ما أبهى هذا الجمال الموجع في القصة التي تستعيد لحظات الرفقة الجميلة بعدما مضى من شارك فيها وهو في سمت الكهولة، وتستعيد معها ألق الشعر والبحث عن الجمال، وهو يتجسد في الصبايا والنساء السائرات على النهر، بوجوههن المشعة ونظراتهن الشبقة التي توقد في الصديقين أيضا وجع الحرمان والكبت.

الجمال يوجع

سلام إبراهيم

 

إلى روح الشاعر "عزيز السماوي" 1942-2001

تواعدنا في مقهى "أم كلثوم" في طرف شارع الرشيد من جهة الميدان، المكتظة بعشاقها والدخان وصوتها الصادح بحفلاتها المطولة، وصفها صديقي "عزيز السماوي" بذلك بعد أن أخبرته بأنني لم أدخلها يوماً، كنت أمرّ على رصيفها يومياً في طريقي إلى مكتبات "المتنبي" التي سكنتها بعد أن حذقتُ طرق سرقة الكتب، لكن الازدحام والدخان ووجوه الرواد السكارى طرباً لم يشجعني بالجلوس، كنتُ محتدماً أول أيامي في الجامعة، فالجبهة بين الشيوعي والبعث في أيامها الأولى، والوقت ضيق بين الدروس وحلقات اتحاد الطلبة العام السرية، والوسط الأدبي اليساري الساحر الذي دخلته بصحبة عزيز، وعلي الشباني.
كالعادة وصلت متأخراً ربع ساعة، وجدته سارحاً يدندن مع "فكروني"، لعزيز صوت فريد يغنيها في ختام السهرات في البار والشارع. هبّ واقفاً حال رؤيتي بقامته الفارعة المشدودة قائلاً:
-
ليش تأخرت؟
دقيق جدا ومرتب في كل شيء، بملبسه الأنيق وكلامه المكثف المحسوب، كنت أنصت إلى حواراته وكيف ينطق المفردة ويسبك الجملة ببطء وتركيز وتوكيد، لم يستطرد يوماً، وحينما توطدت علاقتنا وتعمقت شكا لي من صديقنا المشترك الشاعر "علي الشباني"، من سكره، فعلي حينما يكون بمزاج مبتهج يحول أحياناً الجلسة إلى هستيريا من الضحك والتصنيف والمزاح بالأيدي، فتتحول الجلسة إلى ضربٍ على المؤخرات وضحك هستيري والأخير كان يزعج عزيز جداً، ترجاني في أخر مرة قائلاً:
-
أكثر من مره حكيت وياه ما يفيد، يمردْنه الجلسة سلام، أحكي وياه، أنت تلتقي بيه يومية بالديوانية يجوز يسمعك!
كان عزيز يسكن "الطوبجي" ببغداد ويعمل مهندس طرق وجسور في وزارة التخطيط، ليس هذا فحسب بل كان في أوقات الملل يتسلى في حل المعادلات الرياضية المعقدة، فكنتُ مع نفسي أتساءل:
-
كيف يكون شاعر مثل عزيز منظماً في كل شيء، العائلة، العمل، الوسط الأدبي، العلاقات، يملح الجلسات بنكات يبتكرها عميقة الدلال وكأنها محسوبة رياضياً بينما يضج شعره بفوضى وغربة الروح وجنون الدراويش، والإيقاعات بجرس مفرداتها المنتقاة بدقة، وحتى طريقة قراءته لقصائده فريدة تخصه ولا مثيل لها.
لم أجد تفسيراً لتركيبته حتى لقاء مقهى "أم كلثوم".
خرجنا إلى رصيف شارع الرشيد باتجاه باب الشرجي، انغمرنا في حديث عن الشعر وقصيدته الأخيرة الملحمية "أغاني الدرويش رقم1" التي يقرأها في نهاية كل جلسة واقفاً يهدر كأنه كائن أسطوري ظهر من باطن الملحمة:
(أريدك طيف وإبنومي تفيض دموع
ولو حزني ثجيل وما تبرده دموع
مو گلبی عراق التنبض أنهاره حزن وأشموع
إو تلمع ع القميص دموع
وأحزن
يضحك الصفاف
ولك حزني ظلام إو لا درب ينشاف
أخاف
أخاف
أخافن حتى من روحي
أنه بلياك)
ينشد بلفظ المفردات لفظاً مشدداً ويكرر المقطع مرات عديدة فيحول القراءة إلى طقس تفرد به من دون الشعراء. كنت أحاول معرفة باعث وظروف تولد القصيدة، وهذا البحث تعلمته من ليالي سهري مع علي الشباني الذي روى لي قصة كل مقطع وبيت من قصيدته الملحمية "خسارة" فأدركت أن عمق البيت الشعري والحسي يأتي من التجربة ودلالتها. وفيما كنا نغور في هذه المداخل الخفية سحبني من ذراعي قائلاً:
-
من هنا
وأشار إلى فرع المتنبي، ثم وضحّ:
-
من سوق السراي نعبر إلى شارع النهر!
وعدنا إلى القصيدة والدراويش، فأخبرني أنها تولدت عقب حضوره حفل لدراويش الطريقة القادرية، نسبة إلى الشيخ "عبد القادر كيلاني" في كركوك حيث ذهب إيفاداً لفتح طرق جبلية هناك، ووصف أحاسيسه وهو يشاهد الدراويش عراة الصدور يقرطون مصباح الزجاج ويغرزون الحديد المدبب ببطونهم وهم يرقصون في شبه سكرٍ مرددين على قرع الطبول:
-
الله حي.. الله حي!
كنا نخرج من زحمة سوق القرطاسية ونعبر باتجاه مدخل شارع النهر فيما سرحت بعيدا متخيلاً مشهد الدراويش الدائرين حول موقد نار يضيء أجسادهم المتمايلة على إيقاع الطبول والله حي وعيني صديقي المذهولتين وهو يلاحق الأجساد الحاضرة والأرواح الغائبة، مرددا مع نفسي مقاطع القصيدة التي يكرر فيها المفردات والإيقاعات بمعانٍ مختلفة، رابطاً بينها وبين المشهد الذي وصفه بإحساس ودقة وانفعال، فتولدت لدي أفكار عن الرابط الخفي بغيتُ منه توضيحاً، فالتفتُ ونظرت إليه، وجدته يحملق بوجوه الصبايا والنساء الضاحكة السائرات مجاميعاً وأزواجاً، بوجوههن المشعة الساحرة ونظراتهن الشبقة التي أوقدها الحرمان والكبت والأسرار، أو هكذا تخيلتهنّ، لم أجده معي، كان يسبح في عالم الوجوه وحدائق الأجساد وألوان الملابس الضيقة، أنا الآخر نسيت القصيدة والحوار ورحت أحملق بعيني الهمجيتين التي تتابع الجميلة المقبلة وتحرز كتلتها من الأمام ولا تكمل متعتي إلا بقياس المؤخرة وانكسار الخصر في عادة لا زالت تلازمني وأنا عبرت الستين، بينما "عزيز" يتابع الوجوه بعينين متحركتين ورأس ثابت، نسير مثل مخدرين سادرين بالصمت والخيال إلى أن انتبهت في العشرة أمتار الأخيرة إليه وهو يكلم نفسه بتمتمة لم أفهم منها شيئاً للوهلة الأولى، اقتربت منه مرهفاً سمعي والزحام خفَّ فأتاني صوته متألماً لائماً بجملة واضحة:
-
عزيز.. عزيز.. صير كلك عيون.. كلك عيون!.
ظل يرددها مثل درويش حتى نهاية الشارع، توقفنا قرب جدار بناية قديمة مجاور لبار "شريف حداد"، كان يعبّ نفساً عميقاً كمن ضاع عليه الهواء ثم نشج بصمتٍ، فارتبكتُ. ربت على كتفه الضخمة برفق متسائلاً:
-
عزيز.. عزيز.. أش بيك.. أش بيك؟
هدأ قليلاً ثم قال بصوتٍ واهنٍ:
-
سلام.. الجمال يوجع .. يوجع!


24-4-2020