لرسائل المفكرين إلى بعضهم البعض أهميه كبرى لأنها تعكس شخصيتهم المخفيه وراء فكرهم وفلسفتهم فما بالك برسائلهم إلى عشاقهم؛ ولا ريب أن لكل أنسان منا جوانب متعددة من شخصيته لا يمكن للجميع الاطلاع على تلك الجوانب مجمل، فهي تختلف حسب الموقف وحسب طبيعة العلاقة، وحسب متغيرات عدة. فحين نقرأ كلمات سارتر التي أرسلها يوما في رساله إلى سيمون دي بفوار قائلا فيها: «أربط بين حبك وبين عناصر الوجود. أحببتك في مدينة تولوز، وأحبك الليلة في مساء ربيعي. أحبك والنافذة مفتوحة. أنتِ لي، والكون لي. أشعر أن قوة حبي لكِ تغير من طبيعة الأشياء من حولي، وتلك الأشياء تغير من حبي لكِ .أحبك بكل جوارحي وروحي» هي كلمات كاشفه لجانب إنساني وعاطفي راقٍ، لا نعرفه في حياة المفكر بصفه عامه. أما بلزاك فقد كتب الى حبيبته ايفا: «الحب ينطلق من مسام جلدي كفراشات ملونة، لا هدف لي في الحياة سوى الحب، والاستسلام للحزن بعيداً عنكِ. حبيبتي إيفا، حبك هو قدري»؛ وكتب فولتير أثناء فترة سجنه إلى حبيبته أوليمب دينوفر: «يمكنهم سلب حياتي، ولكنهم لا يستطيعون سلب حبي لكِ.» وها هو اللورد بايرون يطلب من حبيبته الصغيره تريزا جوتشيلي أن تتذكره «تذكريني إذا باعدت جبال الألب بيننا، وباعد بيننا المحيط.»
لا تملك سوى أن تحترم تلك القصص وهذه الكلمات الدافئة الجياشة لأنها حقيقية وعميقة؛ تغمر الروح بمشاعر فياضه من الحب والدفء الإنساني، تجعلك تقف أمامها بكل خشوع وتضرع تبتهل الى الله ألا يحرم البشرية كلها من أصناف مشابهه لذاك الحب وهذا العشق اللامتناهي .
والحق أن أكتر ما استحوذ على اهتمامي في تلك الحكايات التاريخية والرسائل التي يمكن تصنيفها تحت بند الرسائل الغرامية كانت تلك الرسائل من كافكا إلى ميلينا ومن جبران إلى مي والعكس.
****
مي زياده (1886- 1941) الكاتبة التي سبقت زمنها والعصر الذي عاشت فيه، وكانت مبدعه بازغة في ذلك العصر بمجالات عديده ومتنوعه؛ وكانت صاحبة كينونة نسائية فاعله في المجتمع؛ كما أن إقامتها لصالون ثقافي تصول وتجول فيه الأفكار الفكرية والثقافية، ويصدح فيه الشعراء بأشعارهم ويتناقش في صالونها المفكرين على اختلافهم في جميع مشارب الفكر والثقافة والسياسة يجعلنا نؤكد على كونها كانت أيقونة نسائية غير مسبوقة في هذا العصر؛ وفي مجتمع من المجتمعات العربية التي كانت ولا زالت المرأة فيه مكبلة بكل أنواع الأغلال فكرية وثقافية واجتماعية .. الخ. ولم يكن ذلك العصر الذي لم يكن للمرأة فيه وجود حقيقي وفاعل، اللهم إلا نفر قد لا يعد على أصابع اليد الواحدة.
تميزت مي بكونها كاتبة وشاعرة وخطابية من الطراز الرفيع، كما أنها كانت ممن يمكن إطلاق لقب باحثة عليها، حيث قدمت دراسات مهمة مثل دراستها التي خرجت في كتاب حول باحثة البادية؛ كما كتبت مقالات عده في الصحف المختلفة ونُشر لها العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، وكان أول ديوان شعر لها بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منها رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف.
*****
أما جبران خليل جبران (1883-1924) ذلك الفنان المبدع المتنوع الذي اتقن لغات عده ودرس الرسم والألوان المائية وقدم ما يزيد عن 700 لوحه فنيه كما أن أعماله الشعرية والقصصية ماتزال تؤثر في عدد كبير من محبيه، وكان قد حقق نجاحا باهرا في عصره على مستوى الرواية والقصص القصيرة والأشعار والحكم والفلسفة، وكان ذا خيال ملهم كتب مقالات فلسفيه في النثر الشعري باللغة الإنجليزية وخرجت له عدة كتب باللغة الإنجليزية على رأسها كتابه "النبي" الذي حاز اعجابا ونجاحا غير مسبوق.
وكانت المراسلات فيما بين مي وجبران قد بدأت عام 1912 حين ارسلت إليه لتعبر له عن رأيها في روايته (الأجنحة المتكسرة) واستمرت المراسلات بينهما لمده تزيد عن 19 عاما؛ وربطتهما مشاعر من الاغتراب والوحدة والاحتياج العاطفي .
*****
أما كافكا (1883- 1931) فيعد من أفضل أدباء ألمانيا في فن الرواية والقصة القصيرة ووُصفت أعماله بالواقعية العجائبية من شدة سوداويتها الى حد أن اصطك مصطلح "الكافكاوية" للتعبير عن الكتابة الممتلئة بالسوداوية والعبثية. تناول الاغتراب الاجتماعي والقلق الانساني بشكل مكثف في كتاباته ، وجعله مرضه يعيش بالمصحات بعيدا عن أهله وأحبابه.
وبدأت المراسلات فيما بينه وبين حبيبته ميلينا (1896 ــــ 1944) عام 1920حتى عام 1923؛ ويبدو أن ميلينا حين تعرفت على كافكا أُعجبت بما يكتب وشجعته على الاستمرار في النشر وعدم حرق كتاباته كما فعل من قبل (يقال أن 90% من كتابات كافكا قد أحرقها هو بنفسه كما تعرضت بعض كتاباته للحرق على يد هتلر)، كما تعاطفت معه لمرضه وبؤسه المعنوي ومزاجه العليل ومن ثم أحبها كافكا وكانت ميلينا مترجمة بازغة وصحفية وكاتبة مقالات بإحدى الصحف.
عاشت ميلينا في براغ وكانت امرأة ثائرة وأيقونة أدبية في سياق الحقبة التاريخية التي عاشت بها؛ عاشت حياه عاصفه تحولت بعد وفاة والدتها من فتاه مطيعه إلى فتاه ثائرة، ثم ثارت على كل ما لا يعجبها في الحياة، بداية من أبيها الى تقاليد العصر الذي عاشت فيه إلى حد أن أبيها أدخلها مستشفى للأمراض النفسية لكي يمنع زيجتها الأولى من رجل يهودي يكبرها في السن، وعملت ميلينا كحامله للحقائب بمحطات القطارات لكي تنفق على نفسها وتعيش، ثم بدأت رحلتها في الكتابة والتحرر بعد تخلصها من زيجتها الأولى التعسة. وتزوجت مره أخرى وأنجبت أبنة، لكنها وبسبب نضالها ضد النازية والشيوعية تم اعتقالها عام 1939 بعد احتلال النازيين لما تبقى من تشيكوسلوفيكيا لأنها تعمل في مجله غير مرخصه قانونيا، فأتُهمت بالخيانة العظمى وظلت قيد الاعتقال حتى ماتت فيه عام 1944، ولم ترى ابنتها إلا مره واحده أثناء المعتقل.
حرصت ميلينا على أن تحيا حياه واقعيه ملموسة؛ وهو عكس ما كان عليه كافكا الذي كان غارقا في خيالاته وأحلام يقظته، ومستغرقا تمام الاستغراق في أحزانه والآمه؛ وكان هدفها الأول من علاقتها بكافكا هو إخراجه من عزلته وتقوقعه ومساعدته على الاستمتاع بالحياة ونلاحظ مدى اختلاف شخصيتيهما؛ ويظهر ذلك في سطور كتبتها ميلينا إليه قائله: "إن الحياه لساعتين أجدى من كتابة صفحتين!"؛ وعلى ذلك كان كافكا شديد الاعجاب بميلينا إلى حد أنه وصفها بأنها كانت "قوه معطاءة للحياة "وبأنها "نارُ حية".
****
بقليل من التأمل سنجد تشابه كبير بين المبدعين الاربعه (كافكا وميلينا -جبران ومي ) فلقد كان كافكا يحمل جنسيتين الألمانية والتشيكية وكذلك حال جبران الذي حمل الجنسية اللبنانية والأمريكية؛ وكان كلاهما كاتبا من الطراز الرفيع؛ اشتركا في نوع المرض حيث عانا كليهما من مرض السل، وهو الذي أدى الى نهايتهما في سن صغيرة. فمات كافكا وعمره 41 عاما في حين مات جبران عن 48عاما.
تشارك كلا من جبران وكافكا ومي وميلينا في الاغتراب النفسي والجغرافي. فها هو جبران يولد في لبنان ويحيا بأمريكا، وها هى مي تولد بفلسطين وتعيش بلبنان ثم تستكمل حياتها بالقاهرة، وهاهى ميلينا تغترب عن أهلها وتعاني مع زوجها وتشكو لكافكا بؤسها، الجميع يتشاركون الأسى؛ والكتابه سواء كانت شعريه أو قصصية أو روائية. جميعهم يتراسلون، ويقعون في الغرام عبر هذه المراسلات، يعبرون عن مشاعرهم الجياشة في رسائل تحمل خفقات القلب وسقم الجسد وهشاشة الروح؛ الملاحظ أيضا أن كافكا كان يحمل في قلبه بعض السوء تجاه والده وكان يصفه بانه مستبد. وهو ما عانى منه كلا من جبران وميلينا أيضا. تُرى هل يمثل كلا من الأدب والمعاناة والرسائل المشترك الإنساني الذي جعلني أضمهم في سلسلة واحده ؟!
******
لننظر أخيرا إلى مسألة الخلود: كيف تسنى لهؤلاء المبدعين الأربعة الخلود حتى اللحظة الآنيه؟ بنظره سريعة سأقول كما قال أرشميدس وجدتها وجدتها: إنها الأنثى، هي التي أدخلت كافكا التاريخ وخلدت أسماءهم، فهاهي ميلينا تحتفظ برسائل كافكا على الرغم من الصعوبات الحياتية التي مرت بها إبان الحرب العالمية الثانية. ورغم ذلك تمنح هذه الرسائل لأحدى صديقاتها المقربات وتطلب منها أن تنشرها حين تسمح الظروف؛ نعم إنها الأنثى!
لو تأملنا قليلا في هذا الموقف سنجد أن السيدة ميلينا كانت تمتلك قراءة مستقبلية ورؤية سابقة لعصرها. حيث فهمت جيدا قيمة إبداع كافكا، ولهذا حرصت على تشجيعه وترجمة كتاباته. ثم نظرتها الثاقبة لهذه الرسائل ورؤيتها بأنها تستحق الاهتمام وتستحق النشر وأنها ستكون ذات بصمة في يوم من الأيام وقد كان، فلقد أعادت هذه الرسائل كافكا إلى الحياة وجعلت البعض يغرم بشخصية ميلينا التي كان لها كل هذا التأثير على كافكا؛ وتم نَفض الثرى من فوق جسد كافكا النحيل ليعاد قراءته من جديد من قِبل الأجيال المعاصرة؛ فكيف لنا أن نتجاهل هذا الإعجاز الذي قامت به هذه السيدة ميلينا من قبرها وكيف أعادت كافكا إلى الحياة من جديد، وجعلت منه شخصا خالدا برؤيتها الثاقبة وعقليتها الناضجة وحبها الخالد.
نستطيع أن نقول بأريحيه أن المرأة حينما تحب حبا صادقا يكون خالدا، رغم كل الصعوبات التي قد تواجهها؛ وتمتلك القدرة على تخليد هذا الحب -شرط أن يكون صادقا بكل معنى الكلمة - وهو ما لا يملكه ولا يستطيع القيام به الرجل بأي حال من الأحوال؛ وهذا ما يجعلنا نتساءل حول رسائل ميلينا إلى كافكا، وكيف أضاعها ذلك المحب الكسول ولم نتحصل على رسائل ميلينا اللهم الا نذر يسير منها، في حين احتفظت هي برسائله التي تتجاوز المائة في زمن الحرب العالمية الثانية!
كذلك الحال بالنسبة لرسائل مي إلى جبران؛ لن نجد إلا القليل والقليل جدا لماذا وفي ظني أن ذلك يعود إلى طبيعة الرجل فهو كسول بطبعه في الحب لن يرهق نفسه في لملمة أوراق لا تُغني ولا تُشبع من جوع، كما أن طبيعة حبه استهلاكي أكثر من كونه حبا خالدا!
هذه الملحوظة حول ضياع رسائل كلا من ميلينا ومي الى كافكا وجبران والتي أفسرها بأن الأنثى عادة ما تحتفظ بكل ما تتلقاه من حبيبها، في حين لا تلقىَ هداياها أو رسائلها نفس هذا الاهتمام، كان قد عَبر عنها الأخوين رحباني بكلمات تغنت بها الفنانه فيروز:
بكتب إسمك يا حبيبي عالحور العتيق
بتكتب إسمي يا حبيبي ع رمل الطريق
وبكرة بتشتّي الدني عالقصص المجرّحة
بيبقى إسمك يا حبيبي وإسمي بينمحى
بحكي عنّك يا حبيبي لأهالي الحيّ
بتحكي عنّي يا حبيبي لنبعة الميّ
ولمّا بيدور السهر تحت قناديل المسا
بيحكوا عنّك يا حبيبي وأنا بِنْتَسَى
وهديتني وردة
فرجيتا لصحابي
خبّيتا بكتابي
زرعتا عالمخدة
هديتك مزهرية
لا كنت تداريها
ولا تعتني فيها
تَ ضاعت الهدية
******
هكذا هو اذن يكون حب المرأة خالد أما حب الرجل فهو على أقل تقدير استهلاكي لحظي! وبعيدا عن هذه النظرة لعمق عشق الرجل من عدمه، فإن لهذه الرسائل دلالات عميقه أخرى قد تعكس شخصية الرجل المبدع والمرأة المبدعة؛ والاختلاف الكبير بينهما، وأرجو ألا يراني البعض متجنية على كافكا وجبران اللذان لم يكونا مخلصين لحبهما بشكل أو بآخر، ففي ظني أن الأنثى أكثر صدقا في عشقها؛ ودليلنا أننا سنجد سيرة جبران الحياتيه عامرة بقصص عشيقات وحبيبات عديدات؛ وكانت علاقته بماري هنسل من أكثر العلاقات التي حيرت الجميع من حيث ماهية العلاقة وشكلها وهل كانت غرامية أم أنها كانت محض استغلال من جبران للوصول إلى نوع من أنواع الاستقرار الذي يحتاجه المبدع، لكي يستمر في إبداعه؛ على الجانب الآخر نجد أن مي كانت صادقه وبريئة في مشاعرها بشكل كبير نلاحظ ذلك في كلماتها القليلة التي عثرنا عليها مما ارسلته اليه؛ والحق أن علاقة جبران بمي مثيره للاهتمام كثيرا وتجبر الانسان العادي على الشعور بالتعاطف بشكل كبير مع شخصيتها الإنسانية الخلابة والظلم الذي حاق بها واستسلامها لأحزانها التي أدت بها إلى الانهيار العصبي والنفسي.
ولذك ففي ظني أن الأكثر معاناه وظلما في قصص الأربعة هي مي زياده التي ظلت أسيرة العادات والتقاليد العربية وأسيرة مشاعرها النقية الشفافة مخلصة إلى أن قادها ذلك الى المرض والإيذاء النفسي البالغ الذي أودى بحياتها فيما بعد، ويختلف الحال بالنسبة لميلينا حيث أن العادات والتقاليد في النمسا تختلف بشكل كلي عما عاشته مي بالعالم العربي؛ بالإضافة إلى كون ميلينا أمرأه متحررة بالمقارنة بالحقبة الزمنية التي عاشتها وفي حين كانت ميلينا ثائره على كل القيود المجتمعية آنذاك كانت مي تدافع عن هذه العادات والتقاليد ولا ترى فيها أي غضاضة وتتماشى معها بكل أريحيه.
كانت مي جياشة العواطف تجاه جبران في حين تميزت مشاعر ميلينا نحو كافكا بشيء من الهدوء على عكس طبيعتها، وهو ما كان يجعله شديد اليأس والحزن. حتى أنه كان يشاركها يومياته الحياتية بكل تفاصيلها لكي يشعر بمشاركتها له في المكان. نجد ذلك في قوله: «انك تكونين حيث أكون - وجودك كوجودي وأكثر كثيرا من وجودي .. إن وجودك هنا مؤكد اكثر من وجودي»، وفي رساله أخرى يقول لها: «ميلينا انت بالنسبة لي لست امرأة انت فتاه لم ار مثلها، ولست اظن لهذا انني سأجرؤ على ان اقدم لك يدي ايتها الفتاة. تلك اليد الملوثة والمعروقة المهتزة المترددة التي تتناوبها السخونة والبرودة»، وفي رسالة اخرى يكتب اليها قائلا «انني ارغب رغبة شديده في أن تكوني هنا»، «انني افتقدك» وكتب إليها 140 رساله في اقل من 10 أشهر من عام 1920 وهو ما يدل على حجم الفراغ العاطفي والحرمان والوحدة التي كان يشعر بها.
أما جبران فكان مدركا وواعيا لكل كلمه يكتبها إلى مي، على الرغم من كونه كريما في التعبير عن عواطفه مع مي فيداعبها بكلمات بريئة وحنونة. مثال ذلك يكتب اليها قائلا «هل تعلمين ياصديقتي انني اجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة»؛ و«هل تعلمين أنني أقول لذاتي أن هناك في مشارق الأرض صبيه ليست كالصبايا، قد دخلت الهيكل قبل ولادتها، ووقفت في قدس الأقداس، فعرفت السر العلوي الذي تخفره جبابرة الصباح، ثم اتخذت بلادي بلادا لها وقومي قوما لها» وفي رساله أخرى يقول: «ما أجمل رسائلك يامي وما أشهاها، فهي كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنما في وادي أحلامي».
وعلى الرغم من هذه الكلمات العذبه إلا أنني أصدق مشاعر كافكا وأشعر بمدى صدقه في حبه لميلينا من غرام جبران لمي. فلقد كانت رسائل كافكا أكثر عفويه وصدق وتعبير عن حالته المزاجية والصحية والاجتماعية؛ في حين كان كافكا كمن يقدم اعترافاته بشكل يومي إلى القس بالكنيسة وهو يكتب ويعترف لميلينا بكل ما يقوم به من أعمال حتى وإن كانت هذه الاعترافات تسئ اليه؛ وكلماته اليها تعبر عن شخص عاشق يرغب حقا في قرب عشيقته والحياه معها؛ في حين كانت رسائل جبران تعبر عن شخص حريص على صورة معينة يريد إيصالها للآخر، وكلماته المنمقة السحرية التي تداعب خيال مي ورومنسيتها؛ وكأنه فهم مفاتيح شخصيتها جيدا، وأخذ في اللعب بمشاعرها الرقيقة على هذا المنوال الرومانتيكي وأجد ذلك في هذه الكلمات «انت يامي شعب عظيم من الجبابرة الفاتحين وفي الوقت نفسه انت ابنة صغيره في السابعة تضحك في نور الشمس وتركض وراء الفراشة وتجني الأزهار وتقفز فوق السواقي، وليس في الحياه شيء الذ واطيب لديَ من الركض خلف هذه الصغيرة الحلوة والقبض عليها ثم حملها على منكبي ثم على كتفي ثم الرجوع بها الى البيت، لأقص عليها الحكايات العجيبة الغريبة حتى تكتحل أجفانها بالنعاس وتنام نوما هادئا سماويا»!
هؤلاء التعساء الأربعه؛ اشتركوا جميعا في كينونتهم الأولى كأدباء لامعين في عصرهم، مطلعين على ثقافات مختلفة، اشتركوا في مشاعر الوحدة والتأمل والاغتراب وأحلام اليقظة والانطواء على الذات والمرض والبعد عن الأقارب، إما لأسباب اغترابية، وإما باختيارهم، متسعي الأفق قراء مؤمنون بالحب والمشاعر الإنسانية الراقية، نذروا أنفسهم للأدب والفن والفكر.
تٌرى هل كانت تلك التعاسة التي لاحقتهم بمثابة جناية الأدب عليهم ؟
كاتبة وأكاديمية مصرية
المراجع :
(1) صورة المُبدع عاشقاً.. شذرات من رسائل العشق التي كتبها الأدباء والشعراء ترجمة: نصر عبد الرحمن
1- ؛https://nasr1973.wordpress.com/2015/04/27/صورة-المُبدع-عاشقاً-شذرات-من-رسائل-الع/
(2) الشعله الزرقاء رسائل جبران خليل جبران الى مي زياده ، تحقيق سلمى الحفار الكزبري ود.سهيل ب.بشروني ، نسخه pdf
(3)مي زياده مأساة النبوغ: سلمى الحفار الكزبري ،مجلد 2، مؤسسة نوفل ، بيروت ،1987 الطبعه الأولى .
(4)/www.hindawi.orgمي زياده
(5)https://www.abjjad.com/author/6805395/مي-زيادة/books