كان النبي عليه الصلاة والسلام ـ وما يزال ـ النموذج المثالي الذي تهفو إليه القلوب المؤمنة في كل مكان، وتتعطر بسيرته الألسنة الذاكرة في كل زمان، فهو المثل الأعلى والقدوة الحسنة التي كثيرا ما لهج الشعراء بمدحه وأشاذوا بمناقبه. وقد تلونت تلك القصائد المدحية بأذواق العصر الذي كٌتِبَتْ فيه، كما اقتبست من كل عصر خصائص الحياة المعاصرة وظروف الدول والأوطان وتطلعات المؤمنين ورجاءهم في مستقبل أفضل. وقد تهيأت لشاعرنا أحمد شوقي كل الجوانب الثقافية والدينية والأدبية والسياسية التي جعلته يتَبوَّأُُ مكانةً كبيرةً في سبيل تحقيق أماني تلك الشعوب وطموحاتهم العظام التي كان يرنو لتحقيقها، وإن كان اهتمامه بالمناسبات الوطنية وبأوجه الحياة السياسية في الأمة الإسلامية قد نال قسطا وافرا من شعره، إلا أن هذا الأمر لَمْ يُنْسِهِ أنْ يهتمَّ أيضا بالمعاني الإسلامية السامية التي كانت تجيش بها قلوب المسلمين نحو خاتم الأنبياء والمرسلين من جهة، ومن جهة أخرى رفض أنْ يظلَّ مُتفرِّجاً والشعراء يُدْلُونَ بدلائلهم في إعلان حبهم للنبي عليه الصلاة والسلام رغم أنَّ شوقي ـ في مرحلة نظمه لمدائحه النبوية ـ كان شديد التعلُّقِ بالقصْر لكنه: "كان يُريد الانطلاق منْ قيود القصر وصاحبه، والتحليق في آفاق ٍ أوسعٍ وأرحب"(1). كما أن فكرة العروبة والإسلام ظلَّتْ ـ في نظره ـ تَوْأَمَيْن لا انفصام بينهما، جعلت من حماسته لهذا الدين تأذن له في دعوة العرب إلى الاتحاد، ليرى أمته موحدة عزيزة الموقع والموقف. فجاءت معظم قصائده تتقدم فيها دعوته إلى رسالة الإسلام على جمالية الأداء وفنية الإبداع، بل إنَّ إعْجَابَهُ بشخصية محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام لا يُحَدُّ ولا يُوصَف، حيث قلَّما تخْلُو قصيدة وطنية أو قومية في شعره من ذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام والإشادة بعظمته وبما قدمه للبشرية.
بدأت شاعرية أحمد شوقي في المديح النبوي تتحرَّكُ بعد أنْ عُنيَ بقراءة السيرة النبوية، ومعرفة دقائق أخبار الرسول عليه الصلاة والسلام وجوامع سيرته العطرة، حيث أفرغ طاقته ووظَّفَ فَنَّهُ في مدْح النبي عليه الصلاة والسلام توظيفاً صريحاً، لأنه رأى فيه هادياً ومحرِّضاً وواعظاً أمَّته. وعلى أساس هذا الاهتمام بالمدائح النبوية، سنحاول الوقوف عند نماذج متنوعة من شعر شوقي في مدح النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، في محاولة لاستكشاف قدرته الشعرية على تصوير تجربته الخاصة في هذا النوع من الشعر، ومدى نظرة شوقي إلى مفهوم التجديد الحضاري لدى الأمة الإسلامية العاملة على التقدم والرقي. ولعل من أجود مدائحه النبوية ما يأتي:
(1) ـ قصيدة «نهج البردة»:
نسج شوقي هذه القصيدة بمناسبة عودة الخديوي عباس الثاني من الحجِّ، وقد نشرها في جريدة "المؤيد" سنة 1328هـ/ 1910م(2)، وهي قصيدة مُطوَّلة تبلغ مئة وتسعين بيتاً مطلعها:
رِيمٌ عَلَى القَاعِ بَيْنَ البَانِ والعَلَمِ *** أَحَلَّ سَفْكَ دَمِي فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ(3).
وإذا تتبعنا نصيب مدح الشاعر للنبي عليه الصلاة والسلام في البردة، وجدناه في البداية يتوسَّلُ بالنبي عليه الصلاة والسلام إلى الله جلَّ جلاله أن يُكْرِمه بأعزِّ مقامٍ في الدَّاريْن، حيث يقول:
لَزِمْتُ بَابَ أَمِيرِ الأَنْبِيَاءِ ومَنْ *** يُمْسِكُ بِمِفْتَاحِ بَابِ اللهِ يَغْتَنِمِ.
فَكُلُّ فَضْلٍ وإِحْسَانٍ وعَارِفَةٍ *** مَا بَيْنَ مُسْتَلِمٍ مِنْهُ ومُلْتَزِمِ.
عَلَّقْتُ مِنْ مَدْحِهِ حَبْلاً أُعَزُّ بِهِ *** فِي يَوْمِ لاَ عِزَّ بِالأَنْسَابِ واللُحَمِ(4).
ومن تَمامِ مدْح شوقي للرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وصْفُهُ بأنه أكمل الناس تربيةً ونشأةً وخُلُقاً، حيث شَهِدَ له بذلك جميع مَنْ عَرِفَهُ قبل النُّبوة، وممنْ آمن وكفر به بعد النبوَّة. يخْرجُ إلى قبائل العرب يبلغهم الرسالة، في عالمٍ مِلْؤُهُ التكذيب بدعوته حيناً، وجُور الفرس وهمجية الروم مرةً، وسطْوة القبائل العربية وحبُّها في الاستبقاء تارةً:
سَرَتْ بَشَائِرُ باِلهَادِي ومَوْلِدِهِ *** فِي الشَّرْقِ والغَرْبِ مَسْرَى النُّورِ فِي الظُّلَمِ.
ريعَتَ لَهَا شَرَفُ الإِيوَانِ فَاِنْصَدَعَتْ *** مِنْ صَدْمَةِ الحَقِّ لاَ مِنْ صَدْمَةِ القُدُمِ.
أَتَيْتَ والنَّاسُ فَوضى لا تَمُرُّ بِهِم *** إِلاَّ عَلَى صَنَمٍ قَدْ هَامَ فِي صَنَمِ.
وَالأَرْضُ مَمْلُوءَةٌ جَوْراً مُسَخَّرَةٌ *** لِكُلِّ طَاغِيَةٍ فِي الخَلْقِ مُحْتَكِمِ.
مُسَيْطِرُ الفُرْسِ يَبْغِي فِي رَعِيَّتِهِ *** وقَيْصَرُ الرُّومِ مِنْ كِبَرٍ أَصَمُّ عَمِ.
وَالخَلْقُ يَفْتِكُ أَقْوَاهُمْ بِأَضْعَفِهِمْ *** كَاللَّيْثِ بِالبَهِمِ أَوْ كَالحُوتِ بِالبَلَمِ (5).
ثم جاء مدح الشاعر للنبي عليه الصلاة والسلام مُسْتكملاً للصفات التي لا غنىً عنها في إنجاح أيَّةِ رسالةٍ عظيمةٍ من رسالات التاريخ، فكان عليه الصلاة والسلام جامعاً للمحبة والثقة، وكان مشهوراً بصدقه وأمانته كاشتهاره بعلمه وفصاحة لسانه. وهذه الصفات هي التي عليها المدار في تبليغ الرسالة وإيتاء عظمة هذا الرجل لأنه كان على خُلُقٍ عظيمٍ:
مَحَبَّةُ الله أَلْقَاهَا وهَيْبَتُهُ *** عَلَى اِبْنِ آمِنَةٍ فِي كُلِّ مُصْطَدَمِ.
كَأَنَّ وَجْهَكَ تَحْتَ النَّقْعِ بَدْرُ دُجًى *** يُضِيءُ مُلتَثِماً أَوْ غَيْرَ مُلْتَثِمِ.
بَدْرٌ تَطَلَّعَ فِي بَدْرٍ فَغُرَّتُهُ *** كَغُرَّةِ النَّصْرِ تَجْلُو دَاجِيَ الظُّلَمِ.
اللهُ قَسَّمَ بَيْنَ النَّاسِ رِزْقَهُمُ *** وأَنْتَ خُيِّرْتَ فِي الأَرْزَاقِ والقِسَمِ.
إِنْ قُلْتَ فِي الأَمْرِ لاَ أَوْ قُلْتَ فِيهِ نَعَمْ *** فَخِيرَةُ اللهِ فِي لاَ مِنْكَ أَوْ نَعَمِ(6).
ثم في مقام آخرَ، يمدح النبي عليه الصلاة والسلام في الحرب ويصِفُ إياه وصفاً رقيقاً ينْبَثِقٌ منه الحِسُّ الإسلامي الجديد، حيث تتجسد ملامح البطولة في مكانة رسول الله عليه الصلاة والسلام كَهَادٍ للأمة وبشيرٍ بالحقِّ على حدِّ قوله:
البَدْرُ دُونَكَ فِي حُسْنٍ وفِي شَرَفٍ *** والبَحْرُ دُونَكَ فِي خَيْرٍ وفِي كَرَمِ.
شُمُّ الجِبَالِ إِذَا طَاوَلْتَهَا اِنْخَفَضَتْ *** والأَنْجُمُ الزُّهْرُ مَا وَاسَمْتَهَا تَسِمِ.
وَاللَّيْثُ دُونَكَ بَأْساً عِنْدَ وَثْبَتِهِ *** إِذَا مَشَيْتَ إِلىَ شَاكِي السِّلاَحِ كَمِي.
تَهْفُو إِلَيْكَ وَإِنْ أَدْمَيتَ حَبَّتَها *** فِي الحَرْبِ أَفْئِدَةُ الأَبْطَالِ والبُهَمِ
قَالُوا غَزَوْتَ ورُسُلُ اللهِ مَا بُعِثُوا *** لِقَتْلِ نَفْسٍ ولاَ جَاؤُوا لِسَفْكِ دَمِ.
جَهْلٌ وتَضْلِيلُ أَحْلاَمٍ وسَفْسَطَةٌ *** فَتَحْتَ بِالسَّيْفِ بَعْدَ الفَتْحِ بِالقَلَمِ.
لَمَّا أَتَى لَكَ عَفْواً كُلُّ ذِي حَسَبٍ *** تَكَفَّلَ السَّيْفُ بِالجُهَّالِ والعَمَمِ(7).
ومنْ باب المقارنة في صفات الممدوح، يذكر الشاعر الرسول عليه الصلاة والسلام ويُقْرِنُهُ بشخصية النبي عيسى عليه السلام، وكأن كل واحد منهما اجتمعت له من المعجزات الكونية لإنقاذ البشرية من سراديب الظلام إلى ضُحى النور:
أَخُوكَ عِيسَى دَعَا مَيْتاً فَقَامَ لَهُ *** وأَنْتَ أَحْيَيْتَ أَجْيَالاً مِنَ الزِمَمِ.
سَلِ المَسِيحِيَّةَ الغَرَّاءَ كَمْ شَرِبَتْ *** بِالصَّابِ مِنْ شَهَوَاتِ الظَّالِمِ الغَلِمِ.
لَولاَ مَكَانٌ لِعِيسَى عِنْدَ مُرْسِلِهِ *** وحُرْمَةٌ وَجَبَت لِلرُّوحِ فِي القِدَمِ.
لَسُمِّرَ البَدَنُ الطُهْرُ الشَّرِيفُ عَلَى *** لَوْحَيْنِ لَمْ يَخْشَ مُؤَذِّيهِ ولَمْ يَجِمِ.
جَلَّ المَسِيحُ وَذَاقَ الصَلْبَ شَانِئُهُ *** إِنَّ العِقَابَ بِقَدْرِ الذَّنْبِ والجُرُمِ.
أَخُو النَّبِيِّ ورُوحُ اللهِ فِي نُزُلٍ *** فَوْقَ السَّمَاءِ ودُونَ العَرْشِ مُحْتَرَمِ (8).
أما الجانب الوجداني من القصيدة، نلاحظُ أنَّ الشاعر لا يفصل فيه حال الذات عن أحوال الجماعة في صياغةٍ يتماهى فيها العالمان عالم الأفكار وعالم المشاعر، وفي إطار هذا الفهم الشامل يُخاطِب شوقي الرسولَ عليه الصلاة والسلام كما لو كان أحد شعراء الدعوة الإسلامية الأوائل، فيخبره عما يجيشُ في صدره من المحبَّة الباعثة على المُصافاة والمودَّة له، ومُجدِّداً له محبَّتَه المُطْلقة في نفسه قائلاً:
مَدِيحُهُ فِيكَ حُبٌّ خَالِصٌ وهَوىً *** وصَادِقُ الحُبِّ يُمْلِي صَادِقَ الكَلَمِ.
اللهُ يَشْهَدُ أَنِّي لاَ أُعَارِضُهُ *** مَنْ ذَا يُعَارِضُ صَوْبَ العَارِضِ العَرِمِ.
وإِنَّمَا أَناَ بَعْضُ الغاَبِطِينَ ومَنْ *** يَغْبِطُ وَلِيَّكَ لاَ يُذْمَمِ ولاَ يُلَمِ(9).
لاشك أنَّ محبة النبي عليه الصلاة والسلام وتعظيمه عِبادةٌ وقُرْبةٌ إلى الله سبحانه وتعالى، وما كان من أمر شاعرنا أحمد شوقي إلاَّ أنْ جسَّد تلك المحبة في تعظيمه للنبي عليه الصلاة والسلام بقلبه وبلسانه ومن ثم بشعره، فدَتْ بُرْدُتُه وكأنَّها واحِدةٌ من عبقرياته في فن القول: "جمع فيها إلى منطق الإسلام في الحرب، ومنطق الفِطرة أو طبائع الأمور، ثمَّ احْتكمَ إلى المسيحية وانتشارها بالسيف الذي تَحْتَجُّ عليه، وهو في جميع ذلك مُتمَكِّنٌ منْ فنِّ القول وروْعة البيان "(10). وإضافةً إلى ذلك فقد جمع إلى جانب إِظْهَارِ محبته للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام صِدْقَ إِتِّباَعِهِ، لاسيما من خلال ذِكْرِ سيرته عليه الصلاة والسلام العَطِرَة التي أَفْرَغَ نفسه فيها حُباًّ مُقفَّى(11).
(2) ـ قصيدة «ذكرى المولد» الأولى:
نَظَمَهَا شوقي سنة 1329هـ/ 1911م في تسعة وتسعين بيتاً بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف ومطلعها:
بِهِ سِحْرٌ يُتَيِّمُهُ *** كِلاَ جَفْنَيْكَ يَعْلَمُهُ (12).
وقد نشر القسم الغزلي منها ـ ويبلغ واحداً وعشرين بيتاً ـ في الجزء الثاني من "الشوقيات". في حين نشر محمد صبري في كتابه "الشوقيات المجهولة" القصيدة كلها،لاسيما القسم الخاص بمدح النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ويضمُّ ثمانية وسبعين بيتاً(13)، الذي يتوجه به مُبْتَهِجاً ضارِعاً مُبايِعاً رسول الله عليه الصلاة والسلام في يوم مولده،مُشِيراً إلى عظمة الذكرى وعَظَمَة صاحبها، وإلى مدى ترحيب الوجود بذلك الكوكب الدُّرِّيِّ المُشْرِق على الدنيا اسمه محمد عليه الصلاة والسلام:
تَجَلَّى مَوْلِدُ الهاَدِي *** يُضِيءُ الكَوْنَ مَوْسِمُهُ.
هَلُمُّوا أَهْلَ ذاَ الناَّدِي *** عَلَى قَدَمٍ تُعَظِّمُهُ.
بَداَ تَسْتَقْبِلُ الدُّنْياَ *** بِهِ خَيْراً تَوَسَّمَهُ.
يُجَمِّلُهاَ تُهَلِّلُهُ *** ويُحْيِيهاَ تَبَسُّمُهُ.
إِلَى الرَّحْمَنِ جَبْهَتُهُ *** ونَحْوَ جَلاَلِهاَ فَمُهُ.
وفِي كَتِفَيْهِ نُورُ الحَ *** قِّ وَضَّاحٌ ورَوْسَمُهُ (14).
ولعل الإشارةُ لشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام الراقية إشارةً إلى خلود شعلة الإسلام التي أوقدها طه منذ أربعة عشر قرناً، وإلى النور الذي تَمَوَّجَ منها في عصر الظلام الذي بُعِثَ فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، ليتغير عالمٌ بعالمٍ ويُسْتَبْدلُ عصرٌ بعصرٍ، ويغتسل البشر بماء الهداية المحمدية:
تَزُفُّ الآيُ مَحْمَلَهُ *** إِلَى الدُّنْياَ وتَقَدُّمَهُ.
وَيُمْسِي نُورُ أَحْمَدَ فِي *** ظَلاَمُ الجَهْلِ يَهْزمُهُ.
وَفِي النِّيراَنِ يُخْمِدُهاَ *** وفِي الإِيواَنِ يُثْلِمُهُ.
وَفِي المُعَوَّجِ مِنْ دِينٍ *** ومِنْ دُنْياَ يُقَوِّمُهُ.
فَلَماَّ تَمَّ مِنْ طُهْرٍ *** ومِنْ شَرَفِ تَنَسُّمِهِ (15).
ويعكف شوقي ـ بعد ذلك ـ على سيرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام منذ طفولته ويُتْمِهِ إلى اختياره من رَبِّهِ ليَحْمِلَ رسالة الحقّ والهدى والنور، وأنَّ الدنيا بأسْرِها تمخَّضَتْ عن هذا الأوحد الواحد ليناديه جبريل في الغار، مُنزِّلاً عليه الوحْي حتى تسقط أوثان مكة ويُبَاد الشرك ويشرق التوحيد:
يَتِيمٌ فِي جَنَاحِ اللَّـ *** ـهِ يَرْعاَهُ ويَعْصِمُهُ.
فَمَنْ رَحِمَ اليَتِيمَ فَفِي *** رَسُولِ اللهِ يَرْحَمُهُ.
يَقُومُ بِهِ عَنْ الأَبَوَ *** يْنِ جِبْرِيلُ ويَخْدُمُهُ.
وَتُرْضِعُهُ فَتاَةُ البِرْ *** رِ مِنْ سَعْدٍ وتَرْحَمُهُ.
ويَكْفُلُهُ مُوَشَّى البَرْ *** دِ يَوْمَ الفَخْرِ مُعْلَمُهُ (16).
ثم يتقدم شوقي في أبياته، مُتحدِّثاً عن فضائله عليه الصلاة والسلام وشرَفِ أخْلاقِه وشمائله المُؤَيِّدة لنُبُوَّته والمُبَرْهِنة على عُمُوم رسالته، حيث أمَرَ أُمَّتَه بمحاسن الأخلاق، ودَعَاها إلى مُسْتَحْسَنِ الآداب، وحَثَّها على صِلَةِ الأرْحَام، كما نَدَبَ لها التَعَطُّفَ على الضُّعفاء والأيتام:
نَبِيُّ البِرِّ عِلْمُهُ *** وَجَاءَ بِهِ يُعَلِّمُهُ.
أَبَرُّ الخَلْقِ عاَطِفَةً *** وأَسْمَحُهُ وأَحْلَمُهُ.
وَأَصْبَرُهُ لِناَئِبَةٍ *** ومَحْذُورٌ يُجَشِّمُهُ.
لِكُلٍّ عِنْدَهُ فِي البِرِّ *** حَقٌّ لَيْسَ يَهْضِمُهُ.
وَلِيُّ الأَهْلِ والأَتْباَ *** عِ والمِسْكِينِ يُطْعِمُهُ.
سَحاَبُ الجُودِ رَاحَتُهُ *** وفِي بُرْدِهِ عِيلُهُ.
وماَ الدُّنْياَ وإِنْ كَثُرَتْ *** سِوَى خَيْرَ تَقَدُّمِهِ (17).
وبفضْل تلك الأخلاق والأفعال التي لَمْ تجتمِعْ لبشرٍ قَطُّ قبله عليه الصلاة والسلام، وعِلْماً أنَّ الله سَيَنْصُرُهُ وأنَّ دينَهُ سيُظْهِرُهُ تحقيقاً لقوله تعالى:"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ودِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً"(18)، فقد سعى رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى تبليغ معالم الإسلام ونوازل الأحكام لِيُوَضِّحَ لأمته جميعَ ما كُلِّفوُا به:
نِظاَمُ الدِّينِ والدُّنْياَ *** أُتِيحَ لَهُ يُتَمِّمُهُ.
تَطَلَّعَ فِي بِناَئِهِماَ *** عَلَى التَّوْحِيدِ يُدَعِّمُهُ.
بِشَرْعٍ هَامَ فِيهِ النَّا *** سُ هاَشِمُهُ وأَعْجَبُهُ.
كَضَوْءِ الصُّبْحِ بَيَّنَهُ *** وكَالبُنْياَنِ مُحْكَمُهُ.
بَيانٌ جَلَّ مُوحِيهِ *** وعِلْمٌ عَزَّ مُلْهِمُهُ.
حَكِيمُ الذِّكْرِ بَيْنَ الكُتْ *** بِ مُظْهِرُهُ ومَيْسَمُهُ (19).
ثم يذْكُرُ شوقي ما خُصَّ به النبي محمد عليه الصلاة والسلام من الشجاعة في حروبه والنجدة في مُصَابَرَةِ عدُوِّه، فإنَّه لَمْ يَشْهَدْ حَرباً إلاَّ صابراً ومُجاهِداً في سبيل الله، وقاهراً خَصْمََهُ بمعُونةِ الله تعالى وتأييده، وفي كل ذلك إنما يُطَعِّمٌ شوقي الصورة بالموقف والسيرة، ليدل على التواصل المرجوّ بين الماضي والحاضر في الاستبسال، وليدفع دهشة أبناء اليوم حَفَدَةَ الرِّجال الذين كان لهم فِعْلُهُم في التاريخ:
لَهُ الغَزَوَاتُ لاَ تُحْصَى *** ولاَ يُحْصَى تَكَرُّمُهُ.
تَكاَدُ تُقَيِّدُ الإِسْداءَ قَـ *** لَ السَّيْفِ أَنْعُمَهُ.
تَرَوَّى الجَيْشُ رَاحَتَهُ *** إِذاَ اسْتَسْقَى عَرَمْرَمَهُ.
وَيَسْتَهْدِي السَّماَءَ حَياَّ *** لِساَئِلِهِ فَتَسْجُمَهُ.
وَيُرْسِلُ سَهْمَ دَعْوَتِهِ *** إِلَى الباَغِي فَيُقْصِمُهُ (20).
ويُتابع شوقي حديثه عن أهم المعجزات والخوارق التي جمعها سبحانه وتعالى لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ومِنْ أعظمها إِسْرَاءُ الله بِنَبِيِّهِ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حيث جمع الله له الأنبياء فصلَّى بهم إماماً، ومن هناك عَرَجَ به إلى السموات العُلا، عندها رأى من آيات ربِّه الكُبْرى، رأى جبريل على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها، وصعِدَ به إلى سِدْرة المنتهى، وجاوزَ السَّبْع الطِّباق وكلَّمه الرحمن وقرَّبَهُ، وفي ذلك يقول شوقي:
تَبَارَكَ مَنْ بِهِ أَسْرَى *** وجَلَّ اللهُ مُكْرَمَُه.
يُرِيهِ بَيْتَهُ الأَقْصَى *** ويُطْلِعُهُ ويُعَلِّمُهُ.
عَلَى مَلَكٍ أَمِينٍ اللَّـ *** ـهُ مُسْرِجُهُ ومُلْجِمُهُ.
مَعَارِجُهُ السَّمَوَاتِ الـ *** ـعُلَى والعَرْشِ سُلَّمُهُ.
فَلَمَّا جَاءَ سِدْرَتَهُ *** وكَانَ القُرْبُ أَعْظَمَهُ.
دَناَ فَرَأَى فَخَرَّ فَكَا *** نَ مِنْ قَوْسَيْنِ مُجَثَّمُهُ.
رَسُولُ اللهِ لَنْ يَشْقَى *** بِبَابِكَ مَنْ يُيَمِّمُهُ (21).
وفي الختام، يَجِدُ الشاعر خَلاَصَهُ ورسالته الفعلية في شعر المديح النبوي مُمثَّلةً في مُناجاة رسول الله عليه الصلاة والسلام بحزنٍ وأسى وإيمانٍ لا يتزعزعُ، راجياً من هذه المناسبة الآنية أنْ تكْشِفَ الضِّمادَ عن جِراحِهِ، ويبْقى أثرُها سرمدياًّ في نفسه ما دامت الأرضُ تدور حول الشمس:
أَناَ المرْحُومُ يَوْمَئِذٍ *** بِدُرِّ فِيكَ أَنْظُمُهُ.
وَلاَ مَنٌّ عَلَيْكَ بِهِ *** فَمِنْ جَدْوَاكَ مُنَجِّمُهُ.
أَيَنْطِقُ حِكْمَةً وحِجًا *** لِسَانٌ تُقَوِّمُهُ.
خُلاَصِي لَسْتُ أَمْلِكُهُ *** وَفَضْلُكَ لَسْتُ أَعْدِمُهُ.
ثَرَاكَ مَتىَ أَطِيفُ بِهِ *** وأَنْشَقُهُ وأَلْثَمُهُ.
فَفِيهِ الخَلْقُ أَعْظُمَهُ *** وفِيهِ الخَلْقُ أَوْسِمُهُ (22).
(3) ـ قصيدة «ذكرى المولد» الثانية:
تَتَجَسَّدُ إشادة الشاعر أكثر بذكرى المولد النبوي الشريف في قصيدته الثانية التي نَظَمَهَا سنة 1331هـ/ 1914م، وهي تضمُّ واحداً وسبعين بيتاً مطلعها:
سَلُو قَلْبِي غَدَاةَ سَلاَ وثَابَا *** لَعَلَّ عَلَى الجَمَالِ لَهُ عِتَاباَ(23).
وقد وزعها الشاعر على عناوين عدةٍ متنوعةٍ من حياة الرسول عليه الصلاة والسلام وسيرته العَطِرَة من ميلاده حتى معجزاته، حيث وقف طويلاً عند ذكر البشائر التي اقترنت بمولد الحبيب عليه الصلاة والسلام ودلَّتْ على جلال شأنه وعظيم قدره، فقال:
وَأَرْسَلَ عَائِلاً مِنْكُمْ يَتِيماً *** دَناَ مِنْ ذِي الجَلاَلِ فَكَانَ قَاباَ.
نَبِيُّ البِرِّ بَيَّنَهُ سَبِيلاً *** وسَنَّ خِلاَلَهُ وهَدَى الشِّعَاباَ.
تَفَرَّقَ بَعْدَ عِيسَى الناَّسُ فِيهِ *** فَلَمَّا جَاءَ كَانَ لَهُمْ مَتاَباَ.
وَشَافِي النَّفْسِ مِنْ نَزَعَاتِ شَرٍّ *** كَشَّافٍ مِنْ طَبَائِعِهَا الذِِّئاباَ.
وَكَانَ بَيَانُهُ لِلْهَدْيِ سُبُلاً *** وكَانَتْ خَيْلُهُ لِلْحَقِّ غَاباَ.
وعَلَّمَناَ بِنَاءَ المَجْدِ حَتَّى *** أَخَذْناَ إِمْرَةَ الأَرْضِ اِغْتِصَاباَ (24).
ثم يُعَرِّجُ ـ بعد ذلك ـ على حادثة مولد الرسول عليه الصلاة والسلام التي استمد منها الكثير من المعاني الإسلامية، مُتأَثِّرَا في ذلك بما سَجَّلَتْهُ كتب السيرة النبوية من المعالم الأخَّاذَة والمعبرَّة عن حقيقةٍ مُشَرِّفَةٍ لا مَحِيدَ عنها، وهي أنَّ مولده كان نوراً أضاء جَنَبَاتَ الأرض بالتوحيد والهداية وأنْقَذَ العالمين من براثن الضلالة والغواية، فأخرج الناس من الظلمات إلى النور وشَرَع لهم ما ينفعهم على مَرِّ الأزمنة والدهور:
تَجَلَّى مَوْلِدُ الهَادِي وَعَمَّتْ *** بَشَائِرُهُ البَوَادِي والقِصَاباَ.
وَأَسْدَتْ لِلْبَرِيَّةِ بِنْتُ وَهْبٍ *** يَداً بَيْضَاءَ طَوَّقَتِ الرِّقَاباَ.
لَقَدْ وَضَعَتْهُ وَهَّاجاً مُنِيراً *** كَمَا تَلِدُ السَّمَاوَاتُ الشِّهَاباَ.
فَقاَمَ عَلَى سَمَاءِ البَيْتِ نُوراً *** يُضِيءُ جِبَالَ مَكَّةَ والنِّقَاباَ.
وَضَاعَتْ يَثْرِبُ الفَيْحَاءُ مِسْكاً *** وفَاحَ القَاعُ أَرْجَاءً وطَاباَ(25).
ولم يكتف الشاعر بإيراد هذه الحوادث التي تَزامَنتْ ومولد الرسول، بل ترك العنان لنفسه في تلاحُقِ الصُّوَر وتلوُّنها بمشاعره المرهفة، ليتحدث عن إحساسه بالحُبِّ السامي تجاه هذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام، الذي استقر في نفسه وجعله يُرْهِنُ وجوده من أجل التضحية بكل شيء في سبيل تثبيت نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فقال:
أَباَ الزَّهْرَاءِ قَدْ جَاوَزْتُ قَدْرِي *** بِمَدْحِكَ بَيْدَ أَنَّ لِيَ اِنْتِسَاباَ.
فَمَا عَرَفَ البَلاَغَةَ ذُو بَيَانٍ *** إِذَا لَمْ يَتَّخِذْكَ لَهُ كِتَاباَ.
مَدَحْتُ المَالِكِينَ فَزِدْتُ قَدْراً *** فَحِينَ مَدَحْتُكَ اقْتَدْتُ السَّحَاباَ (26).
ثم يُخَصِّصُ أواخر قصيدته للدعاء والتوسل، حيث يذكر أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان له في كل نازلةٍ نزلتْ به نِعْمَ العوْنُ ونِعْم المجيرٌ عِلاوةً عن عاطفة الولاء له، وراجياً من الله أنْ يُوحِيَ إلى المسلمين كافة كُلَّ خيرٍ وفضْلٍ:
سَأَلْتُ الله َفِي أَبْنَاءِ دِينِي *** فَإِنْ تَكُنِ الوَسِيلَةَ لِي أَجَاباَ.
ومَا لِلْمُسْلِمِينَ سِوَاكَ حِصْنٌ *** إِذَا مَا الضُّرُّ مَسَّهُمُ ونَاباَ.
كَأََنَّ النَّحْسَ حِينَ جَرَى عَلَيْهِمْ *** أَطَارَ بِكُلِّ مَمْلَكَةٍ غُرَاباَ.
ولَوْ حَفَظُوا سَبِيلَكَ كَانَ نُوراً *** وكَانَ مِنَ النُّحُوسِ لَهُمْ حِجَاباَ.
بَنَيْتَ لَهُمْ مِنَ الأَخْلاَقِ رُكْناً *** فَخَانُوا الرُّكْنَ فَاِنْهَدَمَ اضْطِرَاباَ.
وكَانَ جَنَابُهُمْ فِيهَا مَهِيباً *** ولَلأَخْلاَقُ أَجْدَرُ أَنْ تُهَاباَ(27).
(4) ـ قصيدة «الهمزية النبوية»:
لقد شُغِفَ شوقي بحُبِّ الرسول عليه الصلاة والسلام والتركيز على مَدْحِه، ومِنْ ثَمَّ التأريخ ـ شعراً ـ لحياة رسول الله عليه الصلاة والسلام ولسيرته العَطِرَة، والاهتمام بصحابته ـ رضوان الله عليهم ـ وغير ذلك من المضامين الدينية، كُلُّ ذلك كان يمثل جانباً من جوانب النزعة الدينية المتأصِّلَةِ في حياة شوقي. هذا ما جعله دائِمَ الصلة بتراثه الديني الذي استحْوذ على فكره، مِثْلُه مثْلَ جميع الشعراء الذين استلهموا: "مُعْطياتَ التراث دينياً وتاريخياً وثقافياً، وخاصة معطيات الدين الإسلامي"(28).
ومن الشواهد على ما نحن بصدده قصيدته الذَّائعة الصِّيت "الهمزية" التي تُعْتَبر من أهمّ القصائد التي تمثّل نزعة شوقي إلى الإسلام وشرائعه، وقد أنشأها سنة 1334هـ/ 1917م، حيث يظهر فيها مدى تَوَهُّجِهِ وتألَّقُه بذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام ومنجزاته الكونية وإنقاذه للبشرية من سراديب الظلام إلى ضحى النور، ومُعارِضاً بها همزية البوصيري "أم القرى في مدح خير الورى"، وعدد أبياتها مائة وواحد وثلاثين بيتاً، والتي يقول في مطلعها:
وُلِدَ الهُدَى فَالكَائِناَتُ ضِيَاءُ *** وفَمُ الزَّمَانِ تَبَسُّمٌ وثَنَاءُ(29).
لقد كان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام مُؤَهَّلاً لإنجاح ما بدأه إخوانه من أولي العزم، حيث حُمِّلَ من أعباء النُّبُوَّة ما جعلته جديراً أنْ يكون بها مبعوثاً وللرسالة مُبلِّغاً، وفي ذلك يقول شوقي:
ياَ خَيْرَ مَنْ جَاءَ الوُجُودَ تَحِيَّةً *** مِنْ مُرْسَلِينَ إِلَى الهُدَى بِكَ جَاؤُوا.
بَيْتُ النَبِيِّينَ الَّذِي لاَ يَلْتَقِي *** إِلاَّ الحَناَئِفُ فِيهِ والحُنَفَاءُ (30).
وثم كان عليه الصلاة والسلام بعد ذلك مثالاً نادراً للرجولة العربية، ونموذجاً فريداً للمثالية الخُلُقِيَّة، بُعِثَ بتأييدٍ سماويٍّ وقوةٍ إلهيةٍ:
خُلِقَتْ لِبَيْتِكَ وهُوَ مَخْلُوقٌ لَهَا *** إِنَّ العَظَائِمَ كُفْؤُهَا العُظَمَاءُ.
بِكَ بَشَّرَ الله السَّمَاءَ فَزُيِّنَتْ *** وتَضَوَّعَتْ مِسْكاً بِكَ الغَبْرَاءُ (31).
وقد أغاثَ الله به عليه الصلاة والسلام البشرية المتخبِّطة في ظلمات الشِّرْك والجهل والخرافة، فكشف به الظلمة، وأذهب الغُمَّة، فهَدى به الله كلَّ ضعيفٍ وجاهلٍ ومُنافقٍ، مما جعله مُحِبًّا لمن حوله جديراً منهم بأحسن حبٍّ وولاءٍ، وفي ذلك يقول شوقي:
وَتَمُدُّ حِلْمَكَ لِلسَّفِيهِ مُدَارِياً *** حَتَّى يَضِيقَ بِعَرْضِكَ السُّفَهاءُ.
فِي كُلِّ نَفْسٍ مِنْ سُطَاكَ مَهَابَةٌ *** ولِكُلِّ نَفْسٍ فِي نَدَاكَ رَجَاءُ(32).
ومن ذلك أيضاً، تصوير شوقي لما أُوتِيَ عليه الصلاة والسلام من الحِكَم البالغة والآيات البيِّنة، ما أهَّلَتْه أنْ يكون أفصحَ الناس لساناً وأوْضَحَهم بياناً على الإطلاق حيث يقول:
أَمَّا حَدِيثُكَ فِي العُقُولِ فَمَشْرَعٌ *** والعِلْمُ والحِكَمُ الغَوَالِي المَاءُ.
هُوَ صِبْغَةُ الفُرْقَانِ نَفْحَةُ قُدُسِهِ *** والسِّينُ مِنْ سَورَاتِهِ والرَّاءُ(33).
ويتابع الشاعر مدحه للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام مُبيِّناً مدى الغِبْطة والسعادة التي غمرته وهو يُدْلِي بدلوه ويُشاركُ الشعراء في مدحهم للنبي عليه الصلاة والسلام والاحتفاء بهذا الامتياز الفريد من نوعه:
لِي فِي مَدِيحِكَ يَا رَسُولُ عَرَائِسٌ *** تُيِّمْنَ فِيكَ وشَاقَهُنَّ جَلاَءُ.
هُنَّ الحِسَانُ فَإِنْ قَبِلْتَ تَكَرُّماً *** فَمُهورُهُنَّ شَفَاعَةٌ حَسْنَاءُ(34).
ثم يجعل شوقي ـ في الأخير ـ من قصيدته المدحية سبباً للتوسُّل بحضرة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، راجياً منه الشفاعة:
مَا جِئْتُ بَابَكَ مَادِحاً بَلْ دَاعِياً *** ومِنَ المَدِيحِ تَضَرُّعٌ ودُعَاءُ(35).
وبوسعنا القول في الأخير، إنْ كانت المدائح النبوية تتجسَّدُ على وجه الخصوص في ذِكْرِ خِصال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وصحابته ومَدْحِهم ودعوة الآخرين في محبة عِتَْرَة النبي عليه الصلاة والسلام وإيقاد شُعْلة هذا الحبّ في القلوب وترغيبها في مُضَاعفة عِشْقِها وتعلُّقِها بهذه الشجرة الطيبة، فإنَّ مدائح أحمد شوقي النبوية بعُمْقِها ومضمونها كانت إرهاصاً دالاًّ على مدى تطوُّر هذه المدائح بصورتها الضخمة عند شعراء العصر الحديث.
وقد لاحظنا ونحن نستقرئ معاني وموضوعات مدائح أحمد شوقي بروز الطابع الديني فيها بروزاً واضحاً، وتعويل الشاعر على روافد الدين الإسلامي المتنوعة لإنتاج الدلالة التي يريدها، هذا بالإضافة إلى وضوح اهتمامه بشتى عناصر التراث العربي والإسلامي، الأمر الذي عَكَسَ مصادر ثقافته وأكَّد على أنها ثقافة إسلامية عربية محضة. إذْ من المعلوم أن المخزون الثقافي يؤثر بطريقة جلية في تجربة الأديب: "فيتدخل في اختيار الموضوع وفي طريقة معالجته، وفي الصور والرموز التي يُعبِّر بها عن التجربة، أو يَبْنِي بها معادلاً موضوعياً لتجربته"(36).
وبذلك، يبدو أحمد شوقي ـ في رأينا ـ أنه أخْلص لشعره الإخلاصَ كُلَّه في مدائحه للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وفي وصفه لأخلاقه وأفعاله بصورة لم يسبقْه إليها شاعر، حتى إننا نجد بعض النقاد يعترفون له بالبراعة وحُسْن السبق في ذلك، وإنْ بدَتْ عليه بعض ملامح التقليد، ومن ذلك قول أحمد سليمان الأحمد: "لقد قلد أحمد شوقي ولكن في تقليده شيء أو لونٌ من الابتكار يمدُّ برأسه إلى المستقبل، وإنْ لم يكن قد بلغ بعد دور التميُّز، وقد يكون من الظُّلْمِ للحقيقة وللشعر القول بأنَّ أحمد شوقي لم يتركْ أثراً فيمن تلاه، لأنه كان مُقلداً، ولأنَّ مَنْ تلاه آثر العودة إلى الأصل، ذلك لأنَّ أحمد شوقي لم يكن مُجرَّد مقلد كما ألمحنا، ولكنه حاول أنْ يُجدِّدَ وأنْ ينْقُلَ الأصيلَ إلى روح العصر، ونجح ضمن ظروفه وبيئته"(37).
تِلْكُم هي مدائح أحمد شوقي للنبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام بكل عناصرها ومعانيها، والتي يمكننا أنْ نستخلِصَ من خلالها بعض النتائج العامة التالية:
1 ـ رغم مظهر شوقي في معيشته على الطريقة الغربية وتعلّمه في فرنسا وحياة القصور والبذخ الذي رَشَفَ من كؤوسه، إلاَّ أنَّ ذلك كله لم يُضْعِفْ مِنْ تعلُّقِهِ بالإسلام والتغني بوحدة المسلمين والإعجاب بتاريخ العرب وبعظمة الرسول عليه الصلاة والسلام وضخامة رسالته، حيث كان حَفِياًّ بدينه منذ شبابه، وما زال به حَفياً إلى نهاية حياته، خاصةً إذا علمنا أنَّ شاعرنا نَظَمَ كلّ قصائده الدينية ومن بينها " البردة " وهو في ظل شبابه وفي إبَّان عَبَثِهِ ولَهْوِهِ.
2 ـ تمثَّل الجديد في ذلك المديح المشبوب بالعاطفة الصادقة في شيئين هما: حُبُّ النبي محمد عليه الصلاة والسلام والتفاني بهذا الحب، ثم الاستمداد من جواره بقوةٍ معنويةٍِ استمداداً يتجلى بالشكوى المريرة والتوجع الصارخ والحنين المذيب والشوق العارم والتفاخر الناقم.
3 ـ وتِبَعاً لذلك فإنَّ نظرة شوقي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام تقْترِب شيئاً ما من نظرة الصوفية الروحية الخالصة الممثلة في ما اصطلحوا عليه باسم "الحقيقة المحمدية" التي كانت أول ما خلق الله في خلقه، وظلت تمد الأنبياء بنور الحقيقة بقدر، إلى أن تجلت كاملة في آخر الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وعليه جاء التوسل بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام توُسُّلٌ بالحقيقة المحمدية.
4 ـ لقد أوقف شوقي جانباً كبيراً من نشاطه الشعري على التأليف في حبِّ الرسول عليه الصلاة والسلام، وبلغ بذلك درجةً راقيةً أوْصَلَتْهُ إلى مدح النبي عليه الصلاة والسلام ووصفه بشيءٍ له وجودٌ حِسِّي في أحايين كثيرة، ثم أضفى عليه من خياله ما جعل من شعره يرسم لنا منهج الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام العملي للحياة المتجلِّي في دعوته إلى الحقِّ وإيثاره وجهاده وكرمه.
5 ـ ومن الدلالات الأخرى التي وظفها الشاعر في مدائحه النبوية وهو يتحدث عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام، استخدام شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام تارةً كرمزٍ لازدهار الماضي العربي والإسلامي وتألقه، في مقابل انطفاء الحاضر وتخلُّفه، ومرةً مُمَثَّلاً في الإنسان الثائر المتمرد على الظلم والرذيلة الحامل لواء الدعوة إلى الحق والخير الإنساني.
6 ـ اعتمد شوقي في مدائحه رأْساً على رصانة اللغة، واستعمال الألفاظ والتعابير التراثية التي تبعث عِبْق الفصحى، مختاراً الألفاظ والتراكيب التي تشير إلى عصور الكرامة والمنعة العربية. وقد كان حظُّ المصطلحات والرموز الدينية الكثيرة في قصائده واسِعاً مثل: الآذان ـ الكتاب ـ الآيات ـ الأذكار ـ المهد ـ الحرم ـ الأقصى... إلخ، وهي كلمات كثيراً ما كانت تحمل البشارة للنفوس المنهكة التي ما فتأت عبر تاريخها الطويل تُقَارِعُ قِوى الظلم، وتَسْتَمِدُّ من الرموز الدينية وهجها الإيماني الذي يشيع منه روح الأمل وبشرى النَّصْر.
7 ـ وأخيرا، فإن شوقي لم تقتصر مدائحه على ذكر الخوارق التي ظهرت في العهد الأول من الرسالة المحمدية وإبراز محاسن الإسلام والذود عنه وعن تشريعاته والدعوة إلى الاهتداء به، بل أتيح له أيضا ـ بعد الاطلاع على سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام العطرة ـ أن يشيدَ بحياته عليه الصلاة والسلام كاملة وما ورد فيها من المواقف الباعثة على التقدير في نفوس المسلمين مما لم يتَحْ لأسلافه من الشعراء في المدائح الأولى.
باحث وأستاذ بجامعة تلمسان، الجزائر "
abderrahmane-beghdad@hotmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ شوقي ضيف، الأدب العربي المعاصر في مصر ـ القاهرة ـ دار المعارف ـ ط 2 ـ 1961 ـ ص 112.
(2) ـ ينظر: محمد صبري، الشوقيات المجهولة ـ بيروت ـ دار المسيرة ـ ط 2 ـ 1979 ـ ج 2 ـ ص 116.
(3) ـ أحمد شوقي، الشوقيات ـ بيروت ـ دار الكتاب العربي ـ ط 13ـ 2001 ـ ج 1 ـ ص 190.
(4) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 194.
(5) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 197 و 198.
(6) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 200 و 201.
(7) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 200.
(8) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 201.
(9) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 208.
(10) ـ حلمي مرزوق، شوقي وقضايا العصر والحضارة ـ بيروت ـ دار النهضة العربية ـ ط 2 ـ 1981 ـ ص 139.
(11) ـ أحمد محفوظ، حياة شوقي ـ القاهرة ـ مطبعة مصر ـ ب. ط ـ ب. ت ـ ص 84.
(12) ـ محمد صبري، الشوقيات المجهولة ـ ج 2 ـ ص 135.
(13) ـ المرجع نفسه ـ ج 2 ـ ص 135.
(14) ـ المرجع نفسه ـ ج 2 ـ ص 137.
(15) ـ المرجع نفسه ـ ج 2 ـ ص 137.
(16) ـ المرجع نفسه ـ ج 2 ـ ص 137.
(17) ـ المرجع نفسه ـ ج 2 ـ ص 137.
(18) ـ سورة الفتح. الآية 28.
(19) ـ محمد صبري، الشوقيات المجهولة ـ ج 1 ـ ص 138.
(20) ـ المرجع نفسه ـ ج 2 ـ ص 138 و 139.
(21) ـ المرجع نفسه ـ ج 2 ـ ص 139.
(22) ـ المرجع نفسه ـ ج 2 ـ ص 139.
(23) ـ أحمد شوقي، الشوقيات ـ ج 1 ـ ص 68.
(24) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 71.
(25) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 71.
(26) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 71 و 72.
(27) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 72.
(28) ـ رجاء عيد، لغة الشعر ـ الإسكندرية ـ منشأة المعارف ـ ط 2 ـ 1985 ـ ص 427.
(29) ـ المصدر السابق ـ ج 1 ـ ص 34.
(30) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 34.
(31) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 34.
(32) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 36.
(33) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 37.
(34) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 41.
(35) ـ المصدر نفسه ـ ج 1 ـ ص 41.
(36) ـ عبد الباسط بدر، مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي ـ السعودية ـ دار المنارة ـ ط 1 ـ 1985 ـ ص 19.
(37) ـ أحمد سليمان الأحمد، الشعر الحديث بين التقليد والتجديد ـ ليبيا ـ الدار العربية للكتاب ـ ب. ط ـ 1983 ـ ص 109.