يشير الناقد إلى أن جماليات قصائد عمار علي حسن، وأفكارها والتجارب الشعورية الخاصة بها، توضح أنها قصائد متنوعة ومؤثرة بشدة في نفسية المتلقي، وتمثل قيمة مضافة في المشهد الشعري، ويتأكد هذا من خلال عنصر الدهشة الذي يستفز القارئ، فضلا عن أفكار القصائد وأساليبها البلاغية.

«لا أرى جسدي» قصائد تعانق الروح والحرية وتغازل الوجود

سعـيد نصـر

 

في رحلة السفر الطويل مع الشعر وقضاياه، غالبا ما يبدأ الشعراء بنظم الشعر العاطفي والوجداني، وبعد أن تصقلهم تجاربهم ويمرون بمراحل شعرية عديدة، ينتهي بهم المطاف إلى الشعر الفلسفي والواقعي، ولكن عمار علي حسن، يفاجئنا في تجربته الشعرية الأولى، وهي ديوان “لا أرى جسدي” الذي نظمه في ميعة الصبا ونقحه في الفترة الأخيرة، بأنه يبدأ مما ينتهي إليه الآخرون، فالإنسان المتمسك بالقيم العليا والسامية هو محور الكون كله في شعره، وقصائد الديوان تجمع بين الفلسفي والواقعي، وربما ساعدته قدراته الروائية والسردية على النجاح في فعل ذلك، خلال أول تجربة

قصائد الديوان تراوح بين الشعر الحر والنثر، ولكنها تقوم على العبارة الشعرية المقفاة، ويظهر فيها الشاعر مشغولا بالذات والزمان والمكان، ومشغولا بكائنات وأشياء يراها تشعر وتحلم بما يحلم به البشر، ومشغولا أيضا بقضايا كبرى، مثل الحياة والموت والعدم والوجود، والضياع والخلود، والحرية والوطن والظلم والعدل، واليأس والأمل، وذلك من خلال شعر تتوافر فيه جماليات الدهشة والمتعة، الناتجة عن تفاعل الايقاع الداخلي مع الايقاع الخارجي وانسجامها التام مع الصور الجزئية والكلية المعبرة عن الدفقة الشعورية الواحدة في كل قصيدة.

عنوان الديوان هو عنوان القصيدة الأولى، وهو عنوان يعبر بشكل كبير عن الدفقات الشعرية والتجارب الشعورية في القصائد، ويعطي انطباعا واضحا عن مضامين وأهداف القصائد التي يحتوي عليها الديوان؟ والعنوان لم يختاره الشاعر، بحسب قراءتي، وفقا للطريقة التقليدية، ودليلي على ذلك أن دلالته الروحانية والنفسانية تكاد تكون موجودة في معظم القصائد، وليس في القصيدة الأولى فقط، فضلا عن غلاف الديوان يعبر عن العنوان ويكاد يتطابق معه.

الديوان يحوي 12 قصيدة، هي (لا أرى جسدي، هي..هي، ريشة، سنبلة، سمكة، طائرة، محاق، على عتبة المساء، لا، موت المسافة، صرخة، دنياي القديمة)، وتوجد قصيدتان من بين تلك القصائد بنظام المتتاليات، هما قصيدة “هي.. هي”، وتتضمن 6 متتاليات يجمعها رابط واحد هو الحبيبة، وتبدأ بـ”عيناها، جبينها، شعرها المنسدل، كفها، صدرها، جيدها”. وقصيدة ”لا” وتتضمن 4 متتاليات يجمعها ثالوث السجن والسجين والسجان.

السطر الشعري والعبارات الشعرية والنهايات المقفاة، أهم ما يميز كل قصائد ديوان “لا أرى جسدي”، وهذه النهايات المقفاة للعبارات الشعرية توجد في معظم مقاطع القصائد، وليس في مقطعي البداية والنهاية فقط، مع التأكيد هنا على أن كل قصيدة تمثل دفقة شعرية واحدة، والأمثلة كثيرة على النهايات المقفاة، ففي قصيدة صرخة، تظهر موسيقى الايقاع الخارجي من خلال نهايات العبارات المقفاة بالتاء المربوطة “المداولة، المحاولة”، والسجع الناجم عن حرف الحاء المسبوق بالياء في كلمتي “الريح، نستريح”، وكلاهما يعطيان موسيقى لا تقل جمالا عن موسيقى شعر التفعيلة، حيث يقول الشاعر في مطلعها:

"صراخنا أكله الريح

عمرنا انقضى في المداولة

لا شيء أتى

وليس أمامنا من سبيل

سوى أن نقول لأنفسنا

كي نستريح

يكفينا شرف المحاولة".

وما قلناه في قصيدة صرخة ينطبق على قصائد عديدة أخرى، منها قصيدة “محاق”، وقصيدة “هي..هي”، حيث تظهر النهايات المقفاة وموسيقى الإيقاع الخارجي في مطلع الأولى، في كلمات الرفاق ومحاق، وتظهر في الثانية في كلمات طليقة ورشيقة، حيث يقول الشاعر في قصيدة محاق واصفا حال القمر:

"رأيته أيها الرفاق

يتبدل في الأفق البعيد

من تربيع إلى محاق

ويقول الشاعر في “هي.. هي”، وبالتحديد في المتتالية الثانية:

جبينها سماء طليقة

ألملم نجومها في كفيَّ

أرض براح أركض فيها

بخطى رشيقة”.

الشاعر يحسن اختيار الكلمات والألفاظ ذات الدلالات والمعاني المنسجمة مع الدفقات الشعورية في أشعاره وقصائده، ففي قصيدة دنياي القديمة، يستخدم لغة تشعرك بمصداقية إحساسه بالشعور بالغربة بسبب تغيرات هائلة طرأت على أشياء وأماكن في قريته أو مدينته، كان يستمتع بها في شبابه، حيث يقول في قصيدة دنياي القديمة:

"ومطعم الفلافل الذي كنت أملأ منه بطني

صار محلا لبيع الهواتف

وقفت أمامه حزينًا

فلا الرنين يشبعني

ولا التماع الشاشات الماجنة

يساوي بريق الزيت فوق الأطباق الساخنة".

وفي قصيدة محاق، يرمز القمر غير المكتمل، بالتلميح لا التصريح، إلى الصورة المثلى للمواطن في عيون الحاكم المستبد وحاشيته، ويستخدم هنا كلمات وألفاظ وعبارات منسجمة مع بعضها البعض، وترسم صورة معبرة للغاية لإنسان يسحقه الظلم والاستبداد، اللذان ما إن حلا في بلد حل فيه الظلام والجهل، وهذه الكلمات والعبارات هي: عبد، نخاسة، كسيرة، تزول، مستباح، كعبد في سوق نخاسة، والحد الفاصل بين الظل والحرور، حيث يقول الشاعر:

كعبد في سوق نخاسة

كمسافة تزول

بين روح كسيرة

وجسد مستباح

كالحد الفاصل

بين الظل والحرور

ككأـس يدور

على شفاه السكارى”.

الشاعر يستخدم لغة السينما وتقنية بصرية مأخوذة من الفن التشكيلي في رسم صور ومشاهد جزئية وكلية تعزز من طابع الدهشة في قلب المتلقي، وهو ما يحسب له، على اعتبار أن الدهشة هي المعيار الفاصل في القصيدة النثرية بين الشعر واللاشعر، وذلك من خلال تأثيرها النفساني والوجداني على الايقاع الداخلي للقصائد، ففي قصيدة سمكة يقول الشاعر:

معذبة في طرف حاد

يأخذها إلى بطن جائعة

حين تطل علي الفراغ

تنطلق الفاجعة

تتلوى كسجين يجرونه إلى المشنقة

والمحرقة

التي تنتظرها فوق موقد معزول”.

الشاعر رسم أيضا في قصيدة طائرة صورة سينمائية معبرة ومؤثرة في نفسية المتلقي تربط بين الطائرة والجمل، في الخوف والقلق والألم والوسيلة والهدف، وتربط بين الفضاء والصحراء في المشقة والقسوة، وتربط بين السحاب والحصى، وتظهر الطائرة كما لو كانت كائنا حيا مثل الجمل، حيث يقول عنها:

نقطة ضائعة في الفراغ

تغالب الريح

وسخط الشمس

تزعج الطيور المهاجرة

لكنها تبكي أمام عاصفة غادرة

وزخات مطر السحاب الأسود

ومجنون يشرع السكين في وجه قائدها

وسهم نار أطلق عليها من أدنى الأرض

بحساب أو دون حساب”.

وفي قصيدة محاق يرسم الشاعر صورة شجية وحزينة للإنسان المثقف الذي يكون مغلوبا على أمره في دولة الظلم، وهي صورة أشبه بلوحات الفن التشكيلي، وذلك من خلال رمزية القمر غير المكتمل،ف هو ذرة رمل تكنسها الريح فتعلق في نعال العابرين، خاصة الجبابرة، بالإيحاء والدلالة، فيستخدموها في غسل ممارساتهم القذرة بتشويه ضحاياهم، حيث يقول الشاعر:

"كذرة رمل

تكنسها الريح من فوق الرابية

فتحني هامتها نحو الهاوية

وحين تدوسها أقدام العابرين

تعلق في ثقوب النعال الثقيلة

كالقتيلة

التي تمنح قاتلها دمها

كي يطلي به الرمل

ويسقي الحصى”.

القارىء للديوان بعين الفحص والمحص، والمتعايش مع مضامين قصائده بالقلب والروح، يجد نفسه حتما متفاعلا بقوة معها، شغوفا لقراءتها أكثر من مرة، فهي قصائد تحمل دلالات محيرة ومربكة للعقل والنفس، وذلك لما تنطوي عليه من غموض فلسفي وروحاني، يثير دهشة القارىء ويجعله يشعر أن المعين الصوفي حاضر بذاته في الكلمات والألفاظ والعبارات والصور ويوجه المعاني في الاتجاه الذي يقصده الشاعر، وينطبق ذلك على معظم القصائد، ولكنه ينطبق بشكل أكبر على قصائد (لا أرى جسدي، هي..هي، موت المسافة، على عتبات المساء)، وهذا يجعلني أقول من باب الاجتهاد في فهم مدركات النص، أنه نص قابل للتأويل، وهذا أروع ما فيه، فالنص ينطوي على حس صوفي من نوع خاص، فالشاعر فيه يخاطب الوجود الإنساني، ويبدو متأثرا ببعض شعراء الصوفية، وأرى أنه متأثر في قصيدة محاق بفكرة مقتل القمر للشاعر الراحل أمل دنقل ومتعايشا مع شعراء جيله، من مدرسة الشعر النثري، خاصة رفعت سلام، حيث النهايات المقفاة في العبارة الشعرية، وشعرية الصورة وشعرية التأمل وشعرية التأويل، وكلها موجودة بوضوح أكثر في قصيدة "لا أرى جسدي".

تلك النزعة الصوفية السابق الإشارة إليها، تتجسد بشكل كامل في قصيدة” لا أرى جسدي، وهي القصيدة الأطول والأهم في الديوان، وتتكون من تسع مقطوعات شعرية، تنطوي كل واحدة منها، وفقا لرؤيتي لها، على دفقة شعورية صوفية، وصورة متكاملة لمرحلة من مراحل حياة الزاهد، ويبدأ كل منها بداية صوفية وينهيها نهاية صوفية، وأجمل ما في النهايات أنها بائية مقفاة ولها إيقاع صوتي جميل، ففي الأولى يبدأ بـ“روحي في قاع المجرة.. أخلع لذتي”، وينهيها بـ”لأعرفَ مَنْ أتى حزيناً.. ومَنْ بالفرحِ قد ذَهبْ”. وفي الثانية يبدأ بـ“أسأل روحي محدقا في عزلتي”، وينهيها بـ” خُطوتي دهرٌ.. ووحدَتِي زِحامْ.. لأ أعرفُ فيه مَنْ أقامْ..ولا مَنْ هَرَبْ.”، وفي الثالثة يبدأ بـ“أستعير جنوني.. واقفا أمامه.. كخيط دخان”، وينهيه بـ”فلا أعرف مَنْ أَعطَى.. ومَنْ عزَّ عليه الطَلبْ”، وتبدأ المقطوعة الرابعة بـ”أنادي غُربَتي كيْ أُجالِسَها.. تتهادَى حزينةً كالشفقْ”، وينهيها بـ”وبعد رحيلِها.. لا أعرفُ من اقتربْ.. ولا من اغتربْ”، وفي الخامسة يبدأ بـ”أنادي توبتي كي أعانقَها.. فتَهبُني غفراناً أبيضَ”، وينهيها بـ”وتسرِقُ منِّي ماءَ الحياةِ.. فلا أعرف إن كان قد تبخَّر.. أو أنَّه غارَ وَنَضبْ”، ويبدأ السادسة بـ”أنُادي شيخي الذي تَركَني في وحْدَتي.. يعودُ من موتِه جليلاً في الكَفنْ.. وفي كفِّه سُّر الخلودْ.. وحفنةُ ترابٍ من جَنَّة عَدَنْ”، وينهيها بـ”ورَاحَ وغَابَ وجاءَ الخواءْ.. فلم أعُدْ أدركُ مَنْ زهد.. ولا مَنْ رَغِبْ”، ويبدأ المقطوعة السابعة بـ”ناديتُ كَأْسِي فجاءت مملوءةً بالفراغْ.. تركتُ لذَتها على قارعةِ الطريقْ”، وينهيها بـ”فلا ذهَابَ ولا رُجُوعْ.. ولا وُقُوفَ ولا رُكُوعْ.. فلا أعرفُ مَنْ قتله الظَمَأْ.. ومَنْ ذَاقَ وشَرِبْ”، ويبدأ الثامنة بـ”ناديتُ الحبيبَةَ ونظرتُ مليّاً في عَينيها”، وينهيها بـ” فلم أعُدْ أدري مَنْ فارقَ.. ومَنْ عَانَقَ خلَّه واصطحبْ”، وفي المقطوعة التاسعة يبدأ بـ” ناديتُ دربَي فلبَّى ثَقيلاً.. يأكلُ خُطاهْ”، وينهيها بـ” وستظلُّ هكذا لا تعرفُ ما يجبُ اجتنابُه.. ولا ما عليك قد فُرِضَ وَوَجَبْ.”

قصائد الديوان تشتمل على ثلاثيات شاعرية جميلة، منها ثلاثية الروح والنفس والوجدان، وفيها لا يرى الشاعر جسده، وهذه هي الدرجة القصوى في سلم قيمة إنكار الذات في سبيل المصلحة العليا للمجتمع وإحلال الخير محل الشر والسعادة محل الشقاء، ومنها ثلاثية الوجود والعدم والضياع، وتظهر هذه الثلاثية في قصائد عديدة، منها قصيدة “موت المسافة”، ويقول في مطلعها:

ماتت المسافة

انقطع السبيل

واستيقظت الأماني الزائفة

صرت معلقا في الهواء

فراغ تيه خواء

لا عودة.. لا رحيل”.

والشاعر يعزف في ثلاثية الوجود والعدم والضياع على وتر الأسطورة الإغريقية سيزيف ودلالة التعذيب بالعمل في أشياء تافهة لاقيمة لها، وكأنه يريد أن يقول أن محاولات التغيير في عالمنا، ماهي إلا جولات تعذيبية يتسلى بها الحاكم وحاشيته، وكأن هذه الصورة تحاكي مقولة مبارك في يوم ما :”خليهم يتسلوا”، وهي أمور لم يصرح بها الشاعر، ولكن دلالة التأويل المبني على النظرية السيامية في النقد الشعري تشي بها، حيث يقول في قصيدة صرخة:

أيتها المحاولة المراوغة البغيضة

الآن أخبرك بأني أكرهك

وآن لك أن ترحلي

فقد مللت الهبوط والصعود

سيزيف مات

والحجر صار أثقل

في رحلة القيام والقعود”.

والشاعر ينتصر في ثلاثية الوطن والغربة والحرية، لقيمة الحرية من خلال الرفض الهامس والثورة الخفية على الظلم والسجان، وليس بالحماسة والخطابة الشعرية، ويظهر ذلك بوضوح، على سبيل المثال لا الحصر، في قصيدة “لا”، وبالتحديد في المتتالية الرابعة التي تنتهي بنفس كلمة العنوان “لا”، ومن خلال الرفض والسخرية للنتائج الشكلية للعولمة على حساب القيم الأصيلة للمجتمع المصري، ويظهر ذلك بوضوح في قصيدة دنياي القديمة، والتي ينهيها بعبارات شعرية مؤثرة للغاية يقول فيها:

والمقهي الذي طالما تسرب حزني

على مقعد جانبي فيه

أغلقوه

باعوا واجهته ومقاعده

والنصبة الساخنة

والنادل فارع الطول

والأكواب الفارغة

ومراوح السقف القديمة

وطاولات النرد والدومينو

وأيد اللاعبين البارعة

وكل ما كنت أحسبه الوطن.”

ويتجلي الرفض في بعض قصائد ديوان “لا أرى جسدي” من خلال تعاطف الشاعر مع ذرة رمل تتألم تحت نعال العابرين، ومع سمكة لا يشعر من اصطادها ولا من يضعها في الزيت ولا من يتلمظ ليأكلها بالمأساة التي لحقت بها، ويستخدم الشاعر هنا لغة شجية وصور حزينة ترسم بكائية على لوحة تشكيلية بديعة تظهر فيها السمكة كطفلة افتقدت حريتها وضاع حلمها، بعد أن كانت تحلم بأن تلعب وقتا أكثر في كونها الفسيح، وتتبدى الرمزية الشعرية هنا في إسقاط القصيدة على أي إنسان في أي مكان وأي زمان يتعرض للظلم ويفقد حريته على أيدي حكام لا يشعرون بقيمته الإنسانية، كما أنها رمزية لجدلية الخبز مقابل الحرية، حيث يرفض الشاعر تلك المعادلة من خلال صورة شعرية يختلط فيها الواقعي بالفلسفي والدنيوي بالصوفي الروحاني حيث يقول في القصيدة:

لكنها تحاذر

من ذلك الطعم الخفي

الذي يقول لها دون مواربة:

موتك في بطنك

ولتعلمي أن الاشتهاء

يفضي إلى الفناء

وما نشدو به

ونحن على حافة الهلاك

أصدق الغناء.”

وفي قصيدة “لا” يعزف الشاعر على وتر ثلاثية الرفض والعدل والسماء، وينتصر بشدة لمبدأ المعارضة للظلم والظالمين، من خلال صورة متكاملة تضمنتها المتتالية الرابعة في القصيدة، ونصها:

الذين أتوا بالأمس

تجالسوا عند المساء

في غفلة من سجانهم

تساءلوا عن الرفض

وعدل السماء

ولما طال بينهم الجدل

اقترب منهم الذين أكلت الزنازين جرأتهم

وشيئًا فشيئًا ذهب الوجل

فوقفوا جميعًا عند الباب الثقيل

وانفجر العويل

همس وصراخ وبكاء

تجمع في قلب الساحة

التي طالما انحنت فيها الظهور

انداح على الأرض القاحلة

وأوقات الفزع الذابلة

رسم كلمة واحدة من حرفين

حرفان تمددا على اتساع الخلاء

كانا لاء.”

ورغم أن الشاعر كتب قصائد ديوان “لا أرى جسدي”، منذ نحو ربع قرن من الزمان، إلا أن جدلية الرفض في بعض قصائده تبدو كما لو كانت تواكب وتشاكس التطورات المستجدة على الساحة السياسية في المنطقة العربية، أو ربما لأن مشكلاتنا راكدة منذ زمن، فهو يرفض فيها مبادىء معطلة للحرية والديمقراطية كالصفقات الهادفة لمصالح ذاتية على حساب المجتمع، ويرفض العمل السياسي بنظام التجارة والمقاولات، ويطوي كعادته اليأس تحت قدميه وينتصر للأمل، حيث يقول في قصيدة صرخة :

ويصل ذلك الهتاف الذي كان يهتف:

أخرجوني من حساباتكم

أنا خارج هذه المقاولة

وحين يصير صوتي جهورا قهورا

لا يكف عن الصياح

حتى يزيج النور الظلام

ويقتل النصر الهزيمة

سأطلق أحلامي

وأُعلن استئناف المزاولة.”

قصائد الديوان حافلة بالصور البلاغية و الشعرية والمعاني، ويظهر فيها الشاعر متمكنا من أدواته، ففي المتتالية الثالثة من قصيدة”لا”، يصف مياه حنفية دورة مياه السجن بالدموع الحبيسة، التي تقتلها أيادي السجناء من لهفتهم الشديدة عليها، حيث يقول:

حين تُفتح الأبواب الخفيضة عند الصباح

ترى كل عين في أختها انكسارًا

وحين يصطف طابور طويل

أمام الكنيف

وتمتد الأيدي لتقتل دمعًا حبيسًا

لا يكفي لمحو العرق والغائط

وغبار الخريف

وعبث الرياح”.

وفي قصيدة “هي.. هي”، وبالتحديد في المتتالية الأولى يرسم الشاعر صورة حركية عميقة الدلالة والمعنى لشمس الأصيل، تعبر عن حالة حزن دفين، وتنطوي على صراع نفسي رهيب يعكس القلق الشديد من المستقبل المتمثل في الغد، خاصة أن الحلم العنود فيها يصبح على مشارف الموت ومهددا به، حيث يقول الشاعر:

"وحين تحاذر شمس الأصيل

تاركة أشرعة الليل تبحر

صوب الرحيل

وعند التقاء الأزرق الكيئب

بالأسود الرهيب

تقع الواقعة

وبين السنان ونار البارود

تتراءى أضرحة الحلم العنود”,

وقد استخدم الشاعر في تلك الصورة تعبيرات تنسجم مع الدفقة الشعورية، فالأزرق الكئيب يعبر عن الكسل والخمول، والأسود الرهيب يعبر عن الشدائد والمصائب، وعندما يلتقي الاثنان في نقطة واحدة، تقع الحرب بين البشر، وكأن ذلك يمثل قانونا إنسانيا حتميا، منذ الحرب بالسنان، أي بنصل الرمح والسيف، وحتى الحرب بنار البارود، أي بالبندقية والصاروخ والقنبلة، وفي كلها تتراءى أضرحة الحلم العنود، وهي صورة لها دلالة متماشية مع الطابع الصوفي والروحاني للقصائد، فالأضرحة لفظ يخص في الأساس أولياء الله الصالحين.

كلمة أخيرة، أقولها في هذا المقام، وهي أن سياحتي في قصائد الديوان وجمالياتها وأفكارها وصورها والتجارب الشعورية الخاصة بها، قد أوضحت لي أنها قصائد متنوعة مؤثرة بشدة في نفسية المتلقي، وتمثل قيمة مضافة في المشهد الشعري النثري، وقد تأكد لي هذا، من خلال شاهد مهم للغاية، وهو أن عنصر الدهشة الشعرية فيها استفزني ودفعني لقراءتها مرات عديدة، وربما يكون قد شجعني على ذلك قصر الديوان، فهو لا يزيد عن 3300 كلمة، فضلا عن أفكار القصائد وأساليبها البلاغية تجعل أي ناقد لها قادرا على وضع يده بسهولة على المميزات السبع في هذا النص الشعري النثري المتميز.

 

(المصدر: الكتابة)