يقدم القاص العراقي هنا نوعا من الشهادة الدراسة التأملية حول إشكاليات كتابة نص سردي تحت وقع الاحتلال الدامي لبلده الحبيب، وكيف أن أي كتابة لابد كي تدرأ عنها كابوس الاحتلال من أن تكون حوارا جدليا من متون عربية نقدية وسردية كثيرة.

تشابهات النص واستجابات التلقي

تجربة المؤلف في استعارة الموصوفات

عباس خلف علي

في نظرية البراءة أو طهارة الدائرة، يرد قول (كل الأشياء قد قيلت ولم يعد مايقال) تلزمنا هذه العبارة على توخي الحذر في تجسيد شروط النص الذي نزمع كتابته، وعلى أي صورة يمكن أن تركب حقيقته وصياغته، هذا الالتباس جسد لي الكثير من المعاني، وأنا أحاول أن أرسم في ذهني فكرة النص (الموضوع/ الثيمة)، رغم إني قد قرأت عبارة بورخس التي من الممكن أن تخفف من وطأة العبارة السابقة بقوله، الأحداث ليست مهمة وإنما الكيفية التي ترصن فعل الحركة في النص. وعلى هذا الأساس كانت مظاهر التأليف تجسد إشارة سابقة، ولكنها لاتتكرر في ذاكرة السرد الخيالية، فأن التقليديين راهنوا في السابق على نظرية الانعكاس ووجدوا فيها أن مايحتاجه الواقع هومايعادل وجوده في النص، وخزين الذاكرة هو تراكم يبلغ الحد الذي يكافأ به القارئ، هذه المعادلة السهلة التي وفرها نص مايسمى بالمؤانسة والمتعة، لم يعد الآن يشغل تجربة القراءة أو الحقيقة بغض النظر عن الصورة التي تركتها أعمال المطابقة والمعادلة التي تمثلت في الجنس الروائي تحديدا لاهتمامه بتجسيد حركة الشخصيات والأحداث والزمن، والتي ازدهرت في أواخر القرن الثامن عشر وحتى نهاية القرن المنصرم، الحقيقة كانت فترة زاخرة بالرواية العالمية وبالأسماء المهمة لصانعيها مثل أعمال ديوستوفسكي وفيكتور هيجو وأناتيل هوثرن وهرمان ميلفل وتولستوي وجورج أورول وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، إذ كانت هذه الأعمال تمتلك مستوى عال من الحرفية، بحيث تركت لها أثرا عميقا في ذاكرة القارئ، هذا الأثر تكون بسبب تبادلها مع الواقع الذي لايتحمل أكثر من تجسيد واقعة بواقعة على حد قول محمد خضير، وإنها لم تجهد المؤلف بالخروج عن مدار الفلك الواقعي، ولذا تجعل القارئ شديد الوثوق بما تطرحه مواضيعها.

وثمة حقيقة أخرى لابد من ذكرها في هذا المقام تتعلق بتشبث النقد بما تطرحه الانطباعية حول تمسكها بالشكل والمضمون معززة قولها بتلك الأعمال الخالدة التي مايزال صداها لايحتاج إلى برهان أو تأكيد لحضورها الذي يعد الآن العمود الفقري لتطور آليات السرد، أما ما تبقى من تلك المفاهيم التي هيمنت ردحا من الزمن على مقولات النصوص التقليدية، فيمكن لها بعد الممكنات السردية الحديثة، أن تبرر أرخنة الأعمال ذات القيمة الفنية والأدبية معا على مستوى الانجاز والتحقيق. وهذا كفيل بأن يتماشى ووضعها الآن، بعد إن غيبت من خارطتها النقدية أو أغفلت عنصرا مهما قائما على تحليل النص، ومشارك فيه إلى درجة وصفه بالمؤلف الثاني للنص، ليشكل بذلك مستوى التلقي، وذائقته الفنية وانفتاحه على الآليات الجديدة في فهم النص وقراءته من عدة زوايا تحليلية، وإشراكه في عملية البناء الأفقي أو العمودي والحلزوني في معطيات النص كأثر فني (حمال وجوه) كما أشارت إلى ذلك جوليا كرستيفا من إنه البعد الحقيقي لاستراتيجية النص إزاء المواجهات الكبرى التي يتعرض لها المصير الإنساني.

جسد نيتشه الفيلسوف الألماني قضية تاريخية ركز عليها في السابق الفلاسفة الإغريق وهي مسألة ميتافزيقية تتعلق بما يسمى (الموت الأعلى) التي دفعت بارت إلى تبني فكرة موت المؤلف التي لم تكن التسمية تمتلك بعدا مجازيا أوفر حظا من المؤلف المجهول الذي يحيلنا إلى مفهومنا عن اللوح المحفوظ، وما تنسج المثلوجيا والبراسا يكولوجيا في أوهامنا عنه، المهم، إن هذه الفكرة دعوة مفتوحة للمتلقي في أن تبلغ القراءة معطياتها الرؤيوية وأن تسجل حضورها بعد غياب المؤلف بشكل رمزي. إن ثمة حقيقة تفرض مثل هذا الواقع الذي لم يعد يتحمل مايرويه المؤلف أو يتظاهر بمعرفته الكلية له، وعلينا أن نقر مثل هذه الحقيقة التي استمرت تحت ضغط أكثر الأفعال تأثيرا على حتمية الاختلاف والمغايرة بعد دخول الإنسان عصر الذرة وتحولاتها المفاجأة على سطح الكوكب وتهديدها المستمر لقيمه ووجوده وآدميته، وليكتشف من خلال هذه الحقيقة إن ثمة لغز يقول عنه باولو كويلو نحن بحاجة لأن ندع الحياة تقودنا إلى السر عوضا عن أن ندفعها باتجاهه.

واقع الأدب هو واقع الصورة:
اندريه جيد لم يكن خاضعا في (مزيفو النقود) إلى التبادل مع الواقع في معالجته النصية، وبقى في فلسفة الشخوص وتأويل الأماكن ومثله فعل فولكنر في (الصخب والعنف) عندما طارد شبح الزمن وبورخس في امتصاصه نمط السردية التقليدي لتتفاعل شخوصه على إيقاعات يوتوبيا السرد، ولدوس هكسل في (الجزيرة) تصور العالم الذي يخشى أن يكون مفندا في ذلك قول أرسطو بمقولته المشهورة بأن المؤرخ يروي ماحدث، والأدب يروي مايمكن أن يحدث. وهكذا نجد في رواية (الألحان المتقابلة) إن مايكتبه هو يتعلق بمسألة تكوين الأفكار، ويعبر كونديرا بأن (خفة الكائن) و(كتاب الضحك والنسيان) عمل استبطاني للإكراهات التي جعل منها المجتمع أمرا واقعا. ونحن ككتاب لانستطيع أن نتجاوز هذه الحقيقة في تصوراتنا.

وهنا من حقنا أيضا أن نلتفت إلى ماقاله بيكاسو عن (دون كيخوت) التي نسبت في زمن ما إلى أبو حامد الأيلي، وإنه كتبها سنة وفاته ووجدها الراوي على أحد الأرصفة في طليطلة فاشتراها بثمن بخس ونقلها إلى الأسبانية، هذه الإشارة تبدو ليس حقيقة تاريخية حيث نقب عبد الفتاح كليطو في هذا الأمر ولم يجد له وجود، ولكن في الحقيقة هي نوع من الحيل السردية التي قام بها سيرفانتس لخلق نوع من مظاهر التأليف العربي (البيكارسيكية) التي تميزت به ألف ليلة وليلة، هذه الموضوعة منحت بيكاسو رؤيته في تشكيل لوحة (دون كيخوت) ليخبرنا عن الموهبة التي تستيقظ أو تتحرك نحو تقشير تلك الكثافة غير المرئية الكامنة بين سطور التجربة.

هذا مايؤكد إن المرجع الحقيقي للمؤلف هو امتلاكه ذهنية متقدة إزاء مواجهة مايقرأ وذاكرة تعيد النسق إلى مكون يمكن أن يحدث فيه التصور أوهامه وأحلامه وخيالاته لتخوض في تطهيرها روحيا آلية الكتابة. فالأدب ليس كما يتوقع البعض مجرد ذاكرة تعيد بوساطة نظامها الهندسي مايسكن جوارحنا أو تهدأ شيء من أوجاعنا عندما تلوح في الأفق ملامح الصور البعيدة، ولذا لم تكن صورة الأدب أكثر مما لخصه الجاحظ بقوله: المعنى القائم في الصدر، المتصور في الذهن، ذلك البعيد الوحشي الذي ينقلب باللفظ إلى ذكر. وفي هذا التراسل تتسع رؤيا النفري أيضا إزاء العبارة التي ضاق بها الواقع لمحدودية دلالتها لتلتقي مع إشارة الحلاج الذي لفت انتباهنا إلى «من لم يقف على إشارتنا» وهكذا تبقى الصورة قائمة أو راشحة لخيالاتنا، وهي تدور في فلك المعاني وتخوض في نسيجها أحلام ورؤى متعددة لتجسد لنا استعارات أبهى من الحقيقة التي ولدت منها.

وفي هذا التصور اندرج سؤال محدثي عن الأفق الجمالي، وهل يتطابق مع عمق الإحساس بطبعيه الأشياء، هي في اللحظة تعني التجربة، قصدت اللحظة لأننا لانستطيع مغادرة الوهلة الأولى في امتصاص السؤال، ومن ثم يبدو قد تحلل من إشارته ليعني أهميته فيما نعتقد إننا قادرون على التعقيب، أي إننا مسكنا السؤال، هذا هو الوهم الذي يشغلنا ويجعلنا غير سعداء في الوصول إلى غايتنا فالعبرة باختصار هي كيف نروض هذا الوهم لمعالجة أجوبتنا، وإن الأسئلة مهما كانت تبدو طبيعتها ووظيفتها أساسية، هي مجتزئة من أسئلة أخرى لاتقف أو تستقر في اتجاه معين نتوقعه ثابت أو ساكن. فحال الأسئلة في بعض الأحيان مايشابه تركيب الملامح في النص على مختلف أشكاله وألوانه وعلى هذا الأساس تتقمص الأجوبة دور المؤلف الذي نحاول أن نخفي سلطته أو إقصائها أو تهميشها في مواجهة القراءة الجديدة، مع إدراكنا المسبق إن في كل إجابة نقص وبكل نص عيوب وإن دورة النص النهائي لم تكتمل، ومع ذلك نواصل الخوض في الفرضيات التي تمنحنا إياها الكتابة التي نرى في أبعادها وقيمها الفنية رغبة في تشكيل أوهامنا وأحلامنا التي تساعدنا على التأمل، وتحفيز التصورات الممكنة لأجواء الكتابة.

فأنا مثلا اعتقد أن الكتابة تمرين مسبق في تجربة العوالم، في التمرين رياضة كالتي تمارس في طقوس الديانات، أي في بعض الأحيان تشكل التمارين غلاف روحي في فضائه تنعكس الحقيقة وتتحول إلى خريطة ذهنية أوسع وأشمل مما نتصور، وأذكر هنا تجربتي في كتابة (مدينة الزعفران)، حيث كان المصدر الرئيس لها أو المرجع الأساسي هو الواقع التاريخي، حيث تعرضت المدينة لأعنف هجوم شهده القرن الثامن عشر، حصار، مجاعة، سفك دماء، وما شابه ذلك، ففي العمل السردي تتحول هذه الوقائع مهما كانت شدتها وقسوتها إلى أسئلة، لأن النص لايحتاج إلى حقيقة بل هو الذي يولدها كما قلنا من خلال رؤيته في تجسيد أبعاد الفكرة وإيحاءاتها التي تضللنا إنها تخترق الحدث، وهكذا تكتسب النصوص أهميتها سواء في أفقها الجمالي أو بإحساسنا إنها تريد أن تحقق هذا التداخل من صورة جوهرية أخرى تلتقي أو تعبر عن بريق محفز للتلقي الذي يعد مشارك فعلي في تجسيد ملامحه الاستثنائية التي قد تكون غير موجودة في النص.

وهذا يحيلنا إلى تشابه النص متى يحدث؟
في هذه الشهادة لم أعتن أو أعني بالتنظير بل أحاول أن أوفر جهد الإمكان سبل الحديث عن هذه المقاربات التي تشغلنا عن سوانا، بما تحيله لعبة التبادل مع الظواهر إلى لبنات التأسيس بوصفها الباعث الحقيقي لتجليات الكتابة، الروح هذه التي يسميها إبراهيم الكوني أعجوبة النص. كيف يمنحها المعماري لفنه طلسمات تبعث الحياة في جسد ميت، أو الثروة التي يبحث عنها أحمد عبد المعطي حجازي في التخلص من التقليد الذي لايشبه حتى التناسخ ليميز بين ماهو «العابر والباقي» والمكر الذي تنقلب فيه العبثية إلى فردوس حالم يصطاد فيه محمد برادة ماعجز عن إدانته الواقع. فأذن الروح هي التي تشكل صورة العالم الذي نريد أن نحياه والذي نريد أن نكتبه سواء في الأسطورة، الحكاية، الخرافة، النحت، التشكيل، السينما، نبتدع أسماء ومسميات في مكوناتها لعلنا نسعد مفاهيمنا إزاء تطور النص، فليس هذا معناه أن الذي كتبه فكر الثامن عشر مثلا لم تتبلور فيه روح العقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل انه إضافة إنسانية حولت العالم إلى فضاء فكري خرجت من رحمه الفنون على مختلف أجناسها و تعريفاتها، ولذا نجد أركون يقول إذا بقينا منبهرين بقينا أشباح، وهكذا تتبدل الفضاءات كي تعطي مدلولها وقيمتها وثراها من لحظة معرفتنا بمنزلتها المتحولة كأثر فني، فأذن الروح التي تجلت في الأعمال الخالدة لتجسد المعنى الجمالي لها لم ينقصها الخيال في تحريك مشاعرنا وأحاسيسنا نحو تكوين خلق جديد، يبتعد، يقترب قليلا، إلا إنه في النهاية يهب معناه الغائب في ظاهره.

اعتراف النص بجذوة من سبقه:
هذا جزء مما واجهني قبل التحضير «لكور بابل» أو الأعداد لها، فكانت الأزمنة المتعاقبة قد فعلت فعلتها في طمس الكثير من معالم المدينة، وأحيت بنفس الفعل والقوة مظاهر جديدة قد تعاقدت مع الميثولوجيا، وهيمنت طقوسها الشعبية لتحد من أي اختراقات منافسة. ثم يأتي الاحتلال ليضيف بعدا جديدا لم يكن معروفا أو ملموسا في السابق، سوى ماتركه التاريخ لنا، والذي يروي فضائع الغزو وانتهاكاته وجرائمه. وتشويه الذاكرة بمفاهيم ليست لها علاقة بالواقع، هذه الأشياء جعلت من النص أمام راهنية نصوص سابقة جربت حظها في سياق البحث والتضليل عن فرصة وجودها/ أي إنها تبحث عن قارئ غير مشوه، ربما يساعده التضليل في اكتشاف مكامن الخلل، فرواية (أبكيك يابلدي) لألآن باتون وهو كاتب من جنوب أفريقيا عاش لوعة العنصرية للبيض بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ورسمت لذهنه صورة المدينة (جوهانزبيرغ) أثرا تنحته الذاكرة، وليس الكلمات. هذه الرواية تسجيل لأحداث دامية لم يندم عليها البيض إزاء اللون الأسود، سحق، دمار، مصادرة أراضي، اغتصاب، إلغاء هوية، وما إلى غير ذلك.

هذه الصور ربما تلتقي بشكل أو بآخر برواية (حرودة) للطاهربنجلون، التي تدور حول طنجة مدينة الفكر والأدب والفن بساحلها الآسر و المشرق الذي تتموج على إيقاعه مختلف الثقافات، إلى مجنونة عصية على المحتل في فك رموزها وشفراتها، وبنفس الاتجاه كانت رواية (لعبة النسيان) للمغربي محمد برادة ورواية (تجربة الخصوبة) للكاتب الياباني يوكيو ميشيما الذي عبر عن عقدة الذنب التي قرر فيها مصيره بشكل مثير كما هي العادة في مواجهتهم للإحباط قائلا: إنني لا أمتلك عبقرية كتاب بلادي، وغير ذلك من الأعمال التي يتحقق في عمقها نفس السؤال الذي يتخطى مشهديه الواقع و الهروب إلى الحلم بدافع قسوة الأحداث مما يدفعها إلى سلوك فنتازي أريد له أن يكون بديلا عن مشهديه تسجيلية قد يسبب الركون إليها ضعفا في تقديم الموضوعة الروائية وربما تتميز بخصائص أخرى يكتشفها القارئ، فهذه المحمولات السردية تحفز مساءلتها لذاتها كما يقول محمد برادة مثلما يحفز مساءلة الكاتب لذاته بحثا عن مفارقات الصورة وقيمتها وثراها في الممكن وللاممكن، في الوعي واللاوعي، في الحقيقة واللاحقيقة. وهنا أستطيع أن أؤكد بأن الممارسة القرائية أو موجهاتها تلتقي في مشاركتها المقترح ألبدئي لتفعيل شحنات التصور كوسيلة تمهيد للتخطيط المسبق في رسم إستراتيجية العمل النصي. وهذا بحد ذاته لايلغي أو يمحي من الحسبان، بان الواقع ومايترتب فيه على كينونتنا من استلاب وقهر وإقصاء وتهميش أن يكون مجرد من هذه القراءة.

ولذا كنت مثل الوسيط الروحي بين كل الأشياء التي تحيطني، وكان لزاما علي أن أكون متساويا من جميع الأطراف المتوثبة في تحديها لواقع النص ومغامرات التأثيث، في بعض الأحيان يعتقد المؤلف إنه يمسك تلابيب الفكرة ويقبض عليها على نحو ما، هذا وارد بالنسبة له ولكن لايمكن أن تصادر من خلاله ذائقة التلقي التي هي كل شيء في ناموس الكتابة الآن، ومن هذا الشعور أنطلق العمل في رواية (كور بابل) بالتحديد التي أحسب إنها رواية المتلقي، أكثر منها رواية المؤلف، اعتمدت في ذلك على ماتجسده ثقافة التلقي من أخبار وسيرة وحكاية ومعلومة وفكرة تسمح له في نسج عالمه، وحسب ما تشكله المعرفة من انعكاس على تفعيل رؤيته إزاء مواجهة مايقرأ.

فهذا النص باختصار، هو نص الخيال المفتوح، الخيال القائم على عدة احتمالات بصرية، ربما يبدأ من السطح الحقيقي، ربما يتدلى خيط السرد من مسافة عميقة نسميها الحلم، فيها يتحدث النص عن الوجوه الغائبة والأحداث والكائنات التي تتهامس في حوارات مغلقة أو مكتومة، صحيح قد يجد القارئ تخاطرات زمنية مع العصور المختلفة، وجلبها من مداها السحيق بغية تشكيل فسيفساء مضلل، تستعير فيها الذاكرة الحية، الحكاية، الخرافة، الأسطورة، وحتى النحت، التشكيل، السينما، وإعطاء فكرة بما يشبه الوهم عن التناص، كل ذلك يحدث من أجل وصف فاعلية الحلم وتأثيره حسيا على رؤانا التي تعرضت للتشويش وخصوصا بعد الخراب الذي استهدفه المحتل، وإذا أردنا أن نؤشر هذا العمل برواية نص، فيعني ذلك كل الأجناس من الممكن أن تكون الضمير السري له بحيث تصبح قيمة السرد معتمدة على قيمة العبارة المحفزة على صيرورة الحلم وتكوينه الطيفي المخلق، أي إنها يوتوبيا النص، وبعبارة أدق، أسم رواية نص، هو احتماء بهذا الجنس لأن مافيه يضمر حوارا نصيا مع ذاكرة النص الثقافية ذاتها، والتي هي متخفية تحت أجنحة السرد أو ما تسميه بشرى موسى صالح (قوت النظام) وهو نوع من التجريد الذي ينطوي عليه النص في استعارة الحلم الذي يمكن أن يقترب من الواقع وفي الوقت نفسه له المقدرة على إيهامنا، وهو أسلوب يسميه كذلك د. صبري حافظ بفاعلية القراءة، وهي إشارة لبناء الحكاية التي تقع ماوراء السرد.

إن هذا الفضاء الحلمي سبق أن مارسه السرد الإيحائي في (مدينة الزعفران) وكنت قد وصفت في مقابلة سابقة هذا النمط أو الأسلوب بأنه يجعل الكاتب أكثر تحررا في اختراق المألوف أو الواقع الذي نشأت فيه إلى عالم متماهي الشخوص والأحداث ومتواري خلف الحقائق، فتبدو الأماكن المخلقة تأخذ ملامحها من الجذر التاريخي لها، ومن دون أن ينفصل الحلم نتخيل مايجري في السرد بمفهوم (يوتوبيا المكان) الذي يتيح لنا أن نكتشف بأن زمن السرد هو ليس التاريخ الحقيقي لها وإنها تخطت وجودها برمزيتها كما ندعي أو نزعم.

أما في كور بابل فيحدث العكس، النص هو الذي يعبر عن هذا الحلم، ولذا نستطيع تسميته بـ (يوتوبيا النص) فأعتقد أن هذا الأسلوب الذي يلجا إليه الكاتب ليس ترفا أو كماليا في التعبير أو لمغايرة التركيب الفني لألفات النظر أو على إنها كما أشار د. محسن جاسم الموسوي انهماك ذاتي ونرجسية فنية يتعالى فيها الصوت النقدي إزاء تقيمها وتعليلها وتحليلها في سياق هدم مقصود للاحتمال والإيهام.

نحن هنا لانثبت ولاننفي هذا القول بقدر ماهو مسعى في تلبية حاجة التصور إزاء تراجع السرد الواقعي أمام التحولات والتغيرات التي شهدها العالم، ومدى تأثيرها في مضمون الحس والإدراك أو على الوجدان الإنساني، فبلزاك وفولكنر وديوستوفسكي ونجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وغيرهم ممن مثل الواقعية بحرص وحميمية لأنها كانت تشكل بالنسبة لهم امتداد حقيقي لعصرهم ولذا بقيت أعمالهم مشدودة إلى سياقات الواقع وأصدائه الأيديولوجية على حد تعريف الناقد الفلسطيني فيصل دراج، في حين أخذ العالم بالغليان واهتزاز الطمأنينة تطفو لتضفي على وجود الإنسان حلقات من الأسئلة التي من غير الممكن نقل أفعالها إلى حيز النص من منظور تسجيلي أو وثائقي يستطيع أن يتحملها المؤرخ والسرد التاريخي للأحداث وليس النص الذي يمارس استعداده التوغل في متونه إلى لغزية الصراع والمواجهة، ومن هذا المنطلق قال غريماس عن المدرسة السيميائية السردية، لايمكن مواجهة إشكالية الواقع إلا بوجود فعلين هما الفعل المتحقق (ويقصد المنظومة المعرفية لذاكرة المؤلف) والفعل المحتمل (حدس السرد وتصورات الكتابة) وبهذه الصيغة يكون الحاضر مركز الحقيقة الضائعة لتي تبحث في صنعها النصوص الواعية للغز الذي لايتعبنا حله.

كنت أرى في رواية محمد برادة (لعبة النسيان) الصادرة 1987 بعدا في تصورات الكتابة، من تلاعب بالزمن أو الشخوص وحتى أسلوب السرد، أراقب عن كثب الصورة المتخيلة لتجسيد اللعبة التي أسماها النسيان وأفترض حركة السيد طيب وسي إبراهيم والطايع على الرغم من انتمائهم لعائلة واحدة، كل واحد منهم يبدو بؤرة مركزية، أي تتعدد المراكز بتعدد الاختلافات، وهنا يمكن لهذه القوى أن تتمدد لو أغفل دور القارئ، ولم يتم استدعاؤه ليكون طرفا معادلا للاستعارة المفترضة القائمة في النص ومن ثم إعادة ترتيب الصور ليكشف عن لغز النسيان ولعبته في هذا الشأن.

عن ماذا ألمح في تجربة المؤلف واستعارة الموصوفات
اعتقد بعد أربع مطبوعات سردية كرست جلها عن موضوعة المدينة تتيح لي أن أقول إن أصداء الفكرة التي توهبها البلدان هي طموح مشترك لظاهرة المدينة، ربما لست محقا في هذا الاهتمام. ربما يأتي الاستحقاق إضافيا ولم يكن أساسيا فيما يخص الموجهات لبناء النص، ولكن تطمئني مبرراتي وتخفف عني وطأة هذا الحرج من جراء التداعيات المتمخضة عنها بالقول، أن مادامت إشكالية القراءة لم تحدد بعد سلوك النص العربي كظاهرة اجتماعية كما يقول فيصل دراج، تأتي مشكلة أخرى اسميها بعض الأحيان عقدة كتابة تتلخص بسؤال مفاده هل هضم النص العربي مشكلات عصره، وهل بإمكان السرد أن يغير المختلف أصلا أم أن ثمة حاجة فردية وذاتية للتعبير عن عقدة المؤلف في التعويض عما يسمى بالرفض ألنكوصي، فمهما كلفتنا الإجابة في تحديد السبب تبقى إشكالية التوفيق لا ينبغي لها إن تخفي حقيقة ملحة تقول ثمة إرادة محضة في الكتابة تدفع بنا نحو الحوار الدائم.

في قراءة مجاورة متصلة بالموضوع، سألني أحد الأصدقاء كيف تفهم لغة الصوفي عندما يعبر عن الحاضر بإحساس لايخلو من سر الحقيقة، وعن الغياب بوصفه يتبع المعاني الخفية في مضمون لغة الغياب والحضور التي صهرت مقولاتنا في موضوع الأدب. لأاعتقد إننا سنخوض في قول الحلاج وبالأخص ماجاء في الطواسين التي سبق وإن ذكرناها «من لم يقف على إشارتنا لم ترشده عبارتنا». ولكن لابأس من دعم مقارباتنا بأوجه الشبه، حيث نجد في هذه العبارة حركة لعناصر ثلاث، تتيح للمؤول إن يتحقق منها قبل الوصول إلى تمثله، وهي السفر والحلم والكنز، على حد قول محمد سالم سعد الله. تساعدنا على هتك الحجاب باختراق مدلولاته الفاعلة، ومع ذلك أنك لم تستطع أن تصوغ لها تحديدا أكثر بعدا من المحتمل والممكن، ومن هذا المنطلق أفهم قيمة المخطوطة كأثر يختزل الحقيقة التي وضعتها تجليات المكان والأسطورة في إيقاعها المتنوع الذي كتبه الأقدمون تحاشيا للأخطاء الملعونة والحكايات الشفاهية والمدونة التي عبرت كل الأشكال والأجناس لتشحن لحظة الاتصال بها، وهكذا تتحرك سلسلة من الخصائص المنبعثة من منفاها لنتخيل مقدار تمثيلها وتحويلها.

وبنفس الاتجاه أعيش لحظة التراسل مع خطابات قصية، في ميدان من الإيحاءات المغرضة على إعادة ترتيبها من جديد، أفهم أن المدينة لولب أو أفق هذا التماحك القريب/ البعيد، لتكون سجلا أو أرشيفا يستقبل النص المهاجر كما يصفه محمد بنيس، ليكون جزءا من إرث الذاكرة تعتمد عليه في المكون اللاحق ليسدد فاتورة الوظيفة المرجعية من التخاطب. على هذا الأساس أشكل مدينتي الفاضلة مثلا، التي لا أبغي منها مجدا أو أرثا أو سموا ورفعة، من أسئلة الزمن وتعريفات النهر و أسوار الأبواب المنحوتة كالتيجان على رؤوس مداخلها ومخارجها وتشغلني قبابها المعلقة في الفضاء كطود الجبال تضفي على نهارات مسالكها الملتوية في جوف أزقتها كالظلال وتجليات طقوسها التي تختزن الحكاية منذ أكثر من ألف عام، حكاية الروح مع الأقدار في لعبة المكر وعالم الأشباح وطلاسم الجنود المتوحشين الذين يرتدون أقنعة الرهبان والقديسين والملائكة، والسقاة المحرومين وهم يلوذون من قيض الطرقات إلى نهاية الظمأ بحثا عن الملاذ الآمن، صراعها لم يحسم ونصها لم يزل يواجه الحقيقة بين الجفاف والخصوبة.

فكيف يكون الهرب من هذا القدر الذي يسميه محمد خضير ب«القدر الروائي» وأنت تعيش غزارة الإيحاءات التي تتسابق بالإقتداء والبناء من أجل أن تسكنها بالقرب من توجساتك السابقة، إن التراكم الذي يعود إليه الكاتب أشبه بمن يرافق الحلم من خلاله تكتب عشرات المسودات ولكل مسودة وجه لاتتحمل إقصاءه بسهولة. وعلى هذا المنوال لاتكتمل الصورة التعسفية التي تشعر من إنها باقية تلوح في الأفق تنتظر العمر كله. هذه الصورة انتظرها إبراهيم الكوني في تاريخ الطوارق، والطيب صالح في نيل السودان على امتداده الخارق بين القرى المتعففة ببساتينها التي صحرها الجفاف، وجمال الغيطاني في تجلياته التي تستعير صوفية المكان لتشكل انعكاساته مدخلا لرؤيا حاضرة، في عمقها شخوص يحتملون وجه الممكن أو يتشابهون مع الحقيقة. وبهذا الاستنفار اندرجت بصرياثا التي ضاقت بفناراتها وترترة مكائن سفنها ساحة سعد وأم البروم والعشار، ولا ندري ماذا تخبئ المنعطفات الباقية وما تحظى به عين الرؤية كما يقول النفري.

هذا باعتقادي ما أردت طرحه على نفسي قبل أن أتوجه به عبر خطاب الشهادة التي هي قبل كل شيء وجهة نظر تحمل بين طياتها حكاية المؤلف مع النص التي تتلخص عندي بأن قيمة تجربة المؤلف تكمن في ذات القيمة المتوخاة من جوهر البيئة المنتجة لها مهما اختلف الأسلوب أو تغير الشكل تستطيع أن تبقى شفرتها تدور في المخيلة كتناسل الأشباح حول مائدة النصوص التي تشفي آلامنا وأحلامنا وغليلنا الإنساني.