إلى ذكرى عبد الله السماني، طالب الكلية المهنية بمدني، الذي أحرق نفسه احتجاجا على حلّ الحزب الشيوعي، وإخراج نوابه من الجمعية التأسيسية في نوفمبر 1965
1
منذ تأسيس الحركة السودانية للتحرر الوطني في أغسطس 1946 والتي كانت نواة الحزب الشيوعي السوداني (الحزب الشيوعي فيما يلي) ظل الحزب الشيوعي هو القوة الأساسية والمهيمنة لليسار السوداني.
وتاريخيا كانت مصر هي البوابة الرئيسية التي فتحت السودانيين على الحركة الشيوعية. وما يمكننا تقريره في واقع الأمر أن تراث الحركة الشيوعية السودانية، بل وتراث اليسار السوداني عامة بمدارسه الأخرى، هو تراث شرق أوسطي بمعنى أن ما حدث في مصر خاصة ومنطقة الشرق الأوسط العربي بوجه عام لعب الدور الحاسم في تكوين الهويات الإيديلوجية المحدّدة لقوى اليسار السوداني وخاصة الحزب الشيوعي.
ولقد كانت الحركات الشيوعية المنظّمة في مصر والشرق العربي بدورها وليدة الأثر الزلزالي لانتصار الحركة الشيوعية الروسية بقيادة فلاديمير إيليتش لينين وانتزاعها للسلطة في أكتوبر 1917. وعقب ذلك بأقل من عامين وفي مارس 1919 أنشأ لينين الأممية الشيوعية أو الكومنترن (Communist International or Comintern) والتي أعلنت أن هدفها هو "التأسيس الفوري لديكتاتورية البروليتاريا على المستوى العالمي على ضوء انحلال الرأسمالية الوشيك. وهو هدف يفترض استلام سلطة الدولة وتحطيم آلة الدولة البرجوازية، كما يفترض أن ديكتاتورية البروليتاريا هي الوسيلة النظامية لقهر الطبقات المستغِلة، ولاستبدال الديمقراطية البرلمانية بحكم ذاتي تمارسه الجماهير عبر المؤسسات التي تنتخبها بنفسها، ولانتزاع رأس المال، ولإلغاء المِلكية الخاصة لوسائل الانتاج وتحويلها لمِلكية الدولة."[1] كان هذا الموقف الجذري الهادف لشنّ ثورة عالمية تسقط البرجوازية أينما كانت امتدادا لموقف لينين الذي عبّر عنه عام 1905 في كراسته تكتيكان للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية والذي ذهب فيه إلى أن البرجوازية الروسية عاجزة عن إنجاز مهام التحوّل وأن المرحلة هي مرحلة تحالف بين البروليتاريا والفلاحين لإقامة "دكتاتوريتهم الديمقراطية" التي ستعقبها دكتاتورية البروليتاريا. ولم تعكس صيغة الكومنترن هذا الموقف النظري فحسب وإنما عكست أيضا الثقة المفرطة بالنفس التي أحسّ بها البلاشفة بعد أكتوبر 1917 والتي جعلتهم ينظرون لروسيا بوصفها المركز الجديد للثورة العالمية، وجعلتهم ينظرون "للماركسية -اللينينية" بوصفها نظرية هذه الثورة. وقد ظهر كل هذا بصورة جلية عندما طرح لينين عام 1920 الشروط الإحدى وعشرين للانضمام للكومنترن والتي وضعت الأحزاب الشيوعية فعليا تحت سلطة الحزب الشيوعي الروسي. وكان الشرط الثامن بين هذه الشروط ذا أهمية خاصة للشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية، إذ يعلن: "إن من الضروري على وجه الخصوص أن تقوم الأحزاب الشيوعية للبلاد التي تسيطر برجوازياتها على مستعمرات وتضطهد شعوبا أخرى، بتحديد موقف واضح وجلي حول مسألة المستعمرات والشعوب المضطهَدة. إن كل حزب يرغب في الانضمام للأممية الشيوعية يضطلع بالتزام أن يكشف ويعرّي حِيلَ وخِدعَ قواه الإمبريالية الخاصة في المستعمرات، وأن يساند كل حركة تحرير في المستعمرات ليس فقط بالكلام ولكن بالفعل، وأن يطالب بقذف مواطنيه الإمبرياليين خارج المستعمرات، وأن يغرس في قلوب عمال وطنه علاقات أخوية صادقة بالعمال من سكّان المستعمرات والشعوب المضطهَدة، وأن يقوم بالعمل الدعائي المتصل وسط جنود بلاده ضد أي اضطهاد للشعوب المستعمَرة."[2]
في هذا السياق العالمي الذي خضعت فيه البلدان العربية للاستعمار الأوربي وتأثرت بما يجري في الاتحاد السوفيتي نشأت الحركة الشيوعية العربية وتأسست أقدم الأحزاب الشيوعية في فلسطين (1919) ومصر (1922) ولبنان (1924) والعراق (1934). وفي حالة السودان فإن البذور الأولى للحركة الشيوعية ربما كانت موجودة منذ عشرينيات القرن العشرين إن صحّ أن حركة اللواء الأبيض، والتي كانت من إرهاصات تكوّن الحس الوطني السوداني وحركته، ربما قد وصلتها رياح الهبّة الثورية الآتية من أوربا. فحسب جعفر محمد علي بخيت فإنه وأثناء دراسته لحركة اللواء الأبيض عثر على مجلة صادرة من اتحاد للطلاب المصريين في برلين مبعوثة لعلي عبد اللطيف. وقد حوت المجلة مقالا يهاجم مشروع الجزيرة واستغلاله للمزارعين بنفس اللغة التي هاجمت بها جمعية اللواء الأبيض المشروع، ويدعو المقال مزارعي الجزيرة للاتحاد والثورة.[3]
ويشير بخيت أن حكومة السودان كانت ترصد مجموعة من الشيوعيين الملتزمين الذين كانوا يعملون في "إدارة السكة حديد في عطبرة وكانوا ينتمون لأصول أرمنية ومن أوربا الوسطى والبلطيق" كما يشير لنشاط خريج من خريجي المدرسة المتوسطة هو علي أحمد صالح الذي بدأ نشاطا نقابيا في عطبرة، ونقله فيما بعد للخرطوم، من غير أن يستطيع الجزم عما إن كان ما فعله قد تم بتأثير المجموعة الشيوعية الأوربية في عطبرة أم بتأثير مصري.[4] ولقد انضم علي أحمد صالح لجمعية اللواء الأبيض وكان، حسب بخيت، ذا قدرة تنظيمية فاقت قدرة عبيد حاج الأمين، ونجح في جذب عناصر جديدة للجمعية من بين العمال والحرفيين. إلا أن مسيرته السياسية انتهت نهاية محزنة، عندما نجحت مخابرات حكومة السودان على ما يبدو في ابتزازه، واستخدمته كشاهد ملك ضد رفاقه في اللواء الأبيض.[5]
وعندما ننظر لمجموع السياق الفكري والسياسي الذي نشأ فيه علي عبد اللطيف وظهرت فيه جمعية اللواء الأبيض فإن أثر ما حدث في روسيا وانعكاسه على المنطقة، وخاصة مصر، أمر لا يمكننا التقليل من أهميته.[6] وفي حالة علي عبد اللطيف نفسه يمكننا القول إن انتباهه للحركة الشيوعية ليس مستبعدا أو مستغربا إذ أنه كان على ما يبدو "واحدا من كبار مثقفي زمانه. فهناك ما يدل على أنه كان يدرس، في الفترة مباشرة قبل تأسيس اللواء الأبيض، تجارب الحركات الوطنية والحركات السياسية الحديثة ككل في مختلف البلدان."[7] إن طبيعة وعي علي عبد اللطيف الذي لم يأبه بالاتهام العنصري له بأنه "منبتّ قبليا"[8] وطفر ليرتفع فوق الوعي القبلي وفوق الوعي الديني التقليدي المتجذّر في الولاءات الطائفية الموروثة[9] ويطرح قيمة جديدة هي قيمة التمسك بهُوية "سودانية" تبحث عن حريتها وتحقّقها.[10] هذا الوعي انطوى على سمات متميزة جعلته متداخلا ومتواشجا مع وعي اليسار السوداني ورؤيته عندما ظهر في المسرح الفكري والسياسي لاحقا.
إلا أن ما يمكن أن يقال عن وعي علي عبد اللطيف ووعي حركة اللواء الأبيض من ناحية ووعي أعضاء جمعية الاتحاد السوداني،[11] التي سبق تكوينها اللواء الأبيض، من ناحية أخرى أن هذا الوعي كان في طور التكوين وتنازعه تياران ظلا يتنازعان الحركة الوطنية إلى ما قبيل الاستقلال وهما التيار الاستقلالي والتيار الاتحادي الداعي للاتحاد مع مصر. وهذا الانقسام في الوعي الوطني للسودانيين نشأ من واقع طبيعة الاستعمار الذي خضعوا له إذ كان استعمارا "ثنائيا" تشاركت فيه بريطانيا ومصر حكم السودان، وكان هذا واقعا شاذّا وغريبا إذ أن مصر نفسها كانت تحت السيطرة البريطانية عندما شاركت في غزو السودان عام 1898 ولم تنل إلا استقلالا اسميا عام 1922 تحت الحماية البريطانية. ولقد رأى السودانيون في الحركة الوطنية المصرية نموذجا جديرا بالاحتذاء والتضامن، وكانت ثورة 1919 عاملا حاسما في تشكيل وعي ثوار جمعية اللواء الأبيض.[12] إلا أن ما لم تستطع حركة 1924 حسمه كان السؤال الوجودي المتعلق بمستقبل السودان: هل هو وطن مستقل؟ أم كيان ذائب في مصر؟
وكانت هناك طبقة أخرى أعمق في وعي السودانيين تفعل فعلها وتساهم في تشكيل وعيهم الوطني وهي ذاكرة تجربة الحكم التركي المصري؛ وذاكرة ما أعقبه من تجربة حكم وطني في ظل الثورة المهدية. فدعوى محمد أحمد المهدي للمهدية لم يقبلها كلّ السودانيين وواجهت مقاومة من بعض العلماء[13] وبعض الطرق الصوفية وفي مقدمتها الطريقة الختمية. وهكذا فقد وجد أغلب السودانيين أنفسهم وهم يخوضون كفاحهم الوطني في فترة الاستعمار الثنائي منقسمين على المستوى الديني انقساما طائفيا عريضا لأنصار ينحازون للذاكرة المهدوية ويعادون مصر، وختمية ينفرون من الذاكرة المهدوية وعلى استعداد للتعاون مع مصر لو قهرتهم الظروف.[14]
2
في هذا الواقع الذي كان ناشطو الحركة الوطنية ييحثون فيه عن مواقع أقدامهم، ويطورون رؤاهم ومواقفهم، ولدت الحركة الشيوعية السودانية. ولم تختلف بدايات نشوء هذه الحركة عن بدايات الحركات الشيوعية التي نشأت في باقي البلاد المستعمَرة من حيث أن عناصر شيوعية من البلاد المستعمِرة أتاحت الفرص الأولى للتعرّف على الماركسية-اللينينية. ولقد مرّت بنا أعلاه الإشارة للنشاط الشيوعي المبكّر في عطبرة، الذي قامت به عناصر أجنبية. وهكذا وفي حالة السودان فإن شيوعيين مصريين، وشيوعيين بريطانيين، لعبوا هذا الدور في إنشاء الخلايا الشيوعية الأولى وسط السودانيين. ويذكر عبد الماجد أبو حسبو، القطب الاتحادي الذي كان شيوعيا نشطا في شبابه في مصر، الدور الرائد لهيربرت ستوري (Herbert Storey) عضو الحزب الشيوعي البريطاني والذي جاء للسودان وهو في مقتبل العشرينات كمجنّد في الجيش البريطاني. ونجح في إقامة صلات مع طلاب في كلية غردون وكسبهم لقضية الشيوعية، وهو نجاح من الممكن إدراك قيمته وحجمه عندما نعلم أن بعض الذين كسبهم أصبحوا فيما بعد من مؤسسي الحركة السودانية للتحرر الوطني.[15] ومع تقدير القيمة التاريخية لما حاول الحزب الشيوعي البريطاني أن يلعبه، إلا أن الأثر الأكبر والحاسم كان في واقع الأمر من نصيب الحركة الشيوعية المصرية.
وعندما نتحدث عن الأثر الكبير والحاسم للحركة الشيوعية المصرية في فتح أذهان الجيل الأول من السودانيين للماركسية- اللينينية واحتضانهم وتنشئتهم وصهرهم عبر النشاط والكفاح اليومي في مصر؛ فإننا نتحدث أيضا وبالدرجة الأولى عن أثر رجل واحد هو هنري كورييل (Henri Curiel) (1914 – 1978). كان كورييل رجلا من طراز فريد (كما وصفه عنوان كتاب جيل بيرو في سيرته التي كتبها عنه)[16] إذ أدار ظهره، وهو الأوربي اليهودي، لثراء أسرته، وانحاز لمصر (التي تجنس بجنسيتها رغم معارضة أسرته)، وألقي بنفسه في خضم الدفاع عن فقرائها.[17] كان متجرّدا لقضية الثورة، وأعطاها كل ما يملِك. وحتى بعد طرده من مصر، لم يفقد انتماءه لمصر، وظلّ فاعلا في حركتها الشيوعية وانخرط في قضايا الشعوب المستعمَرة وكفاحها، ومات مقتولا وهو في معترك هذا الكفاح.
كان من الطبيعي أن يكون الأوربيون هم من فتحوا باب الماركسية للشعوب المستعمَرة، لأن الماركسية نتاج فكري أوربي، ليس متاحا بلغات هذه الشعوب. وهكذا وبالنسبة للأدبيات الماركسية في اللغة العربية فإنه "[و] حتى نهاية الثلاثينيات لم تكن أوليات [هذه] الأدبيات ... قد ترجمت إلى العربية، والشيوعيون المصريون ترجموا في مطلع العشرينات [كتابا وحيدا] هو الدولة والثورة ثم فشِلت محاولات لاحقة لترجمة كتب أخرى."[18] ولقد انعكست هذه الهيمنة الأوربية في المرحلة المبكرة لتأسيس الحركة الشيوعية المصرية في أن أهم ثلاثة تكوينات شيوعية كان يقودها أجانب يهود، وهي الحركة المصرية للتحرر الوطني (حمتو) بقيادة كورييل وإيسكرا (الشرارة) بقيادة هليل شفارتز (Hillel Schwartz) وتحرير الشعب بقيادة مارسيل إسرائيل (Marcel Israel)؛ وهو وضع كان لابد أن يتغيّر وخاصة في نهاية الثلاثينيات عندما كوّنت هذه التنظيمات الثلاثة الاتحاد الديمقراطي، واتسعت قاعدة الحركة الشيوعية وأصبحت قضية "تمصير" الحركة ضرورة طبيعية وملحّة. وعندها تباينت مواقف القادة الثلاثة إذ رأى كورييل "ضرورة البدء فورا في تأسيس تنظيم شيوعي، يرفع شعار التمصير"، أما شفارتز فقد رأى أن "شعار التمصير هو شعار شوفيني وأنه لا فرق بين مصري وأجنبي في صفوف حركة أممية الأهداف"، بينما انحاز إسرائيل انحيازا تاما للتمصير وتشدّد فيه "إلى درجة منع الأجانب من المشاركة بأي دور قيادي."[19]
ولقد اهتم كورييل اهتماما خاصا بالنوبيين المقيمين في مصر كأقلية تعاني من التهميش، وبالطلاب السودانيين القادمين لمصر للتعليم.[20] وكان الكيان التنظيمي (لحمتو) وفيما بعد الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) يقوم على الفئوية، إذ كانت هناك دوائر مثل المثقفين والطلاب والنساء والأجانب. وحسب هذا التنظيم الفئوي فإن النوبيين كانوا يشكلون فئة مستقلة عن السودانيين.[21] وكان عبده دهب من أوائل النوبيين الذين انضموا للحركة الشيوعية، وكان ضمن أول فوج في مدرسة الكادر (لحمتو).[22] وبعد دورته في مدرسة الكادر صعد دهب وأصبح عضوا في اللجنة المركزية.
ولعب دهب دورا هاما يحكي عنه قائلا: "عندما قابلت هنري كورييل حدثني طويلا عن رغبته في تأسيس مجلة تعمل على نشر الوعي في مصر، وكلفني بأن أبحث عن مجلة مصرية لاستئجارها، حيث يصعب على أشخاص مثلنا الحصول على رخصة مجلة. وفعلا استأجرت مجلة حرية الشعوب ... واحتفظنا باسم المجلة وأضفنا إليه شعارا يقول إنها "مجلة مصرية سودانية عمالية ثقافية".[23] وأصبحت المجلة لسان حال (حدتو) وأشرف دهب على تحريرها، وابتداءً من سبتمبر 1941 "بدأ اسم محي الدين صابر، وعبده دهب في الظهور على [صفحاتها] ... وبدأت المجلة تتحول لتوشك أن تصبح مجلة سودانية صرفة."[24] إلا أن (حدتو) وإثر الملاحقات البوليسية لها ما لبثت أن فقدت إشرافها على حرية الشعوب. وأعقب ذلك صدور مجلة أم درمان التي كانت تحت الإشراف الكامل (لحدتو) وكان يرأس تحريرها دهب، وكانت ترفع شعار "الكفاح المشترك مع حق تقرير المصير".[25] وبرزت على صفحاتها أسماء معظم كوادر قسم السودان وقسم النوبيين مثل محمد أمين حسين، وعبد الماجد أبو حسبو، وعز الدين علي عامر، وحامد حمداي، وصالح عرابي، ومحمد خليل قاسم، وزكي مراد صالح.[26]
وكان عبد الخالق محجوب (عبد الخالق فيما يلي) هو الأمل الذي رأى فيه كورييل مستقبل الحركة الشيوعية في السودان، لما تميّز به من قدرات فكرية وقيادية فذّة. جاء عبد الخالق للماركسية والحركة الشيوعية من خلفية أسرية هيأته لقبول الفكر الاشتراكي.[27] وقد تمّ تصعيده للجنة (حدتو) المركزية بعد فترة قصيرة من تكوينها ممثلا للقسم السوداني.
وقد قال كورييل إنه كان صاحب الاقتراح الذي أدّى لنشوء الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) عندما تمّ فصل القسم السوداني، من الحركة المصرية للتحرر الوطني، وتحويله لحركة قائمة بذاتها.[28] ورغم قيام حركة سودانية مستقلة إلا أن كورييل رأى ضرورة وجود علاقة استراتيجية بين الحركتين المصرية والسودانية، وإن أبدى حسرته فيما بعد أن العلاقة في واقع الأمر "لم تتعد المشاعر". وأنه لا يعرف مواقف مشتركة اتخذت بالتنسيق بين الحركتين.[29] ولا شك أنه رأى في الحركة السودانية حليفا مؤثرا له، ويتضح هذا من أن علاقته بعبد الخالق ظلت قائمة بعد طرده من مصر.[30] وأن الشيوعي السوداني آدم أبو سنينة كان ضمن الجهاز القيادي لمجموعة روما (الاسم الحركي للمجموعة الحزبية التابعة "لحدتو" والتي كانت تعمل من باريس).[31]
وعندما نأتي لتاريخ إنشاء (حستو) فإن ثمة تضارب في تحديده، عما إن كان عام 1945 أم بداية 1946 أم تحديدا تاريخ 16 أغسطس 1946،[32] إلا أن التاريخ المُجمع عليه هو صيف 1946 عندما اجتمعت "حلقة صغيرة من المثقفين والعمال والطلبة، بعضهم تأثر بالضابط البريطاني ستوري، والبعض الآخر احتكّ بالتنظيمات الشيوعية المصرية، وكونوا أول حلقة ونواة للماركسية – اللينينية في السودان تحت اسم [حستو]."[33] ولقد لعب الطبيب عبد الوهاب زين العابدين (زين العابدين فيما يلي)[34] دورا أساسيا في جمع أفراد هذه النواة وتنظيمها. وفي أول لجنة تنفيذية كان المحامي محمد أمين حسين مسئولا سياسيا وزين العابدين مسئولا تنظيميا. إلا أن محمد أمين حسين سرعان ما انسلخ من (حستو) بعد شهور قليلة، والتحق بالحركة الاتحادية. وبخروجه اختفى منصب المسئول السياسي وأصبح زين العابدين قائدا للتنظيم، مع احتفاظه بلقب المسئول التنظيمي.[35] وحسب زين العابدين فإن الرؤية التي صاغتها (حستو) في هذه الفترة المبكّرة لخّصتها الأهداف الأربعة التالية: حق السودان في تقرير المصير، نشر الوعي الوطني الذي أشعله مؤتمر الخريجين بين كل قطاعات السودانيين، إنشاء منظمة سياسية تضمّ كل طبقات السودانيين مع تركيزها على العمال والمزارعين بوصفهم عماد الحركة الوطنية، الإعداد لثورة اشتراكية مع مراعاة أن هذا الهدف هدف بعيد المدى، وأن مجهود الحركة وعملها يجب أن يتركّز على الأهداف الثلاثة الأولى.[36]
لم يختلف مِزاج زين العابدين عن مِزاج الكثيرين من أبناء جيله في أنه لم يكن يحبّذ اتخاذ الوسائل الثورية، ووسائل المواجهة المباشرة، بقدرما كان يفضّل وسائل العمل المتدرّج. ولقد ركّز في عمله الداخلي على عنصر التثقيف الماركسي للأعضاء في حدود المادة العربية والإنجليزية التي كانت متاحة، وعلى إرساء عنصر السرِّية في عمل الشيوعيين ونشاطهم وعدم جذب الانتباه لهم.[37] واستفادت (حستو) من علاقة أعضائها بمؤتمر الخريجين فعمِلت على بثّ تأثيرها من خلاله. وقد كُلِّلت هذه الخطة في نوفمبر 1947 بأكبر نجاح لها عندما أُجريت انتخابات اللجنة التنفيدية لمؤتمر الخريجين، واُنتخب زين العابدين أمينا كما اُنتخب عضو آخر في (حستو) هو حسن أبو جبل أمينا للصندوق، وكان إسماعيل الأزهري رئيسا للجنة.[38] وعلى مستوى العمل الجماهيري شمِل عمل (حستو) نشاطا وسط العمال في عطبرة،[39] ووسط المزارعين في الجزيرة وجبال النوبة، ووسط الطلاب وموظفي الحكومة. إلا أن مثل هذا النشاط ما كان له إلا أن يكون محدودا لظروف الإمكانيات المحدودة للحركة الوليدة من ناحية، وظروف السرية من ناحية أخرى.
ورغم أن زين العابدين كان حريصا على احتفاظ (حستو) بعلاقتها بالحركة المصرية إلا أنه كان يريد ذلك بشرطه وهو استقلال الحركة السودانية. ولقد انضاف لذلك عامل آخر ليخلق صَدعا محسوسا في العلاقة بين الحركتين وهو عدم ارتياح الحركة الأمّ لتوجّه زين العابدين الذي انبنى على التقارب مع الحركة الاتحادية. وفي هذا الجو المعادي لزين العابدين نشأ ظرف في عام 1947 أضاف لمتاعبه، وهو اصطدام العمال في عطبرة في يوليو بالسلطات عندما خرجوا في أول موكب عمالي في تاريخ البلاد، مطالبين بالاعتراف "بهيئة شئون العمال" ممثلا شرعيا لهم، وهو مطلب ما لبثت الحكومة أن رضخت له.[40] ولقد كان تحرّك العمال هذا تحرّكا نابعا منهم، وفاجأ كل القوى السياسية، مما جعل نقّاد زين العابدين يحسبون ذلك عليه، ويعتبرونه تقصيرا وعجزا عن المبادرة بقيادة مطالب العمال.[41] وكان طلاب (حستو) الذين يزورون السودان من مصر في إجازاتهم مشبّعين، علاوة على حماسهم الشبابي،[42] بتقاليد الحركة المصرية في الخصومة وحِدّة المنازعة وتصعيد الخلافات. ولقد أوصل المعارضون لزين العابدين مناوأتهم له حدّ التصويت لمطالبته بأن ينزل إلى الشارع، ويقوم بتوزيع المنشورات والكتابة على جدران المنازل.[43] وهكذا وفي صيف 1947 وصل الخلاف داخل (حستو) لطريق مسدود. ووصلت قيادة زين العابدين لنهايتها لتحلّ محلها قيادة جماعية تكوّنت من "مجموعة منهم أحمد محمد خير وعبد القيوم محمد سعد وآدم أبو سنينة وحسن أبو جبل."[44] كان هذا الترتيب ترتيبا مؤقتا، وكانت المجموعة السودانية في انتظار أن يصِلها مسئولها السياسي الجديد من مصر، وهكذا آل المنصب لعوض عبد الرازق (عبد الرازق فيما يلي)[45] حال عودته للسودان.
ولقد لخّص عبد الخالق فيما بعد المآخذ على فترة زين العابدين في النقاط التالية:
- قيادة الحزب تنحدر من أصول برجوازية وذات نزعة "انتهازية"؛
- تنكّرت القيادة لطبيعة الحزب كحزب للطبقة العاملة، وحوّلته لمجرد "جناح يساري في نطاق الأحزاب الوطنية"؛
- ساير الحزب شعار "وحدة وادي النيل تحت التاج المصري"؛
- الثقافة الداخلية للحزب كانت ذات طبيعة نصوصية، ولم يكن هناك اهتمام بدراسة أوضاع البلاد من وجهة نظر ماركسية؛
- غياب قواعد لائحية تضبط العمل والعلاقات.
3
ولقد رأى الثوريون في إزاحة زين العابدين انتصارا نهائيا على الخط المهادن للأحزاب وخاصة أحزاب الحركة الاتحادية وأسلوب العمل التدريجي والانضواء إلى مؤسسة مؤتمر الخريجين. لقد وصلوا نظريا إلى أن التحدي الذي ظلّ يواجه السودانيين قاطبة منذ فشل حركة 1924 هو تحدي صعود "قيادة ومؤسسات اجتماعية يمكنها أن تنظم الشعب وتوحّد قواه الرئيسية وتقوده في طريق التحرر الوطني"،[46] وأحسوا بأن مهمتهم التاريخية هي الارتفاع لمستوى هذا التحدي -- فالبرجوازية قد فشِلت وأفلست والظروف الموضوعية قد نضِجت لبروز قوة اجتماعية عليها أن "تبتدع التنظيم الحديث التقدمي الملائم للحركة الجماهيرية السودانية وأن تضع منهاجا يلبي رغبات الشعب السوداني الجامحة في الديمقراطية السياسية والاقتصادية."[47]
لا شك أن القيادة الجديدة الشابة (لحستو) قد امتلأت بهذه "الرغبات الجامحة" وهي تدير ظهرها لخط زين العابدين واعتداله وتوسطه وحرصه على السرية فأكدّت على الوجود المستقلّ والفاعل للحزب، وعلى استبدال حذر السرية والتخفّي بأسلوب المواجهة والمصادمة ووضع الحزب في طليعة الكفاح الحازم والصارخ من أجل الاستقلال، وعلى العمل بمنأى عن مؤتمر الخريجين والحركة الاتحادية، وعلى التركيز على القوى الاجتماعية الجديدة من عمال ومزارعين منظّمين وطلاب وموظفين.[48]
وتحت قيادة عبد الرازق حرصت (حستو) على تكثيف حضورها في الفضاء العام وإيصال رسالتها وصوتها لأوسع قطاع من المواطنين. وكانت وسيلتها الأساسية والفعّالة في ذلك هي المنشور السياسي. وهكذا فإن الحركة وزّعت مثلا "اثني عشر منشورا عن قضايا هامة في الفترة ما بين سبتمبر 1947 ونوفمبر 1948 -- أي بمتوسط منشور في الشهر."[49] وفي عام 1948 ألقى الشيوعيون بثقلهم مشاركين في المظاهرات ضد الجمعية التشريعية، والتي جذبت مختلف القطاعات الجماهيرية.[50] وكانت مظاهرة عطبرة في نوفمبر من أقوى المظاهرات، واستخدمت فيها الشرطة الرصاص مما أدّى لمقتل خمسة متظاهرين بينهم ثلاثة عمال من أعضاء (حستو).[51] وفي ديسمبر قاد عبد الرازق مظاهرة أم درمان الشهيرة ضد الجمعية.[52] وفي تقييمه لأحداث الجمعية التشريعية فيما بعد، لم يركّز عبد الخالق على الدور القيادي الذي لعبه الشيوعيون في العمل التحريضي والمظاهرات فحسب، وإنما أيضا على طبيعة هذا الدور باعتباره الدور المبادر في إطلاق المعارضة ضد الجمعية، والدور المبادر أصلا بإنشاء جبهة الكفاح التي كانت الأداة التنظيمية للتحرّك الشعبي. ويضع عبد الخالق هذه الأحداث في سياق إطار أوسع، عندما يكتب "إن تزايد نضال الطبقة العاملة السودانية خلال عام 48 واتساع حركة الإضرابات التي بلغت مدى بعيدا دعمت من الحركة الجماهيرية جعل عام 1948 عام تحول في الحركة الوطنية السودانية، ووضع الأساس لاستقلال البلاد فيما بعد."[53] ولقد كانت هذه القراءة منسجمة مع موقف التيار الثوري الذي رأى أن الشيوعيين على المستوى السياسي هم القادة المؤهلون (بحكم الرؤية والمنهج) لقيادة الكفاح ضد الاستعمار نحو استقلال لا تنفصل فيه الحرية السياسية عن محتواها الاجتماعي، ورأى أن الطبقة العاملة هي الطبقة المؤهلة لقيادة مجموع المجتمع (بحكم قدرها التاريخي).
وفي الحماس اللاهب لأحداث عام 1948 وغليانها وصلت ثقة قيادة (حستو) بنفسها حدّ اعتبار جبهة الكفاح تكوينا من الممكن أن يغدو بديلا لمؤتمر الخريجين. لم يحدث ذلك، بل وبدأ المدّ الثوري منذ أواسط عام 1949 في الانحسار. وعندها أدركت قيادة (حستو) ما كان يدركه زين العابدين، من أن تقديرها لوزن حركتها وتأثيرها لا يعكس حقائق الواقع، وأنه لا مناص من التعاون مع الأحزاب البرجوازية.[54]
4
كان واقعُ الانحسار هذا والتقارب مع الاتحاديين الذي شرع عبد الرازق في إحيائه هو الظرف الذي أتاح لعبد الخالق التحرّك ضده وإزاحته في بداية عام 1949. وعَكْس الخلاف مع زين العابدين وجيل الثوريين الذي كان على مستوى معين، خلافا حول أساليب جيلين مختلفين في خبراتهما، فإن الخلاف بين عبد الخالق وعبد الرازق كان خلافا بين شخصين ينتميان لنفس الجيل (كلاهما كان في بداية العشرينات). ورغم أن كليهما كان ذا نزعة ثورية إلا أن تجربة عبد الرازق العملية عجمت عوده، وجعلته أقدر على الأخذ والعطاء وعلى التنازل انتظارا للحظة ارتفاع المد. أما عبد الخالق فكان أقرب لأفق "النظرية" وأقرب للحرفية في هذه الفترة. ويكشف هذا الخلاف المبكّر عن نزعة قوية لدى عبد الخالق للتشنيع والانتقاص من معارضيه. فرغم ما تحقّق في فترة عبد الرازق من إنجاز فإن اختلاف عبد الخالق مع رؤيته لمستقبل الحركة جعله يلقي بإنجازاته عرض البح،ر وأصبح حريصا، وهو يشكّل ذاكرة الحزب، على قرن اسم رفيقَه في الكفاح كلما ذكره بصفة "الانتهازي" (مثلما كان لينين مثلا يقرن اسم كاوتسكي بصفة "المرتد").[55]
ومثلما أن عبد الرازق انتقل إلى موقع على يسار زين العابدين بعد إزاحته، فإن عبد الخالق وضع نفسه على يسار عبد الرازق. وكان الإعلان الدرامي عن هذا التحرك هو إسقاط قناع (حستو) وإعلان طبيعتها الشيوعية في بياناتها الموجهة للجماهير.[56] ووجدت (حستو) في جريدة الصراحة منبرا استطاعت عبره طرح أفكارها ومواقفها، وفتحته أيضا للشيوعيين المصريين في سعيها لدعم شعار الكفاح المشترك. ولقد شنّت الحركة على صفحات الصراحة ولأول مرة هجوما على عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني كممثلين لبنية اقتصادية إقطاعية تستغل المزارعين.[57] وسارت قيادة عبد الخالق على نفس هذا النهج في الهجوم الحادّ على حزب الأمة والاتحاديين.
واهتمت القيادة الجديدة بتكثيف نشاطها وسط القوى الحديثة من طلاب وعمال ومزارعين. وكان عام 1950 عام إنجاز كبير وسط الحركة النقابية، إذ تكوّن في ديسمبر الاتحاد العام لنقابات العمال "وأصبح محمد السيد سلّام رئيسا له، والشفيع أحمد الشيخ سكرتيره وبقي يقوده حتى عام 1971."[58] وفي مؤتمره الثاني طرح الاتحاد مسألة الجلاء وتقرير المصير، وأعقب ذلك تكوين الجبهة المتحدة لتحرير السودان، والتي شارك فيها "الاتحاديون والمزارعون وحستو واتحاد كلية الخرطوم الجامعية."[59] وهكذا أصبح الاتحاد قوة سياسية ومطلبية ذات تأثير أقلق السلطات.
وفي يوليو 1950 أقدمت (حستو) على خطوة غير مسبوقة إذ أنشأت فرعا لأنصار السلام، مما عزّز قلق السلطات بصلات الحركة بالشيوعية العالمية.[60] وفي الغالب أن هذه كانت قاصمة الظهر التي جعلت حكومة السودان تتحرك وتصدر قرارا بحظر المنظمات الشيوعية. وكانت (حستو) قد عقدت مؤتمرها الأول في أكتوبر 1950 وأرست تقليدا جديدا هو تقليد انتخاب اللجنة المركزية، بدلا من تصعيد عضويتها.[61] إلا أن الخلاف الداخلي بين عبد الخالق وعبد الرازق تجدّد وخاصة أن الجناح القديم رأى في سياسات ونهج القيادة الجديدة، اتجاها مغامرا يعرّض الحركة لمخاطر غير مبرّرة.
وفي أكتوبر 1952 طرح عبد الرازق رؤيته لمستقبل (حستو) في تقرير قدّمه بصفته كسكرتير تنظيمي، وكانت نقاطه الأساسية كالآتي:
- التأكيد على استقلال الحركة؛
- رفض تحويل (حستو) لحزب شيوعي للاعتبارات التالية:
- الطبقة العاملة في السودان طبقة وليدة وضعيفة وثانوية؛
- طبقة المزارعين لا يزال إنتاجها في مستوى زراعة الكفاف؛
- الماركسية – اللينينية صعبة الهضم حتى لشريحة المتعلمين؛[62]
- إنشاء حزب شيوعي في ظل هذه المعطيات، يُعدّ عملا سطحيا يساريا طفوليا؛
- التعجّل سيفقد (حستو) مواقعها الطليعية، وخاصة أنها غرست أقدامها عميقا في المجتمع واجتذبت العناصر المستنيرة؛
- التأكيد على ضرورة نشر الثقافة الديمقراطية؛
- التأكيد على عدم اقتصار علاقات (حستو) على الحزب الشيوعي السوفيتي والبلدان الاشتراكية، وضرورة انفتاحها لتشمل الحركات والأحزاب اليسارية والديمقراطية في العالم العربي وأفريقيا وآسيا وأوربا.[63]
وعندما ننظر لنقاط عبد الرازق هذه فإننا نلاحظ أنه كان مهموما بثلاث مسائل هي: طبيعة الحركة اليسارية التقدمية التي يجب بناؤها في السودان، والقوة الاجتماعية لهذه الحركة، وطبيعة رؤيتها الفكرية. وانصبّت اقتراحاته في اتجاه أن تعتمد هذه الحركة صيغة أكثر انفتاحا، تتخطى الصيغة المقفولة لحزب شيوعي، وألا تقتصر قاعدتها الاجتماعية على العمال والمزارعي،ن وإنما تمتد لتشمل القوى الاجتماعية الأخرى، وألا يقتصر أفقها الفكري على الماركسية – اللينينية وما يأتي من الاتحاد السوفيتي، وإنما يمتد فسيحا لينفتح على تيارات الفكر الاشتراكي والديمقراطي الأخرى وما يأتي من باقي العالم.
وبالمقابل قدّم عبد الخالق الرؤية التقليدية التي كانت سائدة وسط الأحزاب الشيوعية وقتها، والتي كانت تصرّ على قيادة الطبقة العاملة للمجتمع، وعلى قيادة الحزب الشيوعي بمرجعيته الماركسية – اللينينية للطبقة العاملة وللمجتمع.
انتصر خط عبد الخالق وخسرت رؤية عبد الرازق معركتها. وحسب أحد المصادر نال خط عبد الخالق أربعة عشر صوتا مقابل أحد عشر صوتا لخط عبد الرازق.[64] وإن كان هذا صحيحا فإن هذا الفارق الضئيل في الأصوات، أوصل شبابا في العشرينات من أعمارهم، في اجتماع في أوائل الخمسينيات، لقرار جسيم شكّل مستقبل اليسار السوداني وقدره، حتى يومنا هذا، وقاد حزبهم لمأساة دموية بعد عقدين من الزمان.
حاول عبد الرازق ومجموعته إقامة حركتهم المستقلة إلا أنهم فشلوا. ولقد فشلوا لأن ميزان القوى لم يكن في صالحهم. كان خط عبد الخالق يتمتّع بدفع عالمي وإقليمي، إذ أنه عَكَس رغبة الاتحاد السوفيتي وأمميته الثالثة التي عمِلت على فرض صيغة الأحزاب الشيوعية المهتدية بهدي الماركسية – اللينينية على مستوى كل العالم، علاوة على التماهي مع رغبات وخطط الحركة الشيوعية المصرية. وهكذا فإن (حستو) حسب صيغة عبد الخالق لم تكن مجرد جماعة داخلية سودانية، وإنما كانت أيضا جزءا من جسم حركة عالمية تدعمها وتستمد منها ركائز خطابها، والكثير من ألقها وجاذبيتها. وانضاف لعامل السند الخارجي الموضوعي هذا عامل ذاتي هام ما كان من الممكن أن يتحقّق انتصار خط عبد الخالق النهائي بدونه. لقد استطاع الحزب الشيوعي أن يجذب بعضا من خيرة أبناء وبنات السودان الذين امتلأوا بأنبل الأحلام وأرفعها، لحاضر وطنهم ومستقبله، والذين كانوا – ولا يزالون – على استعداد لتقديم كل التضحيات لمجتمعهم. واستطاع الحزب الشيوعي أن يجذب لآلته الداخلية بعضا من أصلب العناصر الذين امتهنوا قضية الثورة، وأصبحت عملهم وشغلهم الشاغل.[65]
5
وبوقوع انقلاب الضباط الأحرار في مصر بقيادة جمال عبد الناصر، دخل السودان مرحلة جديدة في كفاحه من أجل الاستقلال. ولقد تميّز موقف (حستو) من النظام المصري في هذه المرحلة بتبعيته لموقف الحركة الشيوعية المصرية، وأدّى تصلّبها المنبني على الشعارات والمزايدة السياسية لخطأ كبير في موقفها من اتفاقية الحكم الذاتي[66] التي حاولت أن تعبىء الحركة العمالية والطلابية ضدها. إلا أن الإجماع الوطني كان مؤيدا للاتفاقية مما اضطر (حستو) لنقد موقفها والتنازل عنه.[67]
وكان أهم تطور في فترة ما بعد توقيع اتفاقية الحكم الذاتي، هو تكوين الجبهة المعادية للاستعمار، لخوض انتخابات عام 1953. ولقد كانت هذه الصيغة امتدادا لصيغتي جبهة الكفاح والجبهة المتحدة لتحرير السودان، ولم تختلف عنهما في أنها كانت تنظيم واجهة (وصفه عبد الخالق بأنه حزب ديمقراطي "يتصل بالجماهير في أكثر من أفق ويحتلّ فيه الشيوعيون مركز الصدارة."[68]) ومكّنت الجبهةُ المعادية للاستعمار الشيوعيين من الوصول لأماكن في ريف السودان وقراه النائية، ما كان من الممكن أن يصلوا إليها لو طرحوا أنفسهم كحزب شيوعي. ورغم أن الجبهة لم تفز في دائرة إقليمية، إلا أن مرشحها حسن الطاهر زروق فاز بمقعد من مقاعد الخريجين. وكان أهم إنجاز للجبهة هو نجاح حملتها البرلمانية والشعبية لإلغاء قانون النشاط الهدّام الذي كان يستهدف نشاط الشيوعيين، والنشاط النقابي. وعندما انفجرت حرب الجنوب عشية الاستقلال في أغسطس 1955 دعا الشيوعيون لتطبيق الحكم الذاتي الإقليمي،[69] وكان موقفهم هذا متقدما على مواقف غالب الأحزاب الشمالية، إلا أنه كان دون مطلب الأحزاب الجنوبية التي دعت لتطبيق نظام فدرالي.[70] وقد حمل الموقف الجنوبي دائما في أحشائه إمكانية أخرى، هي المطالبة بتقرير المصير المفتوح على الاستقلال، في حالة فشل العيش في بلد متحد، وهي إمكانية ظلّ الحزب الشيوعي يقاومها باستمرار إذ ظلّ رافضا لفكرة تقرير المصير.[71]
6
وعقب الاستقلال في مطلع يناير 1956 لم تُضِع (حستو) أي زمن فعقدت في فبراير مؤتمرها الثالث الذي حضره سبعة وثلاثون مندوبا. وُلد الحزب الشيوعي السوداني ميلادا رسميا معلنا في هذا المؤتمر، وطرح وثيقته "سبيل السودان نحو تعزيز الاستقلال والديمقراطية والسلم" التي قدّمت برنامجه لمهام مرحلة ما بعد الاستقلال. ورفع فيه شعاره الطموح "اجعلوا من الحزب قوة اجتماعية كبرى". ورغم أن قيادة الحزب قررت القفز في الحال من صيغة الجبهة المعادية للاستعمار، لأعلى صيغة جذرية مطروحة في العالم وهي صيغة الحزب الشيوعي، إلا أنها كانت متواضعة في وصف طبيعة المرحلة التي يمر بها السودان في تطوره، وطبيعة المهام المطروحة. فالمرحلة مرحلة ثورة وطنية ديمقراطية والمهام تتعلق بإجراءات للسير في طريق تطور غير رأسمالي مع التمسك بالديمقراطية.[72]
إلا أن المؤتمر واجه ومنذ البداية مشكلة عويصة كان لابد له من إيجاد مخرج نظري لها: فالقرار بأن يقوم حزب شيوعي في السودان بعد استقلاله مباشرة، يعني أن الطبقة العاملة السودانية هي التي ستقود البلاد، لتحقيق أهداف مرحلة ما بعد الاستقلال. بينما أن الطبقة العاملة السودانية في واقع الحال غير مؤهلة للقيام بهذا الدور التاريخي، وحزبها نفسه تقوده عناصر يغلب عليها الانتماء الطبقي البرجوازي. كانت هذه هي المشكلة التي أثارها عبد الرازق بثاقب نظره، عندما رأى أن صيغة الحزب الشيوعي صيغة متعجّلة. وكان المخرج هو نظرية ما عُرف في أدبيات الحزب الشيوعي بـ "تأهيل الطبقة العاملة"، أي افتراض نقطة زمانية مستقبلية، ينقلب فيها الميزان الطبقي انقلابا كيفيا، بعد عملية تراكم كمّي عبّر عنه عبد الخالق بعبارة: "سير الطبقة العاملة بالتدريج لاحتلال مركز القيادة."[73] وهكذا عاد عبد الخالق واستعار مفهوم "التدرّج" من قاموس زين العابدين، رغم أن الأخير كان يطرح المفهوم وهو يتحدث عن أفق استراتيجي مختلف. وبتمسّك عبد الخالق ورفاقه بصيغة الحزب الشيوعي، نشأ ذلك الوضع الغريب الذي وُلد فيه ابنٌ لأبٍ لا يزال في طور جنيني.
رأى الحزب الشيوعي عقب مؤتمره الثالث نفسه بوصفه الحزب الوحيد الذي كان يملك رؤية وبرنامجا لمواجهة تحديات ما بعد الاستقلال وأن ذلك لا شك سيعينه للتحول لقوة اجتماعية كبرى. إلا أن نفوذ الحزب لم يتعاظم، بل واجه انحسارا في العضوية يصفه عبد الخالق قائلا: "لقد تساقطت نسبة لا يستهان بها من عضوية الحزب في هذه الفترة، إما بترك صفوف الحزب مباشرة أو بالبقاء فيه من الناحية الشكلية وحدها."[74] ويفسّر هذه الظاهرة بالرجوع للأصل الطبقي لهؤلاء الأعضاء. ولكن هذا القالب النظري الجاهز يصطدم بتعقيد الواقع إذ أن الظاهرة امتدت للطبقة العاملة نفسها، حيث انحازت أقسام منها "للعناصر اليمينية" التي وجدت لها أقداما وسط الحركة النقابية.[75] وما يهمل عبد الخالق ذكره وهو يتحدّث عن هذا الانحسار، هو عامل معارضة صيغة الحزب الشيوعي، إذ كان هناك اتجاه يرى "أن الماركسية لا تناسب ظروف السودان."[76]
وكان هناك واقع مُرّ آخر أكبر من واقع الحزب الشيوعي ومشاكله، وهو واقع التمزّق والانقسام والصراع المحموم على أسلاب دولة ما بعد الاستقلال الذي استحوذ على الأحزاب الوطنية. ومما يُحمد لعبد الخالق أنه واجه الوضع في ذاك الظرف بمرونة، وعاد للتعبير عن موقف زين العابدين وعبد الرازق فنادى في أول ليلة سياسية تحدّث فيها في عطبرة في مايو 1956 بتكوين "جبهة وطنية من الوطني الاتحادي والختمية والجبهة المعادية للاستعمار والشيوعيين والعناصر المختلفة من أجل تأمين الاستقلال ومقاومة الأحلاف."[77] وفي يوليو دعت الجبهة المعادية للاستعمار لتكوين حكومة قومية تشملها، مما عنى استعدادها للدخول في تكوين يضمّ اليمين الذي يمثله حزب الأمة. وفي انتخابات 1958 ركّزت الجبهة على ما وصفته بوحدة القوى الوطنية والذي عنت به وحدة الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي في وجه حزب الأمة. إلا أن هذه الوحدة لم تتحقق وفاز حزب الأمة. وعندما توحّدت هذه القوى وأجمعت أمرها على إسقاط الحكومة فاجأهم حزب الأمة بتسليم السلطة في 17 نوفمبر 1958 لكبار ضباط الجيش بقيادة الفريق إبراهيم عبود.
7
ومنذ أيامه الأولى تلقّى نظام عبود مباركة الزعيمين الطائفيين علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي. ولقد ظل حزب الشعب الديمقراطي، حزب الختمية، مؤيدا للنظام إلى لحظة سقوطه. وسار الحزب الوطني الاتحادي أيضا في طريق التأييد. أما في حالة الحزب الشيوعي فقد اجتمع مكتبه السياسي بعد يوم من الانقلاب وقرّر أن "انقلاب 17 نوفمبر انقلاب رجعي، وأنه بتلك الطبيعة سينعزل حتما عن الشعب، وأنه ضعيف، وأن الواجب مقاومته، وذلك عن طريق جبهة من القوى الوطنية الديوقراطية داخل الجيش وخارجه."[78] وفي البيان الجماهيري الذي أصدره المكتب السياسي كان هناك حرص على توضيح الفارق الطبقي بين كبار الضباط الذين قاموا بالانقلاب، وبين الغالبية الساحقة من الضباط الذين "هم جزء من البرجوازية الصغيرة ... ولهم اتجاهات وطنية ديمقراطية."[79] وللخروج من الأزمة طرح البيان تكوين حكومة "تتألف من القوى الوطنية وضباط الجيش الوطنيين" وخاطب، بشكل غير مباشر، "القوى الوطنية" في الجيش للتحالف مع الحركة الجماهيرية.[80]
وهكذا ومنذ البيان الأول ضد النظام العسكري نجد أن خطاب الحزب الشيوعي قد دخله عنصر جديد، هو الحديث عن شريحة صغار الضباط كفئة "وطنية ديمقراطية"، يحقّ لها أن تشارك في الحكومة. ويتضح أن إدانة الحزب الشيوعي للانقلاب لم تكن بالدرجة الأولى من منطلق الدفاع عن الديمقراطية، بقدرما كانت بسبب الطبيعة "الرجعية" للانقلابيين أو طبيعة مصالحهم الطبقية. وتحليل الحزب الشيوعي للجيش وشرائحه الطبقية لم يكن انتباها مفاجئا، وأنما انبنى على الموقف النظري الذي بدأ السوفيت يطورونه في تقييمهم لما يحدث في العالم النامي الخارج لتوّه من الفترة الاستعمارية. ولقد صنّفت النظرية السوفيتية على ضوء التحليل الطبقي الجنودَ وصغارَ الضباط ضمن فئة من وصفتهم "بالديمقراطيين الثوريين"،[81] وشمل هذا التقييم أنظمة مثل النظام الناصري.[82]
كان من الطبيعي أن يرتبط هذا التحليل الطبقي للمؤسسة العسكرية بعمل سياسي وسط الجيش. ولقد بدأ عمل الشيوعيين السودانيين في الجيش منذ عام 1954،[83] وهم بذلك العمل المبكّر قد نقلوا في واقع الأمر تقليدا من تقاليد الحركة الأمّ، إذ أن الحركة المصرية للتحرر الوطني اهتمت اهتماما خاصا بتأسيس خلايا في الجيش منذ الثلاثينيات، عندما أصدرت حكومة الوفد قانونا للجيش يهدف لإبعاد نفوذ الملك، وتوسيع قاعدة الجيش الاجتماعية.[84] ويبدو أن عمل الشيوعيين السودانيين وسط الجيش، كان من النجاح والوزن مما جعلهم يؤيدون ويشاركون في "محاولات الانقلاب الأربعة التي قام بها ضباط وصف وجنود وطنيون لإسقاط الفريق عبود في أول مارس 1959 وفي 22 مايو 1959 ونوفمبر 1959."[85] وقادت هذه المحاولات، رغم فشلها، لتغيير عميق في الرؤية الاستراتيجية لعبد الخالق وقيادة الحزب إذ أن القوى الثورية أصبحت لديها وسيلة فعّالة إضافية هي الجيش، علاوة على السبيل التقليدي الذي تتحدّث عنه أدبيات الحزب دائما، أي سبيل استنهاض الجماهير وتعبئتها وتنظيمها وإطلاق طاقاتها الثورية، لدحر علاقات الانتاج القديمة وتحقيق التطور غير الرأسمالي.
كان بيان المكتب السياسي الذي أدان فيه الانقلاب وعارضه بمثابة الطلقة الأولى في المواجهة الطويلة بين الشيوعيين والنظام. وكانت تعبئة الشيوعيين وسط العمال والمزارعين والطلاب والمهنيين، أو مجموع ما أصبح يُعرف بالقوى الحديثة، هي التحدي الأكبر الذي واجهه النظام في الشمال، بينما كان يواجه في نفس الوقت التحدي الكبير للحرب الأهلية في الجنوب. سنقتصر في هذه الورقة على الإشارة في الفقرة التالية للحركة العمالية ومقاومتها للنظام والتي لعب الحزب الشيوعي فيها دورا بارزا.
استهدف النظام منذ أيامه الأولى العمال ونقاباتهم وخاصة عمال هيئة السكة حديد ونقابتهم، بالإضافة لاتحاد نقابات العمال بوصفه الوعاء الجامع لعدد كبير من النقابات، والمنسّق للعمل بينها. كانت هذه التكوينات الحديثة والحركية أخطر من الأحزاب السياسية لاعتمادها على الحجم العددي لأعضائها المتجمعين كقوة عمل في مكان واحد، والمتضامنين داخليا فيما بينهم، وخارجيا مع تكوينات أخرى شبيهة. وهكذا وبعد أسبوعين من الانقلاب صدرت قرارات بحلّ جميع النقابات وحلّ اتحاد نقابات السودان. وأعقبت ذلك اعتقالات للبعض من العاملين في اتحاد نقابات العمال وعلى رأسهم الشفيع أحمد الشيخ، السكرتير العام للاتحاد. ولقد قدموا لمحكمة عسكرية أدانت أبرزهم وحكمت عليهم بالسجن لمدد متفاوتة. وتواصل نضال العمال (وكان من أبرز وقفاتهم إضراب عمال السكة حديد الجزئي في نوفمبر 1959) وسانده التضامن العالمي مما اضطر النظام للتراجع في عام 1960 عندما سنّ قانونا جديدا سمح بتكوين النقابات، ولكن بشروط قُصد منها شلّ الحركة النقابية، وتقييد فاعليتها.[86] وفي أغسطس 1963 سمح النظام بعقد مؤتمر للعمال على أمل التحكم في الحركة العمالية وتدجينها، إلا أن الأمور سارت على غير ما يشتهي النظام وخرج المؤتمر بقرارات تطالب بعودة نقابة السكة حديد، وإلغاء قانون العمل والعمال لعام 1960 وقيام اتحاد عام لعمال السودان.[87]
وفي أكتوبر 1960 ولأول مرة منذ انقلاب عبود قامت مظاهرات في مختلف مدن السودان تندّد باتفاق النظام مع النظام المصري بشأن السد العالي، وترحيل أهالي حلفا، ولقد كان ذلك التطور وموجة السخط التي لازمته عاملا من العوامل التي دفعت بعض الأحزاب لإقامة جبهة المعارضة التي شارك فيها حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي والحزب الشيوعي. وفي نهاية نوفمبر 1960 رفعت جبهة المعارضة مذكرة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة تطالب فيها أن يتفرّغ الجيش لمهمته الأساسية، وهي حماية البلاد، وأن تتولى الحكم هيئة قومية انتقالية تقوم بوضع قانون انتخابات عادل وأن تُرفع حالة الطواريء، وتُكفل حرية المواطنين.[88]
واستمرّت اجتماعات جبهة المعارضة واستمرت مخاطباتها لمجلس النظام. وفي يوليو 1961 أقدم النظام على اعتقال اثنَي عشر من قادة المعارضة، بينهم عبد الخالق وتم نفيهم لجوبا. وفي يناير 1962 دخل القادة في إضراب مفتوح حتى يتم إطلاق سراحهم. وانطلقت حملة تضامن محلية وعالمية لعب فيها الحزب الشيوعي دورا رائدا أجبرت النظام على الإفراج عنهم في الحال.
وعلاوة على المشاركة السياسية في جبهة المعارضة فإن الحزب الشيوعي كان يطرح على المستوى النظري تصورا أكثر جذرية عبّر عنه البيان الذي أصدره المكتب السياسي في أغسطس 1961 بعنوان "حول الموقف السياسي والإضراب السياسي العام". وفي هذا البيان طُرحت فكرة الإضراب السياسي العام لإسقاط النظام، وحدّد البيان القوى التي سنتفّذه: وهي "القوى الثورية" التي تتألف من الطبقة العاملة والمزارعين والطلبة والبرجوازية الوطنية. إلا أن سمة "الثورية" تتطلّب فرزا وتحديدا إضافيا، وهكذا فإن تصور البيان هو أن تشترط الطبقة العاملة استبعاد "العناصر اليمينية".[89] وعلاوة على تقديمه لتصور عن القوى الاجتماعية للإضراب السياسي فإن البيان يقدّم تصورا ضمنيا لفضائه عندما يقول: "إن تحقيق تلاحم صفوف العمال والمزارعين والطلبة وجماهير المدن يشكّل مركز الثقل في نشاطنا التنظيمي والسياسي لنجاح الإضراب العام."[90] وهكذا فإن الحديث عن إضراب عام أو إضراب سياسي هو بالدرجة الأولى حديث عن حركة حضرية. وما نلاحظه أنه وحتى في حالة هذه القوى الحضرية فإن تأثير إضرابها يتباين حسب قربها من العملية الإنتاجية، إذ أن إضراب العمال أو موظفي الدولة أكثر فعالية من إضراب الطلاب مثلا.
ورغم طرح الحزب الشيوعي المبادر لصيغة الإضراب السياسي العام، التي أثبتت فعاليتها ومضاءها عندما حانت لحظتها التاريخية، ورغم معارضته القوية ونضاله الجرىء ضد النظام العسكري، إلا أنه خطا خطوة عام 1963 لا تشبه خطابه ومواقفه عندما قرر المشاركة في انتخابات المجلس المركزي، التي قاطعتها كل أحزاب المعارضة. وكان الحزب الشيوعي قد أصدر في نوفمبر 1962 مطبوعة بعنوان "الكتاب الأسود بمناسبة الذكرى الرابعة للانقلاب العسكري".[91] أعلن فيها أن "المجلس المركزي جاء أبعد ما يكون عن تحقيق الديمقراطية بل هو نكسة خطيرة إذا ما قورن بالمؤسسات التي حققها الشعب قبل انقلاب 17 نوفمبر 1958."[92] وفي يناير 1963 قررت اللجنة المركزية دخول الحزب الشيوعي في انتخابات المجلس المركزي، وبرّرت ذلك بقولها إنها رغم علمها بالطبيعة الرجعية للمجلس إلا أنها تريد أن تفضحه من الداخل، وتسخره "كمنبر للدفاع عن الديمقراطية"، لتستنهض الجماهير وتطيح بالنظام.[93] ما الذي حدث في الفترة القصيرة بين نوفمبر ويناير وجعل الحزب الشيوعي يغيّر موقفه، ويستخدم منطقا كان قد رفضه عام 1948 وأجّج الشارع ضده وألهب المشاعر عندما استخدمه حزب الأمة، لتبرير دخوله الجمعية التشريعية؟ من المؤكد أن موقف الشيوعيين الأساسي المعادي للنظام لم يتغيّر وصلابتهم لم يلحقها الخور، وليس هناك من تفسير في رأينا غير ضغط من الاتحاد السوفيتي، خضعوا له عقب زيارة ليونيد بريجنيف، السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي، للسودان في نوفمبر 1961 والتي أنشأت علاقات صداقة وتعاون مع النظام العسكري، في ظل تنافس الحرب الباردة بين الكتلتين الغربية والشرقية على كتلة دول العالم النامي. إن عدم إثارة عبود لمسألة معارضة الشيوعيين لنظامه، أثناء مباحثاته مع بريجنيف أمر بعيد الاحتمال، وليس من المستبعد أن يكون الأخير قد وعد بالحديث معهم وربما تليين موقفهم.[94]
8
في عام 1963 وضعت قيادة الحزب الشيوعي لمديرية النيل الأزرق خطتها للعام، وأعلنت فيها أن كل شبر من المديرية قد تحوّل "إلى نقطة انفجار ثوري" في وجه النظام وأن الحركة الجماهيرية قد بلغت "مستوى التنفيذ العملي للإضراب السياسي" وأن الواجب "الفوري والمركزي هو تفجير معركة الإضراب."[95] وتحركت قيادة الحزب بسرعة لتلجم هذا "التقدير اليساري" ولتعلن بدورها أنه لا يمكن التكهن بميقات تنفيذ الإضراب السياسي العام، وأنه لا يمكن تقرير عما إن كان "هذا الإضراب يمكن أن تنفذه كل الطبقات في يوم واحد أو ساعة واحدة، أو في أي مكان يبدأ." وأن البداية قد تكون "للطبقة العاملة أو للزراع أو الطلاب، وقد تكون البداية في الخرطوم أو عطبرة أو بورتسودان أو الجزيرة."[96] ودعت القيادة للموقف الممكن والعملي، وهو الانصراف لمهمة الإعداد للثورة، من دون انشغال بميقاتها.
وعندما جاء الميقات كان مفاجئا حتى للذين انصرفوا للإعداد للثورة. لم تكن بداية مستصغر الشرر الذي أشعل النار الكبري من حظ الطبقة العاملة (الفئة العليا في تراتبية خطاب الحزب الشيوعي) أو من حظ المزارعين (الفئة الثانية في التراتبية) وإنما من حظ الطلاب (تلك الفئة التي لا تمثّل طبقة، وإنما تعيش وضعا انتقاليا).[97] كان المكان حرم جامعة الخرطوم، وكان الميقات مساء الأربعاء 21 أكتوبر 1964، وكانت المناسبة ندوة عن الجنوب -- وهو موضوع لا ينشغل به الوعي الشمالي عادة، إلا أنه أصبح موضوع الساعة لأنه مثّل مظهرا بارزا من مظاهر فشل سياسات النظام العسكري. كان من الممكن أن تمرّ الندوة بسلام ولايحدث شيء، إلا أن الشرطة تدخّلت، وسقط الطالب أحمد القرشي، عضو الحزب الشيوعي، قتيلا برصاصة أصابته في رأسه.[98] وفي صباح الخميس انطلق أساتذة جامعة الخرطوم لمستشفي الخرطوم، حيث احتشدت جموع الجماهير، وأخذوا جثمان القرشي المغطّى بعلم البلاد في جنازة مهيبة إلى ميدان عبد المنعم، حيث صلّوا عليه قبل حمله لقريته بالجزيرة. ومن ميدان عبد المنعم اشتعلت النار.
وبالإضافة للمظاهرات التي انطلقت في العاصمة كان هناك تطوران هامان أولهما اجتماع أساتذة جامعة الخرطوم مساء الخميس، الذي تمخّض عن قرارهم بتقديم استقالات جماعية، وثانيهما هو اتفاق نقابة المحامين مع عدد من القضاة الكبار على إصدار بيان مشترك يدين ما حدث في الجامعة، ويطالب بالتحقيق والمحاسبة.[99] كانت الاستقالات الجماعية لأساتذة جامعة الخرطوم ما آذن ببداية العصيان المدني، وإعلان الإضراب السياسي، وكان التنسيق بين أساتذة الجامعة والمحامين والقضاة بداية ميلاد جبهة الهيئات التي انطلقت لتقود الثورة.
رغم أن ما حدث ليلة 21 أكتوبر فاجأ الحزب الشيوعي وباقي الأحزاب، إلا أنه كان السبّاق في تقدير الوضع باعتبار أن لحظة انفجار "الأزمة الثورية" قد أتت. وأصدر في الحال بيانا يوم الخميس 22 أكتوبر دعا فيه لإضراب عام، وإسقاط النظام بهدف إقامة ما أطلق عليه "حكومة وطنية ديمقراطية من ممثلي القوى الثورية."[100]
ولقد قذفت أكتوبر من أحشائها بحالة نضج ثوري كاملة، إذ انطلقت الجماهير في إجماع وتصميم مذهل وتصدّع النظام في المقابل بسرعة مذهلة. وكانت جبهة الهيئات، التي ظهرت للوجود وهي مستوية، هي صيغة أكتوبر العبقرية التي قادتها بحكمة ورشد إلى بر الأمان. ولقد كان لجبهة الهيئات حليفها في الجيش، وهم مجموعة الضباط الذين كانوا على استعداد للتمرد على النظام، وهي مجموعة كان في قلبها تنظيم الضباط الأحرار الذي جمع الضباط الشيوعيين، وحلفائهم من اليسار العريض.[101] كانت جبهة الهيئات في بدايتها تنظيما سيطرت عليه العناصر المهنية من قانونيين وأساتذة جامعيين، ولحق به فيما بعد ممثلو الأحزاب والعمال والمزارعين. ورغم أنها كانت في اتجاهها السياسي العام أقرب إلى اليسار العريض، إلا أنها لم تكن تجسّد الصيغة النظرية التي طرحها الحزب الشيوعي حيث تلعب الطبقة العاملة "الدور الطليعي" وترسم "الطريق ... لحل القضايا القريبة والبعيدة."[102] وعندما انفجرت ثورة أكتوبر لم تكن الطبقة العاملة في مستوى هذا التوقع النظري؛[103] بل ولم يكن حزبها نفسه مهيأً للإمساك بالفرصة التاريخية وقيادة الثورة إلى النهاية، رغم أنه هو الذي ألهم قيادة الثورة بشعار الإضراب السياسي. فعندما جاءت اللحظة التاريخية كان الحزب الشيوعي يعاني مما وصفه تقرير المؤتمر الرابع بـ "تخلف الأداء والتنفيذ وبُدائيتهما" ومشاكل داخلية أدّت "إلى انكماش [عضويته] لدرجة عاقت [قدراته] الذاتية وهو يواجه مهام ثورة أكتوبر."[104]
عندما تكوّنت حكومة الثورة الأولى فإنها عكست الميزان الثوري وكانت الغلبة فيها للقوى الحديثة بما في ذلك، ولأول مرة، وزير يمثّل العمال، ووزير يمثّل المزارعين. إلا أن رئيس الوزراء، سر الختم الخليفة، لم يكن ثوريا بالمعنى الذي يعنيه الحزب الشيوعي -- كان تربويا لم يُعرف له اتجاه سياسي، ولا شك أن هذا كان عاملا سهّل الاتفاق عليه، إلا أن العامل الهام الآخر الذي رجّح كفّته، كان علاقته بالجنوب حيث عمِل وأقام صلات طيبة مع النخبة الجنوبية جعلته معروفا لديهم.
وفي ظل التكوين الثوري للوزارة ما كان من الممكن للحزبين التقليديين الكبيرين وجبهة الميثاق الإسلامي (حزب الإخوان المسلمين) أن يهدأ لهم بال وهم يرون اليسار يسيطر على الحكومة. وتحرّك حزب الأمة، وفعل ما برع في فعله تاريخيا، فاستقدم حشود الأنصار للعاصمة في فبراير 1965 وأسقط الحكومة. وهكذا انهارت حكومة ثورة المدينة في مواجهة "عنف البادية" -- تلك البادية وجماهيرها المستغلَّة، التي عجز الحزب الشيوعي عن الوصول إليها، ولم يستطع تحريرها عبر محاولته لتصفية الإدارة الأهلية التي كانت ضمن الأجندة الأكتوبرية.[105] وعكست حكومة الخليفة الثانية توازن القوى التقليدي، وأمسكت الأحزاب التقليدية بزِمام الأمور.
ولعل إنجاز حكومة الخليفة الانتقالية الأكبر كان مؤتمر المائدة المستديرة لحلّ مشكلة الجنوب، الذي عُقد في الخرطوم في مارس 1965. وقد استند هذا الإنجاز على موقف الحكومة الإيجابي من الجنوبيين والتي أصبح فيها كلمنت مبورو أول وزير جنوبي لوزارة سيادية وحسّاسة هي وزارة الداخلية. رأى الساسة الجنوبيون في حكومة أكتوبر جدية لم يعهدوها من قبل، وكانوا على استعداد للتعاون معها. وعندما انعقد المؤتمر انقسم قادة الأحزاب الجنوبية بين فكرتي الاتحاد الفدرالي والانفصال، ورفض قادة الأحزاب الشمالية الفكرتين. وفي خطابه للمؤتمر أنحى عبد الخالق باللائمة على سياسة التنمية غير المتوازنة التي مارستها الحكومة الاستعمارية، والحكومات الوطنية، وحمّل أيضا الأحزاب الجنوبية مسئوليتها في تعميق المشكلة. وعارض عبد الخالق الحل الفدرالي واعتبره "غير ذي جدوى في محو التخلف" واقترح البديل الذي ظل الحزب الشيوعي يطرحه منذ الاستقلال وهو "تطبيق نظام حكم لامركزي يتيح للمديريات الجنوبية حكما ذاتيا."[106] ورغم موقف عبد الخالق السياسي البنّاء تجاه الجنوبيين إلا أنه تجاهل عمق مشاعرهم عندما تطرّق للجيش وقال: "إن المسئولية تحتم علينا مساندة القوات المسلحة للنهوض بمسئولياتها ورفع معنوياتها."[107] كان عبد الخالق بهذا الكلام يغازل الجيش من ناحية، ويعبّر من ناحية أخرى عن الإجماع السائد وسط السياسيين الشماليين، الذي عادة ما يضع الجيش فوق النقد والمحاسبة ويكيل له المديح رغم الانتهاكات والجرائم والفظائع التي كان يرتكبها في الجنوب.
لم يصل مؤتمر المائدة المستديرة لاتفاق وفقد السودان فرصته الأخيرة التي قدّمتها له ثورة أكتوبر، ليصل لسلام مع نفسه ويعالج حربه الأهلية بحكمة ومسئولية.
كان الحزبان الكبيران حريصان على عقد الانتخابات بأسرع فرصة ممكنة، للتخلص من اليسار. وفي أبريل – مايو 1965 عُقدت انتخابات الجمعية التأسيسية في الشمال فقط لسوء الأحوال الأمنية في الجنوب، وكانت النتيجة 75 مقعدا لحزب الأمة، 54 مقعدا للحزب الوطني الاتحادي، 11 مقعدا للحزب الشيوعي، 10 مقاعد لمؤتمر البجا، 5 مقاعد لجبهة الميثاق الإسلامي، 3 مقاعد لحزب الشعب الديمقراطي، 15 مقعدا للمستقلين.[108] وكانت الدائرة التي اتجهت لها كل الأنظار في هذه الانتخابات هي دائرة أم درمان الجنوبية، التي رشّح فيها عبد الخالق نفسه ضد أزهري. وبعد معركة ضارية فاز أزهري بأغلبية ألف صوت، وهي أغلبية ضئيلة لرمز وطني كبير كأزهري.
كانت كل مقاعد الشيوعيين في دوائر الخريجين. وهكذا ووسط الهجمة الشرسة على شعارات أكتوبر وتطلعاتها التي شنّها اليمين ممثلا في حزب الأمة وجبهة الميثاق الإسلامي وتحالف معهما الوسط ممثلا في الحزب الوطني الاتحادي جسّدت دوائر الخريجين ما تبقّى من روح الثورة. لم يكن التصويت للنواب الشيوعيين وحلفائهم تصويتا للحزب الشيوعي ذي المرجعية الماركسية – اللينينية بقدرما كان تصويتا للتمسك بما أيقظته أكتوبر في صدور الشريحة المتعلمة (وباقي القوى الحديثة) من شهوة للتغيير من أجل سودان جديد ومختلف. ووسط انتصار النواب الشيوعيين كان هناك انتصار خاص قدّم أسطع رمز على الوعد الذي نشرت أكتوبر شراعه في الأفق، وهو انتخاب فاطمة أحمد إبراهيم كأول امرأة تدخل البرلمان.
9
لم تدم فرحة الحزب الشيوعي بنوابه طويلا، إذ حدث وبعد شهور قليلة ما لم يكن في الحسبان، على الأقل في حسبان الشيوعيين. في مساء الثلاثاء 9 نوفمبر 1965 وقف الطالب شوقي محمد علي مشاركا في نقاش في ندوة بمعهد المعلمين (حاليا كلية التربية بجامعة الخرطوم) وتحدّث عن حادث عائشة و"حديث الإفك" ووصفه بالبغاء، ووصف الطالب نفسه بأنه شيوعي. كانت هذه هي الشرارة التي استطاع الإسلاميون في جبهة الميثاق الإسلامي أن يحولوها لنار لم يهدأ اضطرامها إلا عندما نالوا بغيتهم. فجّر الإسلاميون في الحال حملة ضارية تطالب بحلّ الحزب الشيوعي "الملحد". وبعد الفراغ من تنسيق سريع وكامل بين جبهة الميثاق الإسلامي، والحزبين الكبيرين اجتمعت الجمعية التأسيسية في 15 نوفمبر 1965 وقررت حلّ الحزب الشيوعي، وإخراج نوابه بأغلبية كاسحة (151 نائبا ضد 12 نائبا وامتناع 9 نواب).[109]
كان قرار حلّ الحزب الشيوعي أكبر نكسة للديمقراطية في السودان، إذ أن الجهة التي اتخذته هي نفس الجهة التي ينيط بها الدستور حماية الديمقرطية. وكان حلّ الحزب الشيوعي ولا يزال أكبر انتصار للحركة الإسلامية، إذ أنها ومنذ لحظتها نجحت في أن تفرض الإسلام كخطاب سائد على كل المستويات. فحتى 14 نوفمبر 1965 كان أكبر خطر على الديمقراطية في السودان هو المؤسسة العسكرية، ومنذ 15 نوفمبر 1965 أصبح الإسلام بطرحه الشمولي هو الخطر الأكبر على الديمقراطية. ورغم أن الحزب الشيوعي لم يهاجم الإسلام، ولم يكن الإلحاد قضية من القضايا التي طرحها خطابه السياسي، إلا أن الحمّى التي نشرتها حملة الإسلاميين، نجحت في خلق جو إرهاب فكري شامل، لم يرتفع في ظله صوت واحد يذكّر السودانيين أن الديمقراطية تعطي المواطن السوداني حقّ أن يكون ملحدا لو شاء.
واجه الحزب الشيوعي سؤالا مصيريا وهو: ما العمل؟ صحيح أن نشاط الحزب الشيوعي على مستوى معين لم يتوقف. فعقد في أكتوبر 1967 مؤتمره الرابع الذي أصبح تقريره من أهم وثائق الحزب، وصحيح أن عبد الخالق حقّق أخيرا الطموح الذي سيطر عليه وفاز في دائرة أم درمان الجنوبية، بينما فاز النقابي الحاج عبد الرحمن في دائرة عطبرة في انتخابات أبريل-مايو 1968 (وكان أحمد سليمان قد سبقهما بالفوز في دائرة جغرافية في الخرطوم)، إلا أنه كان ثمة انسداد كبير في الطريق نتج عن لاقانونية الحزب الشيوعي.
كان الرد الإيجابي الأساسي هو تحويل الحزب الشيوعي إلى حزب اشتراكي يعتمد برنامجا وطنيا ديمقراطيا. وكان الدكتور فاروق محمد إبراهيم، عضو اللجنة المركزية السابق، من أبرز الداعين لهذا التحوّل وقد كتب عن الفكرة وسقوطها قائلا:
انتهت المناقشة المستفيضة على نطاق الحزب إلى قرار دعوة المؤتمر الرابع للانعقاد [في الجريف في أبريل 1966] لإجازة تلك السياسة، ولانتخاب لجنة مركزية للحزب في شكله الجديد ... وبعدما وصلنا لمكان انعقاد المؤتمر [تم إخطارنا] أن المؤتمر تغيرت صفته من المؤتمر الرابع إلى المؤتمر التداولي، وأن الأمين العام للحزب المرحوم عبد الخالق لن يتمكن من المشاركة فيه لأنه اضطر للسفر إلى موسكو، للمشاركة في مؤتمر الحزب الشيوعي السوفيتي المنعقد هناك في نفس التاريخ ... فوجئنا بعد عودة الأمين العام بفترة [بإخطارٍ] من الأمين العام والمكتب السياسي (اللجنة التنفيذية) أن قرار المؤتمر بتحويل الحزب الشيوعي إلى حزب طليعي، انحراف يميني مؤداه حلّ الحزب الشيوعي ... دُعيت إلى دورة اللجنة المركزية التي انعقدت في ضاحية من ضواحي الخرطوم في نوفمبر 1966. نفس أعضاء اللجنة الخمسة وخمسين الذين انتخبهم مؤتمر الجريف ... أدانوا القرارات التي اتخذوها بأنفسهم قبل ستة أشهر، وشكروا الأمين العام على تصحيح الانحراف اليميني. شكر الأمين العام الرفاق السوفيت للنصائح القيمة التي أسدوها خلال زيارته، لتصحيح ذلك الانحراف. [110]
وهكذا وعلى مستوى الجبهة السياسية قُبرت فكرة الحزب الاشتراكي. أما على مستوى الجبهة الفكرية فلقد انتبه الحزب الشيوعي إلى خطورة الإسلام، وكيف أنه لم يعد مجرد إسلام صوفي منكفىء على نفسه، أو إسلام طائفي ينفر منه المتعلمون، وإنما أصبح إسلاما يطرح نفسه كحل شامل على مستوى السياسة والاقتصاد والتشريع والمجتمع؛ وتحمل ألويته شريحة متعلمة وحركية تشارك اليساريين فصول الدراسة وقاعاتها وفضاءات القوى الحديثة الأخرى. خلص الشيوعيون أنه وفي مواجهة هذا التحدي "لا يكفي ... الاقتناع بالدفاع عن الحياة السياسية العلمانية وشعار فصل السياسة عن الدين"[111] --- وهي خلاصة حفزتهم لاتباع خطة "لاسترداد" الدين من "الرجعية" التي "تزيفه"، والعمل على تنمية خط دعائي "حول قضية الدين الإسلامي، وعلاقته بحركة التقدم الاجتماعي". وهو خط دعائي لا يقتصر على نقد الطرح "الرجعي" للإسلام وإنما "يتعدّى ذلك لجعل الدين الإسلامي عاملا يخدم المصالح الأساسية لجماهير الشعب."[112] وبهدف دفع هذا الخط كوّن الحزب الشيوعي لجنة للدراسات الإسلامية.
وكان مما أصدرته هذه اللجنة مراجعات لعبد الخالق بعنوان آراء وأفكار حول فلسفة الإخوان المسلمين. وفي هذه المراجعات استعرض عبد الخالق بعض كتابات سيد قطب وأبي الأعلى المودودي ومحمد قطب. وإن قصد عبد الخالق أن تكون مراجعاته ردا ودحضا ماركسيا لفكر الإخوان المسلمين، فإن التوفيق لم يحالفه، إذ أن معالجته تؤكد في واقع الأمر انتصار الإخوان المسلمين في نشر إرهابهم الفكري، ليطاله هو نفسه. فعبد الخالق الذي يتحدّث في السياسة بلغة الماركسي – اللينيني يتحوّل فجأة في هذه المراجعات لشخص آخر يتبنّى خطابا مسلما سنيا اعتذاريا تبريريا مألوفا. وفي حماسه "لاسترداد" محمد و"نزعه" من الإسلاميين، يسمح عبد الخالق لنفسه باستخدام لغة لا تليق عندما يصف هؤلاء المنظّرين من الإخوان المسلمين (الذين يقول عنهم إنهم يريدون أن ينهضوا "بالرسالة السماوية كما نهض من قبل أصحاب الرسول (صلعم)، ولكن بلا وحي منزل، وقد ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبيين") بأنهم "أقزام لا يقتربون إلى شسع نعله."[113] من المؤكد أن الخطاب "الإيماني" الذي تبناه عبد الخالق في هذه المراجعات، لا يعكس موقفه كماركسي، وأنه كتب ما كتب بدواعي مقتضيات ما أراده تكتيكا سياسيا. وعندما ننظر لما أنتجه هذا الخط الدعائي للحزب الشيوعي، منذ أن كتب عبد الخالق مراجعاته وكتب الرشيد نايل الإخوان المسلمون أعداء الله وأعداء رسوله إلى الآن، فإننا لا نجد أعمالا تعكس الموقف الماركسي من الدين.[114]
برز الأثر الكارثي لحلّ الحزب الشيوعي على مستوى السياسة القومية في الحال عندما التفتت الجمعية التأسيسية لمهمتها التي انتخبت أصلا لها وهي وضع الدستور، إذ نجحت جبهة الميثاق الإسلامي، وهي ممتلئة ثقة وصلفا بعد قيادتها لحملة حلّ الحزب الشيوعي، في ابتزاز الحزبين الكبيرين وإرهابهما، ووضع مشروع الدستور الإسلامي في قلب مناقشات الجمعية. وكانت فكرة الدستور الإسلامي انتكاسا كبيرا على مستوى الفكرة الدستورية نفسها، إذ أن مثل هذا الدستور لا يقرّ حرية الفكر والتعبير، كما برز في مسألة حلّ الحزب الشيوعي، واتجاه ما وُصف بتحريم الإلحاد، علاوة على انتهاكه لحق المساواة بين النساء والرجال، وحق المساواة بين المسلمين وغير المسلمين. والدستور الإسلامي يفتح الباب بالطبع لتطبيق الشريعة الإسلامية، بما تحويه من عقوبات تتميز بقسوتها وغلاظتها ولاإنسانيتها.
10
وبينما كانت الجمعية التأسيسية تهلك وقتها في المناقشات الانصرافية للدستور الإسلامي، وبينما كانت الحرب الأهلية – التي كانت الحكومة تنفق الملايين عليها – تتواصل بكل تقتيلها وتدميرها والوضع الاقتصادي في كل السودان يزداد تأزما وانحدارا – تحرّك تنظيم الضباط الأحرار ليلة الخامس والعشرين من مايو 1969 بقيادة العقيد جعفر نميري وانتزع السلطة في انقلاب غير دموي.
كانت قيادة الحزب الشيوعي على علم مسبّق بالانقلاب، وكانت قد ناقشت الفكرة في دورة اللجنة المركزية في مارس 1969 ورفضتها، كما ناقشها المكتب السياسي في 9 مايو ورفض مرة أخرى المشاركة في الانقلاب.[115] إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن قيادة الحزب الشيوعي (وعبد الخالق خاصة بوصفه حلقة الاتصال بين الحزب والجيش) لم تطرح موقفا سياسيا معلنا أمام عضوية الحزب والرأي العام، بينما أعطت العسكريين الضوء الأخضر لتنفيذ ما ظلوا يتهيأون له ويتحينون لحظته، إذ أن المهمة الأساسية للعسكريين المسيّسين هي الاستعداد للقيام بانقلاب، أو انقلاب مضاد.[116] إن مشاركة الضابطين الشيوعيين المقدم بابكر النور والرائد هاشم العطا في مجلس قيادة الانقلاب، ترجّح احتمالَ مشاركةٍ شيوعيةٍ في الانقلاب، وهو أمر من المستبعد أن يكون قد تمّ بدون موافقة الحزب الشيوعي.
كان التوجه اليساري للانقلاب واضحا إذ اعتمد بيانه الأول على ميثاق القوى الاشتراكية --- التكوين الذي كان الشيوعيون وحلفاؤهم قد أقاموه لخوض معركة الانتخابات الرئاسية. وضمّ مجلس وزراء الانقلاب أربعة وزراء شيوعيين كان أبرزهم جوزيف قرنق الذي أصبح وزيرا لأول وزارة أُنشئت لشئون الجنوب، مما عكس عزم النظام على معالجة مشكلة الجنوب طبقا لرؤية الحزب الشيوعي القائمة على الحكم الذاتي الإقليمي.
ورغم أن الانقلاب أعلن حلّ جميع الأحزاب، إلا أن الحزب الشيوعي تمتّع بوضع خاص، وضعه في منزلة بين الحظر الاسمي، وحرية الحركة الفعلية. وانقسمت قيادة الحزب بشأن تحديد طبيعة النظام الجديد، وما يجب أن يفعله الحزب في ظله. كان هناك تيار قوي وصف نفسه "بالتيار الثوري" أبدى حماسا تاما للانقلاب والانخراط في مؤسساته. إلا أن عبد الخالق عبّر عن موقف مختلف، وهو الموقف الذي اصبح موقف الغالبية، وبَذَر بذرة المواجهة الدموية بين النظام والشيوعيين فيما بعد.
إن الوثيقة التي تعبّر عن موقف عبد الخالق أوضح تعبير وأصرحه هي التقرير الذي قدّمه إلى المؤتمر التداولي لكادر الحزب المنعقد في فبراير 1970. ونبرة عبد الخالق في هذه الوثيقة نبرة موقف نظري قاطع في وثوقه، ونلمس فيها حسا قويا باستشراف السلطة وخاصة وأن الحزب قد لامسها. والصورة العامة التي يرسمها عبد الخالق هي صورة مواجهة طبقية تقف في يسارها الطبقة العاملة والمزارعين وفي يمينها البرجوازية. وهذه الطبقات تعبّر عن مصالحها من خلال تكوينات سياسية محدّدة وأهم تكوينين يركّز عليهما التقرير هما الحزب الشيوعي والمجلس العسكري للانقلابيين.
وبينما أن الأمر واضح في حالة الحزب الشيوعي إذ أنه منحاز لمصالح الكادحين (مجموع العمال والمزارعين)، إلا أن الأمر ينطوي على تعقيد فيما يتعلّق بالمجلس العسكري، وهو تعقيد ينتج من الطبيعة الطبقية للجيش. إن الجيش لا يشكّل طبقة بالطبع ولكن أفراده يمكن تصنيفهم لفئات طبقية مختلفة، حسب منشئهم الطبقي من ناحية، والمرتبة التي يحتلونها في التسلسل الهرمي للمؤسسة العسكرية من ناحية أخرى. وهكذا وبينما يمكن اعتبار الجنود وضباط الصف أقرب طبقيا للعمال والمزارعين فإن صغار الضباط هم جزء من البرجوازية الصغيرة وكبارهم جزء من البرجوازية الكبيرة. ولقد رأى عبد الخالق أن ضباط السلطة الجديدة ينتمون للبرجوازية الصغيرة بحكم مرتباتهم التي يتلقونها من جهاز الدولة وبحكم إيديلوجيتهم.
وهذه الطبيعة البرجوازية الصغيرة للسلطة تجعلها في وضع متذبذب إذ أنها قابلة للانحياز للكادحين، ولكنها قابلة في نفس الوقت للانحياز للبرجوازية. والسبيل المفتوح أمام السلطة هو ارتقاؤها لتصبح سلطة "ديمقراطيين ثوريين" مثلما حدث في حالة نظام عبد الناصر مثلا. ويقول عبد الخالق في تعريفه لما يعنيه بهذه العبارة أنه "عندما تورد مطبوعاتنا هذه العبارة فهي تتصور تصورا كاملا تلك الفِرَق من البرجوازية الصغيرة التي أثبتت عمليا موقفا حازما ضد الاستعمار القديم والحديث وفي سبيل تغيير الحياة الاجتماعية -- تتصور شعارات وتطبيقات بعينها مثل التأميم، الإصلاح الزراعي، النداء للاشتراكية، الديمقراطية الجديدة ... إلخ ... ومن هذه الزاوية فإن عبارة الديمقراطيين الثوريين تعني أيضا مجموعة من النشاط السياسي لفئات من البرجوازية الصغيرة، تستهدف إحداث ثورة ديمقراطية عميقة."[117]
وفي مقابل البرجوازية المتربصة بالتغيير التي تمثّلها قوى مثل حزب الأمة والوطني الاتحادي واحتمال الخطر الناشيء من التذبذب البرجوازي الصغير للسلطة العسكرية يقف العمال والمزارعون بقيادة حزبهم الشيوعي سدّا منيعا ضد الثورة المضادة. إلا أن الغاية الاستراتيجية التي يريد عبد الخالق الوصول إليها، تصطدم بواقع ضعف الطبقة العاملة وهامشيتها.
وبإزاء هذا الواقع فإن عبد الخالق يضطر لتقديم الدور التاريخي للمزارعين. وبما أن المزارعين لا يمثلون طبقة واحدة متجانسة، إذ أن بينهم الأغنياء والمتوسطين والفقراء فإن دورهم يأتي في مرحلة الثورة الديمقراطية، وهي مرحلة تطور غير رأسمالي ذي اقتصاد مختلط ومتعدد الأشكال يحوي "قطاع الدولة (جنين الاشتراكية) والقطاعات الرأسمالية المختلفة التي تعمل وفقا لقوانين السوق."[118] وعلاوة على ذلك فهناك سمة خاصة حاسمة لهذه المرحلة وهي أنها مرحلة "ثورة الإصلاح الزراعي"[119] -- وهذا يعني عمليا أن المزارعين هم القوة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأساسية التي لا يمكن أن تتحقق الثورة الديمقراطية إلا باستنهاضها. والثورة الديمقراطية هذه باقتصادها غير الرأسمالي والدور الحاسم للمزارعين ستمكّن السودان من تخطّى مرحلة "الثورة الديمقراطية البرجوازية القديمة". وحسب النظرية فإنه وبعد أن ينجز المزارعون مهمتهم التاريخية، تتحرّك الطبقة العاملة لتأخذ مركز الصدارة، وتستلم المشعل، وتنتقل بالثورة لمرحلة الاشتراكية. وفي قلب هذه العملية التاريخية يقف الحزب الشيوعي الذي:
يرعى ... بحزم التطور المستقل للطبقة العاملة السودانية لتصبح خطوة وراء خطوة قائدة للجماهير الكادحة في بلادنا، لتبني خطوة وراء خطوة الحلف الثابت بينها وبين جماهير المزارعين الكادحة. وهذه الرعاية ناشئة من موقفنا الإيديلوجي كشيوعيين والقائل بأن الثورة الاشتراكية تقودها الطبقة العاملة المتراصة خلف حزبها الماركسي اللينيني، وأنه مهما تعددت الأشكال للسلطة التي تقود عملية بناء المجتمع صوب الاشتراكية، فإنها ذات محتوى واحد هو دكتاتورية البروليتاريا المتحالفة مع كادحي المزارعين.[120]
وكما أشرنا فإن الحزب الشيوعي ورغم موقفه النظري أن "الأزمة الثورية" لم تنضج لاستلام السلطة إلا أنه ساند الانقلاب، وهي مساندة وضعها عبد الخالق في تقريره في إطار تصور تكتيكي أوسع بأن دعا "لتحويل الانقلاب العسكري إلى ثورة شعبية خلال عملية معقدة من التحالفات والصراع ضد الاتجاهات السلبية لفئات البرجوازية الصغيرة."[121]
هذا الصراع مع ما وصفه عبد الخالق "بالاتجاهات السلبية لفئات البرجوازية الصغيرة" ما لبث أن وصل نقطة الانفجار في 16 نوفمبر 1970 عندما تحرّك النظام ضد عبد الخالق وجناحه، وأبعد كلا من المقدم بابكر النور والرائد هاشم العطا بالإضافة للرائد فاروق عثمان حمد الله من المجلس العسكري، واعتقل كلا من عبد الخالق وعز الدين علي عامر، بالإضافة لفصل عدد من الضباط الشيوعيين وحلفائهم.
11
كانت الشهور التي تلت فترة صعّد فيها النظام حملته المعادية للحزب الشيوعي، وتصاعد فيها الصراع في داخل الحزب نفسه بين جناحيه. وفي 29 يونيو 1971 وقع حادث لا شك أنه هزّ ثقة النظام بقدراته الأمنية، إذ أن عبد الخالق تمكّن من الهروب من معتقله. لم يكن هروب عبد الخالق هروبا عاديا، وإنما حدثا ذا مغزى خطير لم ينكشف إلا بعد عشرين يوما عندما قاد الرائد هاشم العطا انقلابا في 19 يوليو 1971 أزاح مجلس نميري العسكري، وأعلن نفسه كـ "حركة تصحيحية".
كان عبد الخالق قد أعدّ تصوره لما سيفعله النظام الذي سيولد وهي وثيقة حول البرنامج التي كتبها أثناء فترة اعتقاله، وهي وثيقة ذات طبيعة تخطيطية تتناول رؤوس القضايا الأساسية مثل الثورة الاقتصادية والتعليم والجنوب والدين والجيش والقطاع التقليدي والديمقراطية.[122]
وفي مساء يوم الانقلاب أصدرت اللجنة المركزية بيانا دعت فيه أعضاء الحزب وحلفاءه للالتفاف حول "الثورة" وأن "يبدأوا فورا في حراسة مراكز العمل والأحياء، وتنظيم عمل جماهيري واسع للسيطرة على العاصمة وتأمينها."[123] وفي صبيحة 22 يوليو سيّر اتحاد نقابات العمال مظاهرة شارك فيها الآلاف من الشيوعيين وحلفائهم. كانت هذه المظاهرة أكبر وآخر مظهر لتأييد جماهيري للانقلاب إذ أنه بدأ يتهاوى في نفس اليوم.
أجبر العقيد معمر القذافي الطائرة البريطانية التي كانت تقلّ المقدم بابكر النور (الذي أُعلن رئيسا لمجلس قيادة الانقلاب) والرائد فاروق عثمان حمد الله على الهبوط واعتقلهما، وأسقط السعوديون طائرة عراقية كانت تقلّ وفدا بعثيا في طريقه للخرطوم. وفي الخرطوم خرجت مظاهرات نظّمها المؤيدون لنميري وتحركت قوة ضاربة من الدبابات هاجمت القصر الجمهوري.[124] وبعد ثلاثة أيام كان الانقلاب قد فشِل وعاد نميري للسلطة.
كان انقلاب 19 يوليو بحق "أقصر ولاية انقلابية ناجحة في تاريخ الانقلابات العربية، وربما غير العربية".[125] وكان أيضا، قياسا على ما حدث بعد فشله، أكثر الانقلابات السودانية دموية. عُقدت في الحال محاكمات ميدانية حكمت على قادة الانقلاب بالإعدام رميا بالرصاص. واجهوا مصيرهم بشجاعة وهم يهتفون بحياة السودان. وواجه الموتَ أيضا بشجاعة الشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق اللذان حكمت عليهما محكمة عسكرية بالموت شنقا، وكانا أول سياسيين مدنيين يعدمان في انقلاب.
ظلّ عبد الخالق مختفيا أربعة أيام وفي صباح 26 يوليو تمّ اعتقاله في أم درمان. وفي صباح اليوم التالي مَثَل أمام محكمة عسكرية سُمح للصحفيين الأجانب بحضورها. كان عبد الخالق ثابتا أمام محكمة كان يدرك أنها قد اتخذت قرارها سلفا. وبعد الفراغ من المحاكمة رفع قضاتها حكمهم بالإعدام على عبد الخالق شنقا حتى الموت. وبذلك الحكم أصبح عبد الخالق ثالث سياسي مدني تحكم عليه محكمة عسكرية بالإعدام في انقلاب.[126] وفي صباح 28 يوليو نُفذ حكم الإعدام. سار عبد الخالق نحو المشنقة ثابت الخطى وهو يهتف بحياة السودان وحياة الحزب الشيوعي.[127]
كان ما حدث في يوليو 1971 ثاني أكبر مواجهة للنظام بعد مواجهته مع الهادي المهدي والأنصار في الجزيرة أبا في مارس 1970 والتي راح ضحيتها آلاف الأنصار. ولقد اُعتقل آلاف الشيوعيين، إلا أن ذلك لم يَقُد لمجازر شبيهة بمجازر الشيوعيين في إندونيسيا، واكتفى النظام بإعدام القادة الكبار واعتقال قياديين آخرين.[128]
كان انقلاب 19 يوليو مغامرة عبد الخالق الكبرى. وربما كانت قد توفرت لعبد الخالق فرصة أخيرة عندما حاول معارضوه زحزحته عن موقفه بالاستنجاد باللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، التي ألقت بثقلها وراءهم وساندتهم، مثنية على "ثورة" مايو التي تقف في "طليعة الثورة الوطنية الديمقراطية العربية".[129] وعندما عجز السوفيت عن زحزحته قالوا إن موقفه "غير مفهوم"،[130] إلا أن ما لم يكن يعلمونه، فهو أنه كان قد حسم أمره وكان يحسب لحظة إزاحة سلطة "البرجوازية الصغيرة"، لتحلّ محلها سلطة "الثورة الوطنية الديمقراطية". وكانت اللحظة تستلزم شرطين حيويين: نضج الأزمة الثورية، واستعداد الحزب الشيوعي لاستلام السلطة. وربما كان الشرط الأول متوفرا (فواقع السودان بعدم استقراره السياسي وحربه الأهلية، وتردي وضعه الاقتصادي يجعله في حالة أزمة ثورية دائمة) إلا أنه سرعان ما اتضح أن الشرط الثاني غير متوفر. وفي ثلاثة أيام انهار ما ظل عبد الخالق يبنيه على مدى اثنين وعشرين عاما.
12
كيف يمكننا تقييم عبد الخالق وما تركه للحزب الشيوعي واليسار؟ إن أول ما يجب أن نضعه في اعتبارنا ونحن ننظر لذلك هو أن الحزب الشيوعي إلى لحظة إعدام عبد الخالق كان حزبا بناه عبد الخالق، وهيمن عليه. إذ كان عمليا ذلك التكوين الذي اجتهد على مدى اثنين وعشرين عاما في عجنه وصياغته طبقا لتوجهاته، ليتحوّل واقع أنه زعيم الحزب ومفكّره لواقع أنه أصبح إلى حد كبير هو الحزب.[131] وليس هذا بالأمر المستغرب على ضوء تقاليد المركزية الديمقراطية،[132] التي سادت الأحزاب الشيوعية التي تكوّنت في الحقبة الستالينينة، وعلي ضوء سيادة الثقافة الطائفية في الحياة السياسية السودانية (فاليسار معرّض أيضا في هذا الجو الملوّث بالطائفية للإصابة ببعض أعراضها).
كان عبد الخالق "ثوريا" يحلم بتغيير جذري في السودان يخرجه من جبّ تخلفه وينقله لرحاب الاشتراكية. إلا أن حساسيته الثورية كانت مختلفة عن حساسية زين العابدين وعبد الرازق. فبينما كان كلا من زين العابدين وعبد الرازق على استعداد لإعطاء الديمقراطية فرصتها وقبول أن الاشتراكية (ناهيك عن الشيوعية) هدف بعيد، وبالتالي لابد لتحقيقها من العمل المتدرج البطىء في إطار التحالف مع الأقسام المتقدمة من البرجوازية، كان عبد الخالق على استعداد "لاختزال" التاريخ وحرق المراحل.
نظر عبد الخالق مليّا للواقع السوداني في شماله وجنوبه وشرقه وغربه، ووجد واقعا، كما وصفه في تقريره في عام 1970، يعاني "من ثقل التكوينات قبل الرأسمالية في اقتصاده وفي علاقاته الاجتماعية. إنه مجتمع متخلف بكل معاني التخلف الاقتصادية والاجتماعية."[133] وكان عبد الخالق مقتنعا كل الاقتناع أن الحزب الشيوعي هو الجهة الوحيدة التي تمسك بمفتاح الحلّ، وهو الحلّ الذي ظل الحزب الشيوعي يطرحه على مدى كل سنوات كفاحه ولخّصت ملامحه الأساسية آخر وثيقة كتبها -- حول البرنامج. إلا أن عبد الخالق كان مقتنعا أيضا بشىء آخر، وهو أن فرص الوصول للسلطة عبر طريق الديمقراطية البرلمانية في هذا الواقع المتخلف، "بكل معاني التخلف الاقتصادية والاجتماعية"، فرص في غاية الضآلة إن لم تكن منعدمة.
ما العمل إذن لحزب يرى في استلامه للسلطة الخلاص الحقيقي والوحيد للبلد؟ من الطبيعي أن يخلُص عبد الخالق إلى أن "العنف الثوري" هو الوسيلة العملية والفعّالة لدقّ باب التاريخ وفتحه بعنوة. إلا أنه أراد أن يصل الحزب الشيوعي للسلطة، باستخدام العنف في حدّه الأدني. ولهذا لم يجذبه النموذج الصيني أو الكوبي القائم على انطلاق عمل مسلّح من الريف يطوّق المدينة (وكان هذا موقف من انشقوا ليكوّنوا القيادة الثورية) وإنما جذبه النموذج الانقلابي الناصري.
ولعل أصرح تعبير عن خط العنف الثوري والخط الانقلابي في أدبيات الحزب الشيوعي ما أعلنته اللجنة المركزية بعد اجتماعها في نوفمبر 1964 وهي تقيّم ثورة أكتوبر من أن الثورة تعاني من أسباب قصور أساسية تتلخص في أن الطبقة العاملة لم تلعب "دورها الطليعي" لحظة انفجار الثورة، وأن الثورة "تنقصها فرق مسلحة شعبية"، وأن الدور الذي لعبته القوات المسلحة كان محدودا. وخلصت اللجنة المركزية إلى أن "استكمال ثورة أكتوبر يحتاج إلى ثورة ثانية، تلعب فيها القوات المسلحة دورا حاسما."[134] وكانت 19 يوليو هي لحظة التدخل "الحاسم" وتفجير "الثورة الثانية"، التي تستكمل بها أكتوبر جناحها الثاني وتطير.
13
قلنا إن عبد الخالق كان "ثوريا"، ولكنه كان في نفس الوقت ثوريا على الطريقة الماركسية – اللينينية (وهي نمط من الثورية وصفه الدكتور فاروق محمد إبراهيم بالأصولية.[135]) كان مؤمنا إيمانا عميقا بقيادة الطبقة العاملة للمجتمع، وقيادة الحزب الشيوعي للطبقة العاملة نفسها. وفي غياب الظروف الموضوعية التي تسمح بقيام الطبقة العاملة السودانية الجنينية بقيادة مجتمعها بنى عبد الخالق حزبا أعتمد أساسا على عناصر البرجوازية الحضرية الذين تشبّعوا بحُلم "مسيحي" ينتظر خلاص المجتمع على يد طبقة سيقوى ساعدها يوما ما لتفرض ديكتاتوريتها وتقود المجتمع نحو خلاصه الاشتراكي.
ولفهم عبد الخالق لابد في تقديرنا من اعتبار الدافع الأخلاقي الذي حرّكه إذ أنه كان يحمل حلم القضاء على استغلال الإنسان للإنسان، وتحقيق الاشتراكية والمساواة. وهو حلم وتطلّع وتشوّف قديم وكبير – أقدم وأكبر من الماركسية – اللينينية. إن البرجوازي الذي يختار الاشتراكية يحرّكه بالدرجة الأولى هذا الدافع الأخلاقي. هذا ينطبق على ماركس وأنقلز ولينين وعبد الخالق. وبالمقابل فمن الممكن أن يكون العامل معاديا للاشتراكية، وهي الحالة التي تصفها الماركسية "بالوعي الزائف". وهذا المفهوم يمكّننا من إدراك حقيقة هامة وهي أن الواقع المادي الطبقي ليس كافيا لتعريف وفهم الموقف الاشتراكي، وأنه لابد من إدخال عنصر الوعي في الصورة. والمشروع الاشتراكي نفسه غير ممكن بدون عنصر الوعي هذا لأنه في حقيقته فعل واعٍ لتغيير العالم، تعبّر عنه مقولة ماركس الشهيرة: "إن الفلاسفة لم يفعلوا سوى أن فسّروا العالم تفسيرات مختلفة، إلا أن المطلوب هو تغييره."
ولقد جذب الحزب الشيوعي عددا مقدّرا من البرجوازيين (وبالذات من شريحة "الأفندية") والطلاب بالإضافة للعمال والمزارعين --- ذلك القطاع الذي أصبح يُعرف بالقوى الحديثة. انضموا له لأنهم حملوا أشواقا اشتراكية أصيلة ومن غير أن يقرأوا ماركس أو لينين بالضرورة. وانجذبوا له أيضا لأن خطابه حمل وعد الحداثة والانعتاق من أسر القديم والانفتاح على معارف العصر وثمراته. وهكذا لم يكن الحزب الذي بناه عبد الخالق عشبة غريبة كل الغرابة على تربة السودان، وإلا لما كان قد حقّق ما حقّق من نجاح نسبي في جذب عدّد مقدّر من السودانيين، وفي خلق دائرة تأثير واحترام واسعة.
14
إلا أن تمسّك عبد الخالق بالماركسية – اللينينية وصيغة الحزب الشيوعي ولّد ثلاث مشاكل أدّت إلى ما يمكن وصفه بانحسار مشروع الحزب الشيوعي: مشكلة الموقف من البرجوازية الوطنية، ومشكلة الموقف من الديمقراطية، ومشكلة فشل صيغة الجبهة الديمقراطية.
رغم أن عبد الخالق كان على استعداد للاعتراف بدور محدود للرأسمالية الوطنية على المستوى الاقتصادي إلا أنه كان عميق العداء للبرجوازية الوطنية على المستوى السياسي. وهكذا أدخل عبد الخالق الحزب الشيوعي في قطيعة عميقة مع أكثر الطبقات تأثيرا وحركية وانفتاحا تعليميا في السودان. وفي داخل هذه الطبقة نجد ثمة قطاع وطني عريض ومؤثر، وهو قطاع البرجوازية الوطنية الذي شكّل القاعدة الشعبية للحركة الاتحادية، وهو قطاع اتسم وعيه السياسي تاريخيا بالعداء للاستعمار البريطاني وطائفة الأنصار.[136] ولقد رأى بعض الشيوعيين الأوائل مثل محمد أمين حسين وعبد الماجد أبو حسبو وأحمد زين العابدين في الحركة الاتحادية حليفا طبيعيا لحركة اليسار، فهجروا الحركة الشيوعية وانضموا لها. إلا أن عبد الخالق ناصب الحركة الاتحادية العداء، وخاصة في تجليها الأساسي أي الحزب الوطني الاتحادي. وبلغ هذا العداء قمته في فترة الديمقراطية الثانية بعد أكتوبر. لقد ميّز عبد الخالق في الخمسينيات بين قيادة حزب الأمة، وقاعدته الجماهيرية عندما دخل في تحالف معه إلا أنه عجز عن هذا التمييز في الستينيات بين القيادة الاتحادية وقاعدتها. وكان إصراره على انتزاع دائرة أم درمان الغربية من الأزهري من أوخم أخطائه، وهو خطأ دفع الحزب الشيوعي ثمنه الباهظ عندما انضم الحزب الوطني الاتحادي لمعسكر اليمين الداعي لحلّه.
أما فيما يتعلّق بمشكلة الديمقراطية فإن الحزب الشيوعي ظلّ متمسكا بالموقف الماركسي – اللينيني التقليدي المعادي للديمقراطية البرلمانية والتعددية الحزبية. صحيح أنه كان يشارك في الانتخابات ونجح في إدخال عدد من النواب للبرلمان، إلا أنها كانت مشاركة ما تتيحه هذه المؤسسة "البرجوازية" من فرصة عمل سياسي، أكثر مما كانت مشاركة إيمان بالنظام البرلماني ومساهمة صادقة لتعزيزه. ولقد ظهر هذا بوضوح بعد انقلاب مايو إذ ساند الحزبُ النظامَ في قراراته لحلّ سائر الأحزاب، وقمع قادتها وناشطيها مع المطالبة باستثنائه والسماح له بممارسة نشاطه. وكان عبد الخالق على استعداد لممارسة "العنف الثوري" عبر المشاركة الشعبية ضد أي محاولة انقلاب ضد النظام عندما دعا في تقريره عام 1970 إلى "أن تكون للجبهة الديمقراطية فصائلها المسلحة من طلائع الطبقة العاملة والجماهير الثورية وأن تدرب هذه الجماهير لقمع أي انقلاب رجعي في البلاد."[137]
ورغم أن خطاب الحزب الشيوعي كان يستخدم كلمة "الديمقراطية" مرارا إلا أن هذا الاستخدام كان استخداما ذا محتوى طبقي بمعنى الديمقراطية الاجتماعية التي تخدم مصالح الكادحين وليس بمعنى الديمقراطية "البرجوازية". وهذه الديمقراطية الاجتماعية هي القاعدة التي ستبني عليها الطبقة العاملة ديكتاتوريتها. وهكذا فإن ما كان عبد الخالق يعد السودانيين به هو التخلّي عن ديمقراطيتهم البرلمانية التعددية، وتبنّي نظام شبيه بنظام الاتحاد السوفيتي ذي الحزب الواحد.
نأتي الآن لصيغة الجبهة الديمقراطية وفشلها. تميّز عمل الحزب الشيوعي منذ الاستقلال بمفارقة غريبة إذ أنه مارس نشاطه وسط الطلاب، ذوي الوعي السياسي الأكثر تقدما وحركية، عبر صيغة الجبهة الديمقراطية، بينما طرح نفسه وسط الجماهير، ذوي الوعي السياسي الأكثر انخفاضا، كحزب شيوعي.[138] وهكذا وبينما قام وسط الطلاب وعاء يجمع الشيوعيين وعناصر اليسار العريض – من يسميهم الشيوعيون "بالديمقراطيين" – إلا أنه لم يقم وسط الجماهير وعاء شبيه بذلك. ولقد نظر الشيوعيون دائما للديمقراطي "كثوري" لا يصبح مكتمل التكوين إلا عندما يرتقي وعيه ويصبح شيوعيا. إلا أن غالبية الديمقراطيين لا ينتهي بهم المطاف عادة للانضمام للحزب الشيوعي. ويذهب عبد الخالق إلى أن هؤلاء الديمقراطيين الثوريين "مفتوحون للاقتراب من الماركسية – اللينينية والضعف يكمن في الحزب الشيوعي، لعدم قدرته على التصدي لهذه القضية ولصعوبة مثل هذا العمل."[139] وملاحظة عبد الخالق هذه تكشف ما ظلّ عاجزا عن رؤيته (وما ظل الماركسيون – اللينينيون بشكل عام عاجزون عن رؤيته) وهو أن هناك حساسية يسارية مختلفة عن الحساسية الماركسية – اللينينية، وأبرز ما يميزها نفورها من القوالب النظرية الجاهزة، واستعدادها لانفتاح فكري أوسع على مختلف تيارات الفكر الاشتراكي.
15
وهكذا نجد أن الحزب الشيوعي ذا المرجعية الماركسية – اللينينية كان تاريخيا وعاء أضيق من أن يستوعب قوى اليسار العريض بكل تنوعها وطاقاتها (وينطبق نفس الأمر في تقديرنا على الحزب الشيوعي الحالي، الذي أسقط في مؤتمره الخامس في يناير 2009 صفة اللينينية وقرر قصر مرجعيته على الماركسية). إلا أن قوى اليسار العريض هذه لم تنجح تاريخيا في إقامة تنظيم سياسي بوزن الحزب الشيوعي. وهنا تكمن أزمة اليسار السوداني.
إن أزمة اليسار السوداني العريض في تقديرنا ليست بأزمة فكرية أو أزمة برنامج، إذ أن ملامح الأفكار الرئيسية لهذا اليسار، وعناصر برنامجه، منبثة بدرجات مختلفة من الوضوح في فضاء خطاب التحوّل والتغيير وأشواق وتصورات السودان الجديد. إن الأزمة ذات طبيعة عملية ومباشرة، لأنها بالدرجة الأولى أزمة وعاء تنظيمي جامع يصوغ عناصر برنامج الحد الأدنى، الذي يجذب ويفجّر طاقات أكبر عدد من التقدميين الذين يريدون أن يعملوا من أجل بناء سودان علماني ديمقراطي اشتراكي يتساوى مواطنوه دون أي تمييز، وتتحقّق فيه كامل كرامتهم الإنسانية وسعادتهم.
الهوامش
(*) أتقدم بالشكر الجزيل لكل الأصدقاء الذين أعانونني بمدهم لي بالمواد التي احتجت لها أثناء كتابة هذه الورقة أو اجتهدوا لمساعدتي. الشكر الجزيل للبروفيسر فاروق محمد إبراهيم والدكتور أحمد عباس والدكتور خالد عايس والأستاذ راشد سيد أحمد والأستاذ سيف بشير والأستاذ شرف ياسين والدكتور صديق الزيلعي والأستاذ طلعت محمد الطيب والدكتور عادل فاروق والأستاذ عبد الوهاب همت والأستاذ عزيز كامل.
[1] . Julius Braunthal, History of the International 1914 – 1943, vol. 2, trans. by John Clark (London: Nelson, 1967), pp. 165-166. (ترجمتنا)
[2] . المصدر السابق، ص 540.
[3] . Jaafar Muhammad Ali Bakheit, Communist Activities in the Middle East between 1919 – 1927 with Special Reference to Egypt and the Sudan (Khartoum: Sudan Research Unit, 1968), pp. 6-7.
[4] . المصدر السابق، ص 9 – 10. يشير تقرير حكومي أن إحدى الجمعيات العاملة في عطبرة في الثلاثينيات كانت جمعية اسمها جمعية المطرقة والمنجل كوّنتها مجموعة من الموظفين الساخطين الذين كانوا يطالبون بحق تكوين نقابات. انظر
Ahmad A. Sikainga, "Organized Labor in Contemporary Sudan: The Story of the Railway Workers of Atbara," South Atlantic Quarterly, vol. 109, no. 1 (Winter 2010), p. 46.
[5] . المصدر السابق، ص 10 – 13.
[6] . يشير أحمد خير لأثر تطورات الثورة الروسية إشارة مباشرة في تعداده للظروف التي اكتنفت حركة 1924 ويقول: "نشبت الثورة بعد أن انتصر البلاشفة على إنجلترا وفرنسا في "حرب التدخل" وجعلوا ينشرون تعاليم جديدة ويدعون للثورة العالمية ضد الاستعمار والاستغلال ولم تقف أنباء دعوتهم عند مصر، بل امتدت منها إلى السودان ... " كفاح جيل (الخرطوم: الدار السودانية، [1970])، ص 49.
[7] . يوشيكو كوريتا، علي عبد اللطيف وثورة 1924: بحث في مصادر الثورة السودانية، ترجمة مجدي النعيم (القاهرة: مركز الدراسات السودانية، 1997)، ص 76.
[8] . بعد أول مظاهرة نظمتها جمعية اللواء الأبيض نشرت جريدة حضارة السودان هجوما حادّا على المظاهرة قالت فيه: "أهينت البلاد لما تظاهر أصغر وأوضع رجالها دون أن يكون لهم مركز في المجتمع بأنهم المتصدّون والمعبرون عن رأي الأمة ... من هو علي عبد اللطيف الذي أصبح مشهورا حديثا وإلى أي قبيلة ينتسب؟" مقتبس في كوريتا، المصدر السابق، ص 77. حول تاريخ جريدة حضارة السودان والمواقف والمصالح التي عبّرت عنها انظر محجوب محمد صالح، الصحافة السودانية في نصف قرن 1903 – 1953، القاهرة: مركز الدراسات السودانية، 1996، ص 38 – 49.
[9] . في الاجتماع التأسيسي لجمعية اللواء الأبيض عشية بدء المفاوضات بين الحكومة البريطانية وسعد زغلول بخصوص مستقبل أوضاع السودان قال علي عبد اللطيف لزملائه من المجتمعين "والله نحنا اجتمعنا دلوقت لأنو حتكون في مفاوضات، المفاوضات دي دلوقت السيد عبد الرحمن عمل الاجتماع بتاعو وأعلن رايو ونحن ما بنعتقد إن النظار والعمد والمشايخ بيمثلونا لأننا نحنا ناس برضو عندنا رأي في الحكاية دي." كوريتا، المصدر السابق، ص 75.
[10] . أصرّ أعضاء اللواء الأبيض في تحقيقات نوفمبر 1924 عقب تمرد السجن على تعريف أنفسهم "كسودانيين" عندما سُئلوا عن "جنسهم". وعندما أصرّوا على موقفهم "جلدوا بوحشية، وأعلن الضابط البريطاني المسئول أنه لا يقبل "سوداني" كإجابة عن "الجنس". وقرروا إثر هذا تفادي الجلد بالإجابة "بجعلي" و"دنكاوي" و"عربي مصري" و"مولّد" وهلم جرا." مقتبس من عبد الكريم السيد، اللواء الأبيض: تاريخ ثورة 1924، مذكرات ومشاهدات سجين (الخرطوم: 1970) في كوريتا، المصدر السابق، ص 34 – 35. ويحكي خضر حمد، وهو ينتمي للجيل الذي دخل كلية غردون عقيب ثورة 1924، أنه وبعد التخرج بُعث ومجموعة من زملائه لمصلحة المالية ويقول " ... سألنا رئيس كبير هو عيساوي بك عن أسمائنا ثم عن أجناسنا ولما قلنا له سودانيون ألحّ في أن يعرف قبائلنا وصممنا نحن على كلمة سوداني فلم يكن منه إلا أن قال لنا أنه غير مستعدّ لتعيننا إن لم يعرف قبائلنا فقلنا له ذلك شأنك أما نحن فلا نعرف لنا قبائل ولكننا أبناء هذا السودان ولا ننتمي إلى غيره. وأخيرا كتبها من الأوراق القديمة غير مقرّ لما قلناه من أننا سودانيون." خضر حمد، مذكرات خضر حمد، نشر خاص، 1980، ص 23.
[11]. يقول محيى الدين جمال أبو سيف، أحد مؤسسي جمعية الاتحاد السوداني، إن هدف الجمعية كان وحدة وادي النيل، إلا أنه يقرّر في نفس الوقت أن الجمعية ضمّت في عضويتها "ثلاثة من قيادات الحركة الانفصالية "الاستقلالية" ... وهم السادة عبد الله خليل ومحمد صالح الشنقيطي ومحمد علي شوقي وهؤلاء كوّنوا فيما بعد حزب الأمة الذي نادى بالاستقلال ... " عبد المنعم قطبي وعادل الباز، "محيى الدين جمال أبو سيف مؤسس جمعية الاتحاد السوداني يتذكّر"، الملتقي، العدد 91، السنة الرابعة، أول ديسمبر 1993، ص 10. حول تاريخ الجمعية ومنطلقاتها انظر محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث 1820-1955 (القاهرة: دون ناشر، 1993)، ص 307-311.
[12]. حول هذه النقطة وما يمكن أن يوصف بتماهي علي عبد اللطيف مع سعد زغلول انظر كوريتا، علي عبد اللطيف، ص 74.
[13] . حول مقاومة العلماء للمهدية انظر عبد الله علي إبراهيم، الصراع بين المهدي والعلماء، القاهرة: مركز الدراسات السودانية، 1994.
[14] . رغم أن الصورة العامة للختمية أنهم "اتحاديون" وخاصة أن علي الميرغني عاد للسودان في ركاب جيش الغزو الثنائي، إلا أن هذه الصورة تظلم مواقفهم التي اتسمت بجسّ نبض الاتجاه العام للسودانيين وبالمرونة السياسية. ولقد أعلن الميرغني في أبريل 1922 في خطاب ألقاه في حضرة المندوب السامي البريطاني: "إن السودان بلاد منفصلة عن مصر لها جنسيتها الخاصة بها فيجب أن تترك في سبيل التقدم حسب قواعد الرقي الخاصة بها." الأهرام، 6 مايو 1922. مقتبس في فيصل عبد الرحمن علي طه، الحركة السياسية السودانية والصراع المصري البريطاني بشأن السودان 1936 – 1953 (القاهرة: دار الأمين، 1998)، ص 64.
[15]. مذكرات عبد الماجد أبو حسبو، ص 105، مقتبس في Mohamed Nuri el-Amin, " The Sudanese Communist Movement, The First Five Years – I", Middle Eastern Studies, vol. 32, no. 3 (July 1996), pp. 25-26.
[16] . Gilles Perrault, Un homme à part, Paris: B. Barrault, 1984.
ولقد تمت ترجمته للعربية بعنوان هنري كورييل: رجل من طراز فريد، ترجمة كميل داغر (بيروت: دار النضال، 1986).
[17]. تحكي روزيت العجم (Rosette Aladjam) زوجة كورييل عن قرارهما لمساعدة الفلاحين البؤساء الذين كانوا يعملون في الأرض الضخمة التي كانت تمتلكها أسرته: "ذهبنا بالسيارة ونحن نحمل جالونات من قطرات العيون وصناديق من الأدوية. كان التشخيص بسيطا: إما الرمد الحُبيبي (التراخوما) أو البلهارسيا. كانت عيون كل شخص تقريبا مصابة وأعطيناهم القطرات. وكانت البلهارسيا أيضا سببا للكثير من المعاناة ... وقضينا أياما طويلة على هذا الحال ونحن نخدم الناس. ولقد كانوا في غاية الامتنان لما نفعله إلا أنني أحسست بأنهم كانوا مرتبكين ومحرجين في علاقتهم بهنري إذ أنه كان في نهاية الأمر لا يزال ابن السيد. وكان الأب، دانيال كورييل، يتميّز غيظا مما يفعله ابنه. فرغم أن الأب كان ذا شفقة ورأفة كبيرة وكان يتبرع بسخاء للأعمال الخيرية اليهودية إلا أن الفلاح كان أمرا مختلفا بالنسبة له. لم يكن الفلاح بالشيء الذي يدخل دائرة اهتمام وسطه. ما كان ذلك حتى ليخطر بذهن أي شخص. كان والد هنري يعتبر زياراتنا لأملاكه أمرا يدلّ على سوء الذوق. واستمرت زياراتنا بضعة أشهر، ثم قرر هنري أن يتوقف. كان التباين بين البؤس الذي رأيناه وعلاجاتنا التي لا تُسمن ولا تُغني تباينا كاسحا وقاهرا. لم تكن هذه هي الوسيلة الصحيحة. لا بد من تغيير النظام برمته بدلا من الاكتفاء بتوزيع قطرات العيون. وقرر أن ينخرط في العمل السياسي باعتبار ذلك هو الوسيلة الوحيدة لخلق أثر حقيقي. إلا أنه لم ينسَ أبدا ما رأيناه في الأكواخ البائسة للفلاحين. أستطيع أن أقول إنه في الواقع لم يستطع بتاتا التخلصَ من تلك الصدمة التي أصابته عندما اكتشف بؤس الشعب المصري." Perrault, A Man Apart: The Life of Henri Curiel, trans. by Bob Cumming (London and Atlantic Highlands, NJ (USA): Zed Books, 1987), pp. 51-52.
(ترجمتنا).
[18] . رفعت السعيد، تاريخ المنظمات اليسارية المصرية 1940 – 1950 (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1976)، ص 118. ولقد أولت الحركة المصرية للتحرر الوطني مسألة الترجمة اهتماما خاصا وأصدرت سلسلة كتب نظرية مترجمة عُرفت باسم الكتب الخضراء "وربما كانت هذه السلسلة أول جهد مكثف في الوطن العربي كله لترجمة الأدبيات الماركسية". وقد قام بهذه المهمة مكتب كامل ومتخصص هو مكتب المثقفين. ويقول عضو الحركة فوزي جرجس: "وكانت الترجمة دقيقة جدا وتراجع أيضا بدقة من قبل متخصصين في اللغة العربية ومتخصصين في اللغة الإنجليزية. بل إننا اعتمدنا في عملية المراجعة على بعض أعضاء مجمع اللغة العربية." المصدر نفسه، ص 355. ويمكننا أن نستنتج استنتاجا راجحا أن عبد الخالق محجوب كان من المشاركين في عمل هذا المكتب، وهي مشاركة يشير لها إشارة غير مباشرة عندما يقول في معرض تعداده لمنجزات الحركة السودانية للتحرر الوطني أنها "استطاعت بالتعاون الصادق مع الحركة الشيوعية المصرية أن تقدم عموميات الماركسية اللينينية باللغة العربية." (لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني (الخرطوم: دار الفكر الاشتراكي، 1965)، ص 25). ولا شك أن مشاركة عبد الخالق المبكرة هذه كانت مما صقل قدرته الأصيلة وأدواته وانعكس في لغته التي تميّزت بسلامتها ووضوحها وسلاستها وقوتها وجزالتها.
[19]. المصدر السابق، ص 179.
[20]. ربما نرى في ميل كورييل للسودانيين والنوبيين البعدَ النفسي لميل الأجنبي للأجنبي وتوحّده معه. فرغم أن كورييل وُلد في مصر واعتبر مصرَ وطنَه إلا أنه كان على مستوى معين "أجنبيا" وظلّ هذا الشعور بالأجنبية يطارده ويثقله بإحساس عدم القدرة على الاندماج الكامل إلى حد أنه خطر له في فترة أن يعلن إسلامه علّ ذلك يعينه على نيل درجة أكبر من القبول. وبالمقابل، فإن السودانيين والنوبيين، رغم ما يجمعهم من أواصر ثقافية بالمصريين، هم أيضا "أجانب" في المحيط المصري. وهكذا يمكننا أن نفترض افتراضا نراه معقولا وهو أن شعور كورييل بالغربة جعله يميل للسودانيين والنوبيين الذين شاركوه هذا الإحساس بالغربة.
[21]. السعيد، تاريخ المنظمات اليسارية المصرية 1940 – 1950، ص 392.
[22]. يقول كورييل عن هذه المدرسة: "في يناير 1943 عقدت أول مدرسة كادر. وكانت هذه المدرسة نقطة تحول هامة فقد حضرها الكادر الأساسي الذي تولى قيادة الحركة فيما بعد ولهذا فقد اعتبرنا هذا اليوم هو تاريخ تأسيس ح م [حمتو]." المصدر السابق، ص 335.
[23]. المصدر السابق، ص 212.
[24]. المصدر السابق، ص 213.
[25]. المصدر السابق، ص 215. يقول دهب إن خط المجلة أزعج السراي "إلى درجة أن أحد سكرتيري الملك وهو حسن بك حسني اتصل بي وعرض عليّ 2000 جنيه مقابل أن أغلق المجلة وأن أسافر إلى السودان، فلما رفضت هددني بالقتل. وطلبت عقد اجتماع عاجل للجنة المركزية وعرضت عليهم الأمر، وقررنا أن نتحدى هذا التهديد." المصدر نفسه، ص 216.
[26]. المصدر السابق، ص 217.
[27]. كان منزل حسن وحسين عثمان (الكِد)، وهما من أفراد أسرته الممتدة، هو المكان الذي وُلدت فيه مدرسة أبي روف في أواخر العشرينيات. انظر Afaf Abdel Majid Abu Hasabu, Factional Conflict in the Sudanese Nationalist Movement 1918-1948 (Khartoum: University of Khartoum Graduate College Publications, 1985), p. 52. نشأت هذه المدرسة، مثلها مثل جمعيات أخرى ظهرت في هذه الفترة وبعدها، في جو الشعور بالانكسار والإحباط عقب حركة 1924. ونشأت المجموعة من شباب متعلمين قريبي المشارب والأمزجة، ورغم خلفيتهم الختمية كانوا متمردين على الولاء الطائفي. وقد بدأوا كمجموعة قراءة تقرأ بنهم بالعربية والإنجليزية. وبحكم خلفيتهم الختمية كانوا قريبين من مصر ومتماهين مع الثقافة العربية، إلا أن قراءاتهم الإنجليزية فتحت أعينهم على الاشتراكية الفابية. ولقد جعلهم تأثرهم بالفابية يهتمون بالتعليم والعدل الاجتماعي وكان هذان هما الهدفان "اللذان وضعاهما نصب أعينهم" وعملوا "على المساعدة في تأسيس ملجأ القرش الذي كان يهدف إلى إيواء اليتامي والعجزة" كما ساعدوا في إقامة المدارس الأهلية. (خالد حسين عثمان الكد، الأفندية ومفاهيم القومية في السودان، ترجمة محمد عثمان مكي العجيل (أم درمان: مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، 2011)، ص 162). عن شريحة المتعلمين في هذه الفترة وظروف نشأتها واهتماماتها انظر حيدر إبراهيم علي، "بدايات الانتلجنسيا السودانية الجديدة"، كتابات سودانية، العدد 2 (مايو-يوليو 1992)، ص 63-77.
[28]. هنري كورييل، أوراق هنري كورييل والحركة الشيوعية المصرية، دراسة رؤوف عباس، ترجمة عزّة رياض (القاهرة: سينا للنشر، 1988)، ص 123-124. كان التلاحم في مصر بين كفاح السودانيين والمصريين، وخاصة في القطاع الطلابي، وثيقا إذ أن الطلاب السودانيين تشرّبوا بفكرة وحدة الكفاح المشترك، وخاصة أن دراستهم في مصر جعلتهم يحسون بولاء خاص لها. ويقرر السعيد أن الطلبة السودانيين كانوا "يشكلون عونا مستديما لأجهزة حدتو الحزبية، ودائما كان هناك كوادر سودانيين يلعبون دورا هاما في صفوف المنظمة. وفي البداية كان هناك الجنيد علي عمر (عضو سكرتارية مركزية ومسئول الدعاية)، عمر محمد إبراهيم، وبابكر محمد علي اللذان توليا مسئوليات هامة في الأقسام العمالية بالقاهرة، وأحمد سليمان (الطلاب). وفي غمار الظروف الصعبة وعندما تتوالى الضربات البوليسية كانت حدتو تجد المدد الذي لا ينضب في الطلاب السودانيين الذين كانوا يفدون لمصر، وكانوا يضمون في صفوفهم العديد من أعضاء حستو ... وعندما استشهد الطالب السوداني الشيوعي صلاح بشرى في السجن نظمت حدتو بالاشتراك مع الطلاب السودانيين جنازة أثارت دهشة سكان القاهرة من ضخامتها ... " (منظمات اليسار المصري 1950 – 1957، ص 38-39). ويظهر وزن السودانيين في علاقتهم بمنظمة (حدتو- التيار الثوري) وكيف أن اعتقال زعيميها و"عددا من الأعضاء والكوادر وأغلبهم من السودانيين" وقرار الحزب الشيوعي السوداني "سحب كوادره من العمل في صفوف الشيوعيين المصريين" أدّى لانهيارها. (انظر المصدر السابق، 205).
[29]. كورييل، أوراق هنري كورييل، ص 124.
[30]. المصدر السابق، ص 47.
[31]. السعيد، منظمات اليسار المصري 1950 – 1957، هامش ص 37.
[32]. انظرEl-Amin, " The Sudanese Communist Movement, The First Five Years – I", pp. 28-29.
[33]. محمد سعيد القدال، معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني (لندن وبيروت: دار كوش ودار الفارابي، 1999)، ص 33.
[34]. يقول الدكتور محمد نوري الأمين عن عبد الوهاب زين العابدين (1918-1985) إنه "وُلد ... من أم شلكاوية وأب دينكاوي. كان والده ضابطا في الجيش ومن أقرباء علي عبد اللطيف ... وربما كان هذا سبب ابتعاثه مرتين كرسول بين ثوار 1924 وحزب الوفد في مصر. وتلقّى عبد الوهاب جزءا من تعليمه في الكلية القبطية بالخرطوم وأكمل دراسته في مصرحيث قرر والده أن يبقى لأنه كان ضمن الضباط السودانيين الذين رفضوا أداء قسم الولاء للحاكم العام البريطاني في السودان. وتأهّل عبد الوهاب في مصركطبيب وعند عودته للسودان في أواسط الأربعينيات عمل كطبيب خاص. وفي السنوات الأولى لنظام نميري وعندما كان اليسار ذا نفوذ عمل عبد الوهاب ولفترة قصيرة سفيرا في الصين." El-Amin, " The Sudanese Communist Movement, The First Five Years – I", p. 37, n. 11.
[35]. المصدر السابق، ص 34.
[36]. انظرMohamed Nuri el-Amin, " The Sudanese Communist Movement, The First Five Years – II", Middle Eastern Studies, vol. 32, no. 4 (October 1996), p. 251.
[37]. كان يعمد دائما "لوضع الطربوش حتى يبدو وكأنه غير راديكالي وبأنه تقليدي إلى أبعد الحدود." Ibid., p. 254.
ولقد نجحت هذه السياسة في حجب نشاط الشيوعيين عن أعين المخابرات الساهرة حجبا تاما إلى حد أن تقريرا للشرطة في سبتمبر 1947 أعلن بثقة أن "النشاط الشيوعي في السودان نادر أو منعدم." المصدر نفسه، ص 256.
[38]. المصدر السابق، ص 254.
[39]. يقول مصطفى السيد، وهو من أوائل من انضموا للحركة، أنه اُبتعث في عام 1946 لمهمة تنظيم العمال في عطبرة وأنه استطاع أثناء تنفيذه لمهمته كسب ثلاثة طلاب في مدرسة الصناعات هم الشفيع أحمد الشيخ وقاسم أمين وإبراهيم زكريا. المصدر نفسه، ص 255.
[40]. حول خلفية هذا الصراع وما ترتّب عليه انظر Mohamed Omer Beshir, Revolution and Nationalism in the Sudan (London: Rex Collings, 1974), pp. 193-197.
Amad Alawad Sikainga, "City of Steel and Fire": A Social History of Atbara, Sudan's Railway Town, 1906-1984 (Portsmouth, NH, Oxford, Cape Town: Heinemann, James Currey, David Philip, 2002), pp. 104-111.
[41]. El-Amin, "The Sudanese Communist Movement, The First Five Years – II", p. 260.
[42]. في عام 1947 شارك الطلاب الشيوعيون العائدون في إجازتهم من مصر في إلهاب الحماس والمعارضة ضد مشروع الجمعية التشريعية . ويحكي حسن أبو جبل عما عُرف "بليلة ستالينقراد" عندما اقتحم الطلاب المتظاهرون دار مؤتمر الخريجين وحملوا أزهري على أكتافهم وخرجوا به للشارع وهم يهتفون، مما أدّى لاعتقال أزهري ومحاكمته وسجنه. المصدر السابق، ص 259.
[43]. المصدر السابق، ص 260.
[44]. القدال، معالم، ص 47.
[45]. ولد في رفاعة (1926-1981) وكان والده مأمورا. بدأ دراسته الجامعية في مدرسة الآداب بكلية غردون إلا أنه لم يكملها وذهب لمصر حيث دخل مدرسة الآداب بجامعة فؤاد الأول. أصبح سكرتيرا عاما لمؤتمر الشباب، إحدى منظمات الحركة الشيوعية، وما لبث أن فُصل من الجامعة بسبب نشاطه السياسي. انظر El-Amin, "The Sudanese Communist Movement, The First Five Years –I", p. 37, n. 12.
[46]. عبد الخالق محجوب، لمحات، ص 13.
[47]. المصدر السابق، ص 23.
[48]. El-Amin, " The Sudanese Communist Movement, The First Five Years – III", Middle Eastern Studies, vol. 33, no. 1 (January 1997), pp. 129.
[49]. المصدر السابق، ص 132.
[50]. صدر قانون المجلس التنفيذي والجمعية التشريعية في يونيو 1948 بهدف إعداد السودانيين للحكم الذاتي. حول التطورات التي فرضت إصدار هذا القانون وما راهنت عليه الإدارة البريطانية انظر
Peter Woodward, Condominium and Sudanese Nationalism (London: Rex Collings, 1979), pp. 75-95. حول موقف مختلف القوى السودانية من الجمعية التشريعية انظر فيصل عبد الرحمن علي طه، الحركة السياسية السودانية، ص 377-388.
[51]. القدال، معالم، ص 50.
[52].El-Amin, "The Sudanese Communist Movement, The First Five Years –I", p. 37, n. 12.
[53]. عبد الخالق محجوب، لمحات، ص 30.
[54]. قال عبد الرحيم أحمد، أحد قادة (حستو)، أنهم أكّدوا في البرنامج الذ ي رفعوه للأشقاء في عام 1948 على ضرورة حماية مصالح البرجوازية الوطنية بإجراءات مثل تشجيع الصناعات المحلية وتنميتها ومقاطعة السلع البريطانية ودخول الرأسماليين الوطنيين مجال صناعة النسيج مع إيقاف تصدير القطن الخام وإلغاء احتكار الدولة لاستيراد السكر وفتح باب الاستيراد للتجار السودانيين. انظر El-Amin, "The Sudanese Communist Movement, The First Five Years – III", p. 136.
[55]. كان المؤرخ محمد سعيد القدال أكثر اعتدالا وإنصافا في الكلام عن فترة عبد الرازق فكتب: "ورغم قصر الفترة التي قضاها عوض عبد الرازق في قيادة الحزب، إلا أنها كانت فترة لها دورها. ولكن أغفل ذلك الدور تماما، مثلما أغفلت الكتابات السوفيتية دور تروتسكي في الثورة البلشفية وقد كان أحد نجومها الساطعة ... كما لم يخل الصراع من مرارات نفثتها روح الشباب، فقد كانت كل قيادات الحزب في العشرين من عمرهم. فكان الاختلاف في الرؤى يعني مروقا وخيانة وهلمجرا للسفينة وهي تصارع الأنواء، وهو قطعا ليس كذلك." ، معالم، ص 57.
[56]. أنهى عبد الرازق تكتّم زين العابدين بأن أعلن عن الطبيعة الاشتراكية للحركة ودفع عبد الخالق بالإعلان لنهايته المصادمة. وحسب تقارير الأمن فقد وُجدت منشورات في أغسطس 1949 في أم درمان تخاطب المواطنين وتقول لهم إن خلاصهم في الشيوعية وتختتمها عبارات "عاش كفاح الطلبة، عاش كفاح المزارعين، عاش كفاح العمال، عاش كفاح الشيوعيين." El-Amin, "The Sudanese Communist Movement, The First Five Years – III", p. 139.
[57]. المصدر السابق، ص 139.
[58]. القدال، معالم، ص 60.
[59]. المصدر السابق، ص 62. يقول القدال في نقده لتجربة هذه الجبهة أنها لم تعدو أن "تكون تجميعا للمنظمات التي تدور في فلك حستو وواجهة للعمل العلني، مما جعلها محدودة الفعالية." (نفسه، ص 67).
[60]. يقول الدكتور القدال إن حركة أنصار السلام قد خرجت "من مآسي الحرب ... وويلاتها، وشاركت فيها قوى اجتماعية من مختلف أنحاء العالم ومختلف الاتجاهات ومن بعض الشخصيات العالمية ذات الوزن الكبير وعلى رأسهم الفيلسوف البريطاني بيرتراند رسل. ولكن احتضان الاتحاد السوفيتي لها واستغلال أهدافها النبيلة في الهجوم على المعسكر الرأسمالي ونواياه العدوانية حوّلها إلى معركة ساخنة في الحرب الباردة بين المعسكرين." المصدر السابق، ص 65-66.
[61]. المصدر السابق، ص 57.
[62]. هذه الملاحظة كانت تنطبق حتى على الكثيرين من جيل الرواد الذين يقول الدكتور القدال عن معرفتهم بالماركسية: "ورغم أن أولئك الرواد كانوا يدّعون الماركسية، إلا أن معرفتهم بها كانت قليلة. فالأدب الماركسي، سواء ما ترجم إلى العربية أو باللغة الإنجليزية، محدود الانتشار في البلاد، اللهم إلا ما كان يتسرّب منه خلسة وتتبادله قلة من الصفوة. وكانت الكتب الماركسية على قلتها يهيمن عليها المنهج الروسي الماركسي، الذي أحالها إلى قوالب صماء ... " المصدر السابق، ص 39.
[63]. تاج السر عثمان بابو، "من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني: الصراع الفكري 1951-1952"، موقع الراكوبة: http://www.alrakoba.net/articles-action-show-id-64611.htm
(تمّ الاسترجاع بتاريخ 5 أبريل 2016)
[64]. يثبت الدكتور محمد نوري الأمين هذه المعلومة نقلا عن تقرير بالعربية كتبه على ما يبدو ضابط شرطة بعنوان "كيف دخلت الشيوعية السودان" بتاريخ 20 يناير 1958. والتقرير من الأرشيف الشخصي لسوداني طلب عدم ذكر اسمه. El-Amin, "The Sudanese Communist Movement, The First Five Years – III", p. 145, n. 42.
[65]. انظر مثلا السيرة الملهمة للمتفرغ الحزبي الجزولي سعيد التي جمعها وأعدّها الشفيع الجزولي: المناضل الجزولي سعيد: رمز الحياة والأمل، سيرة عامل سوداني، الخرطوم: دون ناشر، 2013. وهناك أيضا تاريخ متفرغين شيوعيين أسقطهم الحزب الشيوعي من ذاكرته مثل يوسف عبد المجيد الذي اختلف مع الخط السائد.
[66]. تمّ توقيع اتفاقية الحكم الذاتي في فبراير 1953 بين بريطانيا ومصر بعد أن قامت مصر بالتشاور والاتفاق مع الأحزاب السودانية (باستثناء الجنوبيين والحزب الشيوعي). ولقد نصّت الاتفاقية على منح السودان حق تقرير المصير بعد فترة حكم ذاتي لا تتجاوز ثلاث سنوات. حول خلفية الاتفاقية وبنودها انظر القدال، تاريخ السودان الحديث 1820-1955، ص 362-363.
[67]. عبد الخالق محجوب، لمحات، ص 45.
[68]. المصدر السابق، ص 55.
[69]. الحزب الشيوعي السوداني، الحزب الشيوعي السوداني وقضية الجنوب (من منشورات الحزب الشيوعي، الطبعة الثانية، أبريل 1996)، ص 12.
[70]. حول مطلب الفدرالية والصراع حوله انظر عبد الماجد بوب، جدل الوحدة والانفصال (الخرطوم: مطبعة جامعة الخرطوم، 2009)، ص 64-65. كان الحزب الجمهوري بزعامة محمود محمد طه هو الحزب الشمالي الوحيد الذي ساند فكرة الفدرالية ودعا في مقترحه للدستور الذي أصدره عشية الاستقلال لقيام "حكومة جمهورية فدرالية ديمقراطية اشتراكية." إلا أن مشروع طه كان أيضا مشروعا لإقامة دولة دينية ترفض العلمانية ولا يمكن تصوّر حلّه النهائي لمشكلة الجنوب خارج "مركزيته الإسلامية" التي تؤمن بأن حلّ مشاكل البشرية لا يمكن أن يتحقق خارج الإسلام.
[71]. في خطاب لجوزيف قرنق، الزعيم الشيوعي، في عام 1970 عندما كان وزيرا لشئون الجنوب قال " ... لماذا الحكم الذاتي الإقليمي؟ لماذا الحق لتطوير الثقافات والتقاليد؟ لابد من القول مرة أخرى إنه لا يوجد في الواقع كِيان قومي في الجنوب، ولهذا السبب وحده فإن مبدأ تقرير المصير لا يمكن أن ينطبق. ولكن توجد مجموعات قومية في الجنوب تسكن كل واحدة منها في منطقة محدّدة وتتحدّث لغة محدّدة ولها عاداتها وتقاليدها المتميزة ... "
Joseph Garang, "On Economics and Regional Autonomy," Review of African Political Economy, vol. 26 (1983), p. 86. [ترجمتنا] وقد ناقش عبد الخالق مسألة تقرير المصير من زاوية مختلفة في وثيقة حول البرنامج حيث عدّل الموقف الذي أعلنه قرنق وقَبِل بمبدأ تقرير المصير "للقوميات" وخاصة الجنوب إلا أنه أجّل ممارسة هذا الحق لما بعد تطبيق الحكم الذاتي وعندما يدخل السودان مرحلة البناء الاشتراكي، وهو متأكد أن "القوميات" والجنوب ستقرر مصيرها حينها "في إطار الاشتراكية والدولة السودانية الاشتراكية." الخرطوم: دار عزة، ص 74.
[72]. عبد الخالق محجوب، لمحات، ص 62-63.
[73]. المصدر السابق، ص 62.
[74]. المصدر السابق، ص 64.
[75]. المصدر السابق، ص 64.
[76]. القدال، معالم، ص 89.
[77]. المصدر السابق، ص 93.
[78]. الحزب الشيوعي، ثورة شعب: ست سنوات من النضال ضد الحكم العسكري الرجعي (الخرطوم: دار الفكر الاشتراكي، 1965)، ص 28.
[79]. القدال، معالم، ص 108.
[80]. المصدر السابق، ص 109.
[81]. كانت إحدى مرتكزات هذا الموقف النظري الحجة القائلة إن "النمط الكلاسيكي للثورات ... لا يمكن حدوثه في ظروف العالم المعاصر، وفي بلدان العالم الثالث على الأخص، حيث تتميز تلك البلدان بميوعة الخطوط بين الطبقات الاجتماعية، بالإضافة إلى ضعف التكوينات العمالية فيها، وكذلك ضعف القوى الديمقراطية الساعية إلى إحداث تغييرات اجتماعية راديكالية." محمد محجوب عثمان، الجيش والسياسة في السودان: دراسة في حركة 19 يوليو 1971 (القاهرة: مركز الدرسات السودانية، 1998)، ص 16.
حول اتجاهات النظريات السوفيتية عن العالم النامي والاختلافات بين العسكريين والمدنيين في الحزب ووزارة الخارجية انظر Mark N. Katz, The Third World in Soviet Military Thought (London and Canberra: Croom Helm, 1982), pp. 123-157.
[82]. كان عبد الخالق على صلة ودودة بعبد الناصر وكان معجبا به وانتقد الشيوعيين المصريين لعجزهم عن تقدير الطبيعة التقدمية للنظام الناصري. انظر Tareq Y. Ismael, The Sudanese Communist Party: Ideology and Party Politics (London and New York: Routledge, 2013), pp. 178-179. ولقد بلغ حماس الحزب الشيوعي لنظام عبد الناصر حدّ تأييده في منتصف الستينيات لقرار الشيوعيين المصريين بحلّ "تنظيماتهم بأمل تكوين حزب طليعي داخل الاتحاد الاشتراكي العربي" (الحزب الشيوعي السوداني، سكرتارية اللجنة المركزية، 19 يوليو 1971 (من منشورات الحزب الشيوعي، يناير 1996)، ص 70). وكل هذه مواقف انتقدها الحزب الشيوعي فيما بعد واعتبرها نتاجا للتقديرات المتفائلة والذاتية "السائدة في الحركة الشيوعية العالمية آنذاك عن دور وقدرات البرجوازية الصغيرة وحركاتها وأنظمتها، كما تعبّر وثائق اجتماع الأحزاب الشيوعية والعمالية عام 1960 وعام 1969." نفسه، ص 71). وبلغ حماس الحزب الشيوعي للوحدة بين مصر وسوريا درجة دعوته لوحدة مماثلة بين السودان ومصر. انظر Ismael, The Sudanese Communist Party, p. 178. ويذكر الصحفي إدريس حسن في مقالته "شاهدتهم يعدمون عبد الخالق محجوب" والذي نُشر في صحيفة الأيام في أبريل 1987 أن رئيس المحكمة التي حاكمت عبد الخالق سأله عما إن كان الحزب الشيوعي يملك سلاحا وردّ عبد الخالق "نعم، وقد أرسلها لنا الرئيس جمال عبد الناصر عام 1965 عندما تعرّض الحزب لهجمة شرسة من جانب القوى الرجعية أدت لإخراج نوابه من الجمعية التأسيسية ... " مقتبس في حسن الجزولي، عنف البادية: وقائع الأيام الأخيرة في حياة عبد الخالق محجوب (القاهرة: مدارك، 2006)، ص 290. وإن كان هذا صحيحا فربما خاف عبد الناصر على الشيوعيين السودانيين مصيرا شبيها بمصير الشيوعيين الإندونيسيين.
[83]. محمد محجوب عثمان، الجيش والسياسة في السودان، ص 11. يقول عثمان إن تنظيم الضباط الشيوعيين وحلفائهم قام على أكتاف المقدم بابكر النور.
[84]. حول عمل الحركة المصرية وسط العسكريين وما قدمته لحركة الضباط الأحرار انظر السعيد، تاريخ المنظمات اليسارية المصرية 1940 – 1950، ص 234-246.
[85]. الحزب الشيوعي السوداني، سكرتارية اللجنة المركزية، 19 يوليو 1971، ص 3. ولا شك أن هذه صراحة تُحمد لسكرتارية اللجنة المركزية وتؤكد جدية الحزب الشيوعي في مراجعة وانتقاد نزعته الانقلابية. إلا أن محمد محجوب عثمان يعارض هذا الإقرار ويقول إن "هذا قول يحتاج إلى دليل أو إثبات، لأن هذا لم يرد في أي وثيقة صدرت عن الحزب، أو حتى في خطاب داخلي يتم تعميمه على العضوية." (الجيش والسياسة في السودان، ص 21). وهذا اعتراض غير وجيه لأن الانقلابات العسكرية بطبيعتها عمليات تآمرية سرية وليست مما يُعلن في الوثائق أو التعميمات الداخلية. ماذا إذن عن المحاولة الانقلابية التي شارك هو نفسه فيها وهي محاولة نوفمبر 1959 التي قادها البكباشى علي حامد؟ كعضو ملتزم في الحزب الشيوعي اتصل بالقيادة وأكّد له عضوان من اللجنة المركزية أن اللجنة المركزية قد وافقت على مشاركته. ويقول إنه تبيّن له فيما بعد أن اللجنة المركزية لم يكن لها علم بالأمر وأن ما قاله له العضوان لم يكن سوى "موقف تآمري" (نفسه، ص 27).
[86]. حول هذا القانون وسماته الأساسية انظر صديق الزيلعي، "ثورة أكتوبر والنقلة النوعية في الحركة العمالية السودانية" في حيدر إبرهيم علي وعبد السلام نور الدين ومحمد محمود وعبد الوهاب هِمّت (محررون)، خمسون عاما على ثورة أكتوبر السودانية 1964-2014: نهوض السودان الباكر (القاهرة: مركز الدراسات السودانية، 2014)، ص 153-155.
[87]. لتفاصيل أوفي عن المؤتمر انظر الحزب الشيوعي، ثورة شعب، ص 121-124.
[88]. الحزب الشيوعي، ثورة شعب، ص 236.
[89]. المصدر السابق، ص 424-425.
[90]. المصدر السابق، ص 427.
[91]. كثيرا ما تستخدم أدبيات الحزب الشيوعي السوداني تعابير تحمل الإيحاءات السالبة للون الأسود، وهي في ذلك لا تختلف عن غالبية الكتابات العربية. إن التوقع أن يعكس التقدميون وعيا مختلفا وحساسية أرقى تجعلهم يصوغون لغتهم بتعابير متحرّرة من أي إيحاءات عنصرية ضد السود في العالم. وعندما يستخدم السود أنفسهم هذه التعابير فإن هذا يصبح نوعا من الاستلاب.
[92]. المصدر السابق، ص 390.
[93]. الحزب الشيوعي، ثورة شعب، ص 388.
[94]. يقول القدال في تقييمه لمسألة المجلس المركزي: "تعرض موقف الحزب لخوض انتخابات المجلس المركزي إلى نقد من خارج الحزب وداخله. يقول النقد إن ذلك الموقف أعطى المجلس المركزي شرعية ما كان من الممكن له أن يحظى بها لو قاطع الحزب الانتخابات. بل أعلن بعض قادة الحزب اليوم خطأ ذلك الموقف. وحجة الحزب وحجة [معارضيه] ما زالتا تقفان وجها لوجه." معالم، ص 125.
[95]. الحزب الشيوعي، ثورة شعب، ص 436.
[96]. المصدر السابق، ص 437.
[97]. حول الطلاب ووضعهم الطبقي انظر ورقتنا "ثورة أكتوبر ووعد الحركة الطلابية" في حيدر إبرهيم علي وآخرين، خمسون عاما على ثورة أكتوبر السودانية، ص 95-103.
[98]. عن وصف لحظة إصابة القرشي وعن نشاطه السياسي انظر شهادة رفيقه تاج السر مكي، "من قلب المواجهة"، المصدر السابق، ص 342-343.
[99]. أحمد بابكر محمد الخير، "جبهة الهيئات: موعد قصير الأجل مع التاريخ"، المصدر السابق، ص 4-6.
[100]. لنصّ البيان انظر الحزب الشيوعي، ثورة شعب، ص 458-460.
[101]. نلاحظ التأسي الواضح بالنموذج المصري في إطلاق اسم "الضباط الأحرار" على هذه التنظيم. وقد أصدر التنظيم في 8 نوفمبر 1964 بيانا عقب اعتقال اليوزباشى فاروق عثمان حمد الله واليوزباشى الرشيد نور الدين والبكباشى جعفر النميري والذين، حسب البيان، ساعدوا نجاح الثورة بحصار القصر الجمهوري وتقدّموا بعريضة مع غيرهم تطالب بتطهير الجيش. لنصّ البيان انظر الحزب الشيوعي، ثورة شعب، ص 476-477.
[102]. المصدر السابق، ص 430.
[103]. يحكي فاروق أبو عيسى عن المذكرة التي رفعتها جبهة الهيئات للمجلس العسكري ويقول "قررنا دعوة شخصين من كل تنظيم ممن يودون المشاركة. وفي ذلك الأثناء جاءني عبد الخالق محجوب منزعجا وسأل عن الشفيع أحمد الشيخ وقال لي أين هم العمال؟ وأخذ مني مفتاح العربة وغاب لبعض الوقت وعاد ومعه عامل اسمه عِيد بيِّن سعيد وهو الذي وقع نيابة عن اتحاد العمال في المذكرة." "عن جبهة الهيئات"، في حيدر إبرهيم علي وآخرين، خمسون عاما على ثورة أكتوبر السودانية، ص 370.
[104]. الحزب الشيوعي، الماركسية وقضايا الثورة السودانية: نص التقرير المجاز في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني، أكتوبر 1967 (الخرطوم: دار الوسيلة، [1987])، ص 122. يقول التقرير مفصّلا إن عضوية الحزب في تلك الفترة لم تكن تتعدي "بضع مئات" (نفسه، ص 122).
[105]. حول المذكرة التي أعدها الشفيع أحمد الشيخ بشأن تصفية الإدارة الأهلية وتبعات المذكرة انظر أحمد إبراهيم أبو شوك، السودان: السلطة والتراث، الجزء الثالث (أم درمان: مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، 2010)، ص 41-59.
[106]. عبد الماجد بوب، جدل الوحدة والانفصال، ص 118.
[107]. المصدر السابق، ص 119.
[108]. Keesing's Contemporary Archives (June 26-July 3, 1965), p 20828.
[109]. لتفاصيل ما جرى في الجمعية التأسيسية والأزمة الدستورية التي تلت انظر القدال، معالم، ص 157-160.
[110]. فاروق محمد إبراهيم، "الحزب الشيوعي السوداني والدعوة لإصلاح وتطوير الأحزاب السياسية ولقيام حزب ديمقراطي جديد"، قضايا سودانية، العدد 4 (أبريل 1994)، ص 13.
[111]. الحزب الشيوعي، الماركسية وقضايا الثورة السودانية، ص 169.
[112]. المصدر السابق، ص 169. هذا الخط الدعائي الذي يحاول توظيف الإسلام سياسيا لمصلحة الحزب الشيوعي كان قد ابتدره في الاتحاد السوفيتي سلطان قاليف (Sultan Galiev) (1900-1940) الماركسي التتري والذي رأى المجتمع التتري المسلم "باستثناء عدد قليل من الإقطاعيين المالكين للأرض والبرجوازيين الكبار، كوحدة تعرضت بأجمعها لقهر الروس في ظل القيصرية. وليس هناك بالتالي سبب لتقسيم هذا المجتمع بتقسيمات مصطنعة وبصراعات طبقية ... " وبما أن المجتمع التتري غارق في تقاليده الإسلامية فقد دعا قاليف، والذي لم يكن مؤمنا، لضرورة أن تتعامل الثورة الاشتراكية تعاملا رفيقا مع الإسلام عبر برنامج تدريجي لمحاربة التعصب وإشاعة العلمنة. Maxime Rodinson, Marxism and the Muslim World, trans. by Michael Pallis (London: Zed Press, 1979), p. 134. وفي مصر حاولت (حمتو) تقديم "تفسير تقدمي واشتراكي للدين الإسلامي وقد اضطلع بهذه المهمة أحد كوادر المنظمة من رجال الدين وهو الشيخ محمد أبو الحسن جاد الله الغنيمي الذي أصدر كتاب الشيوعية في الإسلام ... " وفي هذا الكتاب يتحدث عن ملكية المجتمع لوسائل الإنتاج والملكية الجماعية للثروة ويقول إن الحل هو الشيوعية." رفعت السعيد، تاريخ المنظمات اليسارية المصرية 1940 – 1950، ص 227-228.
[113]. عبد الخالق محجوب، آراء وأفكار حول فلسفة الإخوان المسلمين (الخرطوم: دار عزة، 2001)، ص 86. (الشِّسع أحد سيور النعل). في مقالته "كيف أصبحت شيوعيا؟" والتي ظهرت عام 1954 ردّا على منشور وُزع حينها وهاجم الإسلام ونادى بحياة الشيوعية تحدّث عبد الخالق عما جذبه للشيوعية. وقد تحدّث على مستويين هو مستوى الماركسية كفلسفة "تمتاز بالتناسق ولأول مرة تضع قيما للأدب والتاريخ والفن والفلسفة" ومستوى ما وصفه "بالفكرة السياسية الشيوعية في السودان". وأكّد تأكيدا قاطعا أن الشيوعية كموقف سياسي لا تدعو لإسقاط الدين وأنها "تدعو إلى توحيد صفوف المسلمين [من السودانيين] والمسيحيين والوثنيين ضد عدو واحد هو الاستعمار الأجنبي وبهدف واحد هو استقلال السودان وقيام حكم يسعد الشعب ويحقق أمانيه." ويتحدّى عبد الخالق المعارضين بقوله "إن الرجل الشريف يصرع الفكرة السياسية بالفكرة السياسية ويعارض فكرة معينة بالحجة والمنطق ... " (عبد الخالق محجوب، دفاع أمام المحاكم العسكرية (الخرطوم: دار عزة، 2001)، ص 16-24). والملاحظ في هذه المقالة أن عبد الخالق يجذب القضية جذبا لمنطقة المواجهة السياسية ويبعدها عن منطقة المواجهة الفلسفية، أو (لو استخدمنا المصطلح الماركسي) يجذبها لمنطقة المادية التاريخية ويبعدها عن منطقة المادية الجدلية. وفي عام 1968 دخل محمود محمد طه في مواجهة مع الماركسية في محاضرة ألقاها بعنوان "الماركسية في الميزان" صدرت في رسالة فيما بعد في عام 1973. وفي هذه المحاضرة حرص طه على جذب القضية لمنطقة المادية الجدلية (مع عدم إهمال المادية التاريخية) وتعرّض بتفصيل لما ظل الشيوعيون السودانيون يتحاشون الحديث عنه إذ تحدّث عن فكرة الجدل عند هيقل وماركس والاختلاف بينهما والأساس الفلسفي لإلحاد ماركس. الماركسية في الميزان ([أم درمان: مطبوعات الإخوان الجمهوريين]، 1973)، خاصة ص 25-31.
[114]. وفي واقع الأمر فإن الشيوعيين السودانيين أصابهم هلع من الإسلام جعلهم في حالة تراجع مستمر. ومن أبرز مظاهر هذا التراجع تطهير خطابهم من تعبير "دولة علمانية". فهذ التعبير الذي استخدمته أهم وثيقة للحزب وهي تقرير المؤتمر الرابع وكان يستخدم بحرية في أديبات الحزب أصبح محظورا في ظل النظام الفكري لمحمد إبراهيم نقد وتم استبداله بتعبير غير علمي هو تعبير"الدولة المدنية".
[115]. القدال، معالم، ص 212.
[116]. حسب تقرير سكرتارية اللجنة فإن المقدم عثمان حاج الحسين (أبشيبة)، وهو عضو ملتزم في الحزب الشيوعي، شارك في انقلاب 25 مايو مع القوات التي تحركت من خور عمر "في الوقت الذي عارض فيه الحزب الاشتراك في الانقلاب وامتنع الضباط الشيوعيون عن المشاركة. وبعد الانقلاب حوسب أبشيبة داخل التنظيم، وبرر اشتراكه بأنه لم يكن يعرف قرار المكتب السياسي ... " (19 يوليو 1971، ص 49-50). إن الحديث عن محاسبة أبشيبة وما قاله ترسم صورة عضو حزبي غير مسئول إذ كيف يشارك حزبي مشبع بروح الانضباط العسكري أصلا في عمل خطير مثل انقلاب بدون الرجوع لحزبه؟ وإن قبلنا ما قاله أبشيبة فإن ذلك يعني فشل الحزب في إيصال قرار خطير كهذا على مدى فترة تزيد على الأسبوعين للضباط الشيوعيين في منطقة الخرطوم، وهذا أمر بعيد الاحتمال إذ من المؤكد أن هذه الفترة كانت ضمن فترة التحضير المكثّف للانقلاب. ويبقى سؤال كبير آخر: هل أصدر الحزب أوامره لبعض ضباطه بالاشتراك وللبعض الآخر بعدم الاشتراك حتى لا يفقد كل ضباطه في حالة فشل الانقلاب؟ من الواضح أن الحزب استفاد فائدة كبيرة من اشتراك أبشيبة في انقلاب 25 مايو إذ شغل فيما بعد منصبا حساسا فأصبح قائدا للحرس الجمهوري واستطاع إخفاء عبد الخالق وتنفيذ انقلاب 19 يوليو الذي كان الحرس الجمهوري قوته الأساسية. إن الشىء الذي من الممكن أن نستخلصه عن أبشيبة على ضوء ما قام به أنه كان عضوا حزبيا منضبطا وعلى استعداد للتضحية بحياته وهو ينفذ أوامر حزبه. حول الدور الذي لعبه أبشيبة في التمهيد للانقلاب وتنفيذه انظر فؤاد مطر، الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر؟ (بيروت: دار النهار، 1971)، ص 46.
[117]. "التقرير المقدم من السكرتير العام للجنة المركزية الزميل عبد الخالق محجوب إلى المؤتمر التداولي لكادر الحزب"، مطر، الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر؟، ص 113-114.
[118]. المصدر السابق، ص 123.
[119]. المصدر السابق، ص 105.
[120]. المصدر السابق، ص 136.
[121]. المصدر السابق، ص 135.
[122]. حول نقد وثيقة حول البرنامج انظر فاروق محمد إبراهيم، "الحزب الشيوعي السوداني والدعوة لإصلاح وتطوير الأحزاب السياسية"، قضايا سودانية، العدد 4 (أبريل 1994)، ص 17-19.
[123]. القدال، معالم، ص 299.
[124]. في تفسير هذه القوة الضاربة يقول فؤاد مطر إن مصدرا سودانيا عاش "الساعات القليلة جدا التي أعيد خلالها النميري إلى السلطة" أخبره أن مصدر الانقلاب المضاد كان الكلية الحربية المصرية في جبل أولياء والتي انطلقت منها "مصفحات ودبابات اتجهت إلى القصر الجمهوري وضربت كل من اعترضها وأن سائقي هذه المصفحات والدبابات هم على الأرجح من الضباط المصريين." مطر، الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر؟، ص 59-60.
[125]. المصدر السابق، ص 68.
[126]. من مظاهر الصلف العسكري تمييز المحاكم العسكرية بين طريقة إعدام العسكري والمدني، فالعسكري يُعدم رميا بالنار بينما يُشنق المدني. وفي فترة عبود حكمت المحكمة العسكرية العليا على قادة حركة 9 نوفمبر 1959 بالإعدام شنقا، وكانت هذه المخالفة غير المسبوقة لقوانين القوات المسلحة فعلا قَصَد إهانة "كرامتهم" العسكرية.
[127]. في وصف اللحظات الأخيرة لعبد الخالق نقرأ شهادة المأمور عثمان عوض الله بأنه "ذهب إلى المشنقة بخطى ثابتة وثياب أنيقة، لامع الحذاء، معطرا وباسما كعريس." ونقرأ أن المأمور سأله "ألا تود ترديد الشهادتين؟" وأن عبد الخالق أجاب "اطمئن، لقد فعلت، بل وتوضأت، فور صدور الحكم، وصليت ركعتين قبل ترحيلي إلى هنا." (حسن الجزولي، عنف البادية، ص 309). لا نشكّ في ثبات عبد الخالق المستمدّ من شخصيته وثقافة بيئته السودانية ومن قناعته العميقة بموقفه الفكري والسياسي. ولكننا لا نشكّ في نفس الوقت أن الحديث عن الشهادتين والوضوء والصلاة إسقاط إسلامي ناشيء من هيمنة الإسلام التي تثقل صدور السودانيين وتكتم أنفاسهم ولا صلة له بلحظات عبد الخالق الأخيرة إذ أنه لم يكن شيوعيا فحسب وإنما كان ماركسيا أيضا، وإن لم يحرّر نقدُ الماركسية للدين عبدَ الخالق من أوهام الدين وأوهام الحياة الأخرى فمن سيكون قد حرّر من السودانيين؟
[128]. ما كان من الممكن أن تقع مجازر أندونيسيا في السودان لأن الغالبية الساحقة من أعضاء الحزب الشيوعي ينتمون عرقيا لمجموعات الشمال النيلي وهي نفس المجموعات التي تنتمي لها الطبقة الحاكمة. إن قوة الأواصر الأسرية والقبلية ما كان من الممكن أن تسمح للعنف ضد الشيوعيين أن يتجاوز حدّا معينا.
[129]. Alain Gresh, "The Free Officers and the Comrades: The Sudaneses Communist Party and Nimeiri Face-to-Face 1969-1971," in International Journal of Midddle East Studies, vol. 21, no. 3 (August 1989), p. 403.
[130]. المصدر السابق، ص 404.
[131]. في الصراع الذي انفجر عام 1970 أثار المعارضون لعبد الخالق هذه المسألة وقالوا: "لقد مرت فترة على الحزب سادت الفردية فيها القيادة وانعدمت أبسط صور القيادة الجماعية والمشاركة في العمل، وأصبح ما يقوله سكرتير الحزب هو رأي الحزب الرسمي." وفي نفس الوقت أدان هؤلاء المعارضون أنفسهم للسكوت "على السيطرة الفردية على الحزب وانتهاك مبادىء الديمقراطية والقيادة الجماعية بل والدفاع عنها في كثير من الأحيان باعتبارها خطا دفاعيا عن الحزب ... " الوثيقة رقم 6 في مطر، الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر؟، ص207 و ص 250 على التوالي.
[132]. يقول الخاتم عدلان في نقد المركزية الديمقرطية في تجربة الحزب الشيوعي: "... سيادة هذا المبدأ هي المسؤولة عن عقم حياة الحزب الداخلية، وضيقه بالخلاف في الرأي، وتبرمه باستقلال الفرد ونمو شخصيته المستقلة، وتوخيه للطاعة المطلقة في كوادره واعتبارها شرطا أساسيا للترقي الحزبي ... " الشيوعي، العدد 157، فبراير 1994، ص 46.
[133]. "التقرير المقدم من السكرتير العام للجنة المركزية"، مطر، الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر؟، ص 113-114.
[134]. الوثيقة رقم 6 في مطر، الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر؟، ص 199.
[135]. رغم اتفاقنا مع الدكتور فاروق محمد إبراهيم في وصفه هذا واتفاقنا معه أن عبد الخالق تغلبت فيه شخصية السياسي على المفكر (وهو أمر مفهوم لطبيعة الخيار النضالي الذي اختاره منذ وقت مبكر) إلا أن الدكتور فاروق أبدى ملاحظة لا نراها دقيقة عندما قال: "وقد كانت أصولية حسن الترابي والإخوان [المسلمين] في السودان رد فعل مباشر لأصولية عبد الخالق محجوب والحزب الشيوعي السوداني." ("الحزب الشيوعي السوداني والدعوة لإصلاح وتطوير الأحزاب السياسية"، قضايا سودانية ، ص 19). إن أصولية حسن الترابي وحركة الإخوان المسلمين في السودان نابعة من أصولية الإسلام نفسه ومصدرها الأولي هو محمد بينما أن مصدرها الثانوي (كحركة إخوان مسلمين وفدت من مصر) هو حسن البنا. وبهذه الصفة فإن حركة الإخوان المسلمين كانت ستنشأ في السودان وبكامل رؤيتها الأصولية حتى لو لم يكن هناك حزب شيوعي. وعلاوة على ذلك فإن إسلام السودانيين يحمل رؤية أصولية أخرى ارتبطت بتاريخه القريب وهي الرؤية التي عبّرت عنها حركة المهدي.
[136].Mohammad Nuri el-Amin, "The Impact of the Sudanese Unionists on Sudanese Communism," in Middle Eastern Studies, vol. 22, no. 3 (July 1986), pp. 418-421.
[137]. "التقرير المقدم من السكرتير العام للجنة المركزية"، مطر، الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر؟، ص 138.
[138]. كان الجنوب هو الاستثناء حيث طرح الشيوعيون صيغة حزب الجنوب الديمقراطي، إلا أن الحزب الشيوعي واليسار بصورة عامة ظلّ تاريخيا ضعيفا وسط الجنوبيين بما في ذلك القطاع المتعلّم.
[139]. "التقرير المقدم من السكرتير العام للجنة المركزية"، هذه الجملة ساقطة من الوثيقة في كتاب مطر ولكنها تظهر في النسخة الأصلية المطبوعة بالرونيو في صفحة 49.