تعاني الأمة منذ سبعينات القرن الماضي من انحسار مدها الوحدوي العروبي التحرري، انحسار نجم عن تكالب قوى الضلال من استعمارية وصهيونية ورجعية وطائفية ضد تطلعات الأمة في الازدهار والسوءدد، واسترجاع مكانتها اللائقة بين أمم العالم المهابة والمكرمة … انحسار شهد العديد من المحن، منها الرحيل المبكر للقائد جمال عبد الناصر، وأيلول الأسود، والحرب الأهلية في لبنان، واتفاقية كامب ديفيد، والحرب الإيرانية/ العراقية، واجتياح الكيان الصهيوني للبنان، واتفاقية 'غزة - اريحا اولاً' وما تبعها، ومعاهدة وادي عربة، وحرب الكويت، والحصار والحرب على العراق واحتلاله، وإهلاك سوريا، وتدمير ليبيا، وقهر اليمن.
يجزم بعض المحللين انه من المستبعد ان هذه السلسلة من النكبات كانت ستحصل لولا ان عبد الناصر قد وافاه الأجل وهو في عز شبابه. بعد اثني عشرة سنة من وفاته، كتبت النيويورك تايمس "ان غياب قائد كاريزماتي وجوهري، مثل عبد الناصر، قادر على اخراج الدول العربية من مأزقها الحالي، لم يكن اكثر وضوحاً مما هو عليه الان" ... بدا العد العكسي لانحدار الأمة عندما تم اختراق المبدأ الناصري القائل بان وحدة المصير تستدعي وحدة النضال، والمتجسد في معتقده "القدس والضفة الغربية والجولان قبل سيناء"... مع كل هذه الفواجع الظلامية، كان هناك أيضا وميض من الأنوار تجلت في التصدي البطولي للشعب الفلسطيني في الضفة وغزة للمحتل الصهيوني، والعبور الرائع للقوات المسلحة المصرية لقناة السويس، وردع المقاومة اللبنانية الباسل للكيان الصهيوني، وذود القوات المسلحة العراقية عن حدود الأمة الشرقية.
نتج عن هذا الانحسار محاولات عند بعض الأنظمة العربية واجهزتها للتطبيع مع العدو الصهيوني، مبررين موقفهم بأن عداء الكيان المغتصب مقتصر فقط على فلسطين، ولذلك على أهلها التكفل بمجابهة هذا العدوان؛ يا لها من حجة واهية حمقاء. مروجو التطبيع يتناسون، عن جهل او مكر، ان الكيان الصهيوني قد غرس في قلب الأمة ليكون راس حربة مسمومة لبتر أوصالها، ولجم نموها وكبح نهضتها ومنع تعاضدها … عندما يدعو احرار الأمة، في اي قطر من أقطارها، إلى مقارعة الكيان الصهيوني، فانهم لا يعبرون فقط عن تعاطفهم وتضامنهم مع أشقائهم ابناء الشعب العربي في فلسطين، بل أيضا عن عزيمتهم للدفاع عن أقطارهم نفسها. اطماع الكيان وأربابه لا تستهدف فلسطين فحسب، وإنما تشمل جل أقطار الوطن العربي. ان مقاومة الكيان الاستيطاني الذي اغتصب، ضمن ما اغتصب، اول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، القدس الشريف، ليست مسألة عواطف او تفضل او تصدق، إنما قضية وجود وكرامة ودفاع عن النفس. الاحتلال الصهيوني يمثل وباء سرطانياً خبيثاً يتغلغل في كل اجزاء البدن بعد إصابة اي عضو فيه. هل التذلل ومهادنة الظالمين من شيم "خير أمة اخرجت للناس"؟ الا يقول سبحانه: "و لا تركنوا إلى الذين ظلموا"؟ الم يذكر رسول الله (ص): "إذا رأيت امتي تهاب ان تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم"؟ (تودع منهم: فقدوا أهلية الحياة)؟ الم يقول الحسين (ع): "هيهات منا الذلة"؟ تبا لأناس ينتصرون لبرشلونة او لريال مدريد، ولا ينتصرون لشعبهم المحكوم بالنار والحديد.
سلمت أنظمة الغرب فلسطين إلى الصهاينة، ليس حبا لليهود، إنما كرها للعرب. الأوروبيون هم الذين اضطهدوا اليهود، وأوجدوا محرقتهم، بينما تعايش العرب والمسلمون مع اليهود، وحموهم من تنكيل الأوروبيين. انجلى بوضوح احتقار الغرب للعرب في ما صرح به ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا المعظم، بشأن الشعب العربي الفلسطيني، حين قال: "أنا لا أوافق على ان للكلب الحق بالحظيرة لمجرد إقامته فيها مدة طويلة، أنا لا اقر مثلا انه تم فعل شنيع بحق السكان الأصليين في امريكا (الهنود الحمر) او استراليا (الابورجيون) لمجرد ان قوماً أقوى وارقى (الأوروبيين البيض) أطاحوا بهم واستولوا على ارضهم"! أليس هذا الجدل تدليساً عنصرياً بأبهى مظاهره؟
بعد وصول كولومبس إلى امريكا الشمالية سنة 1492، تسبب العنف الذي ارتكبه الأوروبيون البيض، والأوبئة التي جلبوها، في مقتل الملايين من سكانها الأصليين. وكيف يمكن اعتبار العرب شعباً متدنياً وهم الذين انعموا بحضارتهم على الأوروبيين؟ حين كان أسلاف تشرشل يترنحون واقدامهم تغوص في الوحل في عتمة الظلام، كان العرب يتمتعون بطرق معبدة ومضاءة، عندما كان أسلاف تشرشل يعيشون في دهاليز مدلهمة تعسة، كانت المدن العربية، مثل بغداد وقرطبة والقاهرة وفاس، منارات تشع حضارة ومجداً.
نظرة الأنظمة الغربية المهينة للعرب، حتى لحلفائهم من حكام، لا تزال مستمرة. أفضل مثال على ذلك ما يصرح به دوماً دونالد ترامب عن النظام السعودي، فرغم مليارات الدولارات التي تدفعها المملكة للولايات المتحدة، والاستقبالات الحميمة والتنسيق السياسي، لا يتورع ترامب عن اعلان ابتزازه المبتذل للنظام السعودي، ويجاهر بان المملكة ليس لديها غير المال، وديمومة نظامها مرتبط بحماية واشنطن له. فمثلا، في3 تشرين الأول/ اكتوبر 2018، في تجمع لمؤيديه قال ترامب عن النظام السعودي "انهم أثرياء، ولكن لن يبقوا أسبوعين (في الحكم) بدون حمايتنا". هل هنالك ازدراء اكثر من هذا؟
ان كان هنالك فعلاً أناس خفيت عنهم نوايا الكيان الصهيوني العدوانية ضد الأمة العربية، عليهم دراسة تاريخ صيرورته، فسوف يكتشفون انه كيان مملوء بالإثم، وموبوء بالجور منذ ان كان جنيناً في رحم القوى الباغية التي انجبته، كيان ضالع في حرب ظالمة ابدية مع الشعب العربي، كيان بني على اشلاء العرب: اطفال، ونساء، وشيوخ، وشباب؛ في فلسطين، في مصر، في لبنان، في سوريا، في العراق، في الأردن. حرب واشنطن المدمرة على العراق سميت "حرباً من اجل إسرئيل" لمشاركة الكيان الصهيوني وحلفائه في التخطيط والاعداد لها، والتحريض عليها، وتنفيذها. دمار ليبيا استحثه الكيان بواسطة الصهيوني برنارد هنري لفي، والذي مازال يحاول توريط أكراد العراق بإعلان انفصالهم، طبعاً ليس حباً لهم بل كرهاً بعراق موحد. ان كان فعلاً محباً للأكراد، فلماذا تتركز جهوده على أكراد العراق وليس على أكراد ايران وتركيا؟ علماً ان أكراد العراق لهم إقليمهم يتمتعون فيه باستقلالهم الذاتي.
تشتيت الأمة والاعتداء عليها ليس سراً حاول الكيان الصهيوني إخفاءه. اول رئيس لحكومته، ديفيد بن غوريون، صرح في مارس 1948 "يجب علينا ان نكون مستعدين للهجوم. هدفنا سحق لبنان والأردن وسوريا. نقطة الضعف هي لبنان حيث النظام الإسلامي مصطنع ومن السهل علينا تقويضه. سنؤسس دولة مسيحية هناك، ونحطم الجيش الأردني، ونزيل الأردن من الوجود، وستسقط سوريا لنا، ثم نقصف ونتقدم لاحتلال بورسعيد والإسكندرية وسيناء". ونقل عنه قوله "قوتنا ليست في سلاحنا النووي، بل في تدمير وتفتيت ثلاث دول كبرى حولنا، العراق، سوريا، مصر، إلى دول متناحرة على أسس دينية وطائفية، ونجاحنا لا يعتمد على ذكائنا بقدر ما يعتمد على غباء الطرف الآخر". هذا ما كان ولا يزال يخطط له الصهاينة، ومع ذلك يرى البعض ان من المناسب التطبيع معهم! كتب البروفسور ستيفن زونز، أستاذ العلوم السياسية في جامعة سان فرانسسكو والمتخصص في دراسات الشرق الأوسط، ان احد الأهداف الطويلة الأمد للصهاينة (المحافظين الجدد) هو "شرذمة الشرق الأوسط إلى دويلات عرقية او طائفية: كردية ودرزية ومارونية وشيعية وغيرها. لا تنبع هذه السياسة من احترامهم لحق تقرير المصير اذ انهم يعارضون بشدة رغبة الفلسطينيين في إقامة دولتهم، حتى الى جانب إسرائيل آمنة، ولكنها تنبع من رغبتهم الإمبراطورية في اتباع سياسة 'فرق تسد'. في نظرهم شرذمة الشرق الأوسط هي الوسيلة لمواجهة تهديد الاتجاه العروبي الوحدوي".
إن ظنّ مروجو التطبيع الخليجيون انهم بمعزل عن مخططات التقسيم المعدة للوطن العربي، فهم واهمون، عليهم مراجعة عددي النيويورك تايمس في 28 أيلول/ سبتمبر 2013 و10 اب/ اغسطس 2016 ليدركوا ماذا يعد لهم. اضافة إلى ذلك، في تقرير بعنوان "حدود الدم" نشر في صحيفة القوات المسلحة الأمريكية بتاريخ 1 حزيران/ يونيو 2006، يذكر الكاتب "ان السبب الجذري لتخلف العالم الإسلامي هو معاملة العائلة المالكة السعودية لمكة والمدينة كملك لهما. مع اقدس موقعين إسلاميين تحت السيطرة البوليسية لدولة من اكثر الأنظمة تعصباً وقمعاً في العالم، استطاع السعوديون، بما يملكون من ثروة نفطية واسعة غير مكتسبة، من نشر عقيدتهم الوهابية الصارمة وغير المتسامحة إلى خارج حدودهم. ان حصول السعوديين على الثروة، وبالتالي على النفوذ، كان أسوأ شيء ممكن حدوثه للعالم الإسلامي منذ ظهور الرسول، وللعرب منذ الغزو العثماني، ان لم يكن المغولي". ويواصل الكاتب ويوصي ان تصبح مكة والمدينة المنورة "محكومتين بالتناوب من قبل مجلس يمثل جميع المدارس والتيارات الإسلامية الرئيسية في إطار دولة إسلامية مقدسة، على شاكلة الفاتيكان"، ويقترح أيضا تكوين دولة "عربية شيعية"، منافسة وليس حليفة لايران، تضم جنوب العراق والبحرين والقطاع الشرقي من السعودية واجزاء من دولة الإمارات.
ان كان البعض يفكر ان هذه المخططات صعبة التحقيق، فمن كان يعتقد ان المخطط الذي وضعه الصهاينة للعراق والذي جاء فيه "تشكل القوة العراقية اكبر تهديد لإسرائيل .. الهدف الأكثر أهمية هو تقسيم العراق الى طوائف" (تقرير للمنظمة الصهيونية العالمية، المرقم 5742 بتاريخ شباط/ فبراير 1982) قابل للإنجاز؟ من كان يصدق ان عراق المجد والخير الذي كان يستضيف الملايين من الأشقاء العرب ليشاركوا في تنميته، القطر الذي بعث قواته المسلحة خلال ساعات لتشارك أشقاءهم السوريون في مقارعة الجيش الصهيوني وحماية دمشق، وفي نفس الأوان كانت نسوره تحلق فوق قوات قناة السويس لتدك مواقع العدو، تحول بعد الحصار القاتل والغزو الأمريكي المتصهين الآثم، إلى بلد فاشل ممزق مدقع تابع، تحكمه الان منظومة سياسة طائفية فاسدة حتى النخاع … ولكن إلى حين، شعب مهد الحضارات كفيل، عاجلاً او اجلاً، بطرد الغزاة ولاعقي أحذيتهم أينما كانوا، وستعود بيارق الإيمان الوحدوية ترفرف في سماء بغداد العروبة والعطاء.
من نافلة القول، ان الأمة من خليجها الى محيطها، تتعرض إلى خطر لا يهدد هويتها وانتماءها وقيمها وتماسكها فحسب، بل وجودها ايضاً. الوسيلة الوحيدة لدرء هذا الخطر هي مقاومة الظلم، ونبذ الفتن التي قيحت قلب الأمة، وإقصاء اي وهم بان تل ابيب ليست منبع رئيسي للبلاء… قال تعالى "ان هذه امتكم أمة واحدة"، و "ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء".. ما على الأمة، اذاً، لاسترداد سموها واسترجاع مجدها ورد انفتها، سوى اتباع ما امر الله به.
اتحدوا- تنتصروا.