إن مصطلح مابعد الكورونيالية Post-Coronalism ليس مصطلحًا غربيا، بل هو من نحت وابتكار الباحث شاكر عبد الحميد. وهنا يوضح فيه هذا المصطلح من خلال حوارات المفكرين الكبار الذين اهتموا برصد الظواهر اللاحقة والمتوقعة عقب اجتياح فيروس كورونا، ومنهم إدجار موران، وسالفوي جيجيك، وألان تورين، وجوزيف ناي وغيرهم.

ما بعد الكورونيالية

أو ذلك العدم الذي يقف على الأبواب

‬شاكر عبد الحميد

 

«الشبح الذي يركض في الخارج/ يرد البشرية إلى طفولتها/ ويعيد الطبيعة إلى سيرتها الأولى» (الشاعر: إبراهيم عبد الفتاح)

تقديم
يعيش العالم الآن في ظل وباء أشبه بالكابوس المستمر المخيف، ربما لم يكن هو أكثر الأوبئة التي مرت على البشر قسوة ومرارة لكنه بالتأكيد أكثرها غموضًا، إنه وباء قد اجتاح العالم كطوفان كوني ولم تزل الدنيا تترنح تحت ضرباته وتئن، وقد يستمر هذا الأنين لوقت طويل. إن قراءة متعمقة في تاريخ الأوبئة والطواعين سوف تفضي بنا إلى معرفة خصائص الأوبئة السابقة التي مرت على البشر خصائص، والتي تنطبق أيضًا على هذا الوباء الأخير المسمى بالكورونا. فقد كانت تلك الأوبئة أيضًا في أغلب الأحوال ذات طبيعة عالمية، أي أنها معولمة الطابع، وكذلك قيل إن مصدر الكثير منها هو الشرق، وقد تكرر ذكر الصين فيما يتعلق بأكثر من وباء، كما ورد ذكر مصر أيضًا فيما يخص طاعون جستنيان الذي أصاب الإمبراطورية البيزنطية الشرقية ما بين عامي 541-542 ميلادية، ويقال كذلك إن مصدر الكثير من الأوبئة هو الحيوانات والطيور والحشرات والفئران والبراغيث في الماضي، والخنازير والخفافيش في الحاضر، كما أن هذه الأوبئة هي في الغالب ذات طابع «كُموني» أي أنها تظهر ثم تكمن ثم تعود، إنها تعود وتتجلى على أنحاء شتى، لكنها أبدًا لا تختفي، إنها تعيش معنا، أحيانا في الظل وأحيانا في النور، لكنها في الغالب ظلية الطابع تنعم بالتخفي والغموض والسرية، كذلك كان يسبق الأوبئة أو يعقبها تدفق في الفكر والحياة، فقد كان وباء جستنيان تمهيدًا لقدوم العصور المظلمة بينما كان وباء الموت الأسود (1347-1352) تمهيدًا لظهور عصر النهضة وكان وباء الانفلونزا الإسبانية عام 1918 مقدمة لنهضة فنية وأدبية وعلمية هائلة لاحقة جاءت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى.

ووهان هي عاصمة مقاطعة هوبي في وسط الصين ناحية الشرق وهي سابع أكثر المدن الصينية اكتظاظًا بالسكان إذ يبلغ عدد سكانها حوالي 11 مليون نسمة، وهي تقع على نهر تشانج جيانج عند التقائه بنهر «هان»، وهي المركز السياسي والاقتصادي والمالي والتجاري والتعليمي لوسط الصين، حيث تمر بها عشرات السكك الحديدية والطرق السريعة ويوجد بها أكثر من 350 مركزًا للأبحاث و1656 مؤسسة للتكنولوجيا الفائقة، واستثمارات لكثير من الشركات العالمية، وقد اختارتها منظمة اليونيسكو عام 2017 كمدينة عالمية في مجال فنون التصميم واحتلت جامعة ووهان كذلك المرتبة الثالثة على مستوى الصين، كما توصف المدينة أحيانًا بأنها «بيت العالم» وبها أكبر مطارات الصين؛ وفي ووهان، تقوم مجموعة شركات «واندا جروب» Wanda Group (والتي يعني اسمها في اللغة الصينية: كل شيء قابل للإنجاز) التي تعمل في مجالات الانترنت والفنون والسينما والعقارات وغيرها بالتمويل لمشروعات كثيرة تتعلق بالصناعات الثقافية والإبداعية الخاصة بالسينما والمسرح والموسيقى وتضخ فيها مليارات الدولارات، وهناك كذلك استثمارات لأكثر من 230 شركة صينية وعالمية في ووهان، وقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي لهذه المدينة 224 مليار دولار.

في أواخر ديسمبر 2019 نشر الطبيب لي وينليانج، والذي توفي بسبب هذا الفيروس، رسالة على مواقع التواصل الاجتماعي مُحذِّرًا من ذلك السارس الموجود في سوق المأكولات البحرية في ووهان، وقد تم تحذيره وعوقب لاحقًا، حيث أدان بيان صادر عن شرطة ووهان في الأول من يناير ذلك الطبيب وتم تحذيره بشدة من كتابة ما يكتبه، ثم مات ذلك الطبيب وتم تكريمه بعد ذلك .. القصة المعروفة الآن.

وفي أواخر يناير 2020 أغلقت المدينة وعزلت نتيجة لتفشي فيروس كورونا المستجد فيها، وبعد أن غادرها ما يتراوح بين خمسة وسبعة ملايين شخص قبل إغلاقها وفرض الحجر الصحي عليها، قيل إنهم قد نشروا هذا الوباء في العالم.

بعد شهرين تقريبًا من ذلك الإغلاق وفي الثامن والعشرين من مارس أعادت ووهان تشغيل بعض خدمات المترو وأعادت فتح الحدود وبدأ جمع شمل العائلات وظهرت أولى بوادر عودة الحياة الطبيعية إلى مجاريها وسمحت السلطات الصينية بدخول القطارات إليها وعودة العالقين خارجها إلى أهلهم وأعمالهم، لكن تلك الشرارة الفيروسية التي انطلقت من ووهان كانت قد اجتاحت العالم بسرعة البرق فأصابت أكثر من 200 دولة وتوالت موجات الإصابات التي لحقت بحوالي مليونين من البشر والوفيات التي تجاوزت المائة ألف مع حدوث نسب تعافي أيضًا قاربت الثلاثمائة ألفا أو يزيد حتى العاشر من أبريل الحالي.

وتدريجيا بدأت عودة الناس إلى أعمالهم مع فرض رقابة صحية وأمنية صارمة على تحركاتهم وسلوكياتهم وارتدائهم للأقنعة والقُفَّازات مع مراقبة للشوارع وغيرها عن طريق الدرونات أو الطائرات التي بلا طيار، أما العالم كله فلم يزل حتى هذه اللحظة واقعًا تحت تأثير تلك الصدمة وذلك الرعب، غير قادر على الاحتفال أو الغناء. وفي ظل هذا الفزع العالمي وهذا الخوف المهيمن وهذا الانهمار الكوني الذي لا يتوقف عبر وسائل الإعلام للمعلومات والمشاهد الخاصة بالإصابات والوفيات وأعداد المتعافين وسلوك البشر والشوارع الخالية والغلق لمعظم أماكن العمل والترفيه والحياة؛ كان لا بد من التفكير في بعض الأطر النظرية التي تحاول أن تفسر ما يحدث في عالمنا الآن، أو على الأقل تحاول أن تفهمه، وهذه محاولة أولى على هذا الطريق.

مصطلح «ما بعد الكورونيالية»
كنت قد طرحتُ مصطلح ما بعد الكورونيالية Post-Coronialism بهذه الصيغة على نحو متهكم على صفحتي على موقع الفيس بوك مصحوبًا بدعوة إلى قيام الأدباء والنقاد وعلماء العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى الاهتمام بتصوير ودراسة ما أصبح عليه حال البشر بعد انطلاق هذه الجائحة، ولكن هذا المصطلح ما لبث أن تطور واكتسب جدية خاصة، بفعل ما جرى من مناقشات جادة أو متهكمة حوله بيني وبين الأصدقاء، بل إنه قد جرت الإشارة إليه أيضًا في بعض المقالات الحديثة على بعض المواقع، ومن ذلك تمثيلاً إشارة الكاتب المبدع والمفكر السياسي والاجتماعي المرموق الدكتور عمار علي حسن إليه في مقال له بعنوان «العالم بعد كورونا» (نشر في جريدة الاتحاد الإماراتية في التاسع من أبريل الجاري)، كما أن الدكتور عمار أيضًا هو تحديدًا من شجعني من قبل على كتابة هذا المقال.

وفيما يلي بعض الخصائص المميزة التي أراها مُحدِّدة لهذا المصطلح:
أولا: لا يتعلق هذا المصطلح بما سيحدث بعد أن ينتهي هذا الوباء الذي نعيش في ظلاله القاتمة المخيفة الآن، بل يتعلق بكل ما حدث وسيحدث في العالم بعد أن ظهر هذا الوباء وبعد أن سمعنا الأخبار الأولى عن وجوده في مدينة ووهان الصينية ثم انتشاره وتأثيراته على حياة الناس كافة، في مجالات العمل والأسواق والسياحة والصحة والتعليم والثقافة والترفيه والسفر والمشروعات الاقتصادية والعبادة وغير ذلك من المجالات، وهي تأثيرات سوف تستمر وتنعكس في حياة البشر الاقتصادية والسياسية والتعليمية والاجتماعية والثقافية والفنية والدينية والصحية والإبداعية على أنحاء شتى لا نعرف الكثير منها الآن.

ثانيًا: يمكن النظر إلى هذا المصطلح المقترح على أنه مصطلح بينيّ Interdisciplinary، أي يوجد في منطقة مشتركة تقع بين علوم عدة كالبيولوجيا، وعلم النفس، والاقتصاد، والفلسفة، والدراسات الثقافية، والنقد الأدبي وغيرها؛ فهو يستفيد منها وقد يفيدها أيضًا، وهو أيضًا مصطلح يخضع للمراجعة والتعديل في ضوء ما قد يدور حوله من نقاش، كما يستفيد هذا المصطلح من تلك الاتجاهات الموجودة في النقد الأدبي والثقافي والمتعلقة بما يسمى بنظريات التلقي واستجابة القارئ لدى هولب وأيزر وفيش وغيرهم، وكذلك من دراسات تحليل الخطاب عند فوكو وغيره من المفكرين، كما ينتمي هذا المصطلح -في ظني- إلى عائلة المصطلحات الأخرى القريبة منه والتي ورد ذكرها في التراث الفكري الإنساني عبر السنوات والقرون الماضية ولعل من بين هذه المصطلحات، تمثيلا لا حصرًا، مصطلحات: الجليل Sublime ، والغرابة The Uncanny، وما بعد الحداثة Post Modernism، والتفكيكيةDeconstructionism ، والحداثة السائلة Liquid Modernism، وما بعد الحقبة الاستعمارية Post-Colonialism، وغيرها، وبالطبع سيصعب أن نحيط بكل تلك العلاقات الموجودة بين هذه المصطلحات.

ثالثًا: يتعلق هذا المصطلح بتلك التأثيرات التي أحدثها ظهور هذا الفيروس، وما أعقب ظهوره، بداية من شهر يناير 2020 على جوانب الحياة الإنسانية كافة، وهي التأثيرات أو الآثار التي لم تزل تحدث وسوف تظل تحدث ربما على نحو غير مسبوق في تاريخ البشرية، كما يحاول أيضًا أن يصف تلك التأثيرات ويفسرها. باختصار يمثل هذا المصطلح إطارًا تفسيريًا لدراسة وفهم هذه التأثيرات الغريبة The Uncanny Effects لهذا الفيروس على حياة البشر. مع ضرورة أن نشير هنا إلى أن فكرة «دراسة الأثر» التي نتبناها هنا، فكرة تتجاوز مجرد الدراسة لعمليات التلقي البسيطة أو المركبة للعمل الأدبي أو الفني أو الثقافي؛ كما تفعل نظريات التلقي واستجابة القارئ أحيانا إلى دراسة الاستجابات الكلية الفردية والاجتماعية الموجودة في المجالات النفسية والاجتماعية والطبية والدينية والجمالية والابداعية والسياسية.. إلخ، وردًا على ما يحدثه هذا الوباء من تأثيرات.

رابعًا: يصف مصطلح ما بعد الكورونيالية كل ما هو لا مرئي غامض مخيف فيروسي الطابع في العلاقات الاجتماعية والممارسات السياسية والاقتصادية والسياسية، إنه لا مرئي ومخيف وغير متوقع أيضًا، له طابع سري خفي غامض ملغز متسلل منسل، يوجد بداخلنا دون أن نعرف، يعيش معنا ويقتات على مصادر حياتنا ومصائرنا، لا يتعلق أمره هنا فقط بالجهاز التنفسي أو بكرات الدم الحمراء ومادة الهيموجلوبين التي يهاجمها الكورونا الأصلي، النموذج الأصلي، النمط الأول في الحالة الكورونيالية المرضية، بل يمتد ليشمل جوانب الحياة كافة، أي أنه يتعلق بالفكرة الكلية الخاصة بالكورونا كفكرة جحيمية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقدرة التدميرية للغامض الخفي المخيف غير المرئي.

خامسًا: يبدو لنا أن هذا المصطلح شديد القرب من مصطلح «الغرابة» لدى فرويد، لكن الغرابة لديه ولدى الكثير من أتباعه محض غرابة بصرية، أما الغرابة ما بعد الكورونيالية فهي تختلف عن ذلك؛ إنها غرابة اللامرئي، إنها ليست غرابة تتعلق بتلك التيمات الخاصة بمصاصي الدماء، والأشباح والقرين والموتى الأحياء والقصور والأديرة القوطية أو غرابة تتعلق بالخداع البصري أو الهلاوس، كما كان الحال لدى فرويد، ولا هي غرابة الجثث التي تحدث الاضطراب لدى من يواجهها وبوصفها احتمالاً للضعف والهشاشة والخوف والجروح التي تنزف الدم والصديد ومشاعر النفور والتقزز ورائحة العرق النفَّاذة المُقزِّزة الناتجة عن التحلل وجوانب الغرابة المادية المتجسدة في الموتى، كما كان الحال لدى جوليا كريستيفا، إنها غرابة الموت وغرابة سلوك الناس إزاء الموت، وكذلك غرابة التناقضات الموجودة بين أقوالهم الدينية التي تتحدث عن تكريم الموتى (وقولهم المأثور: أن إكرام الميت دفنه) وذكر محاسن الموتى وبين رفضهم الاقتراب منهم أو حتى دفنهم على نحو يتفق مع التكريم لهم، كما حدث في الحادي عشر من أبريل الحالي (2020) في قرية شبرا البهو بمحافظة الدقهلية حين تجمهر الأهالي لمنع دفن جثة طبيبة، توفيت بمستشفى العزل في الإسماعيلية بعد إصابتها بفيروس كورونا، خوفًا من العدوى على الرغم مما قاله الأطباء من أن جثث الموتى لا تكون مُعدِية هكذا كما يظنون وإن العدوى تنتقل فقط من الرذاذ المتناثر من فم وأنف الأحياء فقط.

هنا غرابة ترتبط بالموت والحياة، ليس بالمعنى البيولوجي فقط، بل بكافة جوانب حياتنا اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية أيضًا، تلك التي تتحول من خلالها عاداتنا وعلاقاتنا المألوفة إلى عادات وعلاقات غير مألوفة، هنا يسري شيء غامض، سري لا مرئي، سيال ومخيف كي يسكن كلاً منا: في البيت والعائلة، الصداقة والحب، العمل ومراكز التسوق، مطاعم الوجبات السريعة ووسائل النقل العامة، المستشفيات والبنوك وغير ذلك من العلاقات والأماكن التي كانت مألوفة، هكذا تصبح فجأة وعلى غير انتظار غير مألوفة ومُحاطة بالخوف ومحفوفة بالموت ونذره في ظل هذا الدخيل الجديد(كائن أو تكوين غير مرئي) لا تدركه العين ولا ترصده كاميرات التصوير، ولا يتجسد من خلال الشاشات.

الغرابة ما بعد الكورونيالية
تتمثل الغرابة كما وصفها الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر في أن «يُترَك الإنسان العاجز، هكذا غريبًا في الفراغ والعدم»، وهي لديه أيضًا «ذلك الطابع الجوهري لوجودنا في العالم، وذلك لأننا لسنا في بيتنا أو عالمنا، بل في حالة دائمة من القلق، كذلك تحدَّث نيتشه في كتابه «إرادة القوة» عن العدم الأوروبي فقال: «إن العدم يقف على الأبواب، ومن ثم كانت تلك الغرابة من كل نوع»، وترتبط الغرابة لدى فرويد بحضور الموت في الحياة والحياة في الموت، بأن يكون الموت المُهيمن من خلال تكراره على الحياة، بأن يكون الموت في المركز، وبعد أن كان في الهامش، وبأن يكون هكذا مُتكرِّرًا، دائم الحضور وإن بعد غياب، ففي غيابه حاضر وفي حضوره نتمنى أن يكون غائبًا.

إن الغرابة هكذا ليست شيئًا جديدًا، لكنها شيء مألوف، شيء يتعلق بحياتنا وموتنا، شيء مألوف راسخ في العقل منذ القدم، شيء حاولنا أن نبعده عن تفكيرنا منذ وقت طويل، بفعل التربية والحضارة والفن والإبداع والحب والعلاقات الإنسانية وعمليات الامتلاك والكسب وكل ما قد يشعرنا بأننا نقف على أرض ما ثابتة تؤكِّد لنا أننا لسنا موتى، أو أننا لسنا في طريقنا للموت، هكذا نحاول أن نُبعِد عن عقولنا هذه المشاعر المُخيفة، لكنها دائمًا ما تعود إلينا بعد كمون، تعود وتُكرِّر نفسها، لقد حاولنا أن نبعدها عن أذهاننا ومشاعرنا بأن وضعناها في شكل أعمال إبداعية نخدع أنفسنا ونقول عنها إنها خالدة، أو علاقات اجتماعية نخدع أنفسنا ونقول عنها أنها قوية وراسخة، أو ممتلكات ومكاسب نظن أنها باقية ستحمينا. لكن العدم يظل أيضًا موجودًا هناك، ليس على أبواب أوروبا فقط كما كان نيتشه يقول بل على أبواب العالم كله، بل على أبواب بيوتنا وغرف معيشتنا ونومنا أيضًا.

من المهم أن ننتبه هنا على نحو خاص إلى ذلك الجانب الخاص بالآلية والتكرار التي تحول المألوف والعادي إلى غير مألوف، الموت الذي كان أمرًا عاديًا يحدث من حين إلى حين في حياتنا، ونعتبره مرتبطًا بالمرض أو الحوادث أو الحروب أو نهاية العمر..إلخ، يصبح الآن لا قانون له، فالقانون السائد الآن هو الفقد والغياب والموت، الفقد لكل شيء بما في ذلك اليقين، وحيث اليقين الوحيد كما أشار فيلسوف الحداثة السائلة زيجمونت باومان هو اللايقين، هنا كائن صغير جدًا، غير مرئي، يُحوِّل كل ما هو مرئي إلى لامرئي، هنا لم نعد نعيش في «عصر الصورة» بل في «عصر ما وراء الصورة»، وما وراء الصورة عصر غامض ومُوحِش ومخيف، لقد اخترع الإنسان آلات وآليات التصوير الفوتوغرافي (1839) والسينمائي (1895) والتليفزيوني (1920) والحاسوبي (1936) والرقمي (تسعينات القرن العشرين) كي يجعل كل شيء أمامه وحوله مرئيًا مُجسَّدًا مُدرَكًا مُمتِعًا. فإذا بكائن لا هو بالحي أو الميت، كائن غير مُحدَّد، أو مُدرَك بالعين المُجرَّدة أو غير المُجرَّدة، يأتي ويقلب كل ما اكتسبه الإنسان عبر القرنين الماضيين رأسًا على عقب، ويلهو بكل تصوراته عن الحاضر والمستقبل.

هكذا صار يتحرك خفية بين الدول وعبر القارات، ليلاً ونهارًا، يصيب من لونه أبيض أو أسود أو غير ذلك من ألوان، من كان صغيرًا أو كبيرًا، من كان غنيًا أو فقيرًا، من كان متقدمًا أو لم يزل ينمو. لقد تجاوز في حركته وتأثيره كل الحدود والتوقعات، صار سيد العالم بلا منازع، وصارت سيدة العالم، الولايات المتحدة، جريحة مهزومة أمامه، ولم يعد للعالم الذي اعتقدنا أنه قوي اقتصاديًا وعسكريًا وعلميًا وصحيًا، وكان يتغنى دائمًا بإبداعه، سوى أن يلجأ إلى الأساليب والحيل القديمة التي لجأت إليها الحضارات السابقة حين داهمتها الأوبئة: الإغلاق والحظر، هكذا تم إغلاق المطارات والحدود، والمدارس والجامعات وأماكن العبادة والعمل والأسواق.. إلخ، وصار كل شيء تقريبًا افتراضيًا أو يتم عن بعد: التدريس، ومؤتمرات القمة الاقتصادية واجتماعات الحكومات، وشراء السلع وتشييع الجنازات ومراسم العزاء وانكشفت أنظمة ودول وحكومات وصار الإنفاق على العلم والتعليم والطب مطروحًا كبديل أفضل من الإنفاق على التسليح وصفقاته وعمولاته، وغير ذلك من أوجه الإنفاق، وقد تراجعت العولمة حتى صارت محصورة في بيت أو مستشفى.

وفي ظل العجز عن الوصول إلى لقاح أو مصل جديد، قال خبراء الطب والساسة إنه يمكن اللجوء إلى أدوية موجودة قديمة كانت تستخدم في علاج الملاريا أو الكوليرا، وتفاوتت مقترحات الناس ما بين مقترحات جادة تسعى جاهدة إلى الوصول إلى علاجات نافعة، واقتراحات مُضحِكة تدعو إلى الرثاء والسخرية كتلك التي قالت بقدرة الشاي على دفع الفيروس إلى أسفل ناحية المعدة فلا يدخل إلى القصبة الهوائية، وصار كل من هب ودب يفتي في الطب ويُقدِّم العلاج، وصارت الفتاوى الدينية لا تُقدِّم ولا تؤخر بل تدعو الناس إلى الصبر والصلاة، وهم ليسوا في حاجة بالفعل إلى من يدعونهم إلى ذلك في ظل هذا البلاء.

الأمر الغريب أيضًا أنه لا توجد حتى الآن حقيقة واحدة مُؤكَّدة حول هذا الوباء؛ من أين جاء؟ وما سبب ظهوره؟ وما خصائصه وأعراضه؟ وما سبل الوقاية منه؟ ومتى سيصل العالم إلى علاج مناسب له؟ لا أحد يعرف والكل يُدلِي بدلوه، والعالم في متاهة غير مسبوقة ولم يعد هناك من ملاذ للناس سوى الله وسوى بيوتهم.

إنه مجتمع المخاطر
نحن نعيش الآن في مجتمع أقرب ما يكون إلى ما سمَّاه عالم الاجتماع الإنجليزي أنتوني جيدنز مجتمع الخطر، ذلك المجتمع المشغول على نحو متزايد بالصحة والسلامة والأمن وما سيكون عليه مستقبله. وهو مجتمع قريب أيضًا ممَّا سمَّاه عالم الاجتماع الألماني أولريش بِك، مجتمع المخاطر وانعدام الأمن، وقد ظهر كتابه الأول بهذا العنوان عام 1986 والثاني بعنوان «مجتمع المخاطر العالمي» (ترجمة: علا عادل وهند إبراهيم وبسنت حسن، ونشر ضمن إصدارات المركز القومي للترجمة في مصر)، حيث أشار إلى أن المجتمعات كانت تواجه في الماضي تلك المخاطر الطبيعية فقط، أما الآن فهي تواجه مخاطر من صنع يد الإنسان إضافة إلى المخاطر الطبيعية وقد ذكر «بِك» خمسة من المبادئ الحاكمة لمجتمع المخاطر نعتقد أن أغلبها ينطبق على حالة عالمنا الآن، في ظل هذه الهيمنة الطاغية لوباء الكورونا القاتل المخيف، هذه المبادئ هي:

أولا: «مجتمع المخاطر العالمي»: أولا أن المخاطر الآن تحدث على نحو ينجم نتيجة عمليات الإشعاع غير المرئية، إنها مخاطر تروغ من عمليات الإدراك المباشر، لكنها قد يمكن رصدها ببعض الأجهزة العلمية المتقدمة.

أمَّا المبدأ الثاني للمخاطر لدى «بك» فهو يتعلق بالأثر الارتدادي، الذي يُشبِه حركة القوس المُرتدَّة بعد إطلاق السهم، الخاص بالمخاطر، فالمخاطر التي تنتجها سياسات اقتصادية أو علمية أو اجتماعية.. إلخ كي تستفيد منها في البداية، غالبًا ما ترتد إليها وتُلحِق الأضرار بها (الرأسمالية المتوحشة والسياسات النيوليبرالية وانهيار الأسواق والبورصات العالمية الآن) نتيجة للجشع غير المنضبط لأصحاب هذه السياسات، كذلك يشير هذا المبدأ إلى الطبيعة المعولمة للمخاطر المعاصرة، إلى اشتراك الجميع في الخوف وعدم الشعور بالأمن.

المبدأ الثالث: أن المخاطر المعاصرة مخاطر لا نهاية لها وتتطلب إجراءات مواجهة لا حصر لها، وإن إدارة الأزمات بحكمة أمر مهم في التعامل مع مثل هذه المخاطر والكوارث.

المبدأ الرابع: أن المخاطر طبقية الطابع، يتحكم في إدارتها فئة معينة هي من تمتلك المال والعلم، ولذلك فإن معرفة المخاطر معرفة قابلة للتسليع، إنها سلعة يمكن أن يحصل عليها من يمتلك ثمنها ويمثل خبراء المخاطر فئة متميزة هنا، إنهم يمثلون نوعًا من الاحتكار لسلعة قد تفوق في قيمتها النُّدرة الخاصة بالموارد الطبيعية.

المبدأ الخامس: أنه وعندما تسود المخاطر وتهيمن على المجال العام، يصبح الأمن العام مُقدَّمًا في أهميته على الأمن الخاص، ومن ثم يكون لسلطات الدولة الدور الغالب على غيره فتتراجع الحريات.

إن أفكار «بِك» عامة ذات طبيعة نيوليبرالية وضد ماركسية، كما أن مبادئه هذه قد انْتُقِدت كثيرًا من حيث كونها تتجاهل الواقع التاريخي للمجتمعات، فكل مبدأ منها يقوم بتمييز غير صادق (أو مُؤكَّد) بين الأنواع القديمة من المخاطر والجديدة منها، فالأوبئة القديمة وليست المعاصرة فقط ذات طبيعة مُعوْلَمة، وذلك لأن وباء الموت الأسود الذي حدث خلال القرن الرابع عشر وبعده، والذي أهلك معظم السكان في أوروبا، قد جاء من آسيا. كذلك لم يكن وباء بكتيريا الطاعون قابلاً للاكتشاف على نحو مباشر عندما ظهر في العصور القديمة والوسيطة، حتى عندما حدث ذلك لم يكن هناك إجماع عام أو نظرية حول السبب العلمي المُؤدِّي إلى المرض كما كان ذلك الطاعون ينشط على نحو مختلف، ووفقا للطبقات الاجتماعية، حيث كان الأكثر ثروة وقدرة على الحركة أكثر قدرة على الهروب منه مقارنة بالجماهير الفقيرة المُعدَمة.

خليك في البيت
صارت الشوارع خالية سوى من بعض رجال الأمن ودورياتهم المتحركة أو الثابتة، وأصبحت الكلاب تتجول حرة في الشوارع والميادين، وتزايد بحث الناس عن نوع من اليقين، وقد صار اليقين الوحيد المتاح أمامهم أن يبقوا في أماكنهم، أن ينعزلوا عن الآخرين، أن يغلقوا عليهم أبوابهم، هكذا تحولت البيوت إلى معازل صحية وأماكن حجر، هكذا حاولوا أن يجلبوا كل ما يستطيعون أن يجلبوه من خارج البيوت إلى داخلها، الأطعمة والمشروبات، والأدوية وشاشات التليفزيون، وكل ما قد يبقيهم على قيد الحياة. وصار معظم الناس يتابعون أخبار ذلك الكائن الخفي من خلال وسائل مرئية، التليفزيون والكومبيوتر والتليفونات المحمولة. صار داخل البيت أكثر ألفة وأكثر وحشة أيضًا، فأصبح بالنسبة لكثيرين منا أشبه بالسجن الاختياري والإجباري خلال الوقت نفسه، وصار التكرار الطقسي لكل شيء أشبه بموت آخر.. فصار الناس يخشون من التلامس الجسدي فيما بين بعضهم البعض، يتجنبون تبادل التحيات باليد أو قبلات الترحيب.

وصارت العناصر الأربعة «الماء والتراب والهواء والنار» الخاصة بأصل الحياة في الميثولوجيا والفلسفة اليونانية القديمة ولدى جاستون باشلار بعد ذلك، موجودة في حياتنا ومتجسدة من خلال تجليات واستعمالات شتى جديدة، حيث كانت الأرض في الميثولوجيات صورة للثبات والعدم، ومن باطنها ينبعث الماء والنبات والحياة، أما الهواء فكان يعطي إحساسًا بالانفتاح واللاتشكل، والريح مرتبطة به مندفعة لا تُرى إلا في حركة مثل رفرفة العلم واهتزاز أوراق الشجر، كذلك ارتبط الماء بالنظافة والنقاء، كما كان يتم تصوره أيضًا مُعتِما أو شفَّافا، مُرتبطًا بالوحدة والتجانس وذوبان الفروق بين العناصر والبشر وقد يرتبط بالموت والفرق والحالة السديمية التي سمَّاها انكسماندر «الأبيرون» أو الغموض اللانهائي الذي يُهدِّد النظام الخاص بالأرض. والنار قوة تضيء وتحرق، قوة تشع من خلال العناصر الأخرى وتجلب لها الحياة، وهي ترتبط بالحياة والموت مثل الماء والهواء والتراب، وفي أسطورة بروميثيوس سارق النار رمز الحياة والخلق والإبداع. فماذا حدث لهذه الصورة؟

لقد أصبح الماء وما يرتبط به من وسائل تنظيف كالصابون والكحوليات وغيرها جزءًا من الطقس اليومي الذي يكرره البعض عشرات المرات كل يوم خاصة إذا ما لامست أياديهم أي شيء أو أي شخص، وصار وسواس نظافة الأيدي ليس مرتبطًا بالوسواس الديني الخاص بالطهارة، في مقابل النجاسة، كما كان في الماضي، بل صار وسواسًا خاصا بالحاجة إلى البقاء على قيد الحياة؛ إضافة إلى لجوء الناس الآن إلى تناول المزيد من الماء والسوائل أملاً في طرد الفيروس أو دفعه «زقه» باللهجة المصرية كما قالت مذيعة مصرية معروفة ناحية المعدة من أجل أن تقوم إفرازاتها بالقضاء عليه! أمَّا الهواء فقد اكتسب أيضًا صورة سلبية، لقد صار وسيلة لنقل العدوى، هكذا وجدنا أنه لو عطس إنسان أو سعل، لابتعد الآخرون عنه وفرُّوا كما يفر السليم من الأجرب، هكذا أصبح الإنسان أكثر استعدادًا لقبول صوت الذئب إن عوى وأشد نفورًا من سماع بعض أصوات الآخرين. أو كما قال الأحيمر السعدي:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوي * * * وصوَّت إنسان فكدتُ أطيرُ

يـرى اللهُ إنـّي للأنيسِ لكارهٌ * * * وتبغضهم لي مقلةٌ وضميرُ

نرجو ألا يطول بقاؤنا في البيت ونرجو أن تصبح الحياة أفضل وأن تتراجع مشاعر الخوف وتتبدَّد ونتمنى ألا نصل إلى أيام قد ينطبق عليها وصف شاعرنا الكبير صلاح عبدالصبور في قصيدته «يوميات نبي مهزوم يحمل قلمًا» والتي قال فيها:

رعبٌ أكبرُ من هذا سوف يجئ!

لن ينجيَكُمْ أن تعتصموا منه بأعالي جبل الصمتْ أو ببطون الغاباتْ

لن ينجيَكُمْ أن تختبئوا في حجراتكمُ

أو تحتَ وسائدكمْ, أو في بالوعات الحمّاماتْ

ليتنا لا نقف عند مجرد تطهير أيدينا بالماء والصابون والكحول .. إلخ بينما ضمائرنا ميتة وقلوبنا مُتحجِّرة، فاقدة لمشاعر الرحمة والحب والتعاطف مع الآخرين.

لم يعد الآخر مصدر ألفة وبهجة، بل صار مصدر خوف وعدوى، وأوشك أن يتحول بالفعل الآن إلى جحيم من نوع خاص كما كان سارتر يقول. وتوالى ظهور أجهزة وقاية للأنف والفم والوجه عامة خلال الفترة الأخيرة بهدف حماية الإنسان من رذاذ هنا أو لعاب هناك.

وصارت النار تستخدم في حرق جثث الموتى ومتعلقاتهم في بعض الأماكن في العالم، والأرض أشبه بمقبرة ذات فم كبير مفتوح يوشك أن يبتلع الجميع، وأصبح لا بد من تعقيم كل شيء. كما تزايد حضور الكمامات «نسبة إلى التكميم» أو الأقنعة وقفازات الأيدي خلال حركات الناس أو تفاعلاتهم، وصار الإنسان أشبه بكائن فضائي أو أشبه بذلك الفارس القديم الذي كان يرتدي الخوذة والدرع كي يواجه عدوًا منظورًا يدركه ويحاول أن يتغلب عليه، لكن العدو الآن عدو غير منظور، وهو أيضًا عدو للجميع يواجههم عبر الحدود والأجناس والأديان والأعمار وكافة النظم السياسية والطبقات. هكذا أصبحنا نعيش في عالم أقرب إلى ما يسمى بالديستوبيا، أو العالم الكارثي، وذلك بعد أن ظن كثيرون أن يوتوبيا العولمة والعلم والتقدم والنيوليبرالية قد أصبحت أقرب إليهم مِمَّا يظنون، فإذا بكل تلك التمثيلات والتصورات تسقط، وإذا بسرديات العلم والعولمة والاتحاد الأوروبي والنيوليبرالية المتوحشة وهيمنة الشمال والمحافظين الجدد والتوجهات اليمينية تصبح كلها أوراقًا تتلاعب بها رياح تلك الكورونا وتسخر.

يرتبط ما حدث في المرحلة ما بعد الكورونيالية كذلك باكتساب البيت لدلالات أخرى لم تكن له، لقد صار يجمع بين الألفة والوحشة، الأمن وغياب الشعور بالطمأنينة، لأن ما يوجد خارجه من مصادر خوف وموت أصبح يأتي إليه عن طريق التليفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي. في الماضي ارتبط مصطلح فقدان البيت الأليف بتلك السرديات الكبرى الخاصة ببناء الأمم والامبراطوريات والتمرد ضد الاستعمار والسلطات المستبدة الطاغية، وغيرها من تلك المواقف التي تتراكم فيها حالات فقدان اليقين والالتباس والحيرة والقلق الجماعي، قلق الأمة والشعب، فيما يتعلق بالانقسام والازدواج بمستوياته ومعانيه، وكذلك فيما يتعلق بالخوف والشعور بالتهديد، والغربة والغرابة، وفقدان الاستقرار والتشرد، وهُيام الناس على وجوههم، وفقدانهم للبيت أو الوطن الحميم، والآن ظهرت فئة جديدة من البشر؛ إنها فئة «العالقين»، إنهم ليسوا من المُشرَّدين أو اللاجئين أو المنفيين بعيدًا عن أوطانهم، بل الذين تركوا أوطانهم بإرادتهم سعيًا وراء الرزق أو طلبًا لحياة أفضل، فإذا بهم يجدون أنفسهم غير قادرين على العودة إلى أوطانهم، حتى لو رغبوا في ذلك، لقد أصبحوا عالقين في بلاد غريبة، غير راغبين في البقاء في تلك البلاد التي كانت أملاً وهدفًا لهم، ولا قادرين على العودة إلى أوطانهم التي غادروها لأنهم كانوا لا يشعرون بالألفة خلال وجودهم الأول فيها. لقد دخلوا حالة «المَطْهر» «وهو مكان «المابين» الذي يتم تطهير العصاة فيه حتي يصبحوا آهلين لملكوت الله في المعتقد الكاثوليكي».

لقد أصبحوا عالقين أو مُعلَّقين في تلك المنطقة الغريبة المُوحِشة بين وجود غادروا إليه ويريدون مغادرته الآن، ووجود وطن تمنوا في الماضي أن يغادروه ثم يريدون العودة إليه الآن لكن دون جدوى. لم يعد ما يهم الإنسان الآن بناء الإمبراطوريات ولا إقامة المدن الجديدة والدول بل أن يبقى على قيد الحياة، أن يبقى فقط في بيته، هذا الذي لم يعد بالنسبة لكثيرين هو الوطن بمعناه الشامل، بل مجرد جدران أربعة تؤويهم وتحافظ عليهم. هل هذه فرصة للطُّغاة؟ ربما، هل هي فرصة للمستغلين؟ ربما، لكن هذه الكائنات البشرية المُحْتجَزة مؤقتًا في بيوتها لن تبقى كذلك طويلا هناك، إنها لابد وأن تخرج إلى واقع أفضل وأكثر إنسانية، واقع تضامني تشاركي وأكاد أقول اشتراكي إنساني، وإلا حدث ما لن تحمد عقباه.

الكورونا وسقوط التمثيلات
يرتبط مصطلح «سقوط التمثيلات» بتمييز الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط «1804-1854» في كتابه «نقد الحكم» بين الجميل والجليل من المشاعر ونظره إلى المتعة الخاصة بالجميل والجمال على أنها نوع من «اللعب الحر» ما بين الخيال والعقل، ثم تمييزه بين نوعين من الجليل: الجليل الرياضي، والدليل عليه ذلك المشهد الخاص بسماء مُلبَّدة بالغيوم، وكذلك العواصف الهائجة والأعاصير المُجْتاحة وحيث يتولد لدينا انطباع بأن ما نراه يتجاوز إدراكنا، ويفوق ما تقدمه إلينا حواسنا أو فهمنا، ومن ثم فإننا نميل إلى خيالنا تحت وطأة هذه المشاعر من الخوف والصدمة، ثم ندرك أن ما يحدث حولنا أو أمامنا أمر يتجاوز ما قد يصل إليه خيالنا، عندها نعود إلى عقلنا كي يُسْعِفنا وكي يساعدنا على أن نُصنِّف أو نضع ما يحدث ضمن فئة تصنيفية من الفئات التصنيفية المختزنة لدينا، كتلك الخاصة بالإنسان والطبيعة، والخير والشر، والنور والظلام، والمُتوقَّع وغير المُتوقَّع.. إلخ. فإذ بنا نجد أنه لا شيء مِمَّا قد وضعناه ضمن هذه الفئات التصنيفية قادر على أن يلبي حاجتنا الماسة لفهم هذا الذي سيحدث، بل والذي لا يكف أيضًا عن الحدوث.

هنا يدفعنا هذا العقل لأن نفترض وجود لا نهائية للأحداث، لانهائية للوجود، أبدية لا تتجاوز حدود الحواس فقط، لكنها تتجاوز أيضًا حدود ما يستطيع الخيال أن يصل إليه، وهنا يحدث نوع من الانهيار أو الإخفاق لعمليات اللعب الحر الخاصة بالخيال أو اللعب ضمن أطر أو تصورات مُسْبَقة خاصة بالعقل، هنا نكون في مواجهة حالة غير مسبوقة، هنا نكون في مواجهة المستحيل، غير المفهوم، غير المُدرَك، غير المُتخيَّل، غير المتوقع، وهنا يحدث أيضًا اضطراب في الفهم وانهيار في القدرة على التمثيل العقلي للأفكار. هنا يدخل النوع الآخر من الجليل، الجليل الدينامي، إنه يتعلق بذلك النوع من المشاعر المرتبطة بالحركة والانفعال، وهنا تكون الأفكار مضطربة والتصورات مُشوَّشة، فتحل مشاعر الخوف والرعب والفزع والهول والشعور بعدم اليقين. هنا يشعر الإنسان بأنه في متاهة لانهائية وهنا يشعر بضعفه وصغر شأنه أمام ما يحدث له أو حوله، وفي مواجهة ما يحدث هنا أو هناك؛ إذ يتبدى عجزه ماثلاً أمامه في مواجهة المرض والوباء والموت. وهنا لا يكون مفهوم الجليل كما قدمه كانط كافيًا، فما يحدث ليس أمرًا جليلاً، بل إنه أمر جلل تجاوز كل تصوراتنا فصار عالمنا غريبًا نتيجة هذا الوباء.

الخاتمة
لقد أسقط هذا الوباء الكثير من اليقينيات، كما جلب معه عادة غير مسبوقة من الشك والالتباس والحيرة وفقدان اليقين. وقد امتدت هذه الشكوك والالتباسات واتسعت كي تتجاوز مجرد الخوف من الاقتراب أكثر مما ينبغي أو حتى مجرد الاقتراب في ذاته من أي شخص آخر؛ إلى الشك أيضًا في الأشياء والحيوانات، بل وفي الذات نفسها، فصار كل إنسان يتساءل مُتشكِّكا إذا ما شعر بتعب ما أو ارتفاع ما في درجة حرارته: أمريض أنا؟ هل أوشك على المرض؟ وماذا سأفعل لو أُصِبتُ به؟ .. إلخ، وقد امتد هذا الشك ليشمل أيضًا من نحبهم ونعرفهم أو نعيش معهم داخل بيوتنا وفي أماكن عملنا وكذلك من لا نعرفهم أو تكون علاقاتنا بهم عادية أو مُحايدة. هكذا اتسعت دائرة الفزع النفسي والهلع العقلي «الما بعد كورونيالي» لتضع الذات والآخر، القريب والبعيد، في حلقة جهنمية واحدة من الشكوك والرِيَب والتوجسات والمخاوف التي لا تنتهي. ولسوف نحتاج إلى وقت، يطول أو يقصر، بعد ذلك كي نعيد بناء الثقة، مرة أخرى، في أنفسنا وفي الآخرين وفي عالمنا. وسوف يتوقف الأمر هنا على مدى صلابة تكويناتنا النفسية والاجتماعية والروحية. ولسوف تمر المجتمعات الإنسانية أيضًا بفترة، تطول أو تقصر، وفقًا لتكويناتها ومناعتها الثقافية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية، كي تعيد بناء الثقة في نفسها وفي مستقبلها وفي علاقتها بالآخرين.

وهكذا يمكن القول إنه ستكون هناك أيضًا آليات مواجهة متنوعة عبر الثقافات، بل وداخل الثقافة الواحدة من أجل التغلب على هذا الذعر المُعَوْلَم، وهذا الشك الوجودي، وهذا الخوف الشامل، كما يمكن تصور أن استجابات وآليات المواجهة ستختلف وتتنوع إيجابًا وسلبًا، إذ قد نرى مجتمعات تلجأ إلى المزيد من عمليات التضامن والتكافل والتواضع السياسي والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والشفافية والاعتراف بالأخطاء ومراجعة المسارات غير المُجدية والمزيد من الفرح والإبداع. كما قد نرى آليات مواجهة سلبية أيضًا لدى بعض المجتمعات، وربما داخل المجتمع الواحد ومن ذلك، تمثيلاً لا حصرًا، تواصل عمليات الاستبداد والفساد، وضيق الأفق والتمركز حول الذات، وإقصاء الآخر وهيمنة نظام الأخ الكبير «وفقا لأورويل»، وكذلك مزيدًا من السلوكيات الخاصة بتغييب الوعي كالمخدرات والكحوليات والهوس الديني وارتفاع مُعدَّلات الجريمة والانتحار والتطرف والإلحاد واللامبالاة الفردية والجماعية والاضطرابات العقلية والقلق والانحرافات الجنسية والتنمر ضد الكثير من فئات المجتمع. وربما يتراجع أيضًا الدور الخاص الموجود الآن لرجال الدين، ويتقدم أكثر الدور الخاص بعلماء الطب والتكنولوجيا والهندسة الطبية والمفكرين وعلماء الاجتماع، وربما يمكن أن يتزايد في مناطق وثقافات بعينها، وربما قد يحدث عكس ذلك أيضا.

كذلك يرى بعض المفكرين ومنهم إدجار موران، أنه سيكون هناك، ما بعد مرحلة الكورونا الحالية، شفافية سياسية أكثر، ونظام صحي أفضل، وعولمة أكثر إنسانية، وسقوط للنزعة النيوليبرالية وكذلك للرأسمالية المتوحشة والعولمة الاقتصادية لصالح العولمة الثقافية والتضامن بين البشر، بينما يرى آخرون أن النيوليبرالية ستكون أكثر هيمنة، وستفتح الأسواق أكثر أمام الاستثمارات الأجنبية والتجارة الدولية وسيتم خفض أجور العمال والاستغناء عن الكثيرين منهم، وقد تجلى ذلك في استعجال الكثير من مليارديرات العالم عودة العاملين في مشروعاتهم إلى أعمالهم دون مراعاة مناسبة للشروط الصحية الضرورية التي ينبغي أن يعودوا في ظلها إلى هذه الأعمال.

كذلك يقول البعض إن الدولة الوطنية ستكون أكثر قمعا واستبدادًا، ربما لأنها تشعر أنها قد نفَّذت تعليمات منظمة الصحة العالمية بحذافيرها، فقللت من عدد الإصابات والوفيات، وتمكنت أيضًا من السيطرة على الناس فجعلتهم يدخلون بيوتهم كما دخل النمل بيوته في عهد سليمان الحكيم. وكذلك، فإن لجوء هذه السلطات إلى الأساليب الدفاعية إنما ينم أيضًا عن رغبتها في التمسك بمكاسبها خوفًا من الاضطرابات التي سوف تتزايد يقينًا مع تأجيل المشروعات التنموية والريعية وكذلك زيادة حدة الفقر والبطالة وتزايد مشاعر الناس بأنهم لم يعد لديهم ما يخسرونه أكثر مما قد خسروه، خاصة إنه كثيرًا ما يُوجَّه إليهم اللوم بأنهم مشغولون بالتكاثر ويفتقرون للنظافة والنظام في الوقت الذي لا يُلام فيه من أوصلوهم إلى هذا الحال.

بينما يقول فريق آخر من المفكرين ومنهم الدكتور عمَّار علي حسن إن «أمما ستتراجع لتتقدم أخرى، لكن العالم سيبقى على حاله، غابة تمرح فيها ضوارٍ ناطقة». وكذلك قال المفكر الفرنسي آلان تورين إن الكورونا قد جلبت معها حالة طاغية من الشعور باللامعنى، بينما أشار المفكر والناقد الثقافي السلوفيني «نسبة إلى سلوفانيا» سالفوي جيجيك إلى أن الكورونا تمثل ضربة للرأسمالية قد تعيد اختراع الشيوعية، لكنها ستكون شيوعية أو اشتراكية جديدة تعتمد على الثقة في الشعب والعلم وعلى نوع من التنسيق المُعَوْلَم الفعَّال في كافة المجالات، وأن الحروب الاقتصادية والعسكرية ستتحول إلى حروب علمية وطبية، وأن التضامن والمزيد من الثقة في الحكومات أمر مطلوب، وأن آليات السوق لن تكون قادرة على حماية الناس من الفوضى والجوع، وإنه في المجتمع الصحي ينبغي سماع أكثر من صوت، وينبغي وجود مزيد من الثقة المتبادلة والشفافية والمصارحة بين الشعب وأجهزة الدولة، وأن الكورونا فرصة للتحرر والديمقراطية ومناهضة ثقافة الاستهلاك «من ترجمة سولارا شيما – موقع الحل. نت» هكذا تعدَّدت الآراء والتصورات والإرهاصات وظل هذا الوباء يسخر من الجميع.

إنها مرحلة سقوط السرديات والتمثيلات الكبرى: العلم والعولمة، الوحدة الأوروبية والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية، كما أنها أيضًا مرحلة سقوط أخلاقي يتجلى على أنحاء شتى، هنا وهناك؛ لكنها قد تكون أيضًا مرحلة نهوض أخلاقي آخر يقوم على أساس التضامن والخوف المشترك والمصير الواحد وليس مجرد العيش المشترك الذي يقوم على أساس الظلم والتفاوت والاستبداد.

أما فيما يتعلق بالأدب والفن، فإنني حقيقة لا أعرف ولا أستطيع أن أتوقع على نحو مُحدَّد ما سيكون عليه شكل الأعمال الأدبية أو الفنية أو النقدية في المستقبل، فأنا أعرف أن القانون الأساسي للإبداع أنه بلا قانون، لكني أتوقع أيضًا ظهور الكثير من الجُثث والدماء وعمليات القتل وتقطيع الأوصال والمذابح، وتجسيدات كذلك للعبث والمسوخ وجماليات الموت والخوف في القصائد والروايات واللوحات. وأتوقع أيضًا تجسيدات أعمق لتلك التأثيرات الخاصة التي تركتها وسوف تتركها هذه المرحلة على مشاعر وأفكار وسلوكيات البشر، أفرادًا وجماعات.

في كتابه «الضحك.. مقتطفات أدبية» قال الناقد ك.هـ. ستروبل K. H. Stroble «عام 1913» «إن الضحك والرعب توأمان شقيقان، ولهما أم مشتركة هي الخيال، وذلك لأنهما معا، يتشكَّكِان في الحقائق، ولا يثقان بأي تفسير عقلاني للعالم، وهما معًا يتطلبان روحًا شديدة الحساسية، وعقلاً صافيًا متوقدًا، ويدًا ثابتة». وهكذا فإنني ومثلما أتوقع ظهور المزيد من الأعمال الإبداعية الجروتسيكية التي تُجسِّد حالات الخوف والشك والرعب، فإنني أتوقع أيضًا ظهور المزيد من الأعمال الإبداعية الساخرة المتهكمة التي تمزج بين الخوف والفكاهة، وتُجسِّد غرابة أحوال الناس وتسخر منها، وتصور ما قد أصبحت عليه أمورهم في ظل هذا الوباء الغريب وبعده أيضًا.

أدعو هنا لأن تحل الألفة بيننا أكثر، أن يسود الصدق وينتشر الحب وتعم مشاعر الرضا وسلوكيات التكافل والمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية والعدل والرحمة والرقة، أن تحل قوة الإيمان بحياتنا ووجودنا وإنسانيتنا. وأتمنى أن يكون المجتمع الإنساني قادرًا في وقت قريب على مواجهة ذلك الوباء، أو ذلك الشبح «الذي يركض في الخارج» والذي استطاع أيضًا أن يهدم كثيرًا من الثوابت والمنجزات الوهمية، فأعاد البشرية إلى طفولتها الأولى؛ إلى بكارتها وغرائزها واندفاعاتها ومخاوفها ومتاهاتها، إلى بدايات تشكل وعيها وحين كان عقلها لم يزل بعدُ مجرد صفحة بيضاء لم تخط عليها يد الزمن والأيام بعدُ كتابتها المخيفة الغريبة المُرعبة، إنه أيضًا ذلك الآخر، أو ذلك الوباء/ الشبح الذي استطاع «أن يعيد الطبيعة إلى سيرتها الأولى» فأصبحت مُهيمِنة مُزمْجِرة، هادرة ساخرة من كل ما يفعله هذا الوجود البشري الخائف الغريب.. إلخ ما جاء في قصيدة الشاعر المبدع إبراهيم عبدالفتاح التي بدأنا هذا المقال بمقطع دال منها.

هامش:
شكر وتقدير: أتقدم بالشكر للصديق المبدع والمفكر المرموق الدكتور عمَّار علي حسن الذي شجَّعني على كتابة هذا المقال وعلى تعميق بعض ما ورد فيه من أفكار وأيضًا للصديق الشاعر والمترجم عاطف عبد المجيد الذي أوحت لي بعض «بوستاته» على صفحته على موقع الفيس بوك عن القارئ الكورينالي بالوصول إلى هذا المصطلح، وهناك كثيرون قد أناروا إلي هذا الطريق ربما سوف يجيء الوقت لاحقًا لأن أشكرهم بطريقة مناسبة. والشكر الجزيل أيضًا للصديق العزيز الدكتور طارق النعمان القاضي الذي قرأ مخطوطة هذا المقال، وأبدى عددًا من الملاحظات المُهمة عليه، شكلاً ومضمونًا، وخاصة ما يتعلق منها بفكرة الشك في الذات، وفكرة الذعر المُعَوْلَم وأيضًا الفكرة الخاصة بالفروق الثقافية في آليات الاستجابة للوباء.