تكتب الباحثة الألمانية هنا عن زيارة لها للسودان بعد عام على الثورة، لتتعرف على الدور الذي لعبته المرأة فيها بعد سنوات من قهر الإسلامجية لها. وتؤكد ضرورة مواصلتهن الكفاح من أجل حقوقهن في واقع يرتد عادة بعد الثورة إلى حضن التقاليد التي همشت المرأة ورسخت معاناتها.

زيارة الى الخرطوم بعد عام من السقوط

كنداكات في بيت فتحية

النساء قمن بدور أساسي في سقوط عمر البشير

شارلوت فيدمان

ترجمة فادية فضة وحامد فضل الله

 

نشرت الصحفية والكاتبة الألمانية شارلوت فيدمان* مقالاً في الصحيفة الفرنسية لوموند دبلوماتيك (النسخة الألمانية نيسان/ أبريل 2020)، تستعرض وتحيي فيه الدور الكبير للمرأة السودانية، في انجاح الثورة الشعبية ــ 19 كانون الأول، ديسمبر 2018، التي أطاحت بنظام الإنقاذ الفاسد والظالم وخاصة قهره وإذلاله للمرأة. ونحن نحيي ايضا عبر هذا المنبر كل الكنداكات، اللواتي جاء ذكرهن، وتحية خاصة للدكتورة عائشة الكارب، التي شاركت عدة مرات في المؤتمر الذي يقام سنويا في مدينة هيرمانزبورج في ولاية ساكسونيا السفلى، بدعوة من منتدى السودان وسودان وجنوب السودان فوكال بوينت، وكذلك المشاركة أيضاً في ندوة "الفكر التقدمي في الاِسلام المعاصر"، بدعوة من مؤسسة فريدريش ايبرت في برلين، لمداخلاتها الثرية ودفاعها عن حقوق المرأة وحقوق الاِنسان والديمقراطية وحرية العقيدة، بشفافية وموضوعية وعقلانية، بعيدا عن الهرج السياسي.

جديلة شعر مقطوعة، رقيقة ومضفرة باحكام موجودة بيد سودانية. تنقلها بين اصابعها أثناء حديثنا، كرمز علماني، مثلما يسبح رجل بخرزات مسبحة الصلاة. شَعَر رفيقة مجهولة، تم العثور عليه خارج الميدان الرملي أمام المنزل، في أيام النضال عندما هاجم الجنود النساء وقطعوا بحركة سريعة ضفائرهن بالسكين. فعل الجنود ما هو أسوأ، وربما يشير هذا إلى شيء آخر في عملية القطع وكذلك في عملية الحفظ. بعد مرور عام على سقوط عمر البشير، تُذكر هذه الضفيرة بالإذلال وبالصمود، ولكن وقبل كل شيء بأن التذكر ما زال سابقاً لأوانه. لأن الكثير، في الواقع، ما زال مفتوحا في السودان الجديد، وهذا يشمل ايضا، ما سوف تجنيه النساء من ثورة، كانت ثورتهن.

تجمعت في غرفة معيشة في الخرطوم؛ ثلاثة أجيال من النساء والفتيات، مثلما حدث قبل عام عندما وقعت مشاهد دموية في الميدان الرملي بالخارج، حيث وجدت الضفيرة لاحقًا. المنزل في زاوية الميدان، في منحدر من المسجد الذي كان ملاذاً للعشرات من الناس، حين تحطم زجاج النوافذ تحت وابل من رصاص الجيش. فتحية محمد أحمد، تلف شالاً أخضراً فاتحاً حول قوامها المستقيم، تقود كجدة الدفاع كما في السابق، وتتحدث كذلك الآن دون أي مُنازِع. لقد خرجت من البيت وقالت للجنود، وبتعبير لا مبالغ فيه: "متى نموت هذه مشيئة الله. لكننا سوف نحصل على حكومة مدنية".

شكلت النساء الأغلبية في المظاهرات
في يوم زيارتي، كان هناك مئات الكراسي في الميدان الرملي، حيث يجري إعداد تأبين لضحايا الثورة. تسود في بيت فتحية على الزاوية، حركة ذهاب وإياب حيوية. يسجل المحامون إفادات الشهود لمحاكمات الجناة، بينما يحمل الأصغر سنا صناديق شطائر إلى الميدان. ثم صمت لعشرين دقيقة كاملة إحياء لذكرى الضحايا، تقف النساء والفتيات بجد وبلا حراك في منطقتهن الخاصة، وبعضهن يحملن لافتات تحمل شعارات مرسومة بخطوطهن؛ العقوبة، القِصاص. تقدمت بعد صلاة العشاء ومع حلول الظلام، أول متحدثة، أم شهيد، منقبة لا يرى منها سوى العينين، ترتدي نقاب وقفازات سوداء، تتحدث بحماسة في الميكروفون، تتهم وترفع إصبع السبابة في الهواء. يرفرف حجابها مع الريح المسائية، ويلقي بظل أكبر حول الشكل الأسود.

امرأة سودانية ثورية بوجه مغطى تثير تساؤلات، خاصة للعين الغربية التي تبحث عن صور واضحة، لا توجد غالبا في السودان. عرّضت النساء حياتهن للخطر للإطاحة بالدكتاتورية الإسلاموية التي عاقبت من يرتدين البنطلون بالجلد. في بيت فتحية على الزاوية، لا ترتدي الحرية الجديدة أثواباً جديدة. الجميع يرتدي الفساتين الطويلة، مثلما كان الحال سابقا، وفتحية لا تبدي استحسانا لاِرتداء البنطلون.

قام فنانو الجرافيك، في مكان غير بعيد عن منزلها، يرسمون بالرش صور ظليه للمناضلات بأدوات المطبخ، على الجدران المجوفة .. شكلت النساء الأغلبية في المظاهرات، سواء المتعلمات أو غير المتعلمات، المسنات والشابات. هذا ما يجعل الانتفاضة مميزة، بجانب اللاعنف. ولكن السودانيات لم يتفاجأن بقوتهن. من على البعد، ربما رأيناهن ضحايا فقط، لكن هن أكثر من ذلك. ولديهن بالفعل تاريخ من النضالات. (في أسفل الصفحة، صورة ظلية رائعة لفتاة سودانية، بهية الطلعة، ترفع يدها اليمني الماسكة بسلاح المقاومة "مفراكة" (ملعقة خشبية طويلة).

عندما أصدر أحد المحافظين قراراً يقضي بمنع نساء الخرطوم من العمل في محطات الوقود والفنادق والمطاعم، تصاعدت الاحتجاجات واضطر المحافظ إلى المغادرة. كان ذلك قبل عقدين من الزمن. منذ ذلك الحين، ازداد الإفقار في عهد البشير، ولم يعد باستطاعة العديد من الرجال إعالة أسرهم، على الأقل ليس بمفردهم. التحق المزيد والمزيد من النساء السودانيات بالعمل، وأصبحت بعض الأسر تديرها الآن امرأة، على الرغم من عدم وجود قانون بهذا الصدد، بحيث يعتبر بائعات الشاي مثالاً على كيفية ارتباط العمل والجمهور وتأكيد الذات. يجلسن على عدد قليل من البنابر "مقاعد صغيرة مضفورة بالأسلاك" وحفنة من الأكواب وغلاية ماء، في العديد من أركان الخرطوم.

استقبلتني المتحدثات باسم نقابتهن في مخزن سابق لأحد الأسواق. النوافذ حديدية، أرضية الاسمنت متسخة، الكراسي معوجة. تسعل الرئيسة عوضية كوكو، وتبدو مرهقة. ولدت في جبال النوبة، شردتها الحرب الأهلية، وجاءت إلى الخرطوم في الثمانينيات، ثم فتحت كشك شاي بعد ذلك وعاشت المضايقات. تقول عوضية، بالنسبة لقوات البشير الأمنية، كانت نساء الشاي "مثل وسخ الشوارع"، وقد تم تحطيم أكشاكهن، ومصادرة الشاي والأواني، وكانت النتيجة في كثير من الأحيان الديون والسجن. في مواجهة ذلك، أسست عوضية النقابة، وقد كان ذلك قبل سنوات، وخلال ذلك تم تنظيم 20.000 امرأة شاي وأعمال نساء صغيرة أخرى في الخرطوم. كان دعم الثورة أمرًا طبيعيًا بالنسبة للكثيرات، وأصبحت عوضية من خلال مطبخ الشارع، أسطورة.

التحرر - في غرفة الاجتماع هذه، مع أرضية الأسمنت المبقعة، تعني الكلمة: صراع الحياة القاسي. كيف يكون شعور الإنسان؟ تحضير الشاي وغسل الكؤوس في شارع ساخن مترب لمدة اثنتي عشرة ساعة في اليوم ومع كل ذلك، عليك دفع جميع الرسوم المدرسية للأطفال. لأن الرجل لا يشارك، أو لأنه لا يوجد رجل. تنهمر الدموع لدى بعضهن عند رواية قصصهن.

وبعد ذلك، كما لو كانت الشمس تشرق، تأتي امرأتان ترتديان منديلين على الرأس من حرير صناعي ومعاطف طويلة بشكل مختلف عن كبار السن، في أثوابهن بألوانها الفاتحة. هن بنات نقابية، تبيع الخٌمرة، العطر السوداني التقليدي، ومع سنوات طويلة من سحق بذور التوت والقرنفل وجوزة الطيب وخشب الصندل، أوصلت هاتين البنتين إلى الجامعة، أحداهما محامٍية بالفعل. يا لها من قفزة في جيل!

ولكن هذه الصورة تثير تساؤلات أيضًا. المعاطف الطويلة للبنات تشبه العباءة العربية، فقد قمن بتبني موضة من دول الخليج، وكذلك من يرتدين النقاب. أخبرني أحد المحاضرين أن عدد الطالبات المحجبات بالكامل يرتفع بشكل ملحوظ. نشأ بعضهن في الخليج بينما كان آباؤهن يعملون هناك. بالنسبة للبعض، تعتبر الملابس أيضًا رمزًا للمكانة، وهي إشارة إلى مستوى معين من الرخاء. بالنسبة لبنات امرأة السوق، يشير المعطف إلى التقدم الاجتماعي.

شخصيات رمزية باللون الأبيض
عندما رفعت طالبة هندسة معمارية تبلغ من العمر 22 عامًا تدعى آلاء صلاح صوتها ملتفة بالتوب الأبيض من على سطح سيارة خلال أيام المعارك، سرعان ما جعلتها وسائل الإعلام الغربية "وجه الثورة". اختارت آلاء، ابنة إحدى المصممات ملابسها بحكمة، وضمنتها رسالة إلى مواطنيها. قرط ذهبي على شكل هلال يذكر بإحدى الشخصيات النسائية من أواخر العصور القديمة، الكنداكة: الملكة الأم في شمال السودان، تولت الحكم الدنيوي في هيكل السلطة المقدسة لإمبراطورية مروي. بينما بقي ابنها في عزلة المعبد. في الحقيقة عرف السودان حكم الأنثى بمزيج من الفخر القومي، خاصة في جيل نشأ وشعر وكأنه ينتمي إلى دولة محتقرة على نطاق واسع.

لقد وضع غطاء آلاء صلاح الأبيض أثرًا جديداً، ألا وهو الحداثة السودانية في القرن العشرين. اعتباراً من الأربعينيات، أصبح الثوب علامة مميزة للنساء العاملات والناشطات السابقات. في رداء يشير إلى النقاء والتواضع لمعاصراته، اقتحمن به مساحات في العمل والتعليم والسياسة. بعض نماذح الأثواب كانت تسمى "الحرية"، "الجمهورية" أو "القمر الصناعي الروسي"، من ارتدينها أردن المشاركة في عصر جديد مثير، كما كتبت المؤرخة ماري جريس براون.

كلمة التحرر تعني: صراع الحياة القاسي
كانت فاطمة أحمد إبراهيم ترتدي التوب الأبيض دائمًا، وهي الشخصية القيادية البارزة في المرحلة، ورئيسة الاتحاد النسائي السوداني لفترة طويلة. مثل الرائدات الآخريات، كانت تنتمي إلى الحزب الشيوعي الكبير، الذي كان أول من فتح أبوابه للنساء. في عام 1965، وفي مرحلة قصيرة من الديمقراطية، أصبحت فاطمة أول نائبة في البرلمان السوداني وتمكنت من إرساء بعض مطالبها في الدستور: على الأقل على الورق، لقد حصلت المرأة السودانية على الحق في أجر متساوٍ للعمل المتساوي، عشرين عاما قبل المرأة الألمانية الغربية والسويسرية. وفي نفس العام، أثار تعيين أول قاضية سودانية ضجة كبيرة في العالم الإسلامي.

في غرفة جلوس الدكتورة إحسان فقيري، تتحد الحداثة مع نضالات الحاضر. تم سجن أستاذة الطب البالغة من العمر 65 عامًا عدة مرات، ليس لأنها شيوعية معروفة، ولكن كناشطة في مجال حقوق المرأة. تروي إحسان بإلحاح كيف جعلت الرائدات مسيرتها المهنية ممكنة في المقام الأول. اتصلت والدة فقيري، التي كانت متزوجة وهي في الحادية عشرة من عمرها، بالاتحاد النسائي لأن مبعوثاته ذهبن إلى منازل غير المتعلمات لتوعيتهن حول النظافة. وهكذا وصلت الابنة إلى إحدى مدارس البنات التي بناها الاتحاد.

التحرر من الأمية والتخلف والفقر
تأتي فقيري بملاءَة كبيرة من الغرفة المجاورة وتبين لي كيف تغيرت العادات في ذلك الوقت: تقول فقيري بأن والدتها كانت محجبة حتى عينيها، بينما وضعت هي الملاءَة قليلا فوق ركبتيها، وقالت: هكذا كان طول فستانها. "وهكذا ذهبت في الستينيات "! في منحة دراسية من الدولة، ودرست الطب في براغ. فقط هناك، في محاضرات علم التشريح وأمام نموذج للأعضاء التناسلية للمرأة، حينها أدركت تشويهها. كان هذا هو الجانب السلبي لمجتمع، حيث توجد على سطحه عقود من التيارات التقدمية. شاركت فقيري في وقت لاحق في حملات ضد ختان النساء (الطهارة الفرعونية)، والذي لا يزال منتشراً الى اليوم. "لقد تحدثنا فقط عن الصحة، وليس عن المتعة عند النساء. مجتمعنا محافظ جداً، وكنا نتقدم دائما الى الأمام، ولكن، ببطي وحرص ".

أسألها، والشابات النسويات ماذا يفعلن اليوم مقارنة بالماضي؟ تقول "نحن طالبنا بالعمل والتعليم، وهن يطالبن بالحريات الشخصية وحرية نمط الحياة. ولكن هذا بالنسبة لي، وحده ليس كافيا، أريد أن أحرر المجتمع ككل". وتضيف برفق: "ليست القضية أن تتمكن المرأة من شرب الكحول، مثلا، ولكن في دارفور، هناك آلاف الأطفال الذين تم انجابهم عن طريق الاغتصاب وأمهاتهم أميات. السؤال كيف يتم تمكينهن؟"

التحرر لمن ولأي هدف؟
بدأ الجدل بالفعل في القرن العشرين، في زمن الرائدات. سألتْ فاطمة إبراهيم في حينها "أية أولوية يمكن أن تتمتع بها المرأة بحريتها الجنسية، في الوقت الذي يموت طفلها جوعاً بين ذراعيها؟" التحرر لا يعني تقليد الأنماط الغربية، ولكن التحرر من الأمية والتخلف والفقر. وكتبتْ: "لقد أكدنا بأن النسوية أصيلة في ثقافتنا وأنه يمكن تحقيق المساواة الكاملة على أساس مبادئنا الدينية والثقافية". بعد ذلك بثلاثة عقود، تكرر الدكتورة فقيري: "لا يمكننا نسخ تجارب النساء الغربيات"، وهي تعني، المنظمات الموجودة في الخرطوم التي لديها ترسانة مما يسمى ببرامج بناء القدرات. طالما لم يكن لديها أهداف سياسية، فقد تم التسامح معها في ظل البشير. تقول فقيري، نساء الطبقة المتوسطة والعليا، أي الأشخاص المتميزين استفادوا من دورات القيادة. حتى بعد الإطاحة بالنظام، من المؤكد أن ميزانية المانحين الأجانب لها تأثير، وهذا التأثير يحرص عليه المانحون بشدة.

كما هو الحال في منتصف القرن العشرين، غالبًا ما تأتي المتحدثات المعروفات بالدفاع عن حقوق المرأة من عائلات النخبة السودانية، وبعضهن لديهن تقاليد معادية للاستعمار. شجع البريطانيون تعليم الأولاد فقط، ليخلفوا الموظفين الاستعماريين من الدرجات الدنيا. وتاريخياً، بدأت الحركة النسوية ومسألة الطبقة في التشابك في ذلك الحين. عندما غادرت الأكاديميات الأوائل الجامعة في عام 1956، كانت 96 في المائة من النساء السودانيات ما زلن أميات. ويستمر عدم التوازن حتى يومنا هذا. كانت الثورة مرحلة وحدت الجميع للحظة، عبرت الحدود الاجتماعية والعرقية. ولكن كيف يمكن للنضالات أن تجد اتجاهها في المستقبل إذا لم يكن تحرر النساء محاطاً برؤية عامة للتقدم الاجتماعي، كما كان الحال منذ أكثر من نصف قرن؟

تتكدس في ممر المنظمة السودانية للبحوث والتنمية (سورد)، الحقائب والخيوط والصناديق الكرتونية. سبعة عشر فريقاً جاهزاً للمغادرة إلى 17 ولاية خارج المركز الرئيسي؛ للعثور على نساء قادرات وراغبات على المشاركة في المجلس التشريعي. ستقرر الهيئة المكونة من 300 عضو، شكل سودان ما بعد الثورة، وتم ضمان تمثيل المرأة بنسبة 40 في المائة من المقاعد. "ولكن علينا أن نناضل من أجل الالتزام بذلك. لهذا السبب نحن نريد أن نقدم أكبر عدد ممكن من النساء القادرات"، تقول عائشة الكارب، مؤسسة سورد (SORD)، وهي خبيرة في الاقتصاد الزراعي وحاصلة على دكتوراه من بريطانيا، وتعتبر شخصية مهيبة وصوتها مسموع منذ سنوات، وتقول: "نحن نلاحظ أن تأثير النساء يتقلص مرة أخرى". في مجلس وزراء الحكومة الانتقالية، لدى النساء فقط 4 من أصل 21 منصباً، وبالكاد يتم التعامل مع الإصلاحات القانونية المستحقة، مثل رفع الحد الأدنى لسن زواج الفتيات إلى 18 عاماً.

لقد أخبرتها عن زيارتي لعائلة في اليوم السابق: في الأمام الغرفة للضيوف الذكور، والنساء في الخلف في الفناء والمطبخ، ويقمن بالطهي والغسيل. ولأنه كان هناك رجال يزورونهن، ولم يكونوا على صلة قرابة بهن، لم تدخل أي من النساء الغرفة الأمامية، حيث يجلس الرجال بارتياح أمام التلفاز وفي انتظار ايصال أطباق العشاء لهم. جميع من في المنزل دعم الثورة، ولكن يبدو لم يكن لها تأثير كبير على نظام الحياة اليومي.

تعلق الكارب قائلةً: "يريد الرجال الاحتفاظ بمكانتهم المرموقة، ويجب أن يكون الطعام على الطاولة في الوقت المحدد. عندما يكون لدينا ما يكفي من النساء المؤهلات والفاعلات في الشؤون العامة، فيجب أن يتغير تقسيم العمل هذا؛ يجب على الرجال القيام بمهام في المنزل. "هذا الموضوع حساس، والعديد من النساء يخجلن فقط من التحدث حوله. “نحن محاصرون بفخ العادات. الرجال المتعلمون لديهم أيضًا صورة محافظة عن النساء، وإذا قاموا بالأعمال المنزلية، فإنهم يخفونها بمجرد وصول الضيوف".

كما لم يُقضَ على مبدأ الوصاية بعد الثورة: فالأب والزوج لاحقاً يعتبران الأوصياء على المرأة؛ إذا كانت ترغب في العمل أو السفر إلى الخارج، فهي تحتاج إلى موافقة. في مشروع قانون الأسرة الجديد، تقترح منظمة سورد الحل التالي: إذا كانت الزوجة محرومة من العمل أو الدراسة أو حرية الحركة، فيجب أن يكون هذا سببا للطلاق. لا تريد المنظمة حظر تعدد الزوجات، لكنها تجعل الأمر صعبًا قدر الإمكان، من خلال مجموعة من القيود. "التغيير يحتاج إلى وقت".

تُفضل حقوق المرأة بدلاً من الذهب
ومع ذلك، هناك محيط، ركن تم الاهتمام به منذ وقت طويل بشأن المساواة الأسرية، على أساس الفهم الجديد للإسلام. يعود ذلك إلى محمود محمد طه**، عالم سوداني وزعيم روحي، أُعدم علنًا في عام 1985 بزعم الردة عن الاِسلام. بحسب طه، فإن القرآن يحتوي على مستويين لرسالته، مستوى رسالة أخلاقية لجميع الناس وهي تناسب الوقت الحاضر. ويمكن العثور عليها في آيات الأصول وهي الآيات المكية/ القرآن المكي، حيث يتم تأكيد المساواة بين الجنسين، وهي الرسالة الثانية من الاِسلام. ومستوى يقوم على آيات الفروع وهي الآيات المدنية/ القرآن المدني، وهي الرسالة الأولى وقد كانت تتناسب مع القرن السابع وكانت ملزمة لمعاصري النبي في ذلك الوقت، أي ما يفعلونه وما لا يفعلونه، والذي أعلنه محمد يومها بصفته رجل دولة في المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، والذي يبدو اليوم قديمًا جزئيًا.

إن علم طه يجعل من السهل على النساء المسلمات الدفاع عن الحقوق المتساوية. جدران منزله السابق مزينة بعبارات مقتبسة، وجمل جميلة مثل "كل رجل وامرأة هدف في حد ذاته". قامت أسماء، ابنة طه، بتحويل منزل الطين المتواضع إلى مركز ثقافي، وحافظت على غرفة الأب كما هي بالأصل، سرير ضيق بجانبه طاولة خشبية صغيرة مطلية باللون الأزرق، دوّن عليها كتبه، وقد كان في بعض الأحيان يمشي ذهاباً وأيابا يملي على الابنة.

عندما تتحدث أسماء، تضع شخصيتها الذاتية خلف الأب تماماً، في حين ان المحامية هي الممثل الأكثر شهرة لـ "الأخوات الجمهوريات"، والاسم يعود أصلاً الى الحزب الجمهوري الذي أسسه طه عام 1945، لنشر رؤيته للسودان الديمقراطي الاشتراكي الفدرالي. في وقت لاحق أصبح الحزب اتحادًا روحيًا. تعرضت الأخوات للاضطهاد الشديد. وتعرضت أسماء للنفي القسري لسنوات.

كان الاغتصاب سلاحا يستخدم بشكل منهجي
اليوم، كما في الصور القديمة التي تُظهر أسماء مع والدها، ترتدي التوب الأبيض من الفترة التحررية المبكرة بدون مجوهرات ذهبية، كما هو معتاد مع الأخوات، لأنهن يرفضن أيضًا مهر العروس - بدلاً عن الذهب، يفضلن الحقوق للنساء. "نحن دائرة صغيرة من المجتمع ونمارس ما نفكر فيه. إن عقود زواجنا تمنح المرأة نفس الحق في الطلاق، لقد تخلصنا من تعدد الزوجات، ويشترك زوجي في الأعمال المنزلية معي".

منذ الثورة، أصبح بإمكانها أن تمارس نشاطها علنا بفكر الأب؛ بسبب حظر كتب طه، اعتقد الكثير من السودانيين بأنه مرتد. وتعقد الآن المحاضرات في المركز الثقافي. وتأمل أسماء أن يجد الشباب، مثل طه، طرقاً جديدة تتصالح فيها الحرية والديمقراطية والدين. ربما تكون مخطئة، وقد مر الوقت على الأب المبجل. ولكن ما يبقى بالنسبة لها هو المبدأ الذي تركه الأب وأن ما أعدم طه من أجله يجب أن يصبح قانونا: الحقوق المتساوية، بما في ذلك المساواة في الميراث. "على السودانيين أن يفهموا كيف ترتبط الحقوق في المجتمع والأسرة مع بعضهم البعض. علينا أن نغير المناهج في المدارس، والجو الفكري الكامل للتعليم الإسلامي. علينا ان نعمل بجد لنصبح ديمقراطيين داخليا".

كان الاغتصاب سلاحًا منظماً يستخدم لمحاربة الثورة. قيل للجنود وضباط الميليشيات، اكسروا الشابات، فتنكسر الحركة. لم تنكسر الحركة، لكن انتصار الثورة لم يخفف عار الضحايا بعد. ربما كان هناك المئات ممن تعرضن للاغتصاب في مراكز الاحتجاز والمركبات؛ حتى أن أحد المصادر يتحدث عن أكثر من ألف ضحية. تحدثت بضع نساء فقط إلى لجنة تحقيق تابعة للحكومة الانتقالية؛ لكن بما أن الجيش متورط، إلى جانب الجناة، فإن الضحايا لا يثقن في الإجراءات. الكتمان هو ضرورة قصوى. فقد انتحرت امرأة شابة تعتني بها منظمة إغاثة بعد أن أصبح اسمها علنياً. التقيتُ بتهاني عباس، امرأة نحيلة، متحفظة، لها عزيمة هادئة. قامت الصحافية في ظل النظام القديم، برعاية النساء في السجن، وهي الآن تساعد المغتصبات وتعتبر واحدة من القلائل اللواتي يوثق بهن. تقول إن بعض العائلات تتفهم وتحمي بناتها، ولكن في كثير من الأحيان يتم اتهام الفتيات بالمسؤولية عما حدث لهن. حتى أنها تسمع من بعض الآباء: لو قتلت ابنتنا، لكان لدينا شهيدة تتشرف بها العائلة وليس هذا العار".

يضعون سمعة العائلة قبل كل شيء، وفوق حب طفلتهم، يميل الآباء الى هذا السلوك، ولكنها اختبرت أيضًا أمهات قاسيات. يتم طرد بعض الفتيات من المنزل ويرفضن، وتبحث تهاني لهن عن سكن بأماكن سرية آمنة. إذا وجدت مثل هذا السكن، فلن تثق إلا بأقل عدد ممكن. تنتشر للجيران رواية (اسطورة)، أن الفتيات فقدن أماكن سكنهن في داخلية الطلاب. هناك مسيحية، بين ممن ترعاهن تهاني، لعنها عمها الكاهن علنا. وجدت تهاني أبنة عائلة مربوطة في السرير. لم تعد تأكل. رفضت الأسرة بشكل صارم عرض تهاني للوساطة. بعد بضعة أيام، حاولت الفتاة في غفلة من الحراسة، الانتحار. عندها فقط طلبت الأسرة النصيحة.

هل يستطيع المرء أن يتخيل وجود دراسات جندر في مثل هذا المجتمع؟ في السودان، يقف الظلام أحيانًا بشكل وحشي بجانب النور.

أنني لا أعتبر نفسي ضحية
عندما التحقت الطالبات الأوائل، قبل سنوات في قسم دراسات الجندر، قصّ بعضهن شعرهن وبدأن بالتدخين، والذي ظهر وكأن هذا ينتمي الى النسوية. تخبرني نهلة حسين مدني بهذه القصة مع ابتسامة خفيفة، فهي بعيدة عن مثل هذه المُغالاة في التصرف.

أكملت الفتاة البالغة من العمر 32 عامًا درجة الماجستير في "الجنُوسة (الجندر ــ Gender) والسيطرة " في جامعة الأحفاد للبنات مع التركيز على محاربة الفقر؛ وهذا يحمل اشارة الى خلفيتها الشخصية. غادر الوالدان لأسباب اقتصادية ولاية شمال كردفان التي ابتليت بالجفاف. جاءت نهلة من القرية إلى منطقة الخرطوم وهي في الخامسة من عمرها. ولأن بشرتها قاتمة، تم ضمها الى الصف الخلفي في المدرسة مع أطفال من جنوب السودان. "لقد حصلت على شعور ما هي العنصرية، بوقت طويل، قبل أن اعرف الكلمة)".

في المنزل ستة أشقاء أصغر سناً وأم، كسب القوت من بيع (مبيعات) الشاي والطهي للأثرياء. المساهمة في النفقات أمر طبيعي بالنسبة لنهلة، وعندما توفيت الأم مبكراً، قامت بتحمل المسؤولية. تتذكر نهلة وتقول "أمي هي التي سمعت مني كلمة حقوق المرأة لأول مرة". الأب الذي يعمل في مطعم لا يظهر في قصتها. لم تستشره أبدًا ("سيكون عديم الجدوى، إنه عالق في التفكير القديم") وتفضل أن تضعه أمام الأمر الواقع. تخبره عن رحلة إلى الهند، ماسكة بالحقيبة المعبأة في يدها، حيث تحتاج كشخص غير متزوج بالفعل إلى موافقته - مبدأ الوصاية -. "لقد تجاوزته."

المصطلح يبقى عصياً: التجاوز
تذكر نهلة أعضائها التناسلية المشوهة، بشكل عرضي، وتضيف على الفور: "أنني لا أعتبر نفسي ضحية". تتلقى جامعة الأحفاد أموال المانحين لدعم المهمشين، وتعتبر "كوسيط للتغيير" من خلفية علاقات محافظة، وتستشهد نهلة بهذه المفردة بتهكم. تنتمي الجامعة إلى عائلة نخبوية، وهنا أيضًا خلفية طبقية، ولكنها تنتج شابات واثقات. "لقد تعلمت أن أحترم نفسي وأتحدث ورأسي مرفوعًا". وما يدرج تحت وسيط للتغيير، سيكون هذا الشي شأنها الخاص.

سألتها، ما هي الحركة النسوية؟
تطلق بعض النساء على أنفسهن نسويات لأنهن أنهين دراسات الجندر، أو لأنهن يأملن في الحصول على وظيفة في منظمة غربية. بالنسبة لها، النسوية تعني الفعل. "كنت أول من دخل من عائلتي الجامعة. والبعض الآخر تحت الضغط. من المهم جدا للمرأة، أن يكون لها إرادة قوية. وإلا ستصبح ضحية ". ربما كانت الإرادة المطلقة بعدم أن تكون ضحية قد شكلت قامتها الشامخة وأيديها التي تكون باردة قليلاً دائمًا، والحزن الطفيف على سحنتها، هي الميزات التي تبقى أيضا عندما تبتسم.

أدرنا أحاديثنا على بنابر نساء الشاي، وحولنا الشباب المتناظرين، الذين لا يستطيعون تحمل أكثر من نفقات كباية شاي. تلخص نهلة، بين ما كان قبل الثورة وما يحدث الآن - وما يمكن أن يحدث: "كانت تجربة الثورة: إن النساء يستطعن فعل كل شيء، وتختتم: "الحواجز نفسية، ولكن يمكن التغلب عليها".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صدر لها حديثا: * Charlotte Wiedemann, Der lange Abschied von der weißen Dominanz, dtv, München 2019. شارلوتَ فيدمان، الوداع المديد لهيمنة البيض، ميونيخ 2019

Sudanese Organization for Research and Development (SORD)

حاشية: ** في فقرة الأستاذ محمود محمد طه، تم تعديل طفيف لتوضيح الرسالتين ــــ مثل الإشارة الى الآيات المكية والآيات المدنية- فقط من أجل الدقة ولا يؤثر اطلاقا على نص الكاتبة (المترجم).

LE MONDE diplomatique / April 2020