بمناسبة مرور 72 عاما على نكبة الاحتلال الاستيطاني لفلسطين، والتي تجيء وسط تساؤلات متسارعة حول تغير العالم الوشيك، وانكشاف الوجه العنصري الكريه مع تتابع الأزمات في دولة الاستيطان الصهيوني، ننشر دراسة للباحث الفلسطيني عن ضرورة استيعاب دروس الثورات السابقة والنضال الثوري لتحرير كل فلسطين.

72 عاما على الاحتلال الاستيطاني لفلسطين

قصة ثورة: بيان من أجل العنف الثوري

أحمد حسن

 

«القتال أو الموت، المقاومة الدموية أو الإبادة، هذا هو السؤال الآن».

جورج ساند: «جان زيسكا: حلقة من حرب الهوسيين». (*)

«كان ديسالين عبقرياً، أحادي الجانب، لكنه كان الرجل المناسب لهذه الأزمة، وليس توسان. كان يردّ على الضربة بضربة مثلها. فحين قام (الجنرال الفرنسي) روشامبو بإعدام ٥٠٠ شخص في منطقة الكاب، ودفنهم في حفرة كبيرة تم تجهيزها (أمام أعينهم) بينما كانوا ينتظرون الإعدام، قام ديسالين، في المقابل، بإعدام ٥٠٠ ورفع مشانقهم عالياً حتى يتمكن روشامبو والسكان البيض في الكاب من رؤيتها بوضوح. لكن، لم يكن الانتصار في النهاية بسبب ديسالين، ولا بسبب ضراوة جيشه فقط. الشعب (في هايتي) كان السبب. فلقد قاموا (أثناء الثورة) بإحراق سان دومينغو إلى آخرها بحيث أنه في نهاية الحرب كانت المدينة قد أصبحت صحراء متفحمة تماماً».

سي. ل. ر. جايمس

(«اليعاقبة السود» ص: ٣٦٠) (1)

 

في مثل هذه الأيام قبل مئتين وتسعة وعشرين عاماً ( وبالتحديد مساء الثاني والعشرين من آب ١٧٩١)، أعطى دوتي بوكمان، زعيم ثوار هايتي حينها، تعليماته الأخيرة لقادة الثورة الذين جاؤوا للقائه ليلاً في «غابة التماسيح» حاملين المشاعل لتضيء لهم الطريق في ليلة يصفها المؤرّخون بالعاصفة جداً. بعدها بثلاثة أيام فقط، وبعد إحراق أكثر من ١٢٠٠ مزرعة وقتل أكثر من ألف مستوطن «أصبح القسم الشمالي من المدينة كله خراباً. وفي منطقة الكاب كان الأفق كله عبارة عن جدار هائل من النار، ومن هذا الجدار ظلّت ترتفع باستمرار كميات كبيرة من الدخان الأسود الكثيف حتى أن أهل المدينة لم يستطيعوا تمييز الليل من النهار لثلاثة أسابيع متواصلة فيما كان قش قصب السكر المحترق يتساقط كرقائق الثلج مغطياً المدينة والميناء ومهدداً بدمارهما كلياً» (اليعاقبة السود، ص: ٨٨). بعد اثني عشر عاماً من تلك الليلة، انتصر ثوار هايتي على أميركا وفرنسا وإسبانيا وإنكلترا وجيوشها الجرارة وأموالها الهائلة وأسلحتها المتطورة. بعد اثني عشر عاماً من تلك الليلة تغيّر العالم. ما يلي بعض من قصة تلك الثورة.

قبل السرد

هل تعرفون ماذا يعني تحرير فلسطين؟

تغيير العالم.

هذا ما لا يعرفه أدعياء ومراهقو اللاعنف، ولن يعرفه أبداً سفهاء التعايش السلمي والمفاوضات و«الصراع الأخلاقي»، جهلاً، أو غباء، أو جبناً. ومن يعرف، يعرف أن تحرير فلسطين ليس فكرة مجنونة على الإطلاق، حتى في عالم مجنون كعالمنا. «إسرائيل» هي الفكرة المجنونة، إن لم تكن الفكرة الأكثر عبثية ولا منطقية ولا تاريخية على الإطلاق، ولهذا ستزول حتماً. ولأن تحرير فلسطين (كل فلسطين) ليس فكرة مجنونة على الإطلاق، كما يظن البعض، فإن من يعرف، يعرف أيضاً، أنها، كذلك، سهلة حد اللامعقول. لأن من يعرف، يعرف أن تحرير فلسطين سيغيّر العالم، ويعرف أيضاً أن العالم سيتغيّر، لأن العالم يتغيّر، ولأن العالم سيتغيّر.

لذلك حين حمل البطل مهند الحلبي سكينه لم يكن يضرب في قلب مستوطن قذر فقط، ولا في قلب الكيان الاستيطاني الزائل، بل كان يضرب في قلب نظام عالمي يتعفّن، في قلب حالة العالم التي جعلت من استعمار فلسطين وإقامة كيانهم القذر على أرضنا ممكنة. كان يعلن أوان قيامة عالمنا الجديد وأفول عالمهم. ربما لهذا السبب ارتبك نتنياهو ولم يجد ما يفعله سوى العودة وتقليد ما فعله المجرم روبير لاكوست في الجزائر بإطلاق يد المستوطنين ودعوتهم للتسلح ولموجة جديدة من القتل علهم يؤخرون نهاية أجل كيانهم المحتوم قليلاً. نسي، أو تناسى، أن أبطال الجزائر، في النهاية، مرغوا رأس فرنسا ورأس لاكوست ورأس «الأقدام السوداء» في التراب. لا خيال ولا إبداع في سياساتهم. شاخوا. كل ما يقولونه وكل ما يفعلونه مأخوذ حرفياً من تجارب من سبقهم من مستعمِرين وكأن لكل هؤلاء المستعمِرين كتاباً واحداً يقرؤون منه. حسناً. قرأنا كتابهم وكتاب من سبقهم من مستعمِرين وعرفناه جيداً. هذا بعض من كتابنا وكتاب من سبقونا من أهل الجنوب، فليقرؤوه.

كل شيء ممكن
لأكثر من مئتي عام لم يجرؤ أي من المستعبَدين في هايتي على مجرد الحلم بالحرية الفردية، حتى لا نقول تخيّل إمكانية القضاء على نظام العبودية لما لذلك من تبعات على العالم أجمع حينها. لهذا، حين أعلن فرانسوا ماكاندال عزمه ليس فقط القضاء على العبودية بل وحتى التخلص من كل المستوطنين البيض دفعة واحدة، وفوق كل ذلك تحرير هايتي وحكمها من قبل المستعبَدين أنفسهم، ظن من حوله من مستعبَدين أن جنوناً قد مَسَّ عقله. فهذه الفكرة بدت مجنونة جداً حينها لأنها كانت تعني أكثر من مجرد تحرير المستعبَدين، وأكثر حتى من تسلّمهم الحكم. كانت فكرة ماكاندال تبدو مجنونة جداً لأنها كانت تعني، بالحد الأدنى، الانقلاب على منظومة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في أربع قارات (من أفريقيا إلى أميركا اللاتينية ومن أوروبا إلى أميركا الشمالية) وتغيير مسار التاريخ الإنساني أجمع. كانت الفكرة تبدو مجنونة لأنها، بقضائها على العبودية، كانت تعني، بكل بساطة، نسف الأسس الأهم التي قام عليها اقتصاد العالم حينها.

كانت فكرة الثورة التي أعلنها ماكاندال في جزيرة بعيدة كهايتي تعني ببساطة تغيير العالم. لهذا دخل ماكاندال التاريخ كمهندس لأعظم ثورة في التاريخ المعاصر على الإطلاق (كما سماه الأنثروبولوجي مارك ديفيس) وسيكون الزعيم الأول في سلسلة من قادة الثورة الأفذاذ وأحد أعظم «أنبياء الثورة» (كما سمى مايكل أداس قادة بعض الثورات ضد الاستعمار) التي ستهزم أوروبا والولايات المتحدة مجتمعة، وتؤسس أول جمهورية سوداء على الإطلاق، وثاني دولة مستقلة في القسم الغربي من العالم، ثورة ستضع خارطة الطريق للحرية من الاستعمار والعبودية، وستنسف الأسس التي قام عليها اقتصاد العالم. ثورة في جزيرة صغيرة بعيدة ستغيّر العالم.

في هايتي عرف المستضعَفون أنه لا مجاملة في الثورة على الاستعمار. لكن، رغم كل ذلك، كانت فكرة ماكاندال التي شرع بتنفيذها، وتبنّاها بعده الجيل الثاني والثالث من ثوار هايتي وانتصروا بها، بسيطة: عليك أن تقتل أكبر عدد ممكن من هؤلاء الأوغاد، وبلا رحمة، وبأي طريقة ممكنة، وعليك أن تتذكر دائماً أنك مهما فعلت ومهما قتلت ومهما حرقت ومهما دمّرت فلن تصل أبداً إلى الحد الذي فعلوه هم بك وبأهلك. لا تتردّد. لا تضعف. لا ترحم. وإلا فإنك ستبقى مستعبَداً للأبد. أما الخطة فلقد كانت أبسط وأسهل مما يمكن لعقل أي مستوطن أوروبي أن يتخيّل. فهذا الشاب الأفريقي الذي اختُطف من وطنه، من الكونغو، بلد العظيم باتريس لومومبا، في سن الثانية عشرة، وكان يتحدث العربية بطلاقة (ويبدو أيضاً أنه كان يعرف الكثير عن تاريخ الإسماعيليين النزاريين، المعروفين بالحشاشين، كما يظهر من تكتيكاته الفذة في الاغتيال والتنظيم التي تذكر بأعظم زعمائهم، سنان شيخ الجبل) كان يُتقن طبّ الأعشاب الذي ساعده في تحضير السموم والشروع في حملة واسعة ومنظمة من الاغتيالات لملّاك العبيد وأصحاب المزارع من المستوطنين، أثمرت عن قتل أكثر من ستة آلاف مستوطن أبيض في وقت قصير. هذا عدا عن عدد غير قليل من المستعبدين الخونة الذين كان يجب التخلص منهم.

فوق ذلك كله، أظهر ماكاندال عبقرية فريدة في التنظيم والتكتيك، غير مسبوقة حتى ظهور التنظيم اللينيني بعدها بأكثر من قرن ونصف قرن، وصلت إلى حدّ اختراقه أغلب المزارع، وتأسيس شبكة معقدة من آلاف المستعبَدين والأنصار الذين قاموا بتنفيذ تعليماته في الاغتيال بالسم بسرية ودقة والتزام حديدي وولاء غير مسبوق (يقال إنه كان يعرف أسماء كلّ أتباعه ومجال خبرتهم جميعاً وكان يوظّفها بكفاءة عالية). ومع كل ذلك، أبدع ماكاندال في شنّ الحرب النفسية وترهيب العدو، كما أبدع في تدمير الاقتصاد الكولونيالي الأبيض عبر تكتيك الاستنزاف الذي سنعرفه لاحقاً باسم «التخريب الشعبي». فأسلوبه في الاغتيال جعل مُلّاك العبيد يعيشون حالة من الرعب لا حلّ لها على الإطلاق.

فلقد استغلّ اعتمادهم المطلق في حياتهم اليومية واقتصادهم على ولاء من قد يكونون الآن يتربصون بهم من أتباعه. مئات من أنصاره المقربين تعلموا تحضير السم واستمروا بعده لسنوات من دون أن يعرف أحد إن كان السم الذي كان يحضره مأخوذاً من خبرته في طب الأعشاب فعلاً، كما أُشيع (وهو ما زاد من حالة الخوف) أو من مواد كيماوية متوفرة في الصيدليات (تذكر كارولين فيك في كتابها الرائع عن هايتي حادثة شراء بعض أتباعه متعلقات صيدلي بعد وفاته عرضها ورثته في المزاد). لكن هذا اللغز، وعنصرية الأوروبيين الذين ينسبون قدرات غريبة للأفريقي «المتوحش» لن تزيدهم إلا رعباً.

أما الاقتصاد الكولونيالي فتعرّض لضربات قوية عبر الغارات المتتالية والمخططة جيداً التي شنها مع أتباعه على بعض المزارع، قبل السطو عليها ثم إحراقها إلى أساسها، أو عبر تسميم الكثير من المستعبَدين الذين لم يشاركوا في الثورة، ما جعل الاستمرار في العمل بعدهم بعدد قليل من المستعبدين في بعض المزارع غير مجدٍ اقتصادياً. كانت هذه، ربما، أكثر وأكبر حملات التخريب الشعبي المنظّم في التاريخ الحديث على الإطلاق. فحتى «محطمو المكائن» في أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر، لم يصلوا إلى الحد الذي وصل إليه ماكاندال وأتباعه (ومحطمو المكائن حركة غير معادية للتكنولوجيا كما يُشاع زوراً من قِبل اعتذاريي الطبقة الوسطى من اقتصاديين ليبراليين، بل استخدموا تكتيك التخريب بنجاح لافت لتحقيق مطالبهم التي تغاضى عن الاعتراف به معظم المؤرخين، كما يشير إريك هوبزباوم في «محطمي المكائن»).

رغم نجاح ماكاندال في قتل عدد هائل من المستوطنين البيض (قدّره البعض بستة آلاف)، ورغم شجاعته وجرأته التي وصلت إلى حد الجنون في مهاجمته القوات الفرنسية (لدرجة أن أتباعه آمنوا أنه هو «المسيح الأسود» وأنه لا يموت)، إلا أن قدرته التنظيمية العبقرية ومنهجيته في المقاومة هما بالضبط ما جعل ثورة هايتي ممكنة لاحقاً. فما حدث في هايتي بعد أن أحرق المستوطنون البيض ماكاندال حيّاً بعد إلقاء القبض عليه في آذار ١٧٥٨ والخطة الفذة التي وضعها قادة الثورة لاحقاً لم يكونا ممكنين من دون المقدّمات التي أسس لها ماكاندال. فهذا الأفريقي الفذ أدرك علاقة الطبقة والعرق ودورهما في الصراع الدائر في هايتي حينها كما لم يدركه أحد غيره.

كذلك، لم يكن ماكاندال مؤمناً بالانتصار حدّ النخاع فقط، بل نجح في تحويله إلى عقيدة آمن بها أتباعه لدرجة أنّ من وقع منهم في الأسر، وأُحرق حياً واجه الموت بشجاعة وهدوء أرعبا البيض (يُحكى أنه ليلة حملة الاغتيالات الكبرى في ١٧٥٧ وأثناء اجتماعه مع أتباعه أخرج ماكاندال ثلاثة مناديل. كان الأول أصفر اللون، فقال هذا لون حكام الجزيرة في الماضي، مذكّراً بسكانها الأصليين الذين أبادهم البيض. وكان الثاني أبيض، فقال هذا لون حكام الجزيرة الآن. وكان الثالث منديلاً أسود. قال: هذا لون حكام الجزيرة في المستقبل).

الأهم، أدرك ماكاندال أن الثورة على الاستعمار ليست مزحة. عرف أن لا مجاملة في الثورة ومقاومة الاستعمار. وعرف أيضاً أن فكرة التعايش السلمي بين المستعمَر والمستعمِر بعد التحرير ليست إلا كذبة سخيفة يرددها الأغبياء الذين لا يفقهون جوهر الفكرة الاستعمارية. فحتى بعد أشهر من الثورة الدامية، حين تعب بعض الثوار وارتفع صوت أصحاب النفَس القصير، رفض ملّاك المزارع الفرنسيون تسوية تضمنت فقط تحسين شروط العبودية وشروط العمل في مزارعهم. كانوا يريدون كل شيء (كذلك، حين أدرك المستوطنون الأوروبيون حتمية الهزيمة في الجزائر، كان مطلبهم الأساسيّ من فرنسا في مفاوضات ايفيان الحصول على جنسية مزدوجة تمكّنهم من العودة إلى أوروبا ولم يطالبوا بالعيش المتساوي والسلمي). لا يريد المستوطن تعايشاً سلمياً أو متساوياً، ولو أراد أو رغب في ذلك لما كان مستوطناً أصلاً. وما حدث في هايتي لاحقاً يؤكد أنه لو لم يوضع المستوطنون البيض بين خياري القتل أو الرحيل لكانت هايتي لا تزال مستعمَرة، ولكان أهلها لا يزالون مستعبَدين.

لكن، رغم كل البطولة، ورغم تمثاله الجميل في ذات الساحة التي أُحرق فيها حياً في الكاب، ورغم صورته التي تزيّن قطعة العشرين غورد الهاييتي وهو يحمل سكينه، ظلم المؤرخون ماكاندال بتركيزهم على توسان لوفرتور فقط لاحقاً حين كتبوا قصة الثورة باعتمادهم في التأريخ على الأرشيفات والوثائق الكولونيالية التي شيطنته (حتى سي. ل. ر. جايمس لم يُفرد له إلا سطوراً قليلة في «اليعاقبة السود» جلّ مصادرها من المراجع الكولونيالية). هكذا أيضاً همّشت إعادة كتابة التاريخ روبرت سوبوكواي، أعظم مناضل جنوب أفريقي على الإطلاق، وقلّلت من دوره الحاسم لصالح مانديلا الذي أُعيد اختراع شخصيته، وأُعيدت كتابة تاريخه من مقاوم يتبنّى العنف الثوري، ليصبح أقرب لغاندي جنوب أفريقيا منه لمانديلا الحقيقي - يعرف زوار جزيرة روبي، حيث كان يُعتقل مناضلو جنوب أفريقيا، أن نظام الفصل العنصري كان يخصص مكاناً منفصلاً لاعتقال سوبوكواي منفرداً وبعيداً عن باقي المناضلين (بمن فيهم مانديلا).

Bois Caïman Ceremony مَنْ يَتْعَبْ أولاً يُهْزَم أولاً
في مساء الثاني والعشرين من آب ١٧٩١ أعطى دوتي بوكمان، زعيم ثوار هايتي حينها (هذا قبل أن يستشهد وقبل أن ينضم توسان لوفورتور إلى الثورة ويستأثر كليّاً بالمشهد) تعليماته الأخيرة لقادة الثورة الذين جاؤوا للقائه ليلاً حاملين المشاعل لتضيء لهم الطريق في ليلة يصفها المؤرخون بالعاصفة جداً. بعدها، وقبل انفضاض اللقاء الأخير، وقبل موعد انطلاق الثورة العظيمة بساعات قليلة، قاموا بتأدية صلاة حماسية، أقاموها بالذات حيث كان ماكاندال يلتقي أتباعه قبلها بسنين في «غابة التماسيح»: «يا الله، يا خالق الشمس التي تعطينا الضياء، يا رافع الأمواج وباعث العواصف، احمنا. يا الله، إنك ترى كل ما يفعله الرجل الأبيض. إله الرجل الأبيض يلهمه ارتكاب الجريمة، أما إلهنا فيدعونا للعمل الحسن. إلهنا إله جيد. يأمرنا أن ننتقم لكل ما ارتُكب بحقنا. وإلهنا سيوجه أسلحتنا ويساعدنا. ألقوا عنكم بعيداً رمز إله البيض الذي تسبب لنا بالبكاء والعويل الطويل، واستمعوا لصوت الحرية الذي يصدح في قلب كل واحد فينا» (اليعاقبة السود. ص:٨٧. الترجمة بتصرف).

والبعد الديني، هنا وفي ثورات أخرى، ليس نقصاً ولا خللاً، يقول مايكل أداس في «أنبياء الثورة»، رغم كل الجهود التي عملت وتعمل على شيطنة هذه الثورات وتصويرها باللاعقلانية، وكأن هناك ما هو أكثر عقلانية من مقاومة الاستعمار. فهذه الثورات، يذكّرنا أداس، لم تكن في الجوهر ثورات دينية بقدر ما كان الدين أداة مقاومة للاستعمار (ثورة ديبو نيجورو في جاوا، إندونيسيا، ضد الاستعمار الهولندي، ثورة شعب الماوري في نيوزيلندا، ثورة الزعيم بيرسا موندا في الهند لمن لا يعرف غير غاندي، ثورة الماجي ماجي ضد الاستعمار الألماني في شرق أفريقيا، وثورة الراهب البوذي سايا سن في بورما ضد بريطانيا، كانت كلها ثورات كان الدين والثقافة المحلية فيها أداتي مقاومة فعالة).

كان المستعبَدون منذ نهاية تموز ١٧٩١ في وحَول مدينة الكاب في هايتي، يخبرنا جايمس، جاهزين وبانتظار إشارة الانطلاق. كانت الخطة التي تم تجهيزها على نطاق واسع تهدف إلى إبادة البيض كلياً (كما فعلوا هم بالسكان الأصليين) والسيطرة على المستعمرة. وفي منطقة الكاب وحدها، كان عدد الثوار ١٢ ألفاً (نصفهم من النساء والنصف الآخر من الرجال)، وكان من المفترض أن يقوموا ليلاً بإحراق كل المزارع في ضواحي وأطراف المدينة كإشارة للآخرين في الجزيرة على انطلاق الثورة. ومع هذه الإشارة سيبدأ رفاقهم القاطنون في المدينة بذبح كل البيض وتدمير كل المزارع التي يعملون فيها عن بكرة أبيها. كانت البداية في تلك الليلة، ٢٢ آب ١٧٩١، من مزرعة «غاليفيت» حيث قتل الثوار كل مالكي تلك المزرعة وإحراقها من أساسها. ومع هذه الإشارة، قامت كل مجموعة من الثوار بقتل أصحاب المزرعة القريبة منها، وإشعال النيران فيها. بعدها بثلاثة أيام فقط، أصبح القسم الشمالي من المدينة كله خراباً.

وفي مدينة الكاب كان الأفق كله عبارة عن جدار هائل من النار، ومن هذا الجدار ظلت ترتفع باستمرار كميات كبيرة من الدخان الأسود الكثيف حتى أن أهل المدينة لم يستطيعوا تمييز الليل من النهار لثلاثة أسابيع متواصلة، فيما كان قش قصب السكر المحترق يتساقط كرقائق الثلج مغطياً المدينة والميناء ومهدداً بدمارهما كلياً (انظر «اليعاقبة السود»). كانت فكرتهم بسيطة: من أجل أن يصبحوا أحراراً عليهم أن يستخدموا على الأقل بعض العنف الذي مورس ضدهم لقرون. لهذا استمروا بالقتل والتدمير والحرق بلا تعب. كانوا مثل محطمي المكائن يبغون خلاصهم بالطريقة الأمثل: تدمير ما عرفوا أنه سبب معاناتهم. عرفوا أنه طالما بقيت تلك المزارع في مكانها، فلن يكون مصيرهم سوى العمل فيها كعبيد؛ والحلّ لا يكون إلا بتدميرها. لهذا «قتلوا ودمروا وأحرقوا بلا تعب. وإذا كانوا قد دمروا الكثير فلأنهم عانوا الكثير» (اليعاقبة السود).

صبيانية اللاعنف
في هايتي عرف المستضعَفون أنه لا مجاملة في الثورة على الاستعمار، كما عرفوا جيداً أنها ليست مزحة على الإطلاق (وبالتأكيد ليست مفاوضات). عرفوا كما يعرف كل ثوار الأرض الحقيقيين أن الثورة على الاستعمار دامية بطبيعتها، لا مكان فيها لمراعاة ما يجرح ذوق الطبقة الوسطى، وحساسية المثقفين غرباويي الهوى (بتوصيف هادي العلوي). لا مكان فيها لأفكار الطابور الخامس. لا مكان فيها لفلسفات مؤسسات الأنجزة. دامية بطبعها لأن المستعمِر لا يريد التعايش السلمي. لأن المستعمِر سيقاتل للحفاظ على الامتيازات ما استطاع، وما على المضطهَد، في المقابل، إلا أن يقاتل أبعد مما يستطيع المستعمِر أن يحتمل، من أجل الحفاظ على امتيازاته. ومن يتعب أولاً يُهزم أولاً.

لهذا بالضبط كان فرانز فانون محقاً: «فكرة اللاعنف هي في حقيقة الأمر من مبتكرات الدفاع الاستعماري». وكان محقاً أيضاً بتوصيفه رؤية فردريك إنجلز في «ضد دوهرنج» عن حتمية «انتصار المسدس على السيف» بالصبيانية لأن تفسيرها («روبنسون كروزو» حاملاً سيفه يتفاجأ بـ«فرايداي» يحمل مسدساً) لا يأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي لحروب التحرر الوطني، وطبيعة الحروب غير المتكافئة، برغم تفاوت التطور والحداثة. لا تفسر هذه الرؤية التي تفترض حتمية انتصار الأكثر حداثة والأكثر تطوراً اقتصادياً (أو اعتبارها أن موازين القوى انعكاس فقط لمستوى التطور الاقتصادي)، كما يقول فانون، انتصار الثورة الأميركية المسلحة ضد بريطانيا العظمى حينها، ولا تراجع الجيش الفرنسي النابليوني الأكثر تطوراً حينها في إسبانيا نتيجة حرب العصابات التي شنها الإسبان (انظر: «معذبو الأرض»). هل رأيتم صورة البطل إياد العواودة وهو يطارد بسكينه جندياً صهيونياً مسلحاً بـ«ام ١٦»؟ هل تعرفون أن غلعاد شاليط كان يختبئ كالفئران داخل «ميركافا ٤» حين اعتقله أبطال غزة ـ تخيلوا ماذا كان سيفعل إياد العواودة لو كان معه، مثل شاليط، «ميركافا ٤»، بدل السكين! هؤلاء الأبطال «هم سر قوتنا، وسر ضعفهم» كما علّمنا سيد المقاومة.

هكذا نفهم العبارات التالية من «اليعاقبة السود»، وهي أكثر ما كتب جايمس جدلاً على الإطلاق في توصيفه لدموية الثورة، لكنه أصر على تمسّكه بها كمؤرخ، وأكررها هنا لأنها حدثت فعلاً. كتب جايمس عن الثوار الذين انتصروا قائلاً: «من مُلّاك العبيد عرفوا الاغتصاب، والتعذيب، والإهانة، وفي أبسط حالات التحدي أو الاستفزاز، كان مصيرهم الموت. لهذا، ردوا بالمثل. ولقرنين متتاليين، تعلموا من الحضارة المتفوقة أن القوة تُستخدم لكسر الإرادة (الروح) من أجل الهيمنة. والآن، حين أصبحت القوة بأيديهم، قاموا فقط بفعل بعض ما كانوا قد تعلموه سابقاً. ففي سعار المواجهة الأولى، قتلوا الجميع، لكنهم وفروا حياة الكهنة والأطباء الذين كانوا قد أحسنوا إليهم سابقاً. أما أولئك الذين تعرضت نساؤهم لانتهاكات لا حصر لها، فلقد انتهكوا كل امرأة وقعت بأيديهم، وأحياناً فعلوا ذلك فوق جثث أزواجهن أو آبائهن أو إخوانهن التي كانت لا تزال تنقط دماً، فيما هم يصرخون: «الانتقام، الانتقام». (ص: ٨٨. الترجمة بتصرف).

ليست الثورة ضد الاستعمار مزحة، ولا مكان فيها لمثل مراهقة عريقات ورئيسه وقذارات عصابة أوسلو. هاكم المزيد: «وبعد شهر، حين سيطر الثوار على بعض المناطق، قاموا بتوفير حياة الكثير من الرجال والنساء والأطفال (البيض) ممن تفاجؤوا بهجوم الثوار عليهم في مزارعهم. أما أسرى الحرب، فلقد تصرفوا معهم بلا رحمة. قاموا بتمزيق لحمهم بكماشات ساخنة حد الاحمرار ثم قاموا بشيها على نار بطيئة. وفي إحدى المرات قاموا بنشر نجار بين لوحين من الخشب» (ص: ٨٩). هل أزعجكم قراءة ما فعله الثوار؟ هل جرح هذا السرد ذوقكم؟

حسناً. هذا ما قاله أهم مؤرخ لتلك الثورة تعليقاً على ما فعلوه: «رغم كل ذلك (نعم، رغم كل ذلك)، كان الثوار متواضعين بشكل مفاجئ حينها وبعدها، وأكثر إنسانية مما كان أو سيكون المستوطنون البيض معهم. فهم، في النهاية، لم يثابروا على الانتقام طويلاً، فوحشية أصحاب المُلكية والامتيازات هي دائماً أكثر شراسة بما لا يقاس من انتقام الفقراء والمقهورين. فالأول يسعى لتكريس الظلم والتمييز، فيما الثاني هو مجرد لحظة عاطفية يسهل استرضاؤها بالقليل». ولهذا، «ففي كل السجلات من ذلك الوقت، لا يوجد حالة واحدة من التعذيب الشيطاني (الذي مارسه البيض ضد المستعبَدين لأكثر من قرنين) مثل دفن رجل أبيض حتى رقبته وتلطيخ ثقوب وجهه لجذب الحشرات، أو تفجيره بالبارود، أو أيّ من آلاف الطرق الوحشية الأخرى التي أُخضع لها العبيد لقرنين متتاليين.

ما فعلوه هم (في حالة الغضب)، مقارنة بما فعله بهم أسيادهم بدم بارد، كان متواضعاً ولا يستحق حتى الذكر، وحتى ما فعلوه حينها كان مدفوعاً بالوحشية التي تعامل بها المستوطنون البيض مع العبيد الأسرى الذين وقعوا بأيديهم أثناء الثورة» (اليعاقبة السود، ص: ٨٩).

الموت أو الرحيل
هل نحن بحاجة للتذكير بما فعله بنا الصهاينة؟ كيف قتلوا أطفالنا؟ كيف قطعوهم إرباً؟ كيف قتلوا نساءنا وشيوخنا بدم بارد؟ كيف نسفوا بيوتنا وسحقوا ذكرياتنا وأحلامنا؟ كيف سرقوا وطننا وشردونا في كل بقاع الأرض؟ وكيف احتجزوا جثث موتانا ومنعوها حتى من حق الدفن؟ كيف سلمونا جثث أطفالنا الشهداء بعد احتجازها قوالب من الثلج. كيف منعوا نساءنا الحوامل من الوصول للمشافي وأجبروهن على الولادة على الحواجز؟ كيف أعدموا جرحانا على مرأى من العالم؟ ولو تجاهلنا البعد الإنساني والقومي والوطني، ولو تجاهلنا أن بيننا وبينهم بحراً من الدماء، فإن كل هذا الإفراط في العنف المنهجي، كان ولا يزال يستهدف إبادتنا كشعب، إما بالقتل الدموي أو بمسخنا لعبيد، وسحق روحنا وتدمير ثقافتنا التي تجعل منا شعباً جديراً بالحياة والوجود.

وفوق كل ذلك: لا يجب أن ننسى أن لدى كل منا ثأراً شخصياً معهم. لهذا إن كنت فلسطينياً وكنت لا تزال بحاجة لمن يسرد لك بعض ما فعلوه بنا منذ أكثر من قرن فستعرف ذلك بنفسك يوماً ما. منذ ٢٩ أيلول ٢٠٠٠ وحتى بداية الهبّة السابقة فقط (في أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٥)، قتلوا لنا أكثر من ٢٠٦٥ طفلاً. وإن لم يكن أطفالك من بينهم فسيكون خطأك قاتلاً جداً إن دفعك ذلك للاطمئنان. سيأتي عليهم الدور إن أنت بقيت جالساً في بيتك. حينها، لا تَلُم إلا نفسك. حينها، لن ينفعك البكاء ولن تنفعك الشكوى.

عرف ماكاندال أن فكرة التعايش بين المستعمَر والمستعمِر ليست إلا كذبة سخيفة. لكن العالم تغيّر، لأن العالم يتغيّر. انتصر ثوار هايتي. قضوا على العبودية، وحكموا الجزيرة. انتصرت فكرة ماكاندال العبقرية في النهاية على جبروت أميركا وفرنسا وإسبانيا وإنكلترا وجيوشها الجرارة وأموالها الهائلة وأسلحتها المتطورة، وتغيّر العالم. كل الذين تناوبوا على قيادة الثورة في هايتي من ماكاندال، مروراً بدوتي بوكمان، وحتى توسان لوفرتور وديسالين عرفوا حقيقة واحدة ستصبح درساً تعلمه الفييتناميون لاحقاً أكثر من غيرهم ولهذا انتصروا: من أجل أن يستمروا بالثورة حتى النصر، عليهم أن يصلوا بالثورة وبالناس وبسرعة إلى نقطة اللاعودة. لا مجال للعودة. حتى تنتصرَ عليك أن تكسر عمودهم الفقري. عليك أن تسحق روحهم بلا رحمة. عليك أن تضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما: الموت أو الرحيل من حيث أتوا.

عرفوا أن العودة عن الثورة أو التخلّي عنها أو المساومة عليها ستكون غالية الثمن جداً. هذا ما لم تستطع الفصائل الفلسطينية فعله حتى اللحظة. لم تكسر كل الجسور ولم تهدم كل الطرق للعودة إلى الوراء. على العكس، كل أدبيات الثورة الفلسطينية منذ اليوم الأول تشير إلى أن قيادتها برعت أكثر ما برعت في التأسيس لهذه الطرق وبناء هذه الجسور، وحتى ترميمها حين يكسرها الناس. هكذا انتهى ما كان ينبغي أن يكون «منظمة تحرير»، وما كان يوماً أحد أعظم التجارب الثورية، إلى وحدات مستعربين في جيش العدو، تبطش بشعبها وتعتقل المقاومين وتحاربهم، وتفخر بحماية العدو وبعدد عمليات المقاومة التي أحبطتها.

لهذا ندفع الثمن من دماء أطفالنا اليوم، وسنظل كذلك حتى نقرر أنه لا مجال للعودة. سنظل كذلك حتى نقر بالحقيقة: إما نحن وإما هم. حتى نقرّ أن صراعنا معهم وجودي وصفري، لا مكان ولا مجال فيه للمساومة. سنظل كذلك حتى نقرّ أن ثمن الحرية أقل كثيراً ودائماً من ثمن الاضطهاد. سنظل كذلك حتى يعرف كلّ من يملك سلاحاً أن البنادق والرصاص لم تُصنع للتباهي بها في الأعراس. لكن العالم يتغيّر، وسيتغيّر، لأن العالم يتغيّر، وسيتغيّر. هكذا جاءنا مهند. هكذا جاءنا محمد. هكذا جاءنا جيل من الأبطال يجعلنا نخجل من أنفسنا في كل لحظة نتذكر فيها أن ستة ملايين مستوطن، ما زالوا يقهرون أكثر من أربعمئة مليون عربي بعد سبعة عقود. يا للعار.

هكذا يُصنع العبيد
ربما قرأ الملايين حول العالم تلك السطور من «اليعاقبة السود»، وربما استفزتهم أيضاً وهو ما يفسر انتقاد صاحبها، وكأن تجاهلها كان سيعني أنها لم تحدث. لكن عليك أن تكون مهتماً بتاريخ أوروبا الكولونيالي في مجتمعات الجنوب لتقع عيناك على «مذكرات توماس ثيسلوود». لكن، الأهم، عليك أن تكون ميت القلب تماماً وأن تتنازل مؤقتاً عن أي وكل ذرة من الإنسانية عندك، لتتمكن من إجبار نفسك على قراءة القليل مما فعله مستوطنو أوروبا البيض بالمستعبدين في مزارع هايتي وجامايكا. فـ«ثيسلوود»، أحد أصحاب هذه المزارع الذي بدأ حياته كمراقب في إحدى المزارع في جامايكا، ترك حساباً مفصلاً من آلاف الصفحات عن همجية المستوطنين الذين ارتقوا بها إلى مستوى العلم في عالمنا الجنوبي. ثيسلوود، الذي يسرد بتفصيل آلاف عمليات الاغتصاب التي ارتكبها بحق ١٣٨ من المستعبدات، ليس إلا نموذجاً لما كان عليه المستوطن الأبيض.

ترك ثيسلوود مثلاً نموذجاً لطريقة تعذيب من اختراعه اسمها «جرعة ديربي». وديربي هو أحد المستعبدين الذين قام ثيسلوود مرة بجلده بعنف. بعدها قام بفرك جراحه الدامية بالملح والليمون والخل. وحين انتهى من ذلك، أجبر مستعبداً آخر على التبرز في فم ديربي، ثم قام بتكميم فمه بما فيه لساعات. لاحقاً، انتشرت «جرعة ديربي» كأسلوب معتمد لدى كل ملّاك المزارع، وبقيت حقوق الاختراع مسجلة باسم ثيسلوود.

كان ثيسلوود ومن معه من مستوطنين يعرفون جيداً ما يفعلون. كانوا يعرفون أن الناس لا يولدون عبيداً. كانوا يعرفون أنه لا يمكنهم أن يشتروا عبداً بل يمكنهم أن يصنعوا عبداً. كان كل هذا العنف برأيهم كفيلاً بكسر روح البشر، وإخضاعهم ومسخهم إلى عبيد. لهذا عرف الثوار في هايتي أن العنف المضاد هو الوحيد الكفيل بتطهير النفس من قذارات العبودية، وهو الكفيل أيضاً بسحق روح المستعمِر. من يعرف طريقاً آخر فليدلّنا إليها، أو فليلتزم الصمت.

هذا أوان القيامة
حين حمل البطل محمد طارق يوسف سكينه وخرج عليهم كان يعلن أوان القيامة. قيامة عالم جديد مكان عالم قديم يتعفن ويمضي. قيامة عالمنا وأفول عالمهم. حمل سكينه وخرج عليهم يرسم بنصله خارطة طريق تغيير هذا العالم. كان مثل ماكاندال الأفريقي بعبقريته، وبصيرته، وجماله، وشجاعته. سقط وهو يرى ما لا يراه ولن يراه أبداً من «ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة». سقط وهو يرى عالماً جميلاً رائعاً يلوح هناك في الأفق يستحق أن يموت الإنسان من أجله. لهذا، خرج عليهم وكأنه ينادي على كل مقاوم خلفه: هذا أوان القيامة. احمل سلاحك واتبعني.

طوبى لك يا محمد

«ستصبح جيشاً وصبحاً نبيلا

أنت ككل الذين أرادوا

لهذه الحياة وجهاً جميلا

تمنيت أن يطلع الصبح من قبضتيك

فعلت ما كان حتماً عليك

وما كان حتماً على الناس جيلاً فجيلا»(2).

لماذا حرب الشعب؟

«في بداية الأمر، اعتقدنا أنه سيكون من الممكن لنا أن نقاوم باستخدام أساليب وتجارب البلدان الأخرى. جَرَّبْنا الإضرابات، وجَرَّبْنا التظاهرات، لكنّنا أدركنا لاحقاً أن كل ذلك لن ينفع».

أميلكار كابرال.(3)

هل تعرفون كيف ولماذا، استُعْبِدَ أولاً، ثم أبيد كلّياً لاحقاً شعب الأرواك؟ أهمية هذا السؤال تنبع من كون النموذج الاستعماري الاستيطاني الذي تطوّر في تلك المنطقة، هو أقرب للصهيونية الاستعمارية من نموذج جنوب أفريقيا.
الجواب المباشر والواضح نسمعه (أو نقرأه) من كريستوفر كولومبوس، المسؤول عن هذه الإبادة البشعة، فاتحة عصر الإبادات والعبودية والنهب والخراب التي قامت على أساسها الهيمنة الغربية، وَتَشَكَّلَ على أساسها العالم الحديث. ففي وصفه لسكان جزر الباهاما الأصليين، كتب كولومبوس في تقرير أرسله إلى مدريد: «إنهم لا يحملون السلاح، ولا حتى يعرفونه، فلقد أريتهم مرة سيفاً، فأخذوه من الحافة وجرحوا أنفسهم به لجهلهم (بالسلاح). ليس عندهم حديد، ورماحهم مصنوعة من القصب. لهذا، يمكن أن يكونوا خدماً جيّدين ... ومع خمسين رجلاً فقط، يمكننا إخضاعهم جميعاً، وجعلهم يفعلون ما نريد».(4)

كان شعب الأرواك، الذي قَطَنَ ما يُعرف اليوم بجزر الباهاما، شعباً مُدهشاً في كرمه وأخلاقه وحسن ضيافته، كما كان مدهشاً بمشاعيته ومدى إيمانه بالتشارك في كلّ شيء، كما روى هوارد زين نقلاً عن شهود عيان أوروبيين. فلقد كانوا يعيشون في قرى مشاعية (كومونات)، كما ذكر برتولومي دي لا كاساس، صاحب «تاريخ مختصر لدمار الأنديز»، الذي قام بنسخ يوميات كولومبوس، وكانوا يفتقرون لأيّ معرفة بعادات التجارة سواء في البيع أو الشراء (بالمعنى الأوروبي الرأسمالي الحديث). وفوق كلّ ذلك، لم يضعوا، أو يعطوا، أي قيمة خاصّة للذهب، أو لأيٍّ من المعادن «الثمينة» الأخرى التي غزاهم، ولاحقاً استعبدهم ثم أبادهم، من أجلها مستعمِرو أوروبا البيض، بل اعتمدوا في عيشهم واستمرارهم حصرياً على بيئتهم الطبيعية المباشرة. ولكن، وبرغم فقرهم وقلّة ما كان لديهم، كانوا كرماء للغاية حين يتعلّق الأمر بأيّ وكلّ شيء يمتلكونه، كما يذكر دي لا كاسس، ولهذا كانوا يتوقّعون من أصدقائهم في المقابل الدرجة ذاتها من الكرم والاستعداد للمشاركة.

لكنّ أكثر التوصيفات تفصيلاً لطبيعة ومواصفات شعب الأرواك، هي المقاربة المقارنة بينهم وبين الغزاة الإسبان التي جاءت في تصدير برتولومي دي لا كاساس لـ«تاريخ مختصر لدمار الأنديز». فـ«من بين كل البشر في هذا العالم»، يقول دي لا كاساس، كان «هؤلاء الناس (أي الأرواك) هم الأقل ارتكاباً للذنوب على الإطلاق، الأكثر خلوّاً من الشر والجشع والنفاق، والأكثر طاعةً وإخلاصاً لأسيادهم الأصليين في قراهم، ولاحقاً للمسيحيين الإسبان الذين عملوا على خدمتهم. كانوا بطبيعتهم الأكثر تواضعاً وصبراً وسلاماً، لا يحملون أيّ ضغائن على الإطلاق، كما كانوا بعيدين عن الصراعات وإثارة المشاكل والمشاكسة. في الحقيقة، إنّ صفات وأفكار كالحقد، أو الكراهية، أو الرغبة في الانتقام، كانت غريبة عليهم تماماً»(5) (الترجمة بتصرف).

في مقابل كلّ ذلك، يخبرنا دي لا كاساس في النصّ ذاته الذي كتبه بعد أربعين عاماً من وصول كولومبوس، أنه حين «جاء بعض الإسبان إلى بلاد هؤلاء المنبوذين الضعفاء، تصرّفوا على الفور مثل الوحوش الكاسرة أو الذئاب أو النمور أو الأسود التي كانت تتضوّر جوعاً لأيام. ولأربعين عاماً (منذ الغزو) وحتى الوقت الحالي (حين كتب النص)، لم يختلف تصرف الإسبان مطلقاً، بل ما زالوا يتصرّفون مثل الوحوش الجائعة، ويمارسون القتل والترهيب والتعذيب والتدمير بحق الشعوب الأصلية، وفوق كلّ ذلك، قاموا بفعل كلّ جرائمهم بأساليب غريبة وجديدة ومتنوّعة وغاية في القسوة، لم يسبق لها مثيل، وحتى لم يسمع بها أحد من قبل، إلى درجة أن جزيرة هيسبانيولا (هايتي وجمهورية الدومينكان الحالية) التي بلغ عدد سكانها ذات يوم أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، أصبح الآن (حين كُتب النص بعد أربعين عاماً) بالكاد مئتي ألف» (دي لا كاساس، ص: ٢٩. الترجمة بتصرف).

أما كولومبوس، الذي تُخصّص الولايات المتحدة أحد أيام السنة للاحتفاء والاحتفال به، كما يتّضح من تقريره الذي أرسله إلى مدريد في أعقاب وصوله إلى هناك، فلقد رأى مشاعية شعب الأرواك وأخلاقهم وكرمهم وتواضعهم وصبرهم وطبيعتهم المسالمة، بعيون أوروبية استعمارية جشعة تقليدية: «إنهم سذّج للغاية» قال، و«متحرّرون تماماً في ما يخصّ ممتلكاتهم، بحيث أنّ من لم يشهد ذلك بأمّ عينه ما كان ليصدّق ذلك على الإطلاق. فلو طلبت منهم أيّ شيء، لن يقولوا لك لا مطلقاً. على العكس، هم سيعرضون مشاركة كل ما يمتلكون مع أيّ أحد».(6) وبذلك، ولذلك أيضاً، يقرّر هوارد زين، مؤرّخ «التاريخ الشعبي للولايات المتحدة»، أنّ شعب الأرواك كان، بالتالي، على نقيض كامل في مواصفاته مع الأوروبيين. فأوروبا عصر النهضة «كان يسيطر عليها (حينها) دين الباباوات وحكومات الملوك، وسعار المال الذي ميّز الحضارة الغربية ورسولها الأوّل للأميركتين، كريستوفر كولومبوس».

الإبادة
أمّا المجزرة فلقد بدأت منذ اللحظة الأولى لوصول كولومبوس. فحين قام بعض سكان الجزيرة من الأرواك بالسباحة باتجاه السفن الإسبانية الثلاث (نينا، بينتا، وسانتا ماريا) للترحيب بكولومبوس ومن معه، وحتى أحضروا لهم الطعام والهدايا، كان أوّل ما لفت نظره (أي كولومبوس) أقراط الذهب التي لبسها بعضهم. فأخذهم أسرى على الفور، وبدأ باستجوابهم عن مكان الذهب (وهو ما فعله أيضاً حين أبحر إلى كوبا وجزيرة هيسبانيولا (هايتي والدومينكان حالياً) لاحقاً. فحين رحّب السكان الأصليون هناك أيضاً به وبعصابته، لفت نظره مباشرة إهداءهم له قناعاً مصنوعاً من الذهب، فقام بأسرهم لاستجوابهم عن مكان الذهب. هكذا، جنح خيال كولومبوس بعيداً ليتخيّل حقولاً ومناجم من الذهب في تلك البلاد ـــ كان كولومبوس قد أقنع ملك وملكة إسبانيا، وبعض الأغنياء الإسبان، بتمويل حملته عبر المبالغة بوجود المعدن الأصفر الثمين، وكان عليه الوفاء بهذا الالتزام بسرعة.

لهذا، بنى كولومبوس في هايتي أول قاعدة عسكرية أوروبية في القسم الغربي من العالم، وسمّاها «نافيداد» أو «عيد الميلاد». ومن هذه القاعدة، بدأ الأوروبيون إدارة حملة البحث عن الذهب وتجميعه لإرساله إلى أوروبا، بعدما تمّ تعزيز الحملة بسبع عشرة سفينة جديدة وأكثر من ١٢٠٠ عنصر آخر، انضموا إلى الحملة بناء على وعود كولومبوس بمناجم من الذهب. لكن المعضلة الرئيسية كانت عدم وجود الذهب أصلاً، سوى القليل من الغبار المتجمّع في الجداول (فكولومبوس كان يظنّ أنه في شرق آسيا لأنّه كان يتخيّل عالماً أصغر بكثير من العالم الحقيقي). لكن، وبسبب التزامات كولومبوس المالية لمموّلي حملته، كان على هؤلاء «المنبوذين» الأرواك أن يأتوا بالذهب بأيّ طريقة. لهذا، قاموا بالطلب من كلّ شخص فوق الأربعة عشر عاماً بتجميع كمية معيّنة من الذهب خلال ثلاثة أشهر، ومن نجح وهم أقليّة نجا لثلاثة أشهر أخرى عبر وضع علامة نحاسية على رقبته، ومن فشل، وهم الغالبية، قاموا بقطع يديه وتركوه ينزف حتى الموت. وللتعويض عن غياب الذهب، قام كولومبوس بملء سفنه بالآلاف من سكان هذه الجزر وإرسالهم إلى أوروبا، وفيما مات الآلاف منهم في الطريق، تمّ بيع من نجا كعبيد في أسواق أوروبا (انظر الجزء الأوّل من هذا النص).

وهم «مكافحة التمرّد»
كريم بلقاسم، هو «أكثر العسكريين العرب عبقرية لقرون خلت»، كتب إقبال أحمد في تعليقه على الدور المركزي الذي لعبه أحد أهم أبطال الثورة الجزائرية (طبعاً، يمكن أن نضيف إلى تلك العبارة الآن، وبعد تجربة حزب الله في لبنان، الشهيدين عماد مغنية ومصطفى بدر الدين أيضاً).(7) فهذه العقلية الثورية الفذّة (عسكرياً وأمنياً وسياسياً) كانت، إلى حدّ بعيد، ليس فقط وراء تحرير الجزائر في أقلّ من سبع سنوات (بعد الحسم لصالح خيار حرب الشعب في تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٥٤)، بل وحتى في خلفية سقوط الجمهورية الفرنسية الرابعة.(8) ولم تكن عبقرية بلقاسم (القائد العسكري للولاية الثالثة، والأهم ربما، في حرب التحرير) في كونه من القادة العسكريين الثوريين القلائل في التاريخ الحديث، الذين اعتمدوا في انطلاقة مقاومتهم، وحتى استمرارها لزمن طويل، على السلاح الذي غنمه الثوار من العدو، بل وكان أيضاً من القلائل الذين أدركوا بعمق علم الاجتماع النفسي لحرب الشعب.

فالدرس الأول الذي تُعلّمنا إيّاه الثورة الجزائرية، التي كان بلقاسم أحد أهم قادتها، أنّ هذا العدو وهميّ وأنّ قوته وهمية. فحرب الشعب ليست كفيلة فقط بأن تجعل الشعب المستعمَر يُدرك مدى وهن العدو في مواجهة من هذا الطراز من الحروب، بل وتُفقده مصداقيته وتحطّم صورته أيضاً، بمجرّد أن تسيل نقطة الدم الأولى. وسيلان هذا الدم هو الذي يمكن له، وله فقط، أن يغسل الخوف والخنوع والقبول بالذل من عقول وقلوب المستعمَرين ويجعل منهم بشراً جدداً، بعدما مسخهم وَهْم صورة المستعمِر كليّ القدرة لعبيد. فالمستعمَر، بذاته وذاتيته وبوعيه بنفسه، وبالمستعمِر، وبالعالم، هو نتاج للحالة الاستعمارية، وينبغي لإعادة خلقه وتشكيل روحه على شكل إنسان جديد، بذاتية جديدة ووعي جديد بالذات وبالعالم وبالآخر، محوه كلياً في سياق كفاحي عنيفٍ ودامٍ من مقاومة الاستعمار (لن نَملَّ أبداً، أو يوماً، من تكرار فلسفة العظيم فرانز فانون، أو وديع حداد وعماد مغنية، فهي لنا نحن المؤمنين بخيار حرب الشعب عقيدة حياة وعقيدة انتصار).

لكن، لم يتعلّم الفرنسيون من تجربتهم في فيتنام، كما أثبت أداؤهم لاحقاً في الجزائر، كما لم يتعلّم الأميركيون من تجربة الفرنسيين في فيتنام قبلهم. فحين قلّدت أميركا فرنسا في فيتنام، خسرت الحرب أيضاً (كان السفير الأميركي، فرانك ويزنر، يعمل كمندوب لوزارة الخارجية الأميركية في الجزائر في نهاية الحرب مع فرنسا، وقبلها في سفارة بلاده في فيتنام، وشاهد الأداء الفرنسي الفاشل عن قرب في الحالتين. لكنّه حين انتقل إلى فيتنام لاحقاً، شارك في استخدام الأسلوب الفرنسي الفاشل نفسه في الجزائر، ظنّاً منه (ومنهم) أنّ زجّ المزيد من القوات واستخدام المزيد من العنف المفرط، سيقود حتماً إلى الانتصار). فالرؤية الاستعمارية لا ترى المقاومة، إلّا كقضية تقنية حصراً (كقضية تآمر وتخريب)، يكون حلّها والتعامل معها، بالتالي، بمزيد من العمل الاستخباري ومزيد من القمع والعنف.

ربما لهذا السبب سيُدهش من يقرأ ما يتوفّر من أدبيات وتقارير عن حرب الشعب، أو ما يسمونه استراتيجية «مكافحة التمرّد»، المألوفة الآن والتي تملأ رفوف البنتاغون، وسيدرك، أيضاً، دقّة تشبيه الصحافي آيسدور ستون لما ينتج من دراسات عنها: «سيشعر (القارئ لهذه الأدبيات) أن هؤلاء الكُتّاب يشبهون الرجال الذين يشاهدون شخصاً يرقص من الخارج، من خلال نوافذ زجاجية ثقيلة. فهم يستطيعون رؤية الحركة، لكنّهم لا يستطيعون سماع الموسيقى. إنهم يستطيعون نقل الحركات والإيماءات الميكانيكية التي يرونها أمامهم إلى الورق بدقة كبيرة. لكنّهم نادراً ما يرون المشاعر الوطنية المجروحة، البؤس، الضيق الشديد، الكراهية، التفاني، الإلهام، واليأس. لذا، فهم لا يفهمون حقيقةً ما الذي يدفع أيّاً من الرجال للتخلّي عن الزوجة، الأطفال، المنزل، الحياة المهنية، والأصدقاء ويذهب إلى الأدغال ويحمل البندقية ويعيش مثل حيوان مطارَد، برغم الصعوبات والتحديات العسكرية الهائلة التي يواجهها، بدل الاكتفاء في الاستمرار في التذمّر من الذل والظلم والفقر».(9)

والقلّة القليلة التي أدركت خطورة حرب الشعب، وحتى استحالة الانتصار عليها عسكرياً، لأنّها ربما أدركت روحها وجوهرها الحقيقي البعيد كلّ البعد عن التقنية، إمّا لم تكن في موقع القرار، أو اضطرّت للسكوت لأسباب سياسية. ففي أعقاب الهجوم الفيتنامي الناجح على «معسكر هولواي» الأميركي في ٧ شباط/ فبراير ١٩٦٥ (جاء كردّ على ردّ أميركي على حادث سابق هاجم فيه الفيتناميون سفينة أميركية في ما يعرف بـ«حادثة خليج تونكين» في ٢ آب/ أغسطس ١٩٦٤)، استنتج نائب الرئيس الأميركي، حينها، هوبرت همفري، أنه لا يوجد حلّ عسكري لـ«المشكلة الفيتنامية»، أو أنّه على الأقل غير ممكن خلال سنوات قليلة (خلال حكم جونسون)، وطالب رئيسه بالتريّث في الرد. لكن ردّ جونسون قام بمعاقبة همفري وإبعاده عن حلقة القرار، حتى تراجع عن موقفه.(10) لكن يبدو أنّ موقف همفري كان أكثر عمقاً ممّا يمكن لرئيسه حينها حتى أن يفهمه، فلقد تحدّث عن حرب الشعب (أو حرب العصابات، كما يفضّلون تسميتها) «كشكل عدواني جديد وجريء يمكن أن نُصَنِّفْ (أهمية ظهوره) بأهمية اكتشاف مسحوق البارود، والتحدّي الكبير الذي يشكّله لأمننا»(11).

ولم يكن همفري الوحيد الذي أدرك سذاجة وبساطة النظرة الرسمية (العسكرية والسياسية) إلى حرب الشعب. في «التدمير الذاتي»، جادل سيسيل كيوري، صاحب ثلاثية مهمة عن فيتنام، أنّ الأميركيين خسروا بشكل فادح في محاولاتهم للإبقاء على جمهورية جنوب فيتنام كدولة مستقلة وغير شيوعية، بسبب المَزاج والتصرفات داخل الجيش الأميركي. فلقد فشلوا في فهم ومعرفة عدوّهم، وبالتالي لم يستطيعوا تكييف تكتيكاتهم للعدو المحدّد الذي كانوا يواجهونه. فالسياسة العسكرية الأميركية، بحسب كيوري، كانت سطحية بشكل مخجل وخاطئة جداً. إذ اعتمدت بقوة على التكنولوجيا وعلى الإسراف في استخدام القوة النارية الهائلة، وكأنّها تقاتل وحدات عدوة من حلف وارسو في سهول أوروبا الوسطى.(12)

هذا لا يعني، طبعاً، أنّ سياسة مكافحة التمرّد، التي اتّبعتها الولايات المتحدة منذ قرن، لإخضاع شعوب الجنوب تحديداً (بأسماء مختلفة)، وتستخدمها المستعمرة الصهيونية حتى قبل اغتصاب فلسطين، لم تنتج الكثير من المآسي والخراب والقتل والدمار. على العكس، فهذه السياسة تهدف أساساً، وتتضمّن أصلاً، وبشكل منهجي، إيقاع الأذى البالغ والخراب والقتل، لكسر روح أعدائها وإخضاعهم. ولهذا السبب بالضبط، تشكل حرب الشعب الترياق الوحيد الممكن والفعّال.

سوسيولوجيا حرب الشعب في فلسطين: كيف نفهم المقاومة والخيانة؟

في خطابه في مؤتمر هافانا الشهير إلى قادة حركات التحرّر عام ١٩٦٦، أجمل أميلكار كابرال التجربة الثورية في مجتمعات الجنوب، واختصرها كما يلي: «معضلة البرجوازية الصغيرة في سياق النضال من أجل التحرّر الوطني هي إما خيانة الثورة أو الانتحار الطبقي». رؤية كابرال، الفيلسوف الثوري والقائد العسكري الميداني في الوقت ذاته(13)، تشكّل أساس وجوهر أيّ محاولة جدية للتأسيس النظري لحرب الشعب، وحتى لفهمها وفهم المواقف المتعدّدة والمختلفة منها وعليها. فرؤية كابرال تعمل، وبوضوح، على تفسير وفرز المواقف من حرب الشعب، والمقاومة عموماً، بإضاءتها وتشديدها على الظرف الطبقي (انتحار البرجوازية أو خيانتها)، وعلى أهمية فهم الخلفية الاجتماعية والمصلحة الطبقية، حتى في الموقف من حرب الشعب (مع أو ضدّ)، وليس فقط حول المشاركة فيها.

الجدل حول حرب الشعب خصوصاً، وحول العنف الثوري عموماً، إذن، ليس حول مدى فعالية، أو إمكانية نجاح حرب الشعب، أو حتى قدرتها على تحقيق الانتصار. فهذه قضية حسمتها التجربة العملية، منذ أكثر من قرن (في إيرلندا مثلاً)، وحتى أصبحت بمثابة علم منذ التجربة الصينية (مع ماو تسي تونغ)(14) والكورية (مع كيم إيل سونغ)(15)، والفيتنامية (مع هوشي منه)(16)، والجزائر وكوبا، ومؤخراً في المساهمة العربية الفذّة للسيد حسن نصر الله.(17) ليست الفكرة هنا، إذاً، أنّ من يجادل أنّ الشعوب المستعمرة لم ولا تتحرّر، ولم ولا تحصل على استقلالها فعلاً بحرب الشعب، أو أنّ من يرفض حقيقة أنّ الشعوب المستعمَرة حين تتسلّح تنتصر، هو مجرّد شخص «عبيط» أو غبي أو حتى جاهل بالتاريخ فقط. القضية في الجوهر، كما يشير كابرال، هي في الظرف الطبقي الذي يشكّل السياق العام للحروب، ويؤسّس للفرز بين القوى الاجتماعية، ويقرّر حتى الموقف من المقاومة وحرب الشعب ـــ والطبقة هي حالة موضوعية، ويمكن حتّى قياسها وبدقة عالية، وأحد المؤشرات أو المقاييس الجذرية عليها في حالتنا هو الموقف من حرب الشعب.

وفي فلسطين، ليس السؤال الجدي حقاً هو إن كان خيار النخبة الفلسطينية الخيانة أو الانتحار الطبقي. فبعد كلّ ما نعرفه عن سياسات ومواقف وممارسات النخبة (المعلنة وغير المعلنة)، ومصالحها الطبقية المكشوفة، لا يمكن الجدل أنّ خيار النخبة الفلسطينية كان فعلاً خيار الخيانة. ومرة أخرى، ليست القضية هنا خلافاً حول تبعات أو مدى فعالية هذا الخيار، وكأننا في مؤتمر متخصّص في مناقشة قضايا فلسفية. القضية باختصار أنّ حرب الشعب، وتسليح الناس لا يشكل خطراً على الاستعمار، والإمبريالية أيضاً فقط، بل وعلى الشرائح الاجتماعية المرتبطة بها مصلحياً. فتسليح الناس، يُخلّ بقوة بموازين القوى المحلية، كما يخلّ بموازين القوى الدولية.

لهذا السبب بالضبط، يستمرّ الجدل حول سلاح المقاومة في لبنان، مثلاً. فانتصارات أيار ٢٠٠٠، وتموز ٢٠٠٦، والاستمرار في ردع العدو هي رموز حقيقية وعملية وراهنة للفعالية الهائلة لهذه التجربة لا تحتمل الجدل. لكنّ خطر انتصارَي أيار وتموز الحقيقي، كما يراه الكيان الصهيوني والإمبريالية الغربية، إضافة إلى بعض الشرائح اللبنانية والعربية، هو في إمكانية تعميم هذا النموذج ـــ بعض من يحاول التذاكي علينا بعدم التصريح برفضه القاطع لهذه النماذج العملية، وحتى يعلن تأييده للمقاومة حتى عام ٢٠٠٠ أو حتى ٢٠٠٦، وربما يحتفل معنا في ذكرى الانتصار أيضاً، لكنّه لا يتوقف عن التشكيك بأيّ وظيفة للمقاومة بعد عام ٢٠٠٦، هو في الحقيقة في خندق الخونة نفسه.

وبرغم التفوّق الأخلاقي للمقاومة ولحرب الشعب، بما تتضمنّه من معاداة للإرث والمصلحة الإمبريالية، وبمعاداتها للديناميكية الرئيسية لرأس المال، فإنّ ثمن الخيانة في فلسطين وجودي بامتياز وأبعد من فلسطين. ففيما يواجه شعب فلسطين نموذجاً استعمارياً استيطانياً من نوع خاص مؤسّس على الإبادة، وليس التمييز العرقي، كما قد يظنّ البعض، تواجه الأمة العربية (بناء على تجربة السنوات القليلة الماضية على الأقل) حرب وجود بالمعنى الحرفي للكلمة. فمن فلسطين إلى سوريا والعراق واليمن وليبيا والبحرين وحتى لبنان، يتمّ تفريغ أوطاننا سكانياً بالقتل والدمار والخراب والتشريد، لما يحقّقه ذلك من أرباح هائلة كأحد آليات تراكم رأس المال. لهذا، فإنّ المطلوب، الآن وأكثر من أي وقت مضى، هو العمل الجاد على تعميم نموذج وحالة حرب الشعب.

الصهيونية العسكرية: لماذا حرب الشعب فقط؟
في الرؤية الصهيونية للدولة وفلسفة تأسيس الجيش، كما جاءت في سلسلة خطابات لبن غوريون (أهمّها كلمة في الكنيست في ١٨ آب/ أغسطس ١٩٥٢)، لم يكن الجيش الصهيوني المأمول، مثل كلّ الجيوش الأخرى، مجرّد قوة مسلّحة للدفاع عن وطن أو عن دولة، بل كان أحد الأدوات الأساسية، إن لم يكن الأداة الأهم، لتكوين وتشكيل أمة غير موجودة، وكأداة لصهر «الإثنيات» اليهودية المختلفة والمستوطنين القادمين من كلّ أصقاع الأرض بلغات وثقافات وعادات مختلفة ومتناقضة أحياناً، وتجاوز الاختلافات والتناقضات العميقة بينها وعبرها. ففي سنوات قليلة عقب النكبة، تضاعف عدد المستوطنين القادمين من شتّى بقاع الأرض إلى فلسطين، وواجه بن غوريون وعصابته سؤال الأمة التي عليهم تشكيلها.

وسؤال الأمة كان مؤرقاً جداً لهم منذ البداية، ما جعل أهداف كل المشاريع الأولى والأساسية (بما فيها تشكيل الجيش) تتمحور حول دورها (أي المشاريع) في بناء الأمة أساساً، وليس في البعد أو الهدف الظاهر أو المُعلن (أي ليس العسكري الدفاعي أو الهجومي فقط في حالة الجيش). مثلاً، كان في خلفية تأسيس ما سُمي بـ«شبكة المياه القطرية»، التي تربط جميع مستوطني الكيان بشبكة مائية واحدة إدراك مهم ودقيق مفاده أن مصادر المياه المحلية المعزولة وغير المتواصلة (كالآبار)، كما كان حال المستوطنات قبل النكبة، ساهمت في إنتاج وعي استيطاني انعزالي جهوي لا يصلح لأمة، أو أنتجت وعياً قبل دولتي مشوّه، لا وعيَ مواطني دولة وأعضاء أمة. لهذا، كانت شبكة المياه القطرية ثاني المشاريع «القومية» القليلة جداً التي تشاركت بها، لأهميتها القصوى، كلٌّ من المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي، رغم اختلاف نشاطات هذه المؤسسات وعدم تقاطعها في مشاريع مشتركة، إلا نادراً جداً (وكان المشروع، لاحقاً، في خلفية حرب ١٩٦٧).

في ذلك الخطاب أعلاه، بدا بن غوريون مدركاً تماماً أنّ عصابات المستوطنين لا تشكّل أمة حقاً، ويبدو أنه أدرك كذلك، باستحضاره مثل إنكلترا، أنّ تشكُّل الأمم هي عملية تاريخية طويلة جداً ومعقّدة، تتشابك وتتداخل فيها الكثير من المتغيّرات وقد تتطلّب مئات السنين (هذا إن تجاهلنا حتى طبيعة المشروع الاستيطاني الصهيوني). لكن، «نحن»، يقول بن غوريون، «لا نستطيع الانتظار مئات السنين، وبدون أداة الجيش لا يمكننا أن نصبح أمة. لهذا، علينا أن نعمل على قيادة التقدّم التاريخي وتسريعه وتوجيهه، وهذا يتطلّب إطاراً من الانضباط الوطني». طبعاً، يمكن القول بكل ثقة، إنّ من يفهم التاريخ الإنساني والاجتماعي بهذه الطريقة، ويعمل ويخطّط بمنطق «الهندسة الاجتماعية» الـ«بنغوريونية» هذه، سينتهي حتماً حيث انتهت النازية (وطريقة التفكير هذه ليست العامل المشترك الوحيد بين الصهيونية والنازية). لهذا، واستتباعاً لرؤيته تلك، دَرَسَ بن غوريون نماذج جيش اليعاقبة في فرنسا (كل مواطن جندي وكل جندي مواطن).

وجيش نابليون من بعدهم، تجربة الجيش البروسي (ثلاث سنوات من التجنيد تتبعها سنتان من الاحتياط ثم عضوية في الجيش الشعبي/ الفيدرالي لإسناد الجيش)، والجيش الياباني في فترة إصلاحات الإمبراطور ميجي في عام ١٨٨٦ (عامان من التجنيد تتبعها خمس سنوات وأربعة شهور من الاحتياط الأول، ثم عشر سنوات من الاحتياط الثاني). نسي بن غوريون أنّ الكيان الصهيوني ليس فرنسا أو ألمانيا أو اليابان. فبإمكان كلّ هذه الأمم وغيرها أن تخطّط، وأن تخطئ في التقدير والتخطيط والتنفيذ، لكنّ الفشل لن تكون له تبعات وجودية كما هي بالضرورة عند الكيان، كما أدرك بن غوريون ذاته. ففرنسا وألمانيا واليابان، لا تزال موجودة رغم الفشل والهزائم القاسية التي واجهتها في تاريخها الحديث على الأقل. أمّا الكيان الصهيوني فهو شاذ عن هذه القاعدة، كما هو شاذ تقريباً في كل شيء ـــ فأن تَهزِم جيشهم يعني أن تُزيل كيانهم.

برغم التفوّق الأخلاقي للمقاومة ولحرب الشعب بما تتضمنّه من معاداة للإرث والمصلحة الإمبريالية، فإنّ ثمن الخيانة في فلسطين وجوديّ بامتياز. ليست الفكرة هنا، فقط، أن «الصهيونية العسكرية» تؤكد لنا جانباً نعرفه جيداً عن هذا العدو، وعن طبيعته وبنيته العميقة ووظيفته المؤسسة على العدوان والقتل والدمار نيابة عن الإمبريالية الغربية وبشراكة معها، وبالتالي لا يمكن له أن يتغيّر أو يتحوّل ـــ ساذج، إذن، من يحلم بأن يصحو يوماً ليجد هذا الكيان الاستيطاني قد قرّر التخلّي عن عدّة وعقيدة القتل والخراب والحروب، وقرّر التحوّل إلى العمل في التجارة والصناعة والسياحة. هذه الرؤية تتجاهل طبيعة الكيان الصهيوني، وتتجاهل أنه ليس في بنيته أو سبب وجوده أو وظيفته، أي إمكانية أن يتحوّل «للشغل» في التجارة أو السياحة، أو شيء آخر غير القتل والخراب والحرب. لهذا، لا حلّ معه إلّا بحرب الشعب.

لكنّ الفكرة الأساسية من مختصر «الصهيونية العسكرية» أعلاه، حيث وظيفة ودور الجيش عندهم أكثر بكثير من كونه مجرّد جيش تقليدي، بقدر ما يشكل الرحم الذي سيستولد «الأمة» والبوتقة التي ستصهرها، فإنّ دليل عمل إزالة هذا الكيان لأيّ مقاوم، يجب أن يتمثل أولاً وقبل أي شيء بالعمل الدائم على كسر عموده الفقري، عبر سحق هذا الجيش وقهره. وأهمية وعبقرية ومثالية خيار حرب الشعب في حالة فلسطين هي هنا بالذات: فحرب الشعب ليس بإمكانها فقط أن تَهزم الجيش الصهيوني، بل يمكنها أيضاً إزالة الكيان ذاته من الوجود.

خاتمة: الذين لديهم الحديد لديهم الخبز

لا نعرف العدد الدقيق لشعب الأرواك حين غزاهم الأوروبيون، في عام ١٤٩٢. ففي حين يضع دي لا كاسس، الذي عايش الإبادة، العدد قريب من ثلاثة ملايين، يجادل العديد من المؤرّخين، كما يشير هوارد زين، أنّ العدد كان بين ٢٥٠ ـــ ٣٠٠ ألف إنسان. لكن ما هو معروف بدقة من السجلات، أنه في عام ١٥١٥، أي بعد الغزو بسبعة عشر عاماً، كان هناك خمسون ألفاً فقط نجوا حتى ذلك الوقت من الهمجية الأوروبية. وفي عام ١٥٥٠، أي بعد ستة وخمسين عاماً لم يبقَ منهم سوى ٥٠٠ إنسان فقط على قيد الحياة. أما في عام ١٦٥٠، فيشير أحد التقارير الذي يقتبسه الكثير من المؤرّخين، أنه لم يبقَ حينها من شعب الأرواك الأصلي أو من نسله أي أحد. أبادوهم جميعاً.

لكن في هذه الإبادة عبرة، ربما على أهل فلسطين أن يتعلّموها أكثر من غيرهم، كونهم الشعب الأخير الذي يواجه البربرية الاستعمارية الاستيطانية: لم تكن مأساة شعب الأرواك أن إبادتهم تمت قبل تأسيس اليونسكو (وبالتالي، لم يكن بإمكانهم طلب تدخلها لإنقاذهم، كما طالب مسؤول فلسطيني اليونسكو بالتدخل لمنع الكيان الصهيوني من ضمّ باقي أراضي الضفة الغربية، في لحظة استحمار متميزة من المتحدثين باسم عصابة أوسلو)، ولم تكن مأساتهم في غياب «المجتمع الدولي» ليمنع المجزرة (كما يطالب صائب عريقات ذلك الكائن الخرافي، المجتمع الدولي، ليلاً ونهاراً بالتدخل). كانت مأساتهم الحقيقية هي التي رآها كولومبوس وفهمها جيداً وتصرف على أساسها وانتهت إلى إبادتهم جميعاً: «أنهم لا يحملون السلاح، ولا حتى يعرفونه. ليس عندهم حديد، ورماحهم مصنوعة من القصب». ربما كان شعب الأرواك سيتعلم كثيراً من قائد كومونة باريس، «أوغست بلانكي»، الذي فهم عالم الهيمنة الرأسمالية الغربية جيداً، وربما على شعب فلسطين، خصوصاً، أن يستمع إليه جيداً: «الذين لديهم الحديد، لديهم الخبز».

برغم التفوّق الأخلاقي للمقاومة ولحرب الشعب بما تتضمنّه من معاداة للإرث والمصلحة الإمبريالية، فإنّ ثمن الخيانة في فلسطين وجوديّ بامتياز!

 

هوامش:

(*) George Sand. (1843) 2008. “Jean Ziska: Épisode de La Guerre Des Hussites”. Moscow: Dodo Press. P. 3

(1) C.L.R. James. 1989. The Black Jacobines: Toussaint L’ouverture and the San Domingo Revolution. NY: Vintage Books.

(2) من قصيدة رثاء بابلونيرودا ليوليوس فوتشيك.

(3) Quoted in David A. Andelman, “Profile: Amilcar Cabral”, in Africa Report (New York), May 1970, p. 19.

(4) Howard Zinn. 1994. “A People’s History of the United States”. NY: Longman.

(5) Bartolome de Las Casas. 1992. “A Short Account of the Destruction of the Indies”. NY: Penguin Books. Pp. 9-10

(6) إضافة لكونه قائد حملة الإبادة، كانت شخصية كولومبوس تتميز بالوضاعة أيضا. يذكر هوارد زين انه كان من المفروض ان يحصل أول من يرى اليابسة من البحارة على راتب سنوي مقداره عشرة آلاف مارافيد مدى الحياة، وكان أول من رأى الشمس تتلألأ على الرمال البيضاء بحار يدعى رودريغو، لكن كولومبوس ادعى لاحقا انه رأى اليابسة قبها بليلة وسرق المكافأة التي كان من المفروض ان يحصل عليها ذلك البحار.

(انظر هوارد زين. التاريخ الشعبي للولايات المتحدة. ص: ٢)

(7) Eqbal Ahmad. 2006. “The Selected Writings of Eqbal Ahmad”. NY: Columbia University Press. P. 96

(8) في الثالث والعشرين من حزيران ١٩٥٤ التقى في منزل المناضل الجزائري إلياس دريش في منطقة المدنية في الجزائر العاصمة اثنان وعشرون مناضلا جزائريا لمناقشة الازمة التي كانت تعصف بالحركة الوطنية الجزائرية والانقسام الكارثي بين جناحي حزب «حركة الحريات الديمقراطية»، بين مركزيين ومصاليين (اتباع مصالي الحاج). وبسبب الازمة المستفحلة التي واجهت مناضلي الجزائر في تلك الفترة، خصوصا مع إصرار القيادة (مصالي الحاج) على الخيار السياسي في مواجهة الاستعمار الفرنسي. وجاء في البيان الأول للجبهة: «وهكذا فإن حركتنا الوطنية قد وجدت نفسها محطمة، نتيجة لسنوات طويلة من الجمود والروتين، توجيهها سيئ، محرومة من سند الرأي العام الضروري، قد تجاوزتها الأحداث، الأمر الذي جعل الاستعمار يطير فرحا ظنا منه أنه قد أحرز أضخم انتصاراته في كفاحه ضد الطليعة الجزائرية. ان المرحلة خطيرة. أمام هذه الوضعية التي يخشى ان يصبح علاجها مستحيلا، رأت مجموعة من الشباب المسؤولين المناضلين الواعين التي جمعت حولها أغلب العناصر التي لا تزال سليمة ومصممة، ان الوقت قد حان لإخراج الحركة الوطنية من المأزق الذي أوقعها فيه صراع الأشخاص والتأثيرات لدفعها الى المعركة الحقيقية الثورية».

(9) I. F. Stone. 1968. “In Time of Torment”. NY: Vintage. Pp. 173-174.

(10) Townsend Hoopes. “The Limits of Intervention: An inside account of how the Johnson policy of escalation in Vietnam was reversed”. NY: W. W. Norton. P. 31

(11) “The Selected Writings of Eqbal Ahmad”. P. 13

(12) Cecil Currey. 1981. "Self-Destruction: The Disintegration and Decay of the United States Army During the Vietnam Era". NY: Norton.

(13) Reiland Rabaka. 2014. “Concepts Of Cabralism: Amilcar Cabral and Africana Critical Theory.” London: Lexington Books.

(14) Mao Tse-tung. “Selected Military Writings of Mao Tse-tung.”

(15) Kim Il Sung. 2012. “History of Revolutionary Activities of President Kim IL Sung”. Pyongyang: Foreign Languages Publishing House.

(16) Ho Chi Minh. “Ho Chi Minh on Revolution: Selected Writings 1920-1966.” NY: Signet Books.

(17) Nicholas Noe (Ed). 2007. “Voice of Hezbollah: The Statements of Sayyed Hassan Nasrallah.” NY: Verso