فقد السودان أواخر الشهر الماضي أحد أبرز أعلام الفكر الثقافي والسياسي فيه، وإذ تحتفي الكلمة بالرجل فتنشر مقالا في نعيه، وتقريرا عن أثر غيابه في تلك اللحظة من تاريخ السودان، وحوارا مطولا معه جرى قبل سنوات عديدة تستعيض بهذا كله عن ملف كامل كان جديرا به.

الدكتور منصور خالد (1931-2020)

رحيل جيل بكامل معالمه

أحمد إبراهيم أبوشوك

 

وُلِدَ الدكتور منصور خالد في حي الهجرة بمدنية أمدرمان، في يناير1931م، فجدة من جهة أبية الشيخ محمد عبد الماجد الذي كان صوفياً مالكياً، وجده من جهة أمه الشيخ الصاوي عبد الماجد الذي كان فقيهاً وقاضياً شرعياً في المحاكم السودانية. وقد أشار الراحل منصور (ت. 22 أبريل 2020م) إلى هذه الخلفية الأسرية في تحقيقه لمخطوط السيرة الماجدية، الذي وصفه الأستاذ محمد الشيخ حسين: بأنه «يمثل فتحاً جديدا» في قراءة المخطوطات القديمة، يسمح لقارئه بالخروج من دائرة الانقياد إلى روح النص الإطرائية، بوعي أو غير وعي، إلى دائرة القراءة الحديثة، الناقدة للمحتوي في سياقه التاريخي. وأشار أيضاً إلى ذلك في مذكراته التي أنجزها عام 2018م، في أربعة مجلدات بعنوان (شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية). وختم المجلد الأخير منها بفقرة مفادها: «إن إدمان الحديث عن الاستهداف الخارجي [في السودان] لا يكشف إلا عن واحد من شيئين: الأول هو العجز الكامل عن نقد الذات بالمعنى الصحي للكلمة، أي مراجعة النفس والاعتراف بالخطأ؛ والثاني هو الالتزام بالعهد طالما كنا لا ننتوي الإيفاء بذلك الالتزام، وبعدم الالتزام؛ لأننا نرتكب خطأين، أو قل سؤاتين: الأولى هي خيانة العهد، والثانية هي الجبن.»

ماذا تقول سيرته الذاتية في الأسافير؟
تلقى منصور جميع مراحل تعليمه حتى المرحلة الجامعية بالسودان. درس الأولية (حقاً الابتدائية) بأمدرمان، ثم مدرسة أمدرمان الأميرية الوسطى، ثم مدرسة وادي سيدنا الثانوية العليا، ثم كلية الحقوق جامعة الخرطوم، والتي زامل فيها الدكتور حسن الترابي، والاستاذ خلف الله الرشيد، ورئيس القضاء الأسبق، الاستاذ عبد العزيز شدو، وزير العدل الأسبق. حصل على الماجستير في القانون من جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، والدكتوراه من جامعة باريس.

حياته العملية بعد التخرج
بعد تخرجه في جامعة الخرطوم بدأ منصور حياته العملية في مجال المحاماة لفترة قصيرة، وبعدها انتقل للعمل سكرتيراً خاصاً لرئيس الوزراء، عبد الله بك خليل (1956-1958)، وبعد سقوط حكومة خليل وقيام حكومة الفريق إبراهيم عبود (1958-1964م)، التحق موظفاً برئاسة هيئة الأمم المتحدة في نيويورك، ثم انتقل منها إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في باريس. كما عمل استاذاً زائراً للقانون الدولي بجامعة كلورادو بالولايات المتحدة.

منصور خالد والعمل السياسي
نشر سلسلة من المقالات الصحافية المهمة في صحيفة الأيام ومجلة الخرطوم قبيل انقلاب مايو 1969م، تنبأ فيها بزوال الحكم الديموقراطي، نسبة للمشاحنات الحزبية، والعداء الطائفي، وعدم احترام الأحزاب لمبدأ الديموقراطية واستقلالية القضاء، مشيراً في ذلك إلى حادثة طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان، والصراع بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، والذي من وجهة نظره قد أفسد نظام الحكم البرلماني وقوض ثوابت الديمقراطية، كما أظهر في تلك المقالات نوعاً من التأييد لفكرة الحزب الواحد في بلد مثل السودان، يعاني من الصراعات القبلية والطائفية، ومشكلات الفقرة والجهل والمرض.

بعد قيام حكومة مايو (1969-1985م) عينه الرئيس جعفر نميري وزيراً للشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية، شهدت قطاعات الشباب إبان وزارته نهضة كبرى، تمثلت في تفعيل الشباب في الخدمة الطوعية (صيانة الطرق، بناء المشافي والمدارس)، وفي إنشاء مراكز الشباب، ومراكز التأهيل، ومحو الأمية. كما أنه قد أسهم في خلق علاقات قيمة ومفيدة مع (هيئة اليونسكو، ومنظمة العمل الدولية، وحكومات مصر والجزائر وكوريا الشمالية). فضلاً عن المهرجانات الشبابية نظمتها الوزارة، وفي عهد تمَّ تشييد العديد من دور للثقافة والأنشطة الشبابية. في أغسطس 1970 استقال من الشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية، متعللاً بالصراعات الأيديولوجية بين التيارات السيارية التي أنهكت النظام الحاكم، وشغلته عن تنفيذ برامجه الإصلاحية.

وبعدها انتقل الدكتور منصور للعمل ممثلاً لمدير عام هيئة اليونسكو، “رينيه ماهيو”، ضمن برامج التعليم لهيئة غوث اللاجئين الفلسطينيين. وعاد بعد ذلك ليعمل سفيراً للسودان بهيئة الأمم المتحدة. وبعد عودته من الأمم المتحدة تقلد العديد من المناصب السيادية في السودان، والتي شملت وزير وزارة الخارجية، وزير وزارة التربية والتعليم، ثم مساعد لرئيس الجمهورية، وأخيراً عضواً في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي. كما اشترك مع صديقة الدكتور جعفر محمد علي بخيت وآخرين في مفاوضات أديس أبابا 1972م التي أفضت إلى حل مرحلي لمشكلة جنوب السودان، وساهم في إعداد دستور السودان الدائم لسنة 1973م. وفي العام 1978 استقال من آخر مناصبه في حكومة مايو، المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، وخرج مغاضباً من السودان.

وأثناء فترة إقامته بواشنطن عمل في مركز ودرو ويلسون العالمي للعلماء (Woodrow Wilson International Center for Scholars)، وبعدها انتقل للعمل نائباً رئيس للجنة الدولية للبيئة والتنمية، التي انشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1982م، ومقرها جنيف. وقبل استقلال جنوب السودان في 2011م، انضم إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان، مستشاراً لرئيسها الدكتور جون قرنق ديمبيور. وفي الفترة التي قضاها الدكتور منصور في العمل السياسي قد واجه نقداً شديداً من كثير من الذين كانوا لا يزالوا يخالفونه في الرأي، لكن اختلاف وجهات نظرهم في السياسة لا ينفي أن الدكتور منصور خالد يُعدَّ من المفكرين السودانيين القلائل من أبناء جيله، ومن جيل الدبلوماسيين الرائعين أمثال المرحوم جمال محمد أحمد.

ألف الدكتور منصور العديد من الكتب المهمة في تاريخ السياسة السودانية المعاصر والراهن باللغتين العربية والإنجليزية. ونذكر منها: (حوار مع الصفوة) (1974م)؛ (لا خير فينا إن لم نقلها) (1980؟)، (السُّودان النفق المظلم: قصة الفساد والاستبداد) (1984)؛ (الفجر الكاذب: نميري وتحريف الشريعة) (1986)؛ (النُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل) (1993م)؛ (جنوب السُّودان في المخيلة العربية: الصورة الزائفة والقمع التاريخي) (2000)؛ (السُّودان، أهوال الحرب وطموحات السلام: قصة بلدين) (2007)؛ (تكاثر الزعازع وقلة الأوتاد) (2010)، وآخرها سيرته الذاتية الموسومة بـ (شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية). ألا رحم الله الدكتور منصور خالد رحمة واسعة، بقدر ما قدم للسودان، وللمناصب الأممية التي تقلدها خارج السودان.

قراءة في منهج بحثه العلمي:[1]

شهدت الخرطوم في يومي 12 و13 مارس 2016م حفل تكريم الدكتور منصور خالد تحت شعار "عمارة العقل وجزالة المواهب"، وقد أشرف على إعداد هذا الحفل التكريمي لجنة قومية، قوامها نفر من أهل السودان. انعقدت فعليات اليوم الأول بقاعة الصداقة، بجلسة افتتاحية استهلها البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله، رئيس اللجنة القومية، بكلمة ترحيبية، ثم أعقبه الدكتور حسن عابدين، منسق اللجنة، بحديث عن فعاليات الحفل، كما أُفسج المجال لإدلاء الرسائل والشهادات من بعض المدعوين وأصدقاء المحتفى به. وأخيراً ختم الدكتور منصور خالد الجلسة الافتتاحية بكلمة شكر فيها اللجنة القومية والحضور الأنيق. وفي فترة الاستراحة اُفتتح المعرض الخاص ببعض مقتنيات منصور خالد من صور تذكارية وتحف، كما صحب ذلك انشاد غنائي من كورال عقد الجلاد.

وفي الفترة المسائية بدأت الجلسة الثانية بورقة عن "دكتور منصور خالد وزيراً للخارجية"، أعدَّها السفران مأمون إبراهيم حسن وعطا الله حمد بشير، وعلَّق عليها السفير إبراهيم طه أيوب؛ وتلتها ورقة عن "دكتور منصور خالد والدبلوماسية المتعددة الأطراف" أعدَّها السفير نور الدين ساتي، وعلَّق عليها السفير أحمد عبد الوهاب جبارة الله. أما الجلسة الثالثة فقد ابتدها السفير جمال محمد إبراهيم بورقة عن "دكتور منصور خالد: خطرات ناعمة في الثقافة والأدب"، وتلتها ورقة النور حمد "دكتور منصور خالد: جسر عقلي إلى المستقبل" التي علَّق عليها السفير عوض محمد الحسن. وفي اليوم الثاني انتقلت فعاليات الحفل إلى نادي الدبلوماسي، حيث عقدت ثلاث جلسات أُخر. تشكلت الجلسة الرابعة منها من ورقتين، الأولى بعنوان "دكتور منصور وحقوق الإنسان"، أعدَّها الأستاذ المحامي نبيل أديب، وعلَّق عليها البروفيسور علي سليمان فضل الله؛ والورقة الثانية كانت بعنوان "الدكتور منصور خالد: السلام ووحدة البلاد، الفرص المهدرة" أعدَّها الدكتور الواثق كمير، وعلَّق عليها الدكتور لوال دينق. وشملت الجلسة الخامسة ثلاث أوراق، أعدَّ الأولى منها البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله "التعليم من منظور دكتور منصور خالد"، وعلَّق عليها البروفيسور عبد الرحمن الطيب علي طه؛ والثانية أحمد إبراهيم أبوشوك "دكتور منصور خالد: قراءة في منهج بحثه العلمي"، والثالثة والأخيرة الدكتور مصطفى الصاوي بعنوان "قراءة أولية في الثلاثية الماجدية. أما الجلسة الخاتمة فبدأت بعرض فيلم وثائقي عن حياة الدكتور منصور خالد، تلتها محاضرة ضافية للمحتفى "حول تجربته ورؤيته للمستقبل"، حيث ختمها بنص بليغ له مغزاه السياسي "لمن تعزف مزاميرك يا داود"، وأخيراً جمع الحفل أطرافه على انغام حقيبة الفن.

في ضوء هذا التوطئة أود أن أعرض الورقة التي قدمتُها في هذه المناسبة الاحتفائية في ثلاث حلقات، بعد اسبتعاد الحواشي التوثيقية والتعريفية حسب متقضيات النشر في الصحف السيارة، علها تقدم للقارئ نظرة أولية في منهج الدكتور منصور خالد العلمي في الكتابة وتوثيق الأحداث التاريخية، بصفته مؤرخاً سياسياً، وسياسياً أدائياً.

تمهيد
الاحتفاء بالمفكرين والعلماء والباحثين والأدباء والفلاسفة من سمات المجتمعات المتحضرة والأمم الراقية؛ لأنه يعزز قيم الإبداع والابتكار والتجديد، الأمر الذي نحتاج إليه في السُّودان؛ لتوثيق عرى الوحدة الوطنيَّة، والانحياز للديمقراطيَّة أساساً لتداول السُّلطة، ثم تعبيد مسارات التنميَّة المتوازنة بين الريف والحضر. وتنظيم مثل هذه الاحتفاءآت بعيداً عن الأشكال النمطية، والمراسيم الحكومية-الرسمية، وأدبيات التراجم الإطرائيَّة يرتقي بمُخْرَج التثاقف الفكري. ولذلك اقترحت اللجنة المنظمة لتكريم الدكتور مَنْصُور خالد أن تكون إحدى فعاليات المناسبة في شكل أوراق علميَّة تناقش إسهامات المحتفى به في فضاءات الكلمة المكتوبة. ومن هنا جاء اختيار منهج مَنْصُور خالد في توصيف المشكلات الشائكة في السُّودان، واستقراء حيثياتها، ورصد الشواهد والحجج والبراهين الناظمة لمعطياتها ونتائجها.

ولا جدال في أنَّ مهمة الباحث في هذا الشأن مهمة عسيرة؛ لأن الفصل بين سرد مَنْصُور الوصفي-التحليلي للمشكلات، ودفوعه عن بعض المعطيات والنتائج المرتبطة بمواقفه السياسيَّة يشكل مشكلاً في حد ذاته؛ يحتاج إلى تفكيك بنيوي حصيف للنصوص المختارة؛ لوضع ذلك المنهج في نصابه المعرفي، وتلك الأدبيات في حيزها الحواري-التنويري. وتحقيقاً لهذه الغايَّة المنشودة قد استندت هذه الورقة إلى عملين نفيسين انتجهما دكتور خالد في فترات متعاقبة من تاريخ حياته المثيرة للجدل؛ الأول منهما كتابه الموسوم بـ "حوار مع الصفوة" والثاني مجلديَّه عن "النُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل". ويوجد بين العملين قاسم مشترك، تستند محصلته إلى النُخْبَة السُّودانية، التي صوَّب مَنْصُور حواره وخطابه تجاهها في النصف الأخير من القرن العشرين عبر مقالات نشرها آنذاك في صحيفة الأيام، وأدبيات أخرى أصدرها لاحقاً؛ إلا أن استجابات النُخْبَة لم ترق إلى مستوى تلك الحوارات- من وجهة نظره- سواء كان ذلك مجادلةً في النصوص، أو تنفيذاً على صعيد الواقع، ولذلك نعت النُخْبَة السُّودانيَّة بإدمان الفشل، ثم الانحطاط إلى درك الحساسيَّة من النجاح.

لماذا حوار مع الصفوة والنُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل؟
أصدر مَنْصُور خالد العديد من المؤلفات المهمة في تاريخ السُّودان السياسي المعاصر، ونذكر منها: حوار مع الصفوة (1974م) ؛ لا خير فينا إن لم نقلها (1980؟)، السُّودان النفق المظلم: قصة الفساد والاستبداد (1984) ؛ الفجر الكاذب: نميري وتحريف الشريعة (1986) ؛ النُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل (1993م) ؛ جنوب السُّودان في المخيلة العربية: الصورة الزائفة والقمع التاريخي (2000) ؛ السُّودان، أهوال الحرب وطموحات السلام: قصة بلدين (2007) ؛ تكاثر الزعازع وقلة الأوتاد (2010). وتُقدِّم هذه المؤلفات حيثيات وتحليلات ثاقبة عن الأزمة السُّودانية، وقراءات بديلة للتبريرات التي درجت الصفوة الحاكمة على تسويقها للمحكومين. ولذلك يمكن أن ننعتها بأنها تشكل "ذاكرة مضادة"، حسب اصطلاح إدوارد سعيد؛ لأنها مغايرة لطرح الآخرين، بدليل أن صاحبها يرفض المأثورة القائلة: "ليس كل ما يعرف يقال"، ويتصدى لتسجيل التاريخ السياسي وتحليل مفرداته، دون أن "يعنيه كثيراً أن أحبه الناس أو كرهوه؛ الذي يعنيه الجديَّة التي يقبل بها الناس على قراءة ما استطر، أو على نقد ما توصل إليه من حكم عبر تحليل موضوعي." وفي خاتمة المطاف تكمن غايته في "إثارة الحوار العلمي الجاد، فيما يهم الناس من شئون، وما يؤرقهم من شجون."

وبذلك يقطع مَنْصُور "بأن الوسيلة الوحيدة لمعالجة أزمات السُّودان المتشابكة هي الإقبال الموضوعي الجاد على تحليل عناصرها، وهذا أمر لا يتأتى إلا إذا ركب الناس الأمور بعلم، وخاضوا فيها بدراية." ومن زاويَّة أخري تعكس عناوين هذه الأدبيات عمق الأزمة التي يعيشها السُّودان في ظل أوضاع سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة معقدة، أفضى تراكمها التاريخي إلى نتائج غير مرغوب فيها؛ لأن النُخْبَة المعنيَّة بالأمر كانت ولا تزال ذاهلة عن معالجات تلك الأوضاع وتداعياتها بحكمة ودراية. ولذلك ينسب حيدر إبراهيم علي أدبيات مَنْصُور إلى "مدرسة الأزمة" التي أفرد أحمد مجدي حجازي لها كتاباً بعنوان "علم اجتماع الأزمة"، كما أصدر مازن مرسول كتاباً آخر بعنوان "سوسيولجيا الأزمة: المجتمع العراقي نموذجاً". وفي السُّودان استشهد حيدر إبراهيم بجملة من المؤلفات ذات الصلة، ونذكر منها: عبد العزيز حسين الصاوي "أزمة المصير السُّوداني"، وعطا البطحاني "أزمة الحكم في السُّودان: أزمة هيمنة أم هيمنة أزمة؟"، وحيدر نفسه "أزمة الإسلام السياسي: الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة في السُّودان نموذجاً".

ويعضد حيدر افتراضه بإفادة مَنْصُور أنَّ: "الأزمة السُّودانيَّة في تقديرنا ليست أزمة حُكْمٍ وأزمة هويَّة فحسب، وإنما هي قبل هذا أزمة رؤية. المأزوم ليس هو المواطن أوهاج الذي يهيم على سفوح التاكا في شرق السُّودان، ولا المواطن تِيَّه الذي أكدى يديه الحفر في هضاب جبال النوبة في وسط السُّودان، ولا المواطن سرالختم الذي ما زال يستمسك بالقليل الذي أبقاه الهدام من أرض صلعاء على حفافي النيل بشمال السُّودان. المأزوم هو الأقليَّة الاستراتيجيَّة من صفوة المثقفين، أو بالحري المتعلمين، التي افترضت لنفسها- التعبير وصنع القرار باسم هؤلاء جميعاً، بحكم سيطرتها على الحكم، والمال، والتعليم، ووسائل الإعلام الحديث." ولذلك بدأ مَنْصُور حواره مع تلك الصفوة للوصول إلى رؤيَّة موضوعيَّة لحل أزمات السُّودان؛ لكن تراخيها ومكابرتها ودورانها اللولبي حول أطروحاتها المكرورة دفعه إلى نعتها "بإدمان الفشل".

وبناءً على ذلك جاءت فكرة اختيار كتابي مَنْصُور اللذين أشرنا إليهما أعلاه (حوار مع الصفوة والنُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل)؛ لتقديم قراءة موضوعيَّة للمنهج الذي اخطته لعرض أزمة السُّودان وتحليل مفرداتها. وقد استند هذا الاختيار إلى المُسوغات الآتية:

أولاً: نلحظ أن بين العملين وشيجة قربي، تتمثل في الصفوة (أو النُخْبَة) المتهمة بإدمان الفشل. وكما نعلم أن مصطلح الصفوة من المصطلحات المفتاحيَّة في علم الاجتماع السياسي، الذي يدرس العلاقات الرأسيَّة بين الصفوة الحاكمة والأغلبيَّة المحكومة، وذلك في إطار الأنساق السياسية والقيم الاجتماعيَّة والثقافيَّة الموجهة لها، وبموجب ذلك تتسنى معرفة الأسباب الكامنة وراء الخلل الوظيفي لهذه الأنساق، وعلاقته بالبناء النسقي للنظم السياسيَّة وأهدافها واستراتيجيتها العامة. تاريخياً، استخدم أفلاطون مصطلح الصفوة عندما قسم المجتمع اليوناني إلى ثلاث طبقات، تعلوها طبقة الحُكَّام والفلاسفة صاحبة العقل والحِكْمَة، وتليها طبقة الجُنْد، ثم الطبقة العامة. وفي تاريخنا الحديث والمعاصر تواترت استخدامات هذا المصطلح عند كارل ماركس (ت. 1883م)، وعالم الاجتماع الإيطالي فيلفريدو باريتو (ت. 1923م) الذي اعتبر الصفوة ظاهرة اجتماعيَّة سياسية، لها تأثيرها البالغ في الحياة العامة، ثم قسمها إلى صفوة حاكمة وصفوة خارج منظومة الحُكْم.

اتفق جيتانو موسكا (ت. 1941م) مع باريتو بأن الصفوة تمثل الأقليَّة التي تمتلك الثروة والقدرة والمواهب التي تمكنها من السيطرة على المحكومين. واتساقاً مع ذلك نلحظ أن الصفوة كانت بمثابة خيطٍ ناظمٍ للعلاقة العضويَّة بين كتابي مَنْصُور خالد، ففي الأول طرح المؤلف حزمة من المشكلات الشائكة على طاولة "الأقليَّة الاستراتيجيَّة المؤثرة في المجتمع السُّوداني"، بغيَّة الوصول إلى حوار إيجابي يفضي إلى تجاوز تلك المشكلات التي ورثها "السُّودان الحر المستقل" من واقع بنائه السياسي والاجتماعي، وطرائق تفكير الصفوة فيه؛ وفي الثاني عمد المؤلف إلى تحليل الأزمة السُّودانيَّة ودور النُخْبَة في تشكيل مراحلها، وتعقيد مخرجاتها السياسيَّة والاجتماعية؛ لدرجة جعلته ينعتها بإدمان الفشل.

ثانياً: يُعدُّ حوار مع الصفوة جزءاً مكملاً للنخبة السُّودانيَّة وإدمان الفشل؛ لأنه يعكس موقف مَنْصُور الباكر من المبادئ الأيديولوجيَّة المجردة التي لا تمس حيوات الناس وواقعهم المعيش، بل تستند طروحاتها إلى قراءات ميتافيزيقيَّة وجدليات عقيمة "لا تعدو أن تكون ضرباً من التهريج، أو في أحسن حالاتها لوناً من ألوان الترف الفكري الذي يمارسه المثقفون وأشباه المثقفين." يبرهن هذا النص من زاويَّة أُخرى أنَّ مَنْصُور قد حددَّ موقفاً مسبقاً من الأيديولوجيات المذهبيَّة قبل أن يكون جزءاً في سلطة مايو (1969-1985م)؛ لأنه يعتقد أن "المذهبيَّة تقود إلى آفتين: الأولى هي احتكار الحقيقة، والثانيَّة هي تحولها من أداة لتفسير الظواهر إلى وسيلة للهيمنة السياسيَّة أو الروحية.

احتكار الحقيقة لا يفقد من يلازمه رهافة الحس التاريخي فحسب، بل يرمي به في النهايَّة خارج إطار التاريخ. أما تحويل المذهبيَّة إلى أداة لتكريس السُّلطان أو الاستيلاء غير المشروع عليه، فهو وصفة للصراع والتمزق." وبذلك نصل إلى أنَّ موقف مَنْصُور من قوى اليسار واليمين في السُّودان لم يكن موقفاً مصطنعاً بعد ارتباطه بالسُّلطة، بل كان موقفاً مبدئياً، رافضاً لأطروحاتهما الأيديولوجية، بحجة أنها لا تلبي احتياجات الواقع المعيش. وبالكيفيَّة ذاتها انتقد أحزاب الحركة الوطنيَّة (حزب الأمة، الوطني الاتحادي، حزب الشعب الديمقراطي) قائلاً بأن: "الكارثة الكبرى ليست في طائفيَّة الأحزاب بقدر ما هي في أن الأحزاب أصبحت مسخاً للطوائف. فالحزبيَّة طائفيَّة بلا أخلاقيات الطائفية، والحزبيَّة قبليَّة بلا تكاتف أو تكافل القبليَّة ... وشعور التعاضد الطائفي والتكافل الاجتماعي القبلي الذي كان يقوم على الحدود الواضحة بين القبائل والطوائف قد اختفى، وما كان ليختفي لو كانت هناك حدود فكريَّة واضحة والتزام وجداني عميق بين الأحزاب."

ويمضي في الاتجاه ذاته ويقول: "في هذا العالم الذي يثب وثباً نحو غده المأمول يعيش أهل السُّودان في بلقع فكري ... فلا مشاحة إذن في أن يظل العمل السياسي في الكيانات التقليديَّة القائمة امتداداً للصراع القديم بين الشوقست والفيلست حتى عامنا هذا. عام ثمان وستين وتسعمائة وألف .. يصدق هذا الزعم من كل ما نردده عن اليمين واليسا ر.. القديم والجديد .. عن مظاهر الاستقطاب السياسي المفتعل .. وفي حال كهذا يجد الناس أنفسهم أمام اختيار عسير مضنٍ. فالاختيار بين الكيانات القائمة ليس اختياراً بين الحسن والأحسن .. ولا اختياراً بين الحسن والسيء .. ولا اختياراً بين السيء والأسوأ .. إنما هو - في واقع الأمر- اختيار بين الكارثة والفجيعة."

إذاً هذا الواقع المأزوم أوصد نوافذ الخيارات والبدائل المطروحة في وجه مَنْصُور، الأمر الذي حدا به إلى الترويج لمشروع الحزب الواحد، باعتباره خياراً بديلاً لواقع السُّودان السياسي، ولاحقاً حفَّزه للاشتراك في حكومة مايو عام 1969. وبشأن الحزب الواحد ومبررات تبنيه نظاماً للحكم، يقول مَنْصُور: "إن الديمقراطيَّة الليبراليَّة بما تضمنته من مبادئ برلمانيَّة معينة، وحريات محددة، وتعدد الأحزاب لا يمكن أن تُطبق في بلاد ثلاثة أرباع أهلها أميون، يعيشون في مستوى معيشي دون المستوى الإنساني، ويرسفون في أغلال سيطرة عاطفيَّة تقليديَّة ... لذا فقد جنحت [بلاد] إلى تطبيق نظام الحزب الواحد ... عن طريق قرار برلماني، كما هو الحال في كينيا، أو انقلاب عسكري كما الحال في سوريا، أو استفتاء شعبي كما هو الحال في غانا."

وبهذه الإضاءات لا ندافع عن مواقف مَنْصُور السياسية، فدفوع الرجل مبثوثة في مؤلفاته وحواراته الصحافية ولقاءاته المتلفزة، بل نحاول أن نضع تلك المواقف في نصابها التاريخي، وننظر بإمعان في طبيعة المنهج البحثي الذي استخدمه مَنْصُور في مناقشة الأزمة السُّودانية، وطبيعة الفشل الذي عزاه إلى النُخْبَة الحاكمة، وكيف يمكن أن نميز بين السياسة الأدائيَّة التي مارسها المترجم له في أروقة الحكم، والطبيعة التسلطيَّة للنظام المايوي الذي عمل بين ظهرانيه قبل إعلان الطلاق البائن بينهما عام 1978م.

ثالثاً: يقدم هذان الكتابان فكرة متكاملة عن طبيعة القضايا والمشكلات التي درج مَنْصُور على تناولها لمدة أربعة عقود متتاليَّة 1964-1993، شهد السُّودان خلالها تجارب حكم مختلفة، شملت التعدديَّة الحزبية، والحكم العسكري، والحزب الواحد، كما تبدلت أيضاً مواقف مَنْصُور من موقف المراقب الحصيف الذي اتاح له الابتعاد الحسي عن الأحداث المباشرة نظرة بانوراميَّة للمشهد السياسي في سودان الستينيات لايرها صَنَعة الأحدث أنفسهم، ثم انتقل إلى موقع المشاركة الأدائي في السُّلطة المايويَّة (1969-1978م)، ثم إلى خانة المعارضة التي قادته إلى الانضمام إلى الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان. إذاً هذا المشهد التاريخي الممتد بين دفتي حوار مع الصفوة والنُخْبَة السودانيَّة، سعيننا في فهم منهج مَنْصُور البحثي في تناول الأزمة السُّودانيَّة التي حصرها في ثلاث قضايا محورية، هي: الوحدة الوطنيَّة، والتنميَّة، والديمقراطيَّة؛ دون أن ننزلق في محاكمة مواقفه السياسيَّة التي لا تمت لموضوع هذه الورقة بصلة مباشرة. لكن وضع تلك المواقف السياسيَّة في نصابها من قبل المؤلف يدفعنا إلى مناقشة اسقاطاتها على أسلوب العرض والتحليل ومخاطبة الآخر.

 

[1] وكان الكاتب قد نشر من قبل (20 أبريل 2016) دراسة عن عمارة العقل وجزالة المواهب عقب احتفال بتكريم منصور خالد نوردها هنا: الدكتور منصور خالد: عمارة العقل وجزالة المواهب.