في مقدمة ما يدور داخل ذهن المتلقي أن يفهم ما يتلقاه من خطاب فني في صالة العرض المسرحي، والفَهم هنا، قضية فنية مشتركة من حيث الاهتمام، يتقاسمها منتج العمل والمستهلك، ومن غير الممكن تجاوزها من قبل أطراف العملية الإبداعية إذا لم يكن هناك سبب مُلزِم، وليس مجديا أن يعرض الفنان تجربته لنفسه فقط، وإذا ما حصل ذلك، فالأمر يبدو أقرب إلى فعل عبثي لا جدوى منه، لأن وجود المتلقي شرط رئيس لكي تكتمل التجربة الفنية، وعمل الفنان يكتسب مشروعيته باعتباره عملا فنيا إذا ما أصبح وجها لوجه أمام المتلقين، وليس مُهمِّاً عددهم، إنما المُهم أن تحصل عملية التلقي، والفنان لن يشعر بأهمية وقيمة عمله الفني إذا لم تصله ردود أفعال بغض النظر إذا كانت معه أو ضده.
التلقي والزمن
إن زمن التلقي ليس فائضا، بالإمكان ترحيله أو الاستغناء عنه في عمل معين واستقدامه في آخر، بل يبقى حضوره يمثل استمرارا لعملية خلق التجربة الفنية، خاصة وأن قراءة التجربة من قبل المتلقين ليست متشابهة وتتحكم فيها عوامل ذاتية وموضوعية، كما أن نتائجها تتغير كلما أعادها المتلقي، من جانب آخر باتت قضية الفَهم في تجربة تلقِّي العمل المسرحي قضية اشكالية، لأن مسرح ما بعد الحداثة يضع في اعتباره ان يُحدث قطيعة مع ما سبقه من محتوى دأبت على إنتاجه القيم الفنية السائدة، ومن هنا لم يعد يولي أهمية (للفَهم) حسب الاعتبارات التي كرستها تقاليد المسرح الكلاسيكي، وما تلاه من أساليب ومدارس أفرزتها الحداثة، خاصة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن الموضوعات التي تشغل الإنسان قد تغيرت بشكل كبير مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي ولم تعد موضوعات مثل السرديات الغيبية والأساطير والتراجيديات الكلاسيكية والحكايات الشعبية تأخذ حيزا أساسيا من اهتماماته بعد أن شهد ثورة هائلة في المعلوماتية ووسائل الاتصال الرقمية، وهذا ما أدى إلى أن يرتفع منسوب الشك لديه ازاء كل ما يتعلق بالموروثات العقائدية التي تكتسب صفة القداسة السماوية، بل أن شكوكه طالت كل شيء بما في ذلك القيم والأعراف الاجتماعية والأخلاقية، ولم تعد هناك خطوط حمراء يمكن أن تحد منها، فقد بدأ العالم القديم ينهار أمامه شيئا فشيئا منذ مطلع ستينيات القرن الماضي وكانت البداية مع الثورة والحرية الجنسية التي اكتسحت العالم الغربي آنذاك ثم وصلت ذروتها اليوم باعتراف دساتير العديد من الدول الغربية بزواج المثليين، فكان من المنطقي جدا ازاء هذه المتغيرات ان ينعكس هذا التشظي على المسرح، فشاعت بناء على ذلك في دراماتورجيا العروض تقنية المشاهد أو الأجزاء المنفصلة في النصوص، بدل مركزية المتن الحكائي، وتاريخيا فإن البدايات كانت مع المسرح الملحمي لدى المخرج والمؤلف الألماني برتولد بريخت، واستمر هذا النمط المُجزّأ من الدراماتورجيا في التيارات الأسلوبية التي أفرزتها مسارح ما بعد الحداثة، ولكن من بعد تفريغه من أي محتوى سياسي كان يشكل جوهر الخطاب الفني في مسرح بريخت الملحمي، ولم يعد من نموذج أو شكل محدد مثالي لبناء النص، حتى أن معالجة السرد دراماتورتجيا على خشبة المسرح بات أمرا مألوفا، رغم أن الذي يفصل بين الدرامي والسرد الملحمي واضحا، ومن هنا لم تَسلم مفردات منظومة المسرح الدراماتورجية في مشاغلها التقنية والمفاهيمية سواء في الكتابة أو الإخراج أو التمثيل أو السينوغرافيا من التشظي وإعادة التقييم والإنتاج وصولا إلى مخرجات جديدة من حيث المحتوى.
المتلقي يعيد إنتاج التجربة
هذه الحركية في إعادة قراءة وتقييم المفاهيم الفنية تندرج في سياق إعادة إنتاج التجربة الفنية من جديد لدى المتلقي طالما ان كل قراءة جديدة للتجربة تحدث عملية تفكيك لمفردات العمل وتأويلها، وعلى ذلك فإن العمل الفني وفق هذا الفهم لطبيعة العلاقة القائمة بينه وبين المتلقي يتم إعادة إنتاجه بشكل مستمر، انطلاقا من أن هناك تعددا في وجهات النظر، وكلما استجدت مفاهيم نقدية كلما انفتحت مساحات قرائيّة جديدة تعيد هيكلة العلاقة العمل والزمن، ورغم أن الزمن ليس كيانا ماديا شاخصا، لكننا ندرك حضوره وحركته مع ما يحدث من متغيرات على المكان والإنسان.
وحتى يتحقق الفهم أثناء التلقي في ظل هذه المتغيرات في بنية التجربة المسرحية وتحصل الاستجابة والتفاعل لدى المتلقين، هل من الضروري أن يكون للمسرحية معنى محدد وواضح؟ الجواب هنا يعتمد على طبيعة رؤيتنا للتجربة المسرحية، في ما إذا كنا ننظر إليها بما يتوفر فيها من عناصر يتم تدريسها وتلقينها لطلبة المسرح في الأكاديميات، أو أنها على الضد منها تحاكي ما استجد من رؤى وأساليب دراماتورجية في تأليف العرض.
إن غياب المعايير التقليدية في دراماتورجيا العرض المسرحي يتيح للمتلقي أن ينطلق في قراءته من مساحات أوسع للخطاب الجمالي، فيتجه بقراءته إلى الكشف عن قيم فنية أخرى خارج نطاق مفردات الكلام الذي تتشكل منه الحوارات مثل: الفضاء، حركة الجسد، الشخصيات، الإضاءة، الزمن. وكل هذه العناصر تشكل بحضورها الدرامي مدخلا آخر لقراءة شفرات خطاب العرض المسرحي وهذا ما يشير إليه جان بيير رينجير.
إعادة تشكيل هوية الفنان المسرحي
موضوعة الفهم في تجربة تلقي العرض المسرحي تقودنا أيضا إلى أن ندقق في اشكالية التقاطع بين أشكال المسرح التي تحرص على أن يكون خطاب العرض بسيطا، وعلى ان لا يتعدى حدود تحقيق التسلية، وأشكال المسرح الأخرى التي تجد في دراماتورجيا العرض لحظة من التخييل يمتزج فيها الفضاء الدرامي بالزمن، ليصبح العرض فضاء معرفيا لإثارة الأسئلة المقلقة التي تزعزع القيم والمفاهيم الجمالية لدى المتلقي، وأداة مركبة في دلالاتها لمواجهة الزمن الحاضر بكل أعباءه وتعقيداته، وهذا التقاطع بين هذين الشكلين المسرحيين سيقودنا بالنتيجة إلى طرح أسئلة محددة تتعلق بوظيفة الفنان في الحياة، وعلاقته مع المجتمع من خلال ما يقدمه من أعمال، والأمر هنا غير مرتبط بحياته الشخصية إنما في إطار إعادة تشكيل هوية الفنان في شقها الاجتماعي، باعتباره يمارس دورا محددا في الحياة من خلال عمله الفني، والأسئلة تطال حقيقة الروابط التي تجمعه مع الواقع الموضوعي، بمعنى أن شكل العرض يلعب دورا أساسيا في رسم الإطار الاجتماعي الذي يتحرك الفنان داخله، فالقيم الجمالية لشكل العرض بهذا الفهم لها امتداد عميق يتأثر ويؤثر بكل ما هو خارج التجربة المسرحية ذاتها، بالشكل الذي لم يعد ممكنا الفصل بينهما، أو القبول بالممارسة الفنية بمعزل عن عالم المتلقين. ولكن هذا لا يعني ان ينساق عمل الفنان في منحى الاستجابة لِما يدور في ذهن المتلقي، لأن ذلك لا ينسجم مع التجربة الفنية التي لابد ان تتقدم على المتلقين بما تطرحه من أفكار ورؤى، فالعمل الفني ينبغي أن يكون تجربة مثيرة من حيث الشكل والمحتوى، بمعنى أن “إبداع الأعمال المسرحية الكبرى يكون في الرد على سؤال لم يتبلور عند المجتمع” حسب تعبير آن اوبر سفيلد.
وإذا ما تأملنا اشكالية هذه العلاقة فإن مرجعيتها أو أسبابها تعود إلى ما حصل من متغيرات في رؤية الفنان ناحية العرض، وذلك من خلال تغيير ثوابته ازاء الجمهور الذي يتلقى التجربة، وكذلك طبيعة العلاقة التي أصبحت عليها هذه العلاقة بين النص والعرض.
إن صانع العرض تتجاذبه قضيتان لا يستطيع أن يكون حياديا في موقفه منهما، فإمَّا أن يكون شعبويا يتوافق في خطابه الفني مع ذائقة الجمهور أو يذهب باتجاه توسيع دائرة الأسئلة في وعي المتلقي واستثارة ذائقته الجمالية، وكل نموذج من هذين النموذجين يتحاشى الانزلاق إلى المكان الذي يقف فيه الآخر، لأنهما ينتجان خطابان مختلفان من حيث القيم الجمالية والمحتوى، كما أن تجربة التلقي والفهم في محصلتهما النهائية تختلف بين هذا المتلقي وذاك.
تقاطع الرؤى في الأشكال المسرحية
ما يستحق الوقوف عنده أن الفن المسرحي، رغم قِدَمِه، وما شهده تاريخيا من تطور كبير شمل مختلف جوانب التجربة المسرحية ابتداء من النص وانتهاء بالأساليب والمدارس الإخراجية إلاَّ ان كل ذلك وقف عاجزا عن ردم الهوة ما بين نمط المسرح الذي عادة ما يستهلك في برامجه السنوية ما يمتلكه من تقنيات راسخة في تقاليده والتي دائما ما يعيد إنتاجها بشكل مستمر، وبين المسرح الآخر(المضاد) الذي يشتبك في خطابه الفني مع الواقع اليومي والإنساني، بكل ما يحمله هذا المسرح من نزعة إلى التجديد والتحريض باتجاه مغادرة المألوف والمتداول.
هذه الاشكالية ما زالت تفرض سطوتها في الظاهرة المسرحية عالميا، سواء في البلدان المتقدمة الأوروبية أو في بقية بلدان العالم الأخرى، وعلينا أن لا ننسى انها لا تقتصر على الفن المسرحي فقط، لكن الحديث عنها هنا في هذا الحقل الإبداعي يأخذ أهميته نظرا لعراقة المسرح، وعمق التحولات التي صاحبت حضوره في الثقافة الإنسانية، ويمكن قراءة فاعليتها في الثقافة بمعناها المطلق، من خلال التحديات الاسلوبية التي واجهها الفن المسرحي والتي كانت تعبيرا عن تفاعل النخبة المثقفة مع حركية الحياة في مجتمعاتهم.
الممثلون دراماتورج العرض
من النتائج المهمة التي تمخض عنها التجريب في الفن المسرحي الذي كرسته الأشكال المسرحية التي أفرزتها فلسفة الحداثة حتى مطلع ستينيات القرن الماضي بروز خاصية التأليف الجماعي في مسرح ما بعد الحداثة حيث يشارك جميع الممثلين في دراماتورجيا العرض المسرحي، وهي خاصية لم تتوفر في بقية الفنون الأخرى وإذا ما توفرت على سبيل المثال في الفن السينمائي فهي ليست على الصورة التي في المشغل المسرحي، ولم يكن ظهورها إلا تحولا تقنياتيا في البناء الدراماتورجي للعرض، وانعكاسا لما حصل من تحول كبير في ماهية الممثل ودوره في التجربة المسرحية، فقد شهدنا بعد منتصف القرن العشرين تحولا في مساحة الفاعلية الدراماتورجية التي ينشط فيها الممثل لأجل بناء وانضاج التجربة، ولم يعد يكتفي في استحضار الشخصية التي يؤديها اعتمادا على مشاهداته للنماذج الإنسانية ومحاكاة ملامحها السلوكية وردود أفعالها، بل تعدى ذلك إلى أن يكون مشاركا أساسيا في بناء العرض.
فضاء درامي للتخييل
هذه الانعطافة جاءت بعد سلسلة مخاضات فنية ساهم فيها عدد من المخرجين المسرحيين لتحطيم المسرح التقليدي، بدأت في تجارب انتونان ارتو ومن ثم تجارب مسرح العبث مثل صموئيل بيكت ويونسكو، وكان من نتيجتها خلخلة منظومة الثوابت التي ينهض عليها المسرح التقليدي الذي لا يمكن أن يقف على قدميه إلاّ بحضور المؤلف والمخرج بالدرجة الأولى، ومن ثم الممثلين باعتبارهم عنصرا ثانيا من حيث الأهمية في خلق التجربة، وما كان لهذا التحول أن يصبح تقليدا أساسيا في المسرح المعاصر لو لم يتوصل من يشتغل في ميدان المسرح إلى الفكرة الجوهرية التي تؤكد على أن الفن المسرحي يمتلك خاصية ينفرد بها عن بقية الفنون الأخرى في كونه فضاء دراميا مفتوحا للتخييل، وقد ساهم التمرين اليومي على حصول هذا المتغير، فالحوار الذي لا ينقطع بين دائرة فاعلة من العناصر مؤلفة من الممثلين والمخرج والدراماتورج والسينوغرافي قد وفَّر مناخا ملائما لأجل ان يتحول هذا الجدل إلى منظومة عمل لإنتاج عرض مسرحي وفقا لمنهج الهدم والبناء، وإلى أن يتوسع الممثل في المساحة التي يشارك فيها ومن الطبيعي أن يكون الممثلون إضافة إلى ما يمتلكونه من سيطرة على تقنيات الأداء الجسدي والصوتي على درجة عالية من التسلح بالثقافة، ونتيجة ذلك أصبحنا أمام مشهد مسرحي تغيرت فيه نقطة انطلاقه ولم تعد تقتصر على نص مكتوب أو على المخرج الذي يمسك بيده كل أدوات الإنتاج.