في هذه القصة تكتب القاصة المصرية المتميزة علاقة الابنة بأمها المريضة وتمثل المخاوف والوساوس والتخيلات التي تنشأ من سماعها لتأوهات الأم الحدث الرئيسي. راصدة في الوقت نفسه معتقدات اجتماعية تؤثر في الشعور بالمرض والموت.

أمي

مي التلمساني

بعد أربع زجاجات من الستيلا المثلجة، انكسرت زجاجة جي أند بي أهديتها لصديقي وحافظ عليها من العين طوال السهرة. الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل والمطعم يغلق بابه في الثانية صباحاً. دماغي ثقيل وحركتي أبطأ من المعتاد لكني جلست خلف مقود السيارة كأي سائق جسور وقدتها حتى البيت في مصر الجديدة. وصلت بالدفع الذاتي كأني منومة مغناطيسياً. أري السيارات المسرعة تمر بجواري كالأسهم، أتذكر بشكل تقريبي هيئة الطرق، والشوارع المتعامدة عليها، لا أتوقف في إشارات المرور فلا أحد يتوقف عندها على أية حال وأصل إلى البيت في الثانية بعد منتصف الليل. زمن قياسي بالنظر لحال السائقة. نمت في الثانية والربع بعد أن غسلت أسناني جيداً. آخر شيء تذكرته قبل النوم هو أن السهرة انتهت بحادث انكسار. الويسكي الذي أهدرته حركة القدر تحت أقدامنا يساوي مئة وعشرين جنيهاً مصرياً وصديقي مبتئس يردد: لم أكسر أبداً زجاجة في حياتي. دخل الجرسون في وسط المشهد وقال: أخذت الشر وراحت. أتخيل الجرسون بعد رحيلنا المترنح جالساً تحت المائدة وفي يده اسفنجة يشفط بها "نعمة ربنا" ويعيد عصرها في زجاجة ستكون من نصيب أحد المخمورين الجوالة في وسط المدينة.

في الثالثة والنصف صباحاً (وقتها لم أنظر في الساعة، لكني نظرت فيها فيما بعد وبحساب الأخماس والأسداس خمنت أنها كانت الثالثة والنصف صباحاً). صحوت على صوت صراخ. انتبهت إلى مصدر الصوت على الفور، كان قادماً من غرفة أمي. ناديتها تعالي يا ماما! بالطبع لم تأت. ناديتها ثانية. ثم أدركت أن ما أفعله أشبه بمن يصحو من كابوس متصوراً أنه نائم، قمت من الفراش وجريت نحو باب الغرفة. كانت في تلك الأثناء تجيب سؤالي الثاني الذي رددته وأنا بين النعاس والصحو: إنت فين؟ لنبرة متلعثمة. أنا هنا! بصوت باك وممطوط. وجدتها جالسة على مقعد في الصالة، بملابس البارحة، عصاها ذات الأربع أصابع التي تشبه مخالب حيوان خرافي مستقرة بجوارها. تنازع من الألم. صور المسلسل السوري الذي تشاهده أمي بانتظام تقفز إلى ذهني وهلاوس الأمس مستمرة: شو بكِ؟! آلام رهيبة، رهيبة، عظامي تتفتت، لا أستطيع احتمال الألم. والحقنة التي جاء الرجل مساءً ليعطيها لك؟ تسبب كدمة وألماً بجوار مكان الحقنة السابقة. اذهبي أنت ونامي يا بنتي! أنا تعودت على هذا الوضع.

بالبيجامة الروز أقف في منتصف الصالة مطرقة. النور يؤلم عيني وطبول في رأسي: شو بنا، شو بنا، يا حبيبي شو بنا. هل هذا وقته يا فيروز، صحيح مفيش دم! وماذا أصنع للألم الذي تحول لكرة هائلة من الفوم تقف حائلاً بيني وبين أمي؟ كرة لا سبيل لتحطيمها، تتخذ أحياناً شكل العقاب لأني خرجت اليوم وتركت أمي وحيدة مع عظامها المهترئة. وتتخذ أحياناً أخرى شكل الهم الجاثم على القلب الذي يدفعني لأن أتخيل أمي وهي تقفز من شرفة الدور الخامس كما فعل دولوز حين قفز من شرفة الدور السادس لأنه بعد أربعين عاماً من احتمال الألم لم يعد يقوى على احتماله. شفطته كرة الفوم. لكن أمي مؤمنة بالقضاء الإلهي ولن تفعل ما يغضبه هناك في الأعالي حيث لا يوجد ألم، توجد فقط أكوام هائلة من العظام يحيها وهي رميم.

هات كوب ماء. كوب ماء مثلج وفوار لتهدئة ارتجاع المريء. نسيت أن هناك فضلاً عن آلام العظام، آلاماً أخرى مستترة تظهر وتختفي بلا منطق، عرق النساء، التهاب المفاصل، ماء على الركبة، انزلاق غضروفي، نقرس، أذن لا تسمع، عين لا تدمع، مشاكل في القلب، ضغط دم وارتفاع نسبة السكر. أمي تكرر على مسمعي قائمة الأمراض للمرة العاشرة وتقول الحمد لله في نهاية القائمة ثم تتذكر مرضاً نسيته فتضيفه بنبرة تشي بالفخر لأن ذاكرتها مازالت حية: آه وخشونة في فقرات الرقبة. صابرة ومتشبثة بالحياة. بعد شرب الفوار: اذهبي لتنامي يا بنتي، فماذا ستفعلين لي؟ ليس باستطاعتك أن تفعلي شيئاً. نامي. أتركها لأفكارها وأكاد أسمعها تقول: ألم أقل لكم، لا أحد يستطيع أن يفعل شيئاً لتخفيف الألم. ألم أقل لكم إنه أكبر وأقوى وأشرس منكم جميعاً؟ ومن يمتلكه هذا الألم؟ أنا، أنا وحدي، وسأموت به، لأني الوحيدة التي تعيش معه. فوم يزداد طبقة فوق طبقة. راحت "دماغ السهرة" بلا رجعة وبطبيعة الحال لم أسمع نصيحة أمي، لم أنم. التأوهات تأتيني من المقعد القريب من باب الغرفة ونور الصالة مضاء والألم استقر مثل ماسكرا ثقيلة ورخيصة علقت بأهداب الليل.

الفرق بين مرض أبي بالسرطان وأمراض أمي المتنوعة التي تتذكرها جميعاً وتعدها عندما تكون رائقة المزاج (تؤكد أحياناً أنها 17 وأحياناً أخرى تنسى واحداً أو اثنين) هو أن جسم أبي تنازل عن الحركة في سبيل ألا يتألم. الشلل أبطل وظائف الجسم وأبطل معها حاسة الشعور وظل هكذا حتى وفاته. أما أمي فما زالت تتحرك، وتشكره لأنها تذهب للحمام بمفردها وتجهز طعامها بنفسها وتصرخ وتتأوه كل ليلة تقريباً وتناديه، يا رب. يزيد الصراخ قليلاً في تلك الليالي التي يخرج فيها الأولاد للسهر. ربما يكون الربط بين الألم وخروج الأولاد مجرد نظرية لا تستند لإثباتات علمية. ولكننا نستطيع إثبات النظرية لو أخضعناها لمنطق التأمل والملاحظة. أحياناً تظل تتأوه حتى الساعة الخامسة صباحاً، موعد صلاة الفجر. الساعة الخامسة الآن، ما زلت أمي مستيقظة فكيف يأتيني النوم والحال هذه؟ ذهبت إلى فراشها بعد أن قضت زمناً على المقعد المجاور لباب غرفتي. يعلو صوت أنفاسها. نامت أخيراً. نامت ونام الألم إلى حين. يا رب لا تجعل آذان الفجر يوقظها. البيت محاصر من جميع الجهات بالمساجد ومكبرات الصوت. أيها النائم سلم نفسك للصلاة. بالطبع يوقظها الآذان. تقوم للوضوء وترى النور في غرفتي مضاءً. تنادي لتطمئن علي وتندم في سرها أنها أيقظتني. لكن لهفتي عليها قبل ساعتين طمأنتها، خففت الألم، أكدت أنها على حق، لهفتي دليل ملموس على وطأة الألم، يستحق الأمر إيقاظ الكون كله ليكون شاهد عيان على ذلك الألم اللعين، المخفي. الألم الذي لم يكن أحد يشك في وجوده، الذي لا يظهر في صورة جروح غائرة ونزيف ودماء، يظهر في صورة بكاء وتأوهات، ويوجد لأن ثمة جمهور يشهد عليه.

تعلو صورة الألم فوق كل شيء، وتبطل مفعول أحسن أنواع الخمور. هكذا فكرت وأنا أجاهد لأستعيد مذاق الجلسة الحلوة رفقة أصدقائي. فكرت أيضاً وقد أفقت تماماً من أي تأثير من شأنه أن يشوش الذهن أن أمي تحتاج لكأس نبيذ يومياً. ولكن كيف أقنعها أن قليلاً منه يصلح المعدة. هي تكره الرائحة ولا تريد أن تغضب من قال لا تقربوا الخمر. رغم أنه في أقوال أخرى وفقاً لروايات أخرى لم يقل ذلك أبداً. ما قاله وما لم يقله، سر بشري. والبشر لا يعترفون فيما بينهم إلا بما قاله لهم هم تحديداً، وبلغتهم الأم. كل واحد يؤمن بما قاله له و ينكر ما قاله لغيره. مسألة الخمر من تلك المسائل الخلافية على مستوى البشرية، جمعاء... جمعاء! لو توافق أمي لأعطيتها كأس نبيذ أو أفضل كأس ويسكي يخدر الألم قليلاً. طعمه يشبه طعم أدوية السعال، أحاول أن أقنعها في خيالي لكنها لا تقتنع فأكف عن التمني. أغفو قليلاً. تعاودني صورة الشرفة وأمي تطل من فوق السور الحجري وتفكر في إنهاء الألم نهائياً ثم تحجم وهي تتصور شكلها وهي تهوى في الفضاء. يخيفها الطيران. يرعبها الشعور بآخر دفقة ألم عند الارتطام بالأرض. وأنا أشجعها وأقول لا تخافي. أفكر: لابد أن ينتهي الألم فوراً. إما هو وإما هي. فوم شفاف يعلو طبقات ويبعدني عن أمي أميالاً. يبدو أني لا أفهمها، لم أفهمها أبداً. أصرخ: فيه إيه يا ماما... فيه إيه... تعالي. لا تأت ولا أذهب إليها. أصحو من النوم على تأوهاتها من جديد. تعودت على ذلك، تبكي وهي تقول إنها تعودت على الألم. أيوب. ثم: الله يعينك، تقولها لصورتها في المرآة وهي ذاهبة للوضوء، في فجر ليس له آخر.

أنتبه لصوت زقزقة العصافير قادم من الميدان. الصباح وشيك، وأنا يجب أن أنام. يجب أن أكف عن التصنت على أنفاس أمي.