«إن البلاغة بوصفها منطق لأحكام القيمة، لا تركز على قيمة الصدق، وإنما على قيمة ما هو مفضَّل، حيث لا يكون تأييد الأنسان هو مجرد تسليم وإذعان، بل هو قرار والتزام، فإن ذلك من شأنه أن يستحدث عنصراً جديداً في نظرية المعرفة، ولن يقصر النقاش على القبول الكامل بنزعة عقلانية مستوحاة من قواعد علمية أو على رفضها التام»
ش. بيرلمان
تقديم المترجمة:
في مقدمة كتابه «العدالة والعقل» والذي صدر في سنة 1963، أشار الفيلسوف بيرلمان إلى أن مجموعة الدراسات والأبحاث في هذا الكتاب تأتي مكملة لتلك التي ظهرت في كتابه المشترك مع زميلته السوسيولوجية لوسي اولبرخت-تيتكا، وكان بعنوان: «البلاغة والفلسفة ... من أجل نظرية حِجاجية في الفلسفة» والذي صدر في سنة 1952. وقد عرض الفيلسوف البلجيكي أوربان دونت لكتاب «العدالة والعقل»، في العدد الرابع والثمانين من المجلة الفلسفية لجامعة لوفان في سنة 1966، حيث ذكر أنه:
«جمع في هذا المجلد، العديد من الدراسات المتعلقة بمشكلة العقل العملي، أو بالعلاقة بين الفعل والعقل. وبالضد من النزعة العقلانية ومن الوضعية المنطقية، يدافع البروفيسور بيرلمان عن كفاءة الفلسفة في التعاطي مع مسألة التبرير للفعل. في دراسته الأولى والمهمة للغاية، يأتي على معالجة مفهوم العدالة، ومن خلال تحليله لهذا المفهوم الغامض، يستخلص، من ناحية، تلك البنية الشكلية التجريدية التي ينبغي اعتبارها ثابتة في جميع التطبيقات المادية الملموسة والذاتية، ومن ناحية أخرى، أن القواعد الأساسية لأي نظام معياري ليست قابلة للتبرير، لأن القيمة نفسها التي تشيّد النظام اعتباطية بسبب طبيعتها العاطفية الانفعالية. من هنا، يجب أن يتأسس العقل على القضاء على أي شكل من أشكال الاعتباطية، وان يكون مدركاً لكل نقص أو عيب قد يوجد في أي نظام ملموس للعدالة. هذا التصور الجديد للعقل العملي تم عرضه وتطويره في الدراسات اللاحقة من الكتاب. إن البروفيسور بيرلمان يدافع عن فلسفة عقلانية (البحث العلمي باستخدام المنهج التحليلي) لا تنخرط في إعادة إنتاج أحكام القيمة ذاتها، وإنما تهدف إلى توسيع نطاق مفهوم العقل الإلزامي، وهو لا يريد قصر العقلانية على مفهوم البداهة، وإنما يريد إعادة الاعتبار إلى مفهوم الرأي والمنهج الجدلي من أجل التوصل إلى نظرية الحِجاج المكملة لنظرية البرهان»2.
وفي طليعة تلك الدراسات، تأتي هذه الدراسة المترجمة للمرة الأولى إلى العربية، بعنوان: «العقل الأبدي، العقل التاريخي»3، والتي كانت المرجع الأول الذي أفتتح به الفيلسوف بيرلمان الصفحة الأولى من مقدمة كتابه العمدة «رسالة في الحِجاج ... البلاغة الجديدة» في سنة 1958، وتحديداً مع عبارته القائلة: «إن إصدار رسالة مكرسة للحِجاج وارتباطه بالبلاغة والجدل الإغريقيين، يمثل قطيعة مع مفهوم العقل والاستدلال المنحدر عن ديكارت، هذا المفهوم الذي ترك بصمته على الفلسفة الغربية طوال القرون الثلاثة الماضية»4.
في جدلية العقل الحِجاجي
من إيديولوجيا الثبات إلى الزمانية التاريخية
إن فكرة العقل «raison» –[وهي كلمة تشتق من الجذر اللاتيني ratio، وتشتمل على ملكة التمييز؛ ومعرفة العدّ والحساب والتقييم؛ والتنظيم أو وضع الأشياء بالترتيب ووفق نظام محدد، أي القدرة على إبداء الرأي والحكم والتصرف حسب مبادئ معينة. أما في اللغة الفلسفية فهي تحيل إلى logos اللوغوس الإغريقي الذي يدل على الكلام المعقول، والخطاب المتسق منطقياً، والقابل للفهم من الجميع والمقبول بشكل عُمُومي، والمرجع لأي لغة من اللغات]– بوصفها، مَلَكَة للإنسان تمكنه من معرفة الحقيقة، هي تقنية، يقع على عاتق الفلسفة، مهمة تأطيرها ومسؤولية تكوينها. وأي إنسان يمكنه القول أنه عندما يتداول؛ ويتناقش؛ ويتحاجج؛ ويبرهن ويتفكَّر ويقيّم ويتدبَّر، فهو بتأديته لهذه الأفعال، يقوم بفعل «reasoner» أي أنه يتعقَّل ويستدل من خلال ربطه للمفاهيم في سلسلة من العلاقات والعبارات المتتابعة ضمن خطاب مقنع يتيح له النقاش وإصدار الأحكام.
ولكن، إذا لم يكن فيلسوفاً، فسيكون من الصعب عليه للغاية، وصف تلك المَلَكَة التي تمكّنه من التفكير والاستدلال، وأن يوضح كيف يتشابه عقله مع عقول الأخرين وبماذا يختلف عنهم، وما هي ملامحه الثابتة الدائمة وما هي عناصره المتغيرة، وما هي قدراته وما هي حدودها. إن الإجابة عن كل هذه الأسئلة، والتي تقتضي وضع نظرية في العقل، يمكن أن تمثل السمة المميزة لمعظم النُظُم الفلسفية، بل حتى التقليد الفلسفي الغربي نفسه يمكن أن يكون متمركزاً على إشكالية العقل. في الواقع، إن مشروع تأسيس مفهوم للعقل هو جزء لا تتجزأ من كل صرح فلسفي، ويشكل أحد أعمدته الرئيسية.
في ضوء التقليد الديكارتي، يعتبر العقل هو المَلَكَة المميِزة للنوع البشري، والذي بفضل بداهة الأفكار الواضحة والمتميزة، يفرض على الجميع التسليم بالحقائق التي يكشف عنها لأي واحد منهم. وعلم الهندسة هو الذي أمدَّ الفيلسوف ديكارت بنموذج هذه الأفكار الواضحة المتميزة، وبهذه العبارات/ أو تعبيرات الأحكام propositions الصحيحة للأبد، التي تفرض بداهتها نفسها على كل كائن عاقل. ونظراً لأن الوجود الإلهي، وهو الوجود الكامل بصورة لا متناهية، تكون بالنسبة له جميع الأفكار واضحة ومتميزة، وكل العبارات/ أو تعبيرات الأحكام بديهية في حقيقتها أو في بطلانها، فلنا الحقّ في أن ننظر إلى العلوم الرياضية، حيث يتلاقى العقل البشري مع العقل الألوهي، كنموذج يضمن لنا تقليده أن نحقق الاستخدام السليم للعقل. لذلك، يجب أن نحاول تدريجياً الاستعاضة عن النظريات الفلسفية، التي هي ليست سوى نسيج من الآراء، بعِلم يبدأ من مجموعة من البديهيات، وينتقل من يقين إلى يقين من دون توقف.
فالمداولة والنقاش ليست سوى مظهر لعدم اليقين الذي ينجم عن معرفة ناقصة، غير أنه من الممكن تجنب هذا النقص، بشرط إتباع قواعد المنهج الديكارتي، من خلال القضاء على تأثير الخيال والعواطف والأهواء والظُنُون والأحكام المسبقة؛ وتأثير التربية السيئة وضعف التعليم والأستعمال غير الصالح للغة، وكذلك، بقهر مواطن الضعف والقصور في ذاكرتنا. إن التغلب على هذه العقبات، كما يمكننا أن نأمل، إنما يتم بفضل المنهج السليم في قيادة وتوجيه عقلنا من أجل التقدم على طريق المعرفة الحقّة، يسير فيه على خطى الفكر المتعالي.
لا شك، أن رغبة العديد من مفكري التقليد الديكارتي أمثال باسكال وليبنتز، في إفساح المجال لفكرة المتخيَّل الميتافيزيقي المسيحي، جعلتهم يصرون على ضعف العقل البشري ومحدودية قدراته، لكن، تبقى حقيقة أنه، منذ الفيلسوف ديكارت، تم اعتبار العقل أداة يشترك فيها جميع البشر، ولها القدرة على جعلهم يتشاركون في التسليم adhésion* بحقائق أبدية واحدة، فأصبح تمجيد مَلَكَة العقل هذه وتوقيرها يستلزم رفض ونبذ كل ما يمكن أن يقف عائقاً في طريق تشكيل العقل الثابت غير القابل للتبدل ولا للتغير، وعلى ازدراء كل ما هو خاص مميز واستثنائي؛ عرضي ومتغير ، ولكل ما له طابع فردي وللتاريخ أيضا.
وفيما بعد، سوف تعمل النزعة العقلانية للقرون اللاحقة على الربط بين فكرة العقل وفكرة الضرورة nécessité، وستقلص من نطاق المنطق تدريجياً وتختزله في دراسة أدلة الإثبات التحليلية preuves analytiques. وإذا كان الفيلسوف كانط قد حدَّ من مزاعم امتلاك المعرفة العقلانية، فذلك لإن الإستخدام المشروع للعقل المحض يرتبط، بالنسبة له أيضاً، بالاستدلالات الضرورية اللازمة raisonnements nécessaires التي تتعلق فقط بالجانب الشكلي التجريدي من المعرفة. كما أن تحليل الاستدلال الاستنباطي déductif الذي شرع فيه المناطقة منذ قرن من الزمان، أفضى، هو الأخر، بجميع الفلاسفة الذين يستندون إلى دروس المنطق الشكلاني/ الصُّوري وأحكامه، إلى اختزال ما هو عقلاني على ما هو شكلي تجريدي، والى النظر إلى أي طريقة لاستخدام العقل تختلف عن القالب أو الشكل العقلاني/ المنطقي المفروض السائد، باعتبارها غير مشروعة.
أما الفلاسفة ما بعد الكانطيين الذين لم يعتقدوا أنه ينبغي قصر مجال الفكر العقلاني على العناصر الشكلية التجريدية لوحدها، فقد اضطروا إما إلى الأعتراف بفكرة حدس فكري، وإما إلى تقديم جدلية تشتمل على وصف لحظات مختلفة من تكوين العقل، تتطور الواحدة فيها إنطلاقاً من الأخرى وفق شكل استدلالي منطقي محدد، إن هذا التمهيد لفكرة التطور في المجال العقلاني، جعل من الممكن معارضة الحركة الجدلية نفسها، التي يُنظر اليها على أنها غير زمانية intemporel، باللحظات التي تشتمل عليها وصار من الممكن تصور وقوع التتابع succession داخل التاريخ. لكن، هذه التصورات اصطدمت، في الوقت نفسه، باعتراضات من المناطقة والمناهضين للنزعة العقلانية. ففي حين أظهر أولئك المناطقة مواطن ضعف النزعة العقلانية الكلية التي لا تستند على أي قواعد فكرية قاطعة مؤكدة، ولا تسمح باستنتاج النقيض والمركب من القضية بطريقة يقينية لا لبس فيها، نجد أن هؤلاء المناهضون للعقلانية قد حاربوا النُظُم الفلسفية لما بعد الكانطيين لأنها لم تضع في اعتبارها الفرد الإنساني ولا لشعوره بالحرية غير القابل للإختزال ولا للتقليل من شأنه.
إن الصراعات المستمرة التي جعلت العقلانيين، منذ الفيلسوف ديكارت، على تعارض مع خصومهم في التقليد الفلسفي الغربي، ساهمت في تعزيز فرضية مشتركة بين كل من الطرفين وهي وجود علاقة وثيقة تربط العقل باستدلالات ضرورية لازمة. فما هو متطابق مع العقلاني rationnel - [وهو سمة تشغل كل مكان حيثما يوجد العقل، سواء كان ذلك عند الأنسان في شكل قدرة أو مَلَكَة في التفكير والأستدلال، أو كان في الواقع على شكل علاقات لنظام يسمح بتشييدها بين مختلف العناصر بوساطة العقل]- اتسع نطاقه ليشمل جميع المجالات التي نظن أنها خاضعة لأدلة إثبات برهانية apodictiques* وأي شيء غير قابل للتثبّت بالبرهان الضروري اللازم فهو يندرج ضمن مقولة غير العقلاني. غير أنه يبدو لي أن هذه الفرضية المشتركة، وهذا التصور للعقل، القاصر وغير الكافي، هو المسؤول، إلى حد كبير، عن المأزق الذي وقعت فيه النزعة العقلانية المعاصرة. ويظهر أن النهجين اللذين يمكن لهذه النزعة أن تتبناهما، يترتب عليهما، في الواقع، عواقب وخيمة، فهي إما أن تحدَّ من نطاق قدرات العقل وتقصره على مجال يتم استكشافه فقط بواسطة المنطق الشكلاني/ الصُّوري والعلوم الرياضية، ولتنسحب، بهذه الحالة، من مجال التجربة والممارسة العملية وتدرجه ضمن مقولة غير العقلاني.
ومن ثمة، ليتوسع الميدان الذي يمثل فيه العنف المكوِّن الرئيسي لقراراتنا؛ وإما أن تمتد بمجال العقل البرهاني، لتستبعد، بهذا الفعل نفسه، من الميدان المتوخى بالنظر والاختبار، كل ما يتعلق بالفردية والحرية الإنسانيتين، وبالثقافة والتاريخ، لأننا لن نستطيع أن نرى فيها سوى عقبة تحول بين العقل الثابت والأبدي وبين إدخاله في حيز التطبيق والاستعمال في مختلف الشروط الفردية والأجتماعية والتاريخية. والمسألة البالغة الخطورة بالنسبة لمعتنق النزعة العقلانية إنما تكمن في هذا الأمتداد لنطاق العقل خارج أُطره الشكلية التجريدية، فهو غير قادر على تقديم تبرير له بواسطة قواعد تتطابق مع ما يعتبره عقلانياً، بل باللجوء لتفسيرات ميتافيزيقية هشَّة وتفتقر للصلابة إلى حدٍ ما. من ناحية أخرى، إن هذا المفهوم القاصر للعقل الذي يتصوره كَمَلَكَة للأستدلال الضروري الإلزامي، هو المسؤول، في الوقت نفسه، عن التقييد غير المبرر لمجال المنطق الحديث؛ وعن عدم كفاية المفاهيم الحديثة للأستقراء؛ وعن عدم وجود منهجية فلسفية للعلوم الإنسانية، وعن غياب منطق مناسب لدراسة أحكام القيمة التي يمكنها أن تزودنا بأسباب وبواعث القرار عند الإنسان.
لاحظوا، أنه لو أمكن لتقليدنا الفلسفي أن يتسم، منذ ثلاثة قرون، بمفهومه الفريد للعقل الذي ستكون تمظهراته الوحيدة متمثلة في الإثبات البرهاني démonstrative والحساب، لأعتبر كل أنسان أنه عندما يتداول؛ ويتناقش؛ ويحاجج، أو يبرر لتصرف معين، فهو يستدل بالضرورة على الطريقة الإستنباطية. وهذه حقيقة معترف بها ضمنياً حتى من قبل أولئك الذين يُقصرون صلاحية قدرات العقل على الجانب الشكلي التجريدي من المعرفة، لأنه، من أجل أن تتغلب وجهة نظرهم في مناظرة ما، فمن غير الممكن لهم الاستعانة بالحساب ولا بالبرهان الشكلاني/الصُّوري، وإنما بالاستعانة بالحِجاج الذي يمثل طريقة الاستعمال المعتادة الوحيدة لمهارات العقل الممكنة في سياق هذه الحالة. فمحاولة الفيلسوف سبينوزا في بناء نظام للفلسفة يستند غالباً على علم الهندسة، وذلك في رسالته حول الأخلاق more geometrico، لم يمكن لها أن توفق لأسباب تتعلق بقصور أدوات المنهج الأستنباطي؛ ولم يستطع المناطقة الحديثون، أمثال الفيلسوف البولوني جان لوكاسيفيتش والفيلسوف الألماني هاينريش شولتس، الذين أرادوا تشييد ميتافيزيقيا تتطابق مع شروط الدقة والضبط والإحكام التي يتطلبها اختصاصهم، من الخروج عن الإطار الشكلي التجريدي، مما يُظهر، وبجلاء، أن هذا الجانب غير كافٍ وقاصر عن بناء فلسفة.
لا داعي لأن نتعجب من هذا الفشل. إذ يكفي، في الحقيقة، أن نلفت الأنتباه إلى أن نشأة المنطق الحديث وتكوينه قد تمت من خلال تحليل أشكال الأستدلال المستعملة من قبل علماء الرياضيات. وإستنادًا إلى النموذج الرياضي تم تطوير نظرية البرهان، أي نظرية أدلة الأثبات القسرية/الإلزامية التي من الضروري أن يتبناها، أو على الأقل، يجب أن يتبناها كل ذهن ينشأ ويتكوّن بالعادة وفق الطريقة التي تحددها المعايير السائدة على أنها سَويَّة. لكن، مثل هذا التقييد لمفهوم أدلة الإثبات، ومثل هذه التقليص لدور المنطق وحصره فقط ضمن أبنية إستدلالية مستعملة في منطق البرهان الشكلاني/الصُّوري، ليست مبررة سوى لمن يُسلِّم، على الأقل في مجال القانون، بإمكانية تقديم مثل هذا الدليل الإثباتي لأي فرضية صحيحة وسارية المفعول في جميع مجالات الفكر. ومَنْ يتبنى مثل هذا التصور الضيّق المحدود لمفهوم الإثبات، وهو يدرك تماماً وجود مجالات فكرية بأسرها تفلت منه، لن يكون أمامه سوى التخلي عن استعمال العقل، في هذه المناطق. فالوضعيون الحديثون، الذين ينتمون لهذه الفئة الأخيرة من المفكرين العقلانيين، اضطروا إلى اعتبار جميع إفتراضات الأحكام التي تستجيب وتنتظم تبعاً لها تصرفاتنا وأفعالنا، وكل الأقوال المعيارية، وبالأخص، جميع مبرراتها الفلسفية على أنها غير عقلانية. حتى وصل بهم الحال إلى أدانة الفلسفة نفسها، بإسم مفهوم للعقل وللإثبات يندرجان ضمن إطار فلسفي، ولا يمكن لهم تبريرهما دون الوقوع في تناقض مع مبادئهم الخاصة.
وبغية تجنب العواقب الوخيمة التي تترتب عن النزعة العقلانية الإلزامية rationalism nécessitaire، أود تقديم تصور للعقل يُستَمد من نظرية في الإثبات أكثر إنفتاحاً. فإلى جانب أدلة الإثبات الشكلانية/ الصُّورية، أليس من الممكن أن نعترف بوجود وسائل إثبات أخرى؟ لاحظوا أن هذا كان رأي الفيلسوف أرسطو الذي، إلى جانب أدلة الإثبات التحليلية، كان قد أولى أهمية كبيرة لأدلة الأثبات التي دعاها بـ «الجدلية» dialectiques والتي بحثها في رسالته الطوبيقا، وطبَّقها في رسالته البلاغة. تهتم الطوبيقا فيما يمكن تصوره opinable ووسائل الوصول إلى أفضل رأي بشأن مسألة مثيرة للجدل. في المقابل، فإن الهدف من البلاغة، حسب أرسطو، هو توفير وسائل للتأثير في جمهور قليل المعرفة والمهارة، متجمع في الساحة العامة. في الحقيقة، إن كلتا الرسالتين تهتمان بالحِجاج، وإن لم يسلط أرسطو الضوء على صلة التشابه فيما بينهما، فذلك لأنه لم يكن يدرك أن الطوبيقا – التي تصورها على غرار التحليلات، لكن مجالها سيكون الأستدلال المحتمل الصواب vraisemblable وليس الأستدلال الإلزامي – تبحث أيضاً في وسائل التأثير على جمهور معين من خلال الأستدلال. فهذا الجمهور لم يعد يتألف من حشد من الجاهلين، بل قد يتشكل من الشخص نفسه، عندما يتعلق الأمر بمشاورة خُصُوصية مع الذات؛ أو من متحاور معين أثناء مناقشة ما؛ أو مما يمكن أن ندعوه بالجمهور الكوني auditoire universel المتكون من جميع الكائنات raisonnables القابلة للتعقل – [وبما يتناسب مع العقل العملي وليس العقل المنطقي، أي التي تضع في الاعتبار مجموعة العناصر التي يتسم بها موقف يستدعي منهم أن يتخذوا القرار في ضوء النتيجة الأكثر ملائمة] – عند تقديم أطروحة ينبغي الاعتراف بصحتها بصورة عُمُوميّة. هذا الجمهور الأخير هو الذي يهمنا بشكل خاص، لأنه سوف يتيح لنا التمهيد إلى الخاصية التاريخية historicité للعقل ويساعدنا على فهمها.
إن العقل التاريخي هو ليس بعقل برهاني كالعقل المطلق. إنه عقل يعبر عن نفسه في المداولة والمناقشة وفي الحِجاج، وهو لا يربط حقائق مجردة، الواحدة بالأخرى، بصلات شكلية تجريدية، لكنه يتيح عملية الانتقال من التأييد، الفعلي أو المفترض، نحو أطروحات معينة إلى تأييد أطروحات أخرى ينبغي دعمها وتعزيزها. والغاية من المناقشة والحِجاج تتمثل في الحثّ على القيام بفعل/تصرف/عمل له مبرر معقول، أما المراحل المؤدية إلى تحقيق هذه الغاية فهي تقوم بتكوين وتشكيل وتهيئة حالة ذهنية؛ أو استعداد وميّل نحو تصرف معين، واتخاذ قرار بشأنه. فأي حِجاج، مهما كان، يهدف إلى التأثير في جمهور مخاطَب auditoire* – الذي لا يشتمل، بالمعنى الواسع للكلمة، على المستمعين auditeurs فحسب، بل وعلى القراء lecteurs أيضاً – وهذا الجمهور المخاطَب ليس بصفحة بيضاء table rase، بل إنه يسلّم بالفعل ويعترف مسبقاً ببعض الوقائع؛ ببعض الأفتراضات أو الأحكام؛ ببعض القيّم وببعض التقنيات الحِجاجية. وهذا ينطبق على أي جمهور مخاطَب، وبالتالي على الجمهور الكوني الذي ينبغي عليه، من وجهة نظرنا، تجسيد مفهوم العقل. والجمهور الكوني ليس بمعطى بواسطة التجربة وحدها، مع أن التجربة تساهم في صياغة وتطوير الفكرة التي لدينا عنه، هذه الفكرة تتكون دائماً داخل عملية استنتاج ينطلق من التأييد adhésion* الفعليّ لبعض العقول (على سبيل المثال، البديهيات التي يتأثر لها من نتحاور معه؛ اتفاق المتحاورين؛ الحس العام المشترك، وموافقة «المدينة» الأكاديمية العلمية) وهو تأييد يقدم كعلامة على أنه صالح المفعول للجمهور الكوني. من المعروف أن الأطروحات التي تنسب إلى هذا الجمهور المخاطَب يمكن أن تتبدل وتتعرض للتغير مع مرور الزمن، وأنها ليست تجريدية، لكنها تعتمد على المتكلم الذي يصرح بها، وعلى الوسط أو البيئة والثقافة التي شكلتها. من جهة أخرى، إن ما يفترض الجمهور المخاطَب قبوله والأعتراف به، لا يتم ذكره، في كثير من الأحيان، بشكل صريح، لكنه يتواجد متضمناً في بنية حِجاج مَنْ يخاطبه. إن إعادة تشكيل أطروحات تم افتراض الاعتراف بصحتها وقبولها من قبل الجمهور المخاطَب الكوني، ودراسة التطور التاريخي لقناعاته واعتقاداته، ستكون هي المهمة الأكثر أثارة للأهتمام في تاريخ الأفكار.
إن الحِجاج المبني على مقدمات نفترض قبول صحتها، لا يمكن أن يزدهر ويتسع نطاقه من دون التعويل على تقنيات خاصة. وهذه التقنيات تشتمل، في المقام الأول، على τόποι مواضع المعرفة/ والاعتقاد المشتركة، وتعني أشكال أبنية الأستدلال الحِجاجية schémas argumentatifs التي يقبلها الجميع، حسب أرسطو. والمواضع التي أحصاها أرسطو في مؤلفه الطوبيقا، ذات طبيعة متنوعة للغاية، وهي، قبل كل شيء، تميز مفهوم أرسطو في الجمهور المخاطَب الكوني. والعديد من هذه المواضع المشتركة ما تزال شائعة الأستعمال؛ أما البعض الأخر، مثل تفوق وسُمُو قيمة السبب على النتيجة، فهي موضع جدال واختلاف كبير، وأخيراً، هناك مواضع أهملها أرسطو والتي نوليها قيمة كبيرة، مثل مواضع المعرفة/ والاعتقاد «الرومنطيقية» المؤكدة على سُمُو وعُلُو قيمة المتفرد؛ النادر؛ الاستثنائي؛ المتعذر تعويضه واستبداله، لا مثيل له ولا شبيه، والمؤقت والزائل العارض. إن مواضع أرسطو تنحدر عن الروح الكلاسيكية، فهي مواضع معرفة/ واعتقاد كمية؛ ومتجانسة، وقابلة للقياس والمقارنة4. وإلى جانب هذه المواضع التي بحثها بإسهاب، أولى أرسطو أهمية كبيرة للحِجاج بالمثال exemple. لكن، تبقى الطوبيقا بعيدة كل البعد عن إستنفاد البحث في أبنية الأستدلال الحِجاجية ودراستها. من هنا، فإن النهوض بنظرية الحِجاج وإعادة تجديدها لهو أمر ضروري، لكي يوازي التطور اللافت للنظرية الحديثة في البرهان، على يد المناطقة والرياضيين6.
إن مؤلفنا «رسالة في الحِجاج» والتي من شأنها أن تسترعي الانتباه إلى الاستعمال الحِجاجي للعقل، ستظهر أن المآخذ السلبية الموجهة للنزعة العقلانية الضيقة التي لا تعترف سوى بأدلة الأثبات التحليلية فحسب، هي لا تنطبق بأي حال من الأحوال على عقلانية تفسح المجال لأدلة إثبات جدلية على السواء. هذه الأدلة هي، في واقع الأمر، ليست قسرية ولا إلزامية إطلاقاً، لأنها تمدّنا بحُجَج تقع لصالح رأي يعتبر أنه الأكثر إحتمالاً للتصديق والمعقول plausible أكثر من غيره، دون أن يكون هذا «المحتمل» vraisemblance على تفاوت مقدار أهميته بالزيادة أو النقصان، قابلاً للبرهنة عليه بواسطة حساب أحتمالات يصوغ أدلة أثبات تحليلية. في هذه الحالة، مَنْ يفصل بالحكم في كون هذه الأطروحة تتسم بخاصية الأحتمال المعقول أكثر من غيرها؟ إذ لم يعد الأمر يتعلق بعقل أبدي؛ ثابت غير قابل للتبدل ولا للتغير؛ تجريدي؛ منعزل غير إجتماعي asociale، ولا يعير أهمية للتاريخ ولا للسياق التاريخي anhistorique، مثلما يكون الحال عندما يتعلق الأمر بعبارات أحكام بديهية؛ وبراهين إلزامية ضرورية. وبما أن المداولة والحِجاج لا يتعلقان بفرضيات أحكام توكيدية بديهية évidentes، وكلاهما ليس إلزامي ضروري – إنهما يفترضان بأستمرار وجود فرضيات متعارضة الواحدة مع الأخرى، وأن هناك حِجاج من الممكن أن يقع لصالح واحدة منهما –، ومن جهة أخرى، بما أنه لا يوجد معيار آلي ميكانيكي ولا تجريدي يجعل من الممكن إظهار تفوق واحدة أو أخرى من الفرضيات المعنية، فإن مَنْ يتولى أمر الفصل في الحكم، عليه أن يتحمل مسؤولية قراره واختياره. هكذا، وعلى العكس من المفهوم الهيغلي حيث يتم التغلب على الفرضيات المتعارضة بالاستعانة بجدل إلزامي ضروري، فإن عملية الصيرورة الفعلية للحِجاج لا يمكنها الأستغناء عن مناشدة الحرية العقلية؛ الذهنية، أو المعنوية. وباختياره تأييد رأي معين، ربما يكون قد صاغه مسبقاً، فإن المتفكِّر أو المتأمل في الأمر يلتزم بصفة شخصية وقراره يسمح بإعادة النظر والتقييم والحكم على القاضي بالحكم نفسه juger le juge. فلا شيء يمنع القاضي المحكوم عليه من أن يعبر، بدوره، عن رأيه في مَنْ يحكم عليه، لطالما لم نُسلِّم بوجود قاضٍ لحكم قطعي نهائي غير قابل للإستئناف، فإن صيرورة المراجعة والتحليل والتأمل والتفكير النقدي في الموضوع من زوايا حِجاجية متعددة ومتنوعة يمكن أن تستمر بصورة لا متناهية. لهذا السبب، أي نظام إجتماعي لا يمكنه إستيعاب حالة القرار المعلَّق غير المؤكد باستمرار، عليه أن يفترض وجود نصّ حكم قطعي نهائي. وفي داخل المنظومة المفاهيمية للتصورات التي تتجاوز على كل ما هو اجتماعي وتتعالى عليه، يتجسد هذا الحكم القطعي النهائي في كيان أو موجود كامل – أو في أي شكل أخر يمكن أن يتخذه مفهوم المطلق – فالكمال أو المطلق هو المبرر النهائي الذي لا مثيل له لحقيقة أن الأمر يتعلق بحكم قطعي نهائي.
إن الأنسان المتفكِّر أو المنجز لعمل ذي مفعول مؤثِر، والذي يؤيد أطروحة ويلتزم بها بكل حرّية، هو ليس بكائن مجرد. وقراراته، وأحكامه تمثل تعبيراً عما هو عليه، وهو يحكم بناءًا على نظام من الإحالات لمرجع référence دلاليّ لغوي أو مفاهيمي منطقي. وغالباً ما يكون هذا النظام في هيئة مذهب علمي؛ أو قانوني، أو لاهوتي، والذي يقع عليه البتّ في المسائل واتخاذ القرار بشأنها، يتم اعتباره كعالِم؛ أو قانوني، أو لاهوتي. وفي بعض الأحيان، يكون نظام الإحالات المرجعية، هذا، أقلّ شمولاً واكتمالاً وأكثر التباساً وغموضاً، ويتألف من مبادئ معينة مثل خلاص الوطن؛ وشرف العائلة؛ والنظام العام، ومصلحة البشرية. أما بالنسبة للفكر الفلسفي، فإحدى أبرز سماته هي أنه من الصعب للغاية ربطه بمثل ذلك النظام من الإحالات المرجعية، أو بمجموعة نصوص عقيدة مذهبية. إن الفلسفة تتميز، على الأحرى، بذلك الميّل أو القصد نحو إضفاء طابع العُمُوميّة أو الكونية universalité. وسوف يكون الفيلسوف هو الذي يتبع في صياغة فكره وتطويره، أصول الواجب الكانطي القطعي المطلق، وذلك لأنه يريد أن تكون مقدماته واستدلالاته صالحة لجماعة تتميز بالقدرة على التفكير والاستدلال والنقاش، أي العقْلنة، بشكل يتوافق مع العقل العملي، وصالحة للجمهور المخاطَب الكوني على السواء. وحتى لو كانت أطروحات الفيلسوف ذات طابع عرفاني؛ مُلغَز وغامض، فإن دفاعه الفلسفي يتجه صوب الكونية. هذا الهدف يمثل المعيار الوحيد للحِجاج العقلاني الذي نعثر على أفضل نماذجه في الفكر الفلسفي. ففي خطابه الحِجاجي، يتوجه الفيلسوف نحو الجمهور المخاطَب الكوني الذي يتسم، كما رأينا، بالطابع التاريخي. فالأطروحات؛ أو الفرضيات؛ أو الأفكار؛ أو الاعتقادات؛ والآراء التي من المفترض قبولها والاعتراف بصحتها من قبل هذا الجمهور الكوني، ومواضع المعرفة/والإعتقاد المشتركة التي يفضّلها؛ والأمثلة وقياسات التشبيه التي تُلهمه، كلها تتغير وتتبدل مع مرور الزمن. وإذا كان الفلاسفة ينشدون هذا الجمهور المخاطَب، فهذا يتم دائماً من أجل تعديل واحدة من الأطروحات التي يقبلها ويعترف بصحتها، وذلك من خلال الاستناد على أطروحات أخرى مقبولة يستعملها بمثابة المحور الذي يتمركز عليه في خطابه الحِجاجي. هكذا، تمثل الفلسفة قيمة مضاعفة للعقل التاريخي، لأنها تكشفه لنا وتجعلنا نتعرف عليه من خلال صياغتها له، ولأنها تعمل على تعديله وتحويله على حد سواء.
إن مفهوم العقل التاريخي الذي قدمناه في هذه الصفحات القليلة، هو أيضاً، يمثل جزءًا من مسار تطور تاريخي، ويندرج ضمن التقليد العقلاني الغربي، فمن أجل الحفاظ على هذا التقليد، أقترح عليكم توسيع نطاق مفهوم العقل الإلزامي الضروري الذي يسيطر على مناقشاتنا الفلسفية، منذ ثلاثة قرون.
الهوامش:
1)Chaïm Perelman : Justice et Raison, PUB, Bruxelles, 1963, p 7.
2)Dhondt Urbain. Chaïm Perelman, Justice et raison. Dans: La Revue Philosophique de Louvain. Troisième série, tome 64, n°84, 1966. pp. 649-650.
3)Chaïm Perelman : Raison Éternelle, Raison Historique, Dans son livre Justice et Raison, pp. 95-103.
4) Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Paris, P.U.F, 1 vol., 1958, p. 1.
5) للمزيد حول مواضع المعرفة/والاعتقاد الكمية والكيفية، يُنظر:
شاييم بيرلمان: فلسفة البلاغة الجديدة، مقال، نحو نظرية ابستمولوجية في الحِجاج...الطوبولوجيا الكلاسيكية والرومنطيقية أنموذجاً، ترجمة: أنوار طاهر، مراجعة وتقديم: أبوبكر العزاوي، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع-الأردن، ص ص. 99-117. (من المترجمة)
6) يُنظر: شاييم بيرلمان: فلسفة البلاغة الجديدة، المبحث الثاني: بحث في المنطق والبلاغة، ص ص. 45 – 94.
[] ما بين القوسين يعود للمترجمة. وفيما يتعلق بمفاهيم بيرلمان تحديداً، تم العودة الى مؤلفه العمدة (رسالة في الحِجاج):
Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Paris, P.U.F, 2 vol., 1958.
(*) النجمة هي رمز مثبت على مفاهيم محددة ضمن متن النص، يُشير إلى إمكانية الاستزادة حولها، بالعودة لقائمة مسرد المصطلحات.
مسرد المصطلحات:
(*)adhésion : لقد ذكر بيرلمان هذا المصطلح في متن النص أعلاه مرتين اثنتين في موضعين مختلفين. في المرة الأولى، جاء على استعماله في سياق حديثه عن مفهوم العقل في منظومة فلسفة ديكارت، ولهذا تم ترجمة هذا المصطلح بدلالته التي تحيل إلى معنى كلمة «التسليم» في الخضوع والطاعة والإذعان. أما في المرة الثانية، فقد استعمله في سياق الحديث عن نظريته في البلاغة الجديدة التي عمل فيها على إحداث قطيعة مع مفهوم الأستدلال والعقل المنحدر عن ديكارت حسب تعبيره، ولهذا السبب ترجمناه -كما فعلنا في ترجماتنا السابقة لبيرلمان- بـ« التأييد». وهذا المعنى بالتحديد، هو ما أشار اليه بيرلمان صراحة في ورقته المعنونة بـ «الحرية والاستدلال»، بالقول، أنه إذا ما تم النظر إلى:
« البلاغة بوصفها منطق لأحكام القيمة، لا يركز على قيمة الصدق vrai، وإنما على قيمة ما هو مفضَّل préférable، حيث لا يكون تأييد adhésion الأنسان هو مجرد تسليم وإذعان soumission، بل هو قرار والتزام، فإن ذلك من شأنه أن يستحدث عنصراً جديداً في نظرية المعرفة، ولن يقصر النقاش على القبول الكامل بعقلانية مستوحاة من قواعد علمية أو على رفضها التام».
هذه الورقة -وهي قيد الترجمة حاليا- القاها الفيلسوف بيرلمان ضمن أعمال المؤتمر الرابع للجمعيات الفلسفية الناطقة باللغة الفرنسية في سنة 1949، ثم أعاد نشرها ضمن كتابه المشترك مع زميلته تيتكا، وهو بعنوان: « البلاغة والفلسفة ... من أجل نظرية حِجاجية في الفلسفة» والذي صدر في سنة 1952.
Chaïm Perelman & L. Olbrechts-Tyteca : Rhétorique et Philosophie … pour une théorie de l'argumentation en philosophie, Chap. 2 : Liberté et Raisonnement, Paris, P.U.F, 1952, p. 48. Ce Chapitre-ci est à l'origine une communication parue dans Actes du IVe Congrès des Sociétés de philosophie de langue française VIII (Liberté, science et logique), 271-275, 1949.
علماً، أننا أشرنا في ترجماتنا السابقة إلى أهمية وضرورة الانتباه إلى الخطأ الشائع في استعمال مصطلح «adhésion» الذي نقل إلى العربية بـ «التسليم والإذعان»، في معظم المؤلفات والأبحاث والترجمات العربية في حقول البلاغة والحِجاج. وقد اقترحنا ترجمة بديلة جديدة لهذا المصطلح نفسه وهي «التأييد».
(*) Apodictiques وهو مصطلح يشتق من كلمة apodeixis التي تشير إلى فن البرهنة انطلاقاً من montrer à partir de مقدمات أولى تبحث في السبب والعلة المتعلقة بالموضوع المبرهن عليه في علوم المنطق والرياضيات والفلسفة. وهو يختلف عن مصطلح Épidictique الذي اصطلحنا عليه « فصاحة البَيَان »، وينحدر عن كلمة epideixis التي تنقسم الى مقطعين اثنين: deixis فعل القول، acte الإنجاز في القول؛ وهي بذلك تشير الى فن عرض وبَيَان montrer devant قيمة إيجابية أو سلبية (مدح أو ذم شخص؛ مدينة، أو دولة في مناسبات رسمية) أمام epi وبحضور جمهور عام، وهي تعتمد على قدرة الخطيب في إظهار مهارته في انتهاز هذه اللحظة الملائمة التي ليس له غيرها في الوقت الحاضر. ويعود اصل هذا المصطلح الى الكلمة اليونانية epideixis [επίδειξης] التي ميز التقليد الفلسفي والبلاغي بها الممارسة الخطابية السفسطائية discursivité sophistique وذلك منذ محاورات إفلاطون وحتى حيوات السفسطائيين لفيلوستراطوس. فكلمة epideixis هي ما وصف به إفلاطون باستمرار خطاب السفسطائيين أمثال بروديكوس وهيباس وجورجياس القادمون عادة من مدينة سيسيليا أو اليونان العظمى للقيام بجولات حيث تكون لهم فيها محافل conférences لإلقاء المحاضرات في المدن اليونانية الكبيرة مثل أثينا وسبارطا، من هنا كانت أفضل ترجمة لهذه الكلمة هي إلقاء محاضرة lecture بالمعنى الانجلوساكسوني للمصطلح. وبمعنى عام، كلمة epideixis هي الاسم التقليدي لما يطلق عليه بعرض سفسطائي لشخص بمفرده one man show sophistique، ويقع على النقيض من ذلك الحوار القصير القائم على تبادل سؤال وجواب، ترمي صعوداً نحو المثل والجواهر العليا، وهو ما ميز الجدل السقراطي. ولقد نوهت الفيلسوفة الفرنسية باربارا كاسان إلى ذلك الخطأ الذي وقعت فيه معظم المؤلفات الغربية في البلاغة والحجاج وذلك بالنظر الى جنس فصاحة البَيَان Épidictique باعتباره «جنس برهاني» – وهو الخطأ نفسه الذي ما زال مستمراً في المؤلفات البلاغية والحِجاجية العربية – وذلك لسيادة النزعة الإفلاطونية - الأرسطية التي تعلي من شأن نظام الفكر المنطقي؛ الوضعي، والعقلاني الشكلاني التجريدي.
Epideixis & Apodeixis dans : Vocabulaire Européen des Philosophies, Sous la direction de BARBARA CASSIN, Paris, Le Seuil & Le Robert, 2004, p. 306-307, 916-917, 11-21 & p. 727-741, 1023-1029, 1133-1151.
BARBARA CASSIN,: L'EFFET SOPHISTIQUE, Paris, Édition Gallimard, 1995, Orthodoxie et création des valeurs, p. 195-196, 198-199, 201-202.
Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, 2 vols.
Marc Fumaroli : L'âge de L'éloquence, Paris, Albin Michel, 2e éd., 1994.
Laurent Pernot : La Rhétorique dans l'Antiquité, Librairie Générale Française, 2000.
La Mis En Scène Des Valeurs … La Rhétorique de L'éloge et du blâme, Sous la direction de Marc Dominicy & Madeleine Frédéric, Suisse, Delachaux et Niestlé, 2001.
Emmanuelle Danblon : L'Homme Rhétorique … Culture, raison, action, Paris, CERF, 2013.
- auditoire : يشير الفيلسوف بيرلمان هنا، وبشكل واضح جلي، إلى أن هذا المصطلح أي الجمهور المخاطَب «لا يشتمل على المستمعين auditeurs فحسب، بل وعلى القراء lecteurs أيضاً » (التشديد من عندنا في أعلاه). وكان قد نوه بيرلمان إلى ذلك في كتابه المشترك مع زميلته السوسيولوجية البلجيكية لوسي-اولبرخت تيتكا وهو بعنوان: (البلاغة والفلسفة ... نحو نظرية حِجاجية في الفلسفة) الصادر في سنة 1952، وتحديدا في الفصل الأول المتضمن على دراستهما الموسومة بـ (بحث في المنطق والبلاغة) -وقد ترجمناه إلى العربية ومنشور في كتابنا (فلسفة البلاغة الجديدة، ص ص. 45 – 94). وهو ما يعتبر تمهيد اصطلاحي ومفاهيمي ومنهجي مبكر لبناء نظريتهم في البلاغة الجديدة، خاصة وأنهما عملا على العودة إلى هذا المصطلح بشكل موسع ومفصل في مؤلفهما الأساسي (رسالة في الحِجاج) عام 1958 – وكنا قد أشرنا الى هذه النقطة الجوهرية في نص ترجمتنا (كراسات في الحِجاج البلاغي) وتحديداً في الهامش المتعلق بمصطلح جمهور مخاطَب – بالتذكير انه إذا احتفظ بيرلمان وتيتكا بفكرة جمهور مستمَع عن البلاغة الأرسطية القديمة، فهما لم يقصُرا، مع ذلك، استعماله على معناه التقليدي المتداول في سياق البلاغة اليونانية القديمة أي "جمهور مستمع" [وهو تعبير ساد خطأً وما يزال هو الخطأ السائد في اغلب مؤلفات البلاغة العربية اليوم]، وإنما امتد حسب تعبيرهما، ليشمل مختلف أشكال الجمهور المخاطَب الذي نتوجه إليه في خطاباتنا المكتوبة والشفاهية على حد سواء. للمزيد يُنظر:
La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, tome 1, p. 7, 8-10.