تنشر (الكلمة) هذا التقرير عن رحيل الكاتب والمفكر السوداني الكبير منصور خالد. فقد كان الفقيد نسيجا وحده، لا توحشه الدروب لتنكب الكثيرين سلوكها، فقد كان يمضى وقد تسلح بالمعرفة والرؤية المستبصرة لمستقبل السودان المتميز كما تقول قطاعات كبيرة من الحركة الفكرية والسياسية السودانية في هذا التقرير.

كيف أمسيت هناك ياصاحبي في البرزخ لعلك طيبة

عمرو شعبان

 

الخرطوم:

حزن جارف يجتاح الخرطوم المكلومة بالاصل على أبنائها من جنس الشهداء والجرحى والمفقودين وضحايا الكورونا، ليمارس منصور خالد هوايته المفضلة في كسر روتين الايام والحظر وإعادة ترتيب الاشياء كما يحلو له، مختارا من شهر نجاح الثورة بوابة للخروج من (كمين الكتمة) وكأنما يعلن احتجاجه على تباطؤ فعل التحرير، رحل متمتما (انا وأنت وأولاد الحلال راحلينا في الموية الدرب).

رحل منصور جابرا الجميع على ذرف الدموع (باتساع السواد المعلم بالحبر .. وأمية البياض الوطن) متخذا من توقيت الرحيل طعنة في خاصرة ارض ما تزال في أمس الحاجة لوجوده .. رحل منصور وكأنما يتلو آخر نصوص محمد الحسن سالم حميد (ارضا سلاح) متكئا على جانبه الايمن (يتاوق من آخر زقاق مفتوح على قاع اللحد) رافضا الشكوى من (تعب التجاعيد والرمد) مطببا بحبه لخارطة السودان القديمة (اوجاع الرحيل والغيبة).

من هو؟
رحل منصور خالد ليعيد انتاج تعريف مدينة ام درمان التي احتضنته مولودا في العام ١٩٣١م، متنقلا بين مدارسها في المرحلة الأولية ثم الوسطى بمدرسة أم درمان الأميرية والثانوي العالي بمدرسة وادي سيدنا، قبل أن ينتمي الى كلية الحقوق جامعة الخرطوم .. واصل منصور دراسته العليا حاصلا على الماجستير في القانون من جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، والدكتوراه من جامعة باريس. رحلته العملية بحسب سيرته الذاتية المتداولة ابتدرها بأشرف المهن حيث عمل بالمحاماة في بداية حياته المهنية، ثم سكرتيراً لرئيس الوزراء عبد الله بك خليل ( ١٩٥٦-١٩٥٨) ليغادر دواوين الدولة للالتحاق بمنظمة اليونسكو، ثم أستاذاً للقانون الدولي بجامعة كلورادو بالولايات المتحدة الأمريكية.

أصبح وزيراً للشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية في حكومة جعفر نميري ، ثم تقدم باستقالته عام ١٩٧٠م، ثم تقلد عدة مناصب بالدولة كوزارة الخارجية، ووزارة التربية والتعليم ، ومساعداً لرئيس الجمهورية. تمرد منصور على الروتين والعادة في كل المستويات قاده للخروج من نظام مايو عام ١٩٧٨م ليشغل عدة مناصب بالمنظمات والمعاهد الدولية.

التحق منصور بالحركة الشعبية لتحرير السودان بعد ثورة أبريل ١٩٨٥، وأصبح مستشاراً لرئيس الحركة الدكتور الراحل جون قرنق، ويقال إنه المهندس الحقيقي لمشروع السودان الجديد الذي حمله د. قرنق ساعيا عبره ﻹعادة بناء السودان. أصدر العشرات من الكتب والمؤلفات ومئات المقالات في مختلف القضايا والمجالات، ويعد من أبرز الكتاب والمفكرين على المستوى الوطنى والمحيط الإقليمي الذين أثروا الساحة السياسية والفكرية.

ماذا قال رئيس الوزراء عن الراحل؟
رئيس الوزراء عبد الله حمدوك سارع في تعزية الشارع السوداني في الفقد الجلل وقال في بيان إن «الدكتور منصور خالد ظل طوال حياته مشغولا بالبذل والعطاء العملي والنظري، فشغل مواقع سياسية ودبلوماسية بالسودان والمنظمات الدولية». وأضاف: منصور حتى في آخر أيامه لم يبخل على الحكومة الانتقالية بالرأي والنصيحة في موضوع السلام وقضايا أخرى، وعبّر عن فخره بالشباب السوداني الذي أنجز الثورة”.

وتابع حمدوك: «بفقدنا الدكتور منصور خالد يهوي عمود من أعمدة التدوين الرفيع والنقد الجريء للتاريخ السياسي السوداني، فقد وضع آراءه وأفكاره في مجلدات ضخمة تمثل ثروة لأجيال بلادنا».

وبحسب متابعات (السوداني) فإن الراحل كان على تواصل دائم مع وزير مجلس الوزراء السفير عمر منيس الذي يزوره باستمرار في منزله الكائن بالخرطوم شرق.

مولانا الميرغني: وجدت في منصور ورفاقه خير عون وسند
زعيم المعارضة السودانية خلال حقبة التسعينيات في التجمع الوطني الديمقراطي ورئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي راعي الطائفة الختمية مولانا محمد عثمان الميرغني، نعى الراحل مقدما شهادته للتاريخ، معتبرا وفاة د. منصور خالد خسارة كبيرة للسودان، وفقدا للسياسة والفكر، معددا في بيان صادر من مكتبه مناقب الفقيد وإسهاماته في العمل الوطني بالبلاد، وقال «إن حياة الفقيد كانت حافلة بالعطاء والنضال في مختلف الميادين محليا ودوليا»، ووصفه بأنه كان من القيادات الوطنية المخلصة للوطن والمواطن، واضاف «عاش خالد حياته وفيًا لمبادئه ومناضلاً في سبيل وحدة وسلام وحرية السودان».

وأكد الميرغني في بيانه أنه وجد في منصور خالد ورفاقه في هيئة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي خير عون وسند في أوقات شديدة الصعوبة خلال سنوات المعارضة التي قادها التجمع الوطني الديمقراطي، وأضاف: «إن خالد كان من رموز السودان السياسية ومن أعلام البلاد الدبلوماسية ومن أشهر المفكرين السودانيين وقدم جهده وعلمه وخبرته وفكره من أجل تحقيق السلام و الحرية والديمقراطية والعدالة في السودان وظلت إسهاماته مستمرة حتى مماته».

ياسر عرمان: منصور خالد يرحل بهدوء بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس
القيادي بالحركة الشعبية شمال ياسر عرمان كتب قائلا: عند منتصف ليلة الأربعاء 22 ابريل بالخرطوم، وفي هدوءٍ رحل د. منصور خالد المفكر والمؤرخ والممتلئ بكل اصناف العلوم ، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، واتخذ مواقف متفردة من أبناء جيله، وعلى رأسها انضمامه للحركة الشعبية لتحرير السودان، وقد وقف د. منصور خالد في الصف الاول للمطالبين بالمواطنة بلا تمييز، والاستنارة وفصل الدين عن الدولة، وعمل منذ انضمامه للحركة الشعبية من أجل وحدة السودان، وأحب شعوب السودان لاسيما شعب جنوب السودان.

وكشف ياسر في توثيق على صفحته الاسفيرية عن أن آخر لقاء جمعه بمنصور كان في مدينة جوبا في يناير الماضي، واضاف: تابعت ترتيب زيارته لجوبا حتى تحققت في ظروف صحية صعبة كان يواجهها، ولقد هاتفته في لندن وذكر أنه يريد ان يأتي الى الجنوب للمرة الاخيرة، حتى يكحّل ناظريه بالناس والأرض، وقد احتفى به الناس في جوبا، فهو من يستحق ذلك.

واكد عرمان أن الحديث سيطول عن د. منصور خالد، لاسيما رحلته العظيمة والمهمة في الحركة الشعبية، فهي مكتوبة بمداد التواصل التاريخي بين شعبي السودان، وهي رحلة في المستقبل قبل أن تكون في الماضي، فما بين دولتي السودان لن ينقطع ولن ينقضي وحينما تواصله أجيال قادمة، سوف تمضي هذه الاجيال تلي خطى الدكتور منصور خالد فهي خطوات مهمة في هذا الطريق، وأضاف: لقد كان د. منصور خالد اخي الاكبر وصديقي، واستزادت علاقتي وتوثقت به على مر الايام، لاسيما في الايام الأخيرة التي عانى فيها من المرض.

محمد يوسف أحمد المصطفى:
القيادي بالحركة الشعبية شمال – الحلو- قال إنه برحيل الرفيق د. منصور تنطوي صفحة ناصعة السطوع في تطور وازدهار الفكر الحر المتمسك بأثمن وأرقى المبادئ الإنسانية، وأضاف: سيبقى إنتاج د. منصور الفكري الغزير نبراسا لشعبنا يستلهم منه شجاعة الطرح وجراءة التشريح واستقامة التحليل وحكمة الاستنتاج، قاطعا بأنه ستستمر معنا وفينا مآثر البحث عن الطرق المفضية بنا نحو السودان الجديد الذي جاهد فقيدنا بثبات وحكمة من اجل تعيين ملامحه تبيين مطباته، واضاف: فلترقد يا منصور بسلام وثق في عهدنا لك بأن نسير على الدرب حتى ننجز السودان الجديد الذي نحلم به، وقد كان لك القدح المعلى في ايقاظ حلمنا وانعاش آمالنا ومطامحنا في الحرية و التقدم و السلام.

شبكة الصحفيين: منصور خالد.. أي موت يستطيع أن يخمد أنفاسك
شبكة الصحفيين السودانيين ابتدرت نعيها لمنصور عبر بيان قالت فيه: في غسق الليل الداجي، طرق الموت، باب الدكتور منصور خالد وسريعاً رحل إلى حيث الأبدية، مخلفاً وراءه الحزن والأسى. واعتبر بيان الشبكة أن منصور شكّل واسطة عقد الأجيال التي تلت استقلال السودان، وظل إحدى النجوم شديدة التوهج واللمعان في السياسة والصحافة والفكر والأدب، واضاف: كان بحاثة مشتغلاً بالفكر، كان يمضي قدماً على نسق الفيسلوف الفرنسي ديكارت شعاره «أنا افكر إذن أنا موجود»، وظل هكذا راهباً متبتلاً حتى أسبل الجفن، لم يرهن عقله لأفكار مسبقة، ولم ينجرف خلف كتلة صماء، إنما كان دائم التجريب، لا يتبع إلا عقله وما يمليه عليه ضميره.

ووثقت الشبكة لعمل الراحل في الصحافة وقالت: امتهن الراحل الصحافة لفترة من الزمان كمراسل ثم كاتباً مرموقاً في بلاط صاحبة الجلالة، ورفد المكتبة السودانية بمؤلفات شديدة التميز والإبداع، طرزها بحرف بهي موشى، اعمل فيها قلمه المسنون نقداً وجرحاً وتعديلاً لتجربة بلادنا في شؤون الحكم والسياسة وهبت عليه من تلقائها رياح هوجاء، لكنه ظل صامداً معتداً بما يعتقد أنه حق، ماضياً في ذات الاتجاه.

واشار بيان الشبكة الى ان منصور كان ذا رؤية بعيدة من خلال تلمس اﻷخطار التي تحيق بالسودان؛ وقال: ابصر الراحل بعيني زرقاء اليمامة، الأخطار التي تهدد وطننا، ولفت الانتباه باكراً إلى الأدواء والعلل التي تخل بتماسكنا القومي، وتهتك نسيجنا الاجتماعي، داعياً أبناء شعبنا أجمعين إلى التصالح مع أنفسهم ومكوناتهم المتعددة وكان هو من السباقين لدعوته العظيمة تلك.

رئيس الجبهة الثورية: في الليلة الظلماء يفتقد البدر يا منصوز خالد
رئيس الجبهة الثورية د الهادي إدريس اصدر بيانا نعى فيه منصور خالد، قال فيه: غيب الموت مساء الامس -الاربعاء- رمزاً من رموز السياسة والأدب ، بل ومفكراً شامخاً وموسوعياً في سماوات الفكر السوداني، منوها الى أن منصور استطاع بعصاميته الفذة أن ينحت اسمه في صخور صماء كاتباً ومحللاً ومستشارا في أعرق المنظمات الإقليمية والدولية وأكاديمياً متميزًا.

واكد الهادي أن الراحل كان حلقة وصل بل وشيجةً من وشائج التواصل والتفاعل قولاً وفعلاً مابين شمال وجنوب السودان، وقدم في ذلك الكثير من فكره ومواقفه العظيمة، وأضاف: برحيل منصور خالد تكون قد انطوت صفحة مشرقة في تاريخ السودان، إلا ان ما خطه يراعه سيظل باقياً بين الناس.

وفي السياق اصدرت حركات الكفاح المسلح بيانات تنعي فيها الراحل ممهورة بتوقيع الناطقين الرسميين فيها، منوهة في بياناتها الى عظم الفقد وجلل المصاب.