وداعٌ آخر لرمزيّة معماريّةٍ فريدةٍ منحت المنامة التّاريخيّة بعض ملامحها
بعد سيرةٍ منحَت عوالم العمارة العالميّة جماليّاتها وملامحها، وكرّست موضوع الهويّة فلسفةً تصميميّة فريدةً، رحلَ المعماريّ العراقيّ والفنّان التّشكيليّ والكاتب رفعت الجادرجي، الملقّب بفيلسوف العمارة، الشهر الماضي في لندن، وبذلكَ يودّعُ العالمَ واحدًا من أبرزِ معماريّيه ومنظّري العمارة، الذين أثروا الجماليّات الهندسيّة والتّصميميّة بفرادةِ ما قدّموا من منجزاتٍ، والذين منحوا الفلسفةَ المعماريّة رؤى عميقة تتناول التّركيبة الاجتماعيّة – العمرانيّة، ومساءلات الهويّة وغيرها.
ولهذا الفقد، أكّدت معالي الشّيخة ميّ بنت محمّد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثّقافةِ والآثار: (هذا الرّحيلُ لفيلسوف العمارةِ، هو وداعٌ آخر لجيلٍ عريقٍ من المعماريّين الذين أسّسوا هويّات بصريّة ونظريّات معماريّة فريدة، فبعد محمّد مكيّة وزها حديد، يغادرُنا اليوم رفعت الجادرجيّ، الذي صدّر فلسفةَ العمارة من وطنٍ عربيٍّ إلى العالمِ كلّه، مراهنًا على الأصالةِ والهويّةِ كتعبيرٍ عالميٍّ وفلسفيّ)، مشيرةً: (أمام هذا الفقد، يبقى المعمارُ هو هويّة الرّوح والأوطان، وهو ما نعوّلُ عليه لذاكرةِ أولئكَ الذين كرّسوا أعمالهم بكلّ محبّةٍ وجمالٍ في أوطاننا. إنّ المنامة التّاريخيّة التي نسجَ فيها الجادرجيّ هندسته ومعماره ستبقى وفيّةً لهذا الرّمزِ التّاريخيّ، وحافظةً لفلسفته ومعماره). مبيّنةً أنّ الجادرجي بدوره يتبنّى الحفاظ على الأصالةِ وهويّات المدنِ، وهو ما شكّل مسعى حقيقيًّا وفريدًا في مسارِ حياته عبر الإنجازِ والحفاظِ على ما أُنجِز كذاكرةٍ وطنيّةٍ للشّعوب.
وقد أشارت هيئة البحرين للثّقافةِ والآثار عبر (نداء المنامة) في فبراير الماضي إلى استراتيجيّتها للاعتناء والحفاظ على المكوّنات التّاريخيّة التي تنفردُ بها المنامة التّاريخيّة، مشيرةً عبر الخريطةِ التي دشّنتها آنذاك إلى مسارٍ ثقافيّ يسردُ حكايات معماريّة عالميّةً تحتضنُها هذه المدينةِ منذُ تشكّل ملامحِها وتراكيبها العمرانيّة، وقد أشارت إلى فيلسوفِ العمارةِ الجادرجيّ وأعماله باعتبارها مكوّنًا أصيلاً للتّراث الحديثِ، وذاكرةً هندسيّة فريدةً، وذلك من خلال (عمارة أوال) الواقعة على امتداد شارع الحكومة، وتحديدًا مقابل سينما القصيبيّ، وبالقربِ من عددٍ من الملامح الهندسيّة الأخرى من تصميم المعماريّ العالميّ محمّد مكّيّة. كما يجدرُ بالذّكر أنّ الجادرجيّ قد اتّخذ من البحرين إحدى المحطّات التي قدّم فيها أعماله ونظريّاته ومفاهيمه التّصميميّة، وذلك خلال تقلّده رتبة أستاذ زائر للعديد من المدارس الهندسيّة في الفترة ما بين العامين 1983م و1992م، حيث تنقّل ما بين جامعات العراق ومختلف دول العالم من بينها: البحرين، لبنان، سوريا، تونس، إنكلترا، النّرويج والولايات المتّحدة الأميركيّة، وذلكَ لمناقشة العديد من المفاهيم هو فلسفة الفنّ، الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع، والعلوم البيولوجيّة والفلسفة.
يُعتَبر المعماريّ رفعت الجادرجي نموذجًا للالتزامِ بالهويّة المعماريّة الوطنيّة، وقد شكّل خلالَ سيرته إرثًا متكاملاً يؤكّدُ إسهامَ العمارة في صياغةِ هويّات المدن والأوطان، حيث وصفَت العراق رحيله بالقول أنّ (فنّ العمارة في العراق والعالم يفقد رئته الحديثة التي تنفّسَت حداثةً وجمالاً، حيث مارس الجادرجي العمارة بوصفها وظيفةً إنسانيّة وجماليّة وهبها كلّ حياته، عاملاً ومنظّرًا). ومن أهمّ أعماله: نُصُب الجنديّ المجهول الأوّل في ساحةِ الفردوس (1958) وقاعدة النّصب التي أُقيمَ عليها نُصب النّحّات جواد سليم لاحقًا، مبنى المجمع العلميّ العراقيّ (1966)، مبنى اتّحاد الصّناعات الوطنيّة (1966)، مصرف الرّافدين (1969)، بناية البريد المركزيّ في السّنك (1970)، مبنى مجلس الوزراء العراقيّ (1975) وغيرها.
كما يُصنّف الجادرجيّ كمعماريّ من طرازٍ خاصّ، ويوصف باعتباره عبقريًّا في المعمارِ خصوصًا وأنّ أعماله تحملُ رمزيّات عدّة تتوغّل في ذاكرةِ الشّعوبِ، وتحتضنُ كافّة المستويات الاجتماعيّة والفئات، كما أنّها تجسّدُ شواخص بصريّة شاهدة على حداثةِ العمارةِ العربيّة. وحول فلسفته، دعا الجادرجيّ خلال حياته إلى إعادة التّفكير في العمارةِ، قائلاً أنّ (العمارةَ ليست طرزَ مبانٍ نسكنها، إنّ مفهومها يدلّ على كونها كيانًا يشاركنا العيش والوجود والمعرفة، وأثريًا قابلاً للتّغيير والتّقدّم والتّجدّد وابتكارِ عالمٍ ممكنٍ، يبدأ من التّاريخ ليطلّ على المستقبل)، كما كان يرى أنّ البناء الحضاريّ يتقاسمه جانبان: عمليّة الإنجاز، والجانب الأهمّ: الحفاظ وصيانة ما أُنجِز، مؤكّدًا أنّ هذه العلاقة هي ما تمثّل ذاكرة الشّعوب وتكوّن وجدانها. وخلال مقابلاتٍ أُجرِيَت معه كان يؤكّد: (أعمالي المعماريّة بمثابةِ أطفالي)، مشيرًا إلى أنّ أطفاله هم شواهد حياة في شوارع بغداد والعالم العربيّ. وبالفعلِ، فقد اعتبرَ هدم نُصب الجنديّ المجهول الأوّل الذي قامَ بتصميمه عامَ 1958م في ساحة الفردوس بالعراق، والذي تمّت إزالته عام 1982م فقدًا لأحدِ أبنائه، وقد قام بتوثيقِ لحظاتِ الإزالة باستخدامِ آلة التّصوير الخاصّة به، قبل أن يلتقطَ صورةً لنفسه بالقربِ من الأنقاضِ مع الشّخصِ المسؤول عن الهدم، ساخرًا بالقول أنّه (من الأشخاصِ الذين تميّزوا بقدرتهم على الهدمِ بطريقةٍ فنّيّةٍ وبأقلِّ التّكاليف)، وهو ما يحملُ إشارةً إلى أنّ معول الهدم هو الطّريقةُ الأسهل للتّخلّصِ من الرّمزيّات ومحو الذّاكرةِ.
وإلى جانبِ اشتغالِه في العمارة، قدّم الجادرجيّ العديد من الأعمال الكتابيّة والمؤلّفات التي تحملُ تنظيرات ومفاهيم حول العمارةِ والفنّ التّشكيليّ، من بين كتبه: (شارع طه وهامر سميث (1985)) والذي يتناول تحليلاً للظّواهر المعماريّة وفقًا لنظريّة المادّيّة الجدليّة، (الأخيضر والقصر البلّوريّ (1991)) وهو إحدى مؤلّفاته فترة سجنه والذي يتناولُ بنية عقليّة جدليّة تكرّس مجال العمارة مدخلاً لدراسة المجتمع وتركيبته الاجتماعيّة والنّفسيّة، (مقام الجلوس في بيت عارف آغا (2001)) والذي يقدّم من خلاله دراسة تحليليّة للعلاقة التي يمارسها الفرد الإنسان عند تحديد هويّته وتركيبتها من خلال تعامله مع ما يتمّ صنعه من أثاثٍ منزليّ وأبنية، (دور العمارة في حضارة الإنسان) والذي يشرحُ آفاقًا لفهمِ أهميّة الرّسالة الثّقافيّة والإنسانيّة التي تقدّمها العمارة، ويُعتَبر هذا الكتاب من طليعةِ الدّراسات التي تناولت العمارة فنًّا ورسالةً، بالإضافةِ إلى كتبه: (حوار في بنيويّة الفنّ والعمارة)، (صورة أبّ: الحياة اليوميّة في دار السّياسيّ كامل الجادرجيّ)، (صفة الجمال في وعي الإنسان)، وكتابه (في سببيّة وجدليّة العمارة) الذي صدرَ عن مركزِ دراسات الوحدة العربيّة جامعًا المقالات التي كتبها الجادرجيّ بين العامين 1995 و2006م، وقد حصدَ هذا الكتاب جائزة الشّيخ زايد للكتاب عام 2008م عن فئة الفنون والدّراسات النّقديّة، وأشارت لجنة التّحكيم أنّ هذا الإصدار يجمع بين حسّ الفنّان وتأمّل المفكّر ويقدّم منظورات جديدة لمحدّدات فنّ العمارة بين الحاجات النّفعيّة والرّمزيّة والجماليّة على المستويات الجماعيّة والفرديّة. وقد أصدرَ بمعيّة زوجته الكاتبة العراقيّة بلقيس شرارة كتابه (جدار بين ظلمتين) الذي يروي سيرته عندما كان في السّجن.
وضمن اشتغاله على حفظِ الذّاكرةِ، حرص الجادرجيّ على توثيق المعمار العراقيّ عبر الفوتوغرافيّة، وضمّ أرشيفه الخاصّ عشرات الآلاف من الصّور، ففي حين كان والده السّياسيّ كامل الجادرجيّ من روّاد التّصوير في العراق ممّن انهمكوا في توثيق الحياة اليوميّة، انشغل الابن رفعت في توثيق المعمار، وضمّن صوره توثيقًا للعديد من الأبنية والتّصاميم الهندسيّة لمعماريّين آخرين، لم تعد أعمالهم موجودة اليوم. ويُعتَبر رفعت فوتوغرافيًّا محترفًا حيث تعلّم فنّ التّصوير من أنسل آدمز في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وقد عمِدَ إلى تسليم المؤسّسة العربيّة للصّورة عام 2013م خمسين ألف صورة لتلكَ التّوثيقات الصّوريّة، التي تُعتَبر رصدًا لحالة بغداد العمرانيّة وتغيّراتها في فترة الخمسينيّات والسّتينيّات، والتي تُعتَبر حينها العراق تعيش مرحلة حداثةٍ ثقافيّةٍ وجماليّة وفنّيّة.
من الجدير بالذّكر، أنّ فيلسوف العمارة رفعت الجادرجي قد وُلِدَ نهاية العام 1926م، حصل على شهادة البكالوريوس عن تخصّص العمارة من جامعة هامر سميث بلندن عام 1954م. حاز على جائزة الأغا خان للعمارة عام 1986م، واختيرَ كرئيسٍ مدى الحياة في لجنة التّحكيم المعماريّة تقديرًا لأعماله الهندسيّة كما حصدَ جائزة تميّز للإنجاز المعماريّ مدى الحياة من جامعة كوفنتري البريطانيّة (Coventry University) عام 2015م. أنجز الجادرجيّ قرابة 100 مشروعٍ معماريّ في العراق ومنطقة الخليج العربيّ، وتنوّعت تصاميمه ما بين المساكن الخاصّة والمنشآت الحكوميّة والصّناعيّة. وقد تمّ تكليفه مستشارًا لإعادة إعمار بغداد. وقد تفرّغ الجادرجيّ بعد العام 1983م للكتابة والتّعليم ولأرشفة مشاريعه الخاصّة، إذ أطلق مؤسّسة تحملُ اسمه في العام 2005م في بيروت بهدف دعمِ الدّراسات المعماريّة العربيّة والحوار حول مصير ومستقبل العمارة في المدن العربيّة. وقد أهّلت إسهاماته في العمارة لأن يكون في طليعةِ المعماريّن العرب، ومن أبرز المعماريّين في الشّرق الأوسط.