبل ذلك جاء خبر احتمال استقلال السودان عن مصر وبريطانيا محفوفاً بالمخاطر على العائلات المصريّة المتواجدة في السودان، منذ أمدٍ بعيد (مثل عائلتنا)، وأعطى القرار هذه العائلات خياراً صعباً: إمّا التنازل عن الجنسيّة المصريّة والقبول بالجنسيّة السودانيّة والبقاء في السودان، وكان يطلَق على هذه الإجراءات اسم «سودنة»، أو الحفاظ على الجنسيّة المصريّة ومغادرة السودان «اختياريّاً«. وقد رأى الوالدُ، القسّيسُ مَسعد بسطا، اللجوءَ إلى الاختيار الثاني من دون مناقشتنا - كالعادة في ذلك الزمان - نحن الأولاد الذين كنّا ندرس في الثانوي، واثنان منّا يدرسان في الجامعة في مصر. هكذا فوجئنا نحن الأولاد أو على الأقلّ أنا، بقطع الجذور مع السودان الذي وُلدْتُ به، وأنّ عليّ القبولَ بمصر وطناً لي، وأنا وقْتَها كنت لا أتحدّث «المصريّة» كما أبناؤها، بل أرطن بها كما يرطن بها الأجانبُ.

هذه تجربةٌ خاصّةٌ فيها مرارةُ ربما أيضاً عدم الرضوخ للأمر الواقع. فقد سافرتُ إلى السودان - لأوّل مرّة - بعد استقلاله - واستقلالي عن أسرتي عام ١٩٦٥ــ أبحث عن طريقةٍ يمكن أن أكتسبَ بها الجنسيّة السودانيّة لكنّي لم أفلح، فرضيتُ - مُرغماً - بالجنسيّة المصريّة التي أكّدتْها شهادةُ ميلادي تحت بنْد القبيلة. وحين حصلتُ على الجنسيّة الهولنديّة نتيجةَ زواجي وإقامتي شبه المتواصلة في هولندا، قرّرتُ الاحتفاظ بجنسيّتي المصريّة التي أرى أنّ لي حقوقاً تاريخيّةً فيها، منذ كان أسلافي القدماء الفراعنةُ والأقباطُ يزرعون أرض الوادي!

جاء ترحيلي النهائيّ من السودان حين زار أمنُ الدولة بيتَ عائلة العمّ داود حيث كنتُ أقيمُ وأكتب سلسلةً من المقالات السياسيّة عن السودان وتاريخه، وأخبروني بأنّني مطلوبٌ للأمن العامّ، فذهبتُ معهم. وهناك قالوا لي بكلّ الأدب السودانيّ أنّ ثمّةَ قطاراً متّجهاً من الخرطوم بحري (محطّة القطارات الرئيسيّة آنذاك) إلى وادي حلفا على الحدود المصريّة بعد يومين، ويريدون منّي أن اركب هذا القطار. وفعلت ذلك لأنّني لم أردْ لعائلةٍ تستضيفني أيّة مشاكل مع الأمن السودانيّ.

ثورة السودان في المخيّلة المصريّة:
يلدُ الشعب السودانيُّ هذه الثورةَ التي لم يكن العالم - وبالتأكيد حاكم السودان الديكتاتور العسكريّ المتأسلم عمر بشير يتوقّعها - وهي من المؤكّد ظهرَتْ في موعدها المنطقيّ بالرّغم من تأخّرها عن سائر «الربيع العربي» الذي استولى عليه العسكرُ في مصر. ارتفعتْ أثمانُ الخبز وبعض الموادّ الأخرى الرئيسيّة فجأة، فخرجتْ مظاهراتٌ غاضبة ضدّ هذا الارتفاع، سرعان ما تحوّلتْ تحت القمع الأهوج القاسي إلى مظاهراتٍ عامّةٍ سياسيّة تطالب بإسقاط عمر بشير تحت شعار «يسقط بس». إنّها القشّة التي قصمتْ ظهر عمر بشير ونظامه الدينيّ الإسلامويّ. لتصبح هذه المظاهراتُ ثورةً بالأساس ضدّ العسكر، وضدّ الأسلمة الإجباريّة للدولة والشعب. وستراقب الجماهيرُ المصريّة الثورةَ السودانيّة بحسدٍ وغَيظٍ، لأنّ مصرَ أصبحتْ معياراً للفشل في رؤية الثورة السودانيّة لمستقبلها، حيث ظهر شعارُ «إما النصر و إما مصر«.

هذا اختلافٌ أساسيٌّ في رؤية الجماهير السودانيّة للثورة، وهزّةٌ أساسيّةٌ موجَّهةٌ أساساً للمخيّلة المصريّة لرؤيتها عن «السوداني»، فالمخيّلة المصريّةُ التي أعرفها ترى السودانيَّ - مثلما يراه معظمُ المصريّين - شخصاً كسولاً لا يُنجز عملاً هامّاً وترْفقه بالنوبيّ الذي تراه المخيّلة المصريّة طبّاخاً أو سائقاً لسيارة ملّاكي كما كان يظهر في الأفلام المصريّة حتى وقتٍ قريب. ألّا نتذكّر «بربري مصر الوحيد» في ذلك الممثّل الذي تخصَّصَ في تمثيل أدوار أهل النوبة (أو السودان) طبّاخٍ أو خادمٍ باعتبار أنّ كلّ مولودٍ ببشرةٍ سمراء هو «بربريّ»؟ وتجد في العتبة وهي ما تزال سرّة البلد التجاريّة القديمة «درب البرابرة» وهو حيٌّ تجاريّ كاملٌ وكبير متخصّصٌ في بيع لوازم وإكسسوارات الأفراح والعرسان (!).

تحافظ المخيّلة المصريّة في أعماقها التي لا تفصح عنها خوفاً من المَلامة على رؤيتها العنصريّة لـ«كينونة» النّاس سُود البشرة. وأبرز مثالٍ على ذلك ما حدث منذ سنوات حين اشتكى السكّان المحيطةُ بيوتُهم بميدان مصطفى محمود بالقاهرة - حيّ الدقّي - من «استيلاء» مهاجرين سودٍ من جنوب السودان على مَيدانهم، وكانت الحرب لا تزال دائرةً بين جيش الخرطوم، وما تُطلق عليه أدبيّاتُ الخرطوم «المليشيات الوثنيّة». فقدِم من جنوب السودان المئاتُ من قبائل الهامش الجنوبيّة في سبيلهم للهجرة إلى الغرب، واحتلّوا الميدان الصغير المواجِه لمكتب الأمم المتّحدة في مصر المتخصّص في شؤونهم (في الدقّي أيضاً). ورغم أنّهم سودُ البشرة (!) إلّا أنّهم منظَّمون أيضاً فلم يقطعوا زهوراً من الميدان، ولم يسكروا فيه ويعيثوا به فوضى أخلاقيّةً، كما اتّهَمهم المصريّون الذين تطلّ منازلهم على الميدان ليفاجئهم حبيب العادلي وزير شرطة مبارك ذات فجرٍ بعربات الأمن المركزيّ، ويتمّ إجلاؤهم بالقوّة عن الميدان، وجَرح عشرات السودانيّين. وتمّ تفريق العائلات بالقوّة أيضاً، في سيّاراتٍ مختلفة، حيث أُلقيَ بالأطفال في سيّاراتٍ، غير تلك التي ألقيَ فيها بالأمّهات مثلاً!

هكذا يرى المصريّ الرسميّ والشعبيّ الإنسان السودانيّ «الأسوَد» في مخيّلته مثيراً للفوضى وسكّيراً كسولاً لا يعمل (!) لذا لا تحوز ثورة السودان عند المصريّين اهتماماً واسعاً، عدا اليساريّين الذين يعتبرونها «مساراً جديداً» في ثورة شعوب أفريقيا ضدّ العسكر وضدّ الإخوان المسلمين؟

لعلّ جزءاً خفيّاً من عدم الاهتمام هو وجود أعدادٍ كبيرة من نساء السودان في الثورة وكيف أنّهنّ يَقدْن الثوّار بأهازيج البطولة القبليّة الموروثة من الأسلاف الأقدمين. لقد لفت وجودُ المرأة السودانيّة بكثرةٍ في الثورة والمظاهرات اليوميّة، على العكس من التوقّعات التقليديّة لدَور المرأة في الثورة. وتُطلِق السودانيّات على المظاهرات اصطلاحَ «مواكب«. علينا ألّا ننسى أنّ حكم إدارة عمر بشير الإسلامويّ عبر ثلاثين عاماً كان يهدف إلى الحَطّ من شأن الأنثى السودانيّة كما تنصّ بذلك معظمُ التفسيرات الدينيّة الإسلاميّة، التي تنتقص من شأنها. فرغم أنّها الأنثى هي التي «فَتحت» البيت بعد هجرة الرجال إلى دول الخليج، أو تجنيدهم الإجباريّ لقتل أشقّائهم في الجنوب. فتحَت المرأةُ السودانيّة البيتَ بأن خرجتْ لسوق العمل، حتى تستطيع تربية الصغار بالبيت ومواصلة الوجود. فهكذا استقلّتْ «المرأة» السودانيّة اقتصاديّاً متحدّيةً واقع الفقر والمذلّة من غياب الذكور.

لا ننسى أيضاً أنّ المشاعر القبليّة لا تزال عاليةً حتى في المدن الكبرى السودانيّة بل ولا يمكن إنكارُها بسبب تواجد «الشلوخ» (العلامات القبليّة على الوجه) حتى لو كفّتْ معظم العائلات الآن عن ممارسة الشلوخ على أفرادها الأصغر سنّاً. فلا يزال السودانيُّ ذَكراً كان أو أنثى يفاخر بأسلافه القبليّين.

وهكذا خرجت النسوة السودانيّات إلى الثورة مع الرجال، بل أحياناً تكون هناك مظاهراتٌ أغلبها نسوةٌ يُزغردن ويهزجْن بأهازيجهنّ القبليّة التي تحضّ على الإقدام والرجولة ومواجهة الأعداء. هذا اختلافٌ أساسيٌّ في رؤية الجماهير الثوريّة السودانيّة للثورة التي صنعوها خارج دروب الثورات المطروقة وانتهجوا لأنفسهم درباً خاصّاً به حفَرتْه أقدامُهم وأصواتُهم ودماؤهم.

ثمانون عاماً من الحنين:
أتابعُ من مدينة أمستردام حيث أعيش مجريات الثورة في السودان رغم شحّة الأخبار وتضاربها. وأعرف من التجربة المصريّة كيف خدَع المجلسُ العسكريّ الشعب المصريّ،َ الذي كان يتوقّع من ثورة ٢٠١١ الكثيرَ، وكيف ناوَرَ حتى خرجت ملايين في ٣٠ حزيران/ يونيو و٣ تموز/ يوليو تطالب بنزول السيسي إلى قصر الاتّحاديّة، حيث كرسيُّ رئاسة الجمهوريّة، وكان هذا أغربَ انقلابٍ عسكريّ يحصل برغبة الغالبيّة من الجماهير المصريّة وبناءً على طلبها!

ونعرف أيضاً أنّه قُبيلَ عيد الفطر الأخير هذا، أمَرَ المجلس العسكريّ السودانيُّ مرتزقةَ الجنجويد الذين أحرقوا البيوت في منطقة جبل مرة ودارفور وكردفان، واغتصبوا النسوة والفتيات هناك، بإطلاق الذخيرة الحيّة على المعتصمين السلميّين، فقُتل أكثر من مائة متظاهرٍ سلميّ وُجدتْ جثث البعض منهم ملقاةً في النيل ومربوطةً بالأحجار. ورغم أنّ معظم أعضاء المجلس العسكريّ السودانيّ شاركوا الرئيس المخلوعَ البشير في جرائمه الحربيّة ضدّ الإنسانيّة، فهم الذين أمروا بأن يشكّل الجنجويد المرتزقةُ «قوّاتِ الدعم السريع» الحربيّة للتّدخل السريع ضدّ الأهالي السلميّين.

هذه ثورةٌ شعبيّةٌ بامتياز تريد شيئين أساسيّين: أوّلاً، أن يخرج الجيش من نظام الحكم في السودان ويتسلّم المدنيّون الحكم. وثانياً، إلغاء حكم شريعة الإخوان المسلمين التي كان عمر بشير يطبّقها.

إنّ نجاح الثورة سيضع معظم أنظمة الحكم في البلاد العربيّة في مأزقٍ وجوديٍّ، لأنّ نجاحها يهدّد هذه الأنظمة الدمويّةَ الديكتاتوريّة والقمعيّة جميعاً.

وعلى فرض عدم نجاحها - الآن - فلن يمكن للثّوار التراجع الآن، بل ستكون العواقب وخيمةً على المجلس العسكريّ السودانيّ، خصوصاً أنّ هناك الأصواتِ العاليةَ التي تطالب بالتحقيق في انتهاكات عهد عمر البشير للحقوق الأساسيّة للإنسان السودانيّ. ولنتذكّر أخيراً أنّ عدّة طوائف سودانيّة تملك السلاح، وخبرةَ حروب العصابات!

أمستردام - يونيو / حزيران ٢٠١٩

 

عن (بدايات)