يبرع القاص اللليبي في هذه القصة في كتابة شخصية صائدة الأفاعي. ويُظهر لنا في تفاصيل موجزة تاريخها وصراعها مع الأفاعي كما يكشف عن المفارقة الدالة التي تحكم رؤية الراوي لها، بصورة يدخل فيها الواقع آفاق الاستعارة.

صائدة الأفاعي

محمد العريشية

في ظهيرة يوم غائم، وبينما كنا ننتظر الجرار لحرث الأرض، متحلقين حول إبريق الشاي، هبت ريح قوية وسمعنا بعد ذلك صيحة، وكانت صيحة مدوية، حتى بدت ركبتاي فجأة كما لو أنهما قصبتان تهتزان وشعرت لحظتهما بتقلص يجتاح معدتي، خيّل إلي لبرهة وكأني أصبحت عاجزا عن المشي. للوهلة الأولى تبادر إلى ذهني موت والدي طريح الفراش. لكن ما إن رأيت النسوة يركضن في اتجاه كوخ صائدة الأفاعي، حتى تحررت من ربقة الخدر الذي شل حركتي..

لقد تجمع أهل القرية حول جثة المرأة المتحللة ودار كلام كثير حول مراسم الدفن، دون أن يكترث أحد لمصدر الصيحة المدوية لأنهم ظنوا أنها هي التي صرخت قبيل تسليم روحها. لكن عندما دخلت الكوخ ـ فتاة رمصاء العينين وكانت هي الوحيدة من تسمح لها بالدخول إلى كوخها ـ واكتشفت عددا لا يحصى من الأفاعي تنزلق فوق بعضها البعض خالج الكثيرين شك من أن مصدر الصيحة صوت من الأصوات التي كانت تسمع في كوخها ليلا.

جثتها كانت بلا رائحة. لكنها تفسخت وبشرتها كما لو كانت طبقة من الطلاء في طست مملوء بالماء، وما إن تلمسها حتى تترجرج. وقد وجدت المرأة التي كفنتها صعوبة بالغة في تغسيلها.

جمع الأهالي حطبا ووضعوه فوق الأفاعي وسكبوا عليه البنزين ثم أضرموا النار. لكنها لم تنطفىء وظلت تضطرم في الكوخ لمدة عشرة أيام، إلى أن جاؤوا برجل كهل له لحية كثة وخطها الشيب أقام "حضرة" وبعد منتصف الليل خمدت النار.

لم يكن موت صائدة الأفاعي يعني الكثير بالنسبة لي ـ بسبب الغموض الذي اكتنف حياتها منذ وفاة زوجها ـ لولا وشما يتخذ هيئة ناب، على ظهر يدي، بين الإبهام والسبابة.

لقد رأيتها في "الزعفران" وكان هذا في موسم الحصاد، قبل عشرين عاما تقريبا، عندما كنت أتهيؤ لحمل إبالة من التبن. كانت تمشي خلف الجرن على مهل، وهي تلتفت يمينا وشمالا، زائغة العينين، مستثارة الأعصاب، وتقوم بقلب الأحجار والحطب في طريقها، وتنبش التربة بعود في يدها، وفيما قوست ظهري لإلتقاط الإبالة جاءت بخطوات متوترة، وقفت على مسافة مني وقالت:

ـ لا تحملها.

لم أعط جوابا واكتفيت بالنظر إليها وأنا أكتم ضحكة، لكن عندما طوقت الإبالة بذراعي، وفي اللحظة التي هممت فيها برفعها شعرت بنابين ناريين يطبقان على إبهامي الأيسر.

ما أتذكره الآن هو أني كنت أمشي على غير هدى متخاذل الخطوات مترنحا، وصار جسدي ثقيلا ثم فقدت قدرتي على النطق وسقطت مغشيا علي.

استيقظت بعد يوم وكان جسدي منتفخا، متصلبا كقربة وأرتعد. وكانت صائدة الأفاعي تسقيني مزيجا ساخنا من الأعشاب وتدلك أطرافي المتورمة بالرماد. وبعد أن استعدت عافيتي وطردت الأعشاب السم من جسدي، جاءت وطلبت مني ـ بنبرة صوتها الحازمة ـ أن  تنقش على يدي نابا كرقية لدرء الأفاعي. لم أنبس بكلمة وبينما كنت أنظر إلى عينيها جلست على قدمها اليسرى والأخرى على هيئة زاوية قائمة وضعت يدي فوق ركبتها وأخذت ترسم الناب بعناية مستعملة مردودا، ثم تناولت قشوتها أخرجت إبرة وعلبة صغيرة وبدأت تغرز الإبرة في يدي وتمسح الدم بكفها ثم تذر على موضع الغرز النيلج. كانت شاحبة الوجه مشعثة الشعر لكن عيناها كانتا هادئتين، وهي تارة تتمتم بصوت غائم وطورا  تترنم بغناوة علم لم أفهم مغزاها، وحينما فرغت من الغرز نثرت لعابها في كفيها فركتهما ودلكت بهما وجهي وعنقي. شعرت لحظتها بملمس يديها وكان خشنا للغاية إلى أن تخدش صدغي، وكأن نبش الأرض وتقليب الحطب والأحجار بحثا عن الأفاعي قد فولذهما وبدتا وكأنهما قطعتا خشب لم تسحجا.

إن وفاة زوجها ـ بسبب لدغة أفعى ـ يوم عرسها وبعد الدخول عليها بقليل، كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهرها. فقد روت إحدى النسوة أنها أمضت تلك الليلة جالسة كاتمة حزنها وتحدق بعينين فارغتين تجاه الظلام. وما إن لاحت أضواء الفجر الأولى حتى انطلقت هائمة على وجهها بكامل زينتها حاملة ساطورا، في سعي محموم للنيل من الأفعى القاتلة. وبعد ساعات من البحث المضني، وقفت على حين غرة ـ وخلفها الفتاة الرمصاء ـ واستدارت برأسها ناظرة بشكل موارب ناحية حزمة حطب كبيرة، ثم اقتربت بحذر على رؤوس أصابعها، قرفصت وأخذت تصفر بصوت متقطع إلى أن ظهرت الأفعى رافعة رأسها المفلطح وتقدمت نحوها متأهبة ولسانها المقيت يترجرج بسرعة شديدة وعيناها الصفراوان تبحثان عن الهدف وتكش. كانت المرأة تنظر بثبات وذراعها تتحرك في سرعة حركة رأس الأفعى وفي الاتجاه الذي يتجه إليها الرأس. وأخيرا وعندما أصاب الأفعى العمى من جراء الحركات المماثلة مدت ذراعها في سرعة خاطفة وأطبقت بإصبعيها الإبهام والسبابة على مؤخرة الرأس ثم ضغطت بإبهامها بتشف إلى أن كسرت النابين اللعينين وأفرغت سمها على صخرة بيضاوية الشكل. ألقت بها على الأرض، فتلوت الأفعى وزحفت ببطء لمسافة ثم استدارت نصف دائرة، رافعة رأسها ومحدقة بعينين حاقدتين، فما كان من صائدة الأفاعي إلا أن انقضت عليها بساطور وقطعتها أشلاء.

منذ ذلك الحين أخذت تجوب الزعفران مقتفية إثر الزواحف إلى أن تعثر عليها إما راقدة في أخاديد الحرث أو تحت طبقة هشة من التربة، وكأنها تشم رائحة سمها القاتل، وتعود في المساء إلى كوخها وملء كفيها أفاع تتلوى. كل هذا حدث على مرأى ومسمع مني ولم يخطر لي يوما أن أعيده على مسامعكم لولا أن المرأة ماتت منذ سنوات لكن السبب الذي جعلني أروي قصة صائدة الأفاعي أن هناك امرأة أخرى تحمل عودا في يدها ولا تكف عن نبش الأرض وقلب الأحجار والحطب بحثا عن الأفاعي.