تكتب القاصة السورية ملمحا من ملامح الاغتراب في بلد الشوارع الكئيبة من خلال علاقتها مع وجوه مغتربين تقابلهم كل يوم ويمثلون جنسيات مختلفة ولا تتبادل معهم إلا كلمات قليلة لكنها تعكس غربتهم العميقة.

ملامح لوجه مغادر

أمان السيد

كل يوم أقفز تلك الدرجات المسطحة. لا جديد فيها سوى وجوههم. هي دائمًا كانت تتبدل، وكنت أستغرب في نفسي: لماذا تتغير تلك الوجوه باستمرار، وتتبدّد كما يتبدّد السواد في كل شروق؟.

بيده يمسك عصًا في نهايتها خرقة تآكلت، وبهت لونها فباتت، والخرائب تنتميان إلى عالم متماثل. يمسح بها درجات طويلة جيئة، وذهاباً، وقد ثبت بنظره في مكان لا يحيد عنه إلا ليرد سلاماً يلقي به أحدهم إليه، وكثيرون يمرون به غير ملتفتين عائدين من عمل أنهكهم فآثروا الصمت في بلدٍ تزاحم فيه الخرس، ومن يناجون أنفسهم.

كثيراً ما كنت أحسب أنّ تفكيره قد تعطّل لمساحاتٍ لا تتعدى درجاتٍ، وبوابة زجاجية يتفنّن في تلميعهما بطريقة ودية، وقد أضحتا معاً كل عالمه لا يجتاز بعدهما حدوداً. وكنت أنتظر مرة ألاّ يطالعني وجهه، وجه عامل التنظيفات الهنديّ الأسمرفي التوقيت اليوميّ ذاته حين أصعد الدرجات عائدة من عملي. تمنيت مرة أن أجده، وقد ألقى عصاه، أوعانق كوباً من الشاي، وانتحى به ركناً يستمع إلى أغنية. ولطالما تراءى لأذنيّ أنه يدندن لحناً وقت الظهيرة تحت شجيرة التوت كما العمال في بلدي، لكني أستفيق من حلمي البسيط لأرى تلك النظرة الجامدة المسطحة لا تفارق ملامحه!.

مسمياتُ صداقاتٍ يوميةٍ مساحاتها ثوانٍ كنت قد عقدتها في غدوّي، ورواحي مع تلك الوجوه التي ألتقيها في المواعيد ذاتها. كتلك التي عقدتها مع مصعد بنايتي، وباب شقتي، والممرّ المفضي إليه، والشوارع الكئيبة الغاصّة بعمارات شاهقة، وركام سياراتٍ تختنق بأنفاس حرارةٍ لاهبة. لم تكن تلك الصداقات إلا ّ بضعاً من كلمات.

تحية. ربما أتجاوزها للسؤال عن الحال بلغة هي مزيج من أحاسيس بشر متراصين هنا، وهناك بلكناتهم، وروائح طعامهم، وأجسادهم التي تولولُ بتناقضٍ غريب. مشاعر فرضتها علي إنسانية دفينة جعلتني لا أراني أختلف عنهم في الكثيررغم ارتقائي عن الدرجات المسطحة إلى عقول، وأفكار تبيّنتها أكثر تسطحاً.

ذات مساء. وجه ٌمن تلك الوجوه جاء يقرع باب شقتي تغمره ألفةٌ لا يستشعرها العديد من البشر. شيءٌ ما رأيته يكاد يقفز. يعانق فرحة منطوية لسنوات بين البلاط والعصا. بحروف مرتبكة لم أفهم أغلبها. جاء يودعني. قرأت في عينيه ما لم يكن لسانه بحاجة لشرحه. ما يتخطى كل الحواجز التي تبنى بين أبناء البشر.

للحظات. سحب ضبابٍ قد خيمت. تنذر بالأسى. فراق المألوف. هو اعتياد البشر في هذا الركن من الكون.

أغلقت بابي وراءه، وفي خلايايَ بركانُ صمتٍ أخرس، وعيناي ترسمان ملامح لوجه جديد.