يتصدى كيرش إلى قضية بغاية الحساسية، المتعلقة بموضوع الأقليات والهويات الفرعية المسكوت عنها، التي أمست في النظام العالمي الجديد تتصدر ركنا أساسيا من أجندة المؤسسات التي يرعاها هذا النظام، ويضعها في مقدمة أولوياته، وهذا ما يتضح بشكل جلي في معظم المهرجانات والمسابقات الدولية الإبداعية، التي تقام في العالم الغربي، حيث ينال موضوع الأقليات أولوية قصوى في التقييم ونيل فرص الدعم والجوائز، وغالبا ما تكون على حساب الجانب الفني.

كيف للروائي أن يصبح عالميا

في كتاب «اكتمال العالم»

مروان ياسين الدليمي

 

هذا التساؤل دائما ما يعاد طرحه في الأوساط الثقافية العربية، وعلى وجه الخصوص بين الروائيين أنفسهم، ولا يأتي ذلك من باب السعي الحثيث إلى الشهرة، لأن الروائي الذي يكرس حياته لأجل أن يتجاوز ما سبق أن قدمه من نتاج إبداعي في مشروعه الجديد الذي يعكف على إنجازه، لا يضع الشهرة في أوليات حساباته باعتبارها غاية، لأنها في النتيجة تأتي تحصيل حاصل لما يبذله من تعب ومثابرة، ولكن مثل هذا النموذج من الكتُّاب، إذا ما طرحه على نفسه، إنما يدفعه إلى ذلك طموحه في أن يجتاز حدود المحلية، وهذا حق مشروع إذا ما فكر فيه، بل لا بد أن يكون ضمن قائمة اهتماماته، فما يسعى إليه الروائيون على تنوع واختلاف شخصياتهم، أن يصل نتاجهم إلى ما هو أبعد من حدود الرقعة الجغرافية المحلية.

عناصر أخرى في التقييم

إذا ما تجاوزنا مسألة اللغة، التي تمثل عنصرا جوهريا في هذا الموضوع لكونها أداة التواصل مع الآخرين، فإن عصرنا الراهن طرح عناصر أخرى لا تقل أهمية عن اللغة، إن لم تتفوق عليها، من حيث التأثير بات يعوّل عليها في الأخذ بالنتاج الروائي إلى مستوى الانتشار العالمي، بغض النظر عن المستوى الفني، وما قد تحمله الرواية من مغامرة فنية على مستوى الأسلوب والرؤية والتقنيات التي انحاز إليها الكاتب، أو اجترحها في مغامرته السردية، وهذه المحددات أو العناصر أمست تتحكم بقدر واضح بالعديد من الكتّاب الطامحين إلى أفق العالمية، حتى لو كان ذلك على حساب تخليهم عن معايير فنية تمثل بالنسبة لهم أدوات اشتغالهم الذاتي، وخصوصية أسلوبهم في السرد الروائي، ولا غرابة في أن يخضع هؤلاء إلى اشتراطات تلك المحددات الخارجية، طالما ليس لديهم خيار آخر، وإلا سيجدون أنفسهم خارج حلبة السباق المحموم المؤدي إلى منصة التتويج العالمي.
اليوم نحن أمام جملة علاقات متشابكة تجمع بين السياسة والاقتصاد، ولا صلة تجمعها بعالم الأدب، هي التي تضع علامات الطريق أمام الروائيين، إذا ما كانت أعينهم ترنو ناحية المنصة العالمية.
هذه الإشكالية تم تناولها في مقال ضمن سلسلة مقالات جمعتها بعناية شديدة في كتاب بعد أن تولت ترجمتها الروائية العراقية لطفية الدليمي، وقد صدر عام 2019 عن مؤسسة المدى وحمل عنوان «اكتمال العالم» توزعت موضوعات المقالات حول «الأدب والرواية والمواطنة العالمية، والأدب مابعد الكولونيالي، وروايات القرن الحادي والعشرين، والسجالات المستمرة حول وظيفة الأدب وماهية المعرفة، وأسئلة السعادة الإنسانية».

آدم كيرش: دفاعا عن الروائي العالمي

في ما يتعلق بإشكالية العالمية، فقد تناولها بشكل مستفيض الناقد آدم كيرش، في مقال مهم سبق أن نشره في صحيفة «فاينانشيال تايمز» بتاريخ 7 إبريل/نيسان 2017، حمل عنوان «دفاعا عن الروائي العالمي». والمقدمة التي وضعتها الدليمي عن الشاعر والناقد كيرش تشير إلى أنه ولد عام 1976 ويعمل مشاركا دائما في الحلقة النقاشية الأدبية لمركز الدراسات الأمريكية التابع لجامعة كولومبيا.
وبعد مناقشته العوامل التي تجعل هذا النص عالميا وليس ذاك النص، فإن كيرش يضع الترجمة في مقدمة الأسباب التي توفر مثل هذه الفرصة لعمل روائي معين، ربما يكون هذا العمل متواضعا بالقياس إلى أعمال أخرى، ويحظى بالانتشار والشهرة، بينما لا تتوفر فيه جوانب فنية تؤهله لأن ينال هذه الشهرة الواسعة، فيمضي كيرش بهذا الصدد قائلا: «عندما نتناول بالحديث الرواية العالمية – على سبيل المثال وحسب – فنحن إنما نتحدث في واقع الحال عن مجموعة صغيرة من الروايات التي ترجمت إلى لغات عدة، خاصة الإنكليزية والفرنسية، بفعل الحظ الطيب أو لأسباب أخرى، وهكذا صارت هذه الروايات موضوع مباحث شتى بعد أن أشبعت نقاشا على المستوى العالمي».

التشكيك بالآليات

لا يكتفي كيرش بهذا السبب لتفسير هذه الظاهرة، إنما يتوسع في تحليله ويذهب بعيدا في الكشف عما هو أبعد من الترجمة، إلى ما يرتبط بشبكة علاقات يضعها في خانة أقرب إلى الشبهات والغموض، وهذا يعني أن مصداقية تلك الأعمال وأهميتها المزعومة، ستكون تحت طائلة التشكيك وعدم المصداقية، فيقول: «لكن الآليات المؤسساتية التي يتم بموجبها وتحت رعايتها الاحتفاء بنخبة مختارة من المؤلفين والروائيين، تظل غامضة وغير مفهومة على نطاق واسع، ولهذا السبب فهي عرضة للشبهات والتشكك على الدوام». ثم يمضي كيرش محاولا الكشف عن المقاسات غير الفنية التي تضعها جهات مؤسساتية لا تربطها صلة بالعملية الإبداعية، فيطرح أسئلة هي أقرب إلى أن تكون اتهامات، أكثر مما هي أسئلة تبحث عن إجابات: «هل أن الكتب التي أتاح لنا الحظ فرصة قراءتها مثل روايات أورهان باموق، أو روبرتو بولانيو، أو ايلينا فيرانتي، هي حقا الأفضل والأكثر أصالة بين الروايات الأخرى المكتوبة باللغات ذاتها التي كتبت بها هذه الروايات؟ أم أنها ببساطة الروايات التي تناغمت مع الحسابات التجارية القائمة وحسب؟»، ونحن هنا أيضا نتساءل هل الروايات التي نالت الجوائز في المسابقات، التي تقام في المنطقة العربية، هل حقا كانت هي الأفضل؟ أم أنها تناغمت مع الحسابات التجارية القائمة؟

الجوائز ومعايير النظام العالمي

ولكي يبدد كيرش الغموض حول هذه الظاهرة، ويستجلي ملابساتها ومعانيها، ولكي لا تبقى أسئلته تدور في فلك إطلاق الشبهات، حول الأسباب التي جعلت من أسماء معينة يرتفع رصيدها من القرَّاء، ليتجاوز المحلية إلى العالمية نراه يستعين بما قالته المنظرة الأدبية أميلي أبتر، التي تعد من وجهة نظره مرجعية مهمة في موضوع الأدب العالمي، إذ تشير أبتر إلى هذه المعضلة عندما تبدي شكواها بشأن المظاهر الاحتفالية تجاه الاختلافات ذات البصمة الإثنية، أو القومية التي باتت تسوّق في يومنا هذا، بعد أن تم تسليعها تجاريا تحت يافطة الهويات المسكوت عنها.
يتصدى كيرش إلى قضية بغاية الحساسية، المتعلقة بموضوع الأقليات والهويات الفرعية المسكوت عنها، التي أمست في النظام العالمي الجديد تتصدر ركنا أساسيا من أجندة المؤسسات التي يرعاها هذا النظام، ويضعها في مقدمة أولوياته، وهذا ما يتضح بشكل جلي في معظم المهرجانات والمسابقات الدولية الإبداعية، التي تقام في العالم الغربي، حيث ينال موضوع الأقليات أولوية قصوى في التقييم ونيل فرص الدعم والجوائز، وغالبا ما تكون على حساب الجانب الفني، ويصل في قراءته الواقعية لهذه الظاهرة، التي تبدو لدى البعض متشائمة إلى أن «الكتب التي تقف موقفا مضادا من هذه الهويات المسبَّقةِ التصنيع، لن تجد فرصة الترجمة والانتشار العالمي، بل ربما لن تجد من يكتبها على الإطلاق، بعد أن بات الكتَّاب على اختلاف لغاتهم، مدركين للتوقعات التي تتطلبها السوق العالمية، وإذا كان الحال على هذه الشاكلة فستعاني الرواية العالمية من معضلة محاولة الكُتَّاب جعلها تعني كل الأشياء التي يسعى لها كل القراء في شتى مناطق العالم.
وفي إطار توكيد وجهة نظره ودعمها بآراء تقف خلفها أسماء لها أهميتها في عالم النقد، يستعين بما كتبه الناقد تيم باركس «منذ اللحظة الأولى التي يدرك فيها الكاتب أنه يخاطب جمهورا عالميا بدل الجمهور المحلي، الذي اعتاده، فإن طبيعة كتابته ستكون عرضة لتغيير جوهري ويلحظ المرء بخاصة، ميلا طاغيا للكتاب لإزاحة كل العوائق المحلية المفترضة التي تقف عائقا أمام الفهم العالمي».

النسق النيوليبرالي وتدجين الثقافة

في مثل هذا المناخ الذي تطرح فيه الآراء والأسئلة حول المعايير التي تم اعتمادها، لكي تسلط الأضواء على أسماء بعينها، يتوخى كيرش الوصول إلى أن يقنع القارئ بوجهة نظره، فيطرح لأجل ذلك أمثلة معاصرة «لطالما ترددت هذه التهمة الأدبية غالبا، وأشهرت بوجه أعمال الكاتب هاروكي موراكامي، الذي صار يعتمد لغة تبسيطية موغلة في الاستسهال الأدبي، على حد زعم مجايليه من الكتاب اليابانيين الآخرين، من المؤكد أن خيارات موراكامي المفضلة على الصعيد الثقافي هي غربية الطابع في الغالب، ولكن هل هذه اللغة التبسيطية والاستسهال الأدبي المفرط هي الأسباب التي جعلت موراكامي كاتبا ذائع الشهرة في الغرب، أكثر بكثير من الروائي الياباني كينزا بورو أوي الحاصل على جائزة نوبل؟ وكيف يمكن للقارئ غير الياباني مساءلة مثل هذه الموضوعات لوحده من غير معونة أو وساطة؟».
وبحسب رؤية كيرش لهذه المسألة فإنه يرى أن «أي منتج أدبي ينال حظوة واحتفاء من جانب النظام الرأسمالي العالمي، لابد أن يتم تحييده، ومن ثم تدجينه من جانب النسق النيوليبرالي المتغول الحاكم في العالم». ويصل في رؤيته هذه إلى أنه يجد كل ناشري الكتب في العالم الغربي هم في حقيقتهم أذرع صغيرة للتجمعات الرأسمالية العملاقة، وأن الاحتفاليات الأدبية التي تحتفي بالأدب العالمي، إنما تحصل بفعل التمويل السخي لكبريات الشركات الرأسمالية في العالم.

يطرح كيرش تساؤلات في غاية الأهمية: «كيف يمكننا أن نتوقع في حالة مثل هذه الحالة، أن يحظى عمل ذو رؤية راديكالية أصيلة، أو مخالفة للسائد، أو خارجة عن السياق العام، بمباركة وتعضيد مثل هذه القوى المالية المتغولة؟

منتج يتواءم مع الصناعة الثقافية

الصورة الآن لا تحتاج إلى توضيح أكثر من وجهة نظر كيرش، فالنيوليبرالية تمارس دورا خطيرا في تدجين الثقافة العالمية، وهذا الدور يتزامن مع خطورة دورها الاقتصادي في ابتلاع ثروات البلدان النامية ومحو قدراتها الإنتاجية، وتحويلها إلى سوق لتصريف بضاعتها، ولن يكتمل هذا الدور الاقتصادي الاستلابي، إلا بعد أن يتحول النتاج الإبداعي، وفي مقدمته الرواية «بمثابة منكهات مطيبة لمعالجة الخيبة، وقلة الحيلة والتمكين، وواضحة تماما تلك الحقيقة المؤكدة بشأن كون الرواية التي تنال نجاحا حول العالم، أكثر من روايات أخرى – بحسب أعداد القراء – وحسب هي منتج يتواءم مع متطلبات الصناعة الثقافية السائدة بأعظم مما تفعل الأعمال الفنية».
وبناء على هذا التصور فإن كيرش يطرح تساؤلات في غاية الأهمية: «كيف يمكننا أن نتوقع في حالة مثل هذه الحالة، أن يحظى عمل ذو رؤية راديكالية أصيلة، أو مخالفة للسائد، أو خارجة عن السياق العام، بمباركة وتعضيد مثل هذه القوى المالية المتغولة؟ ألا ينبغي جعل الأدب العالمي مصاغا في قوالب قياسية بعيدة عن منافسة وتهديد الأنساق النيوليبرالية السائدة، تماما مثل حالة محلات (الستار باكس) أو مطاعم وجبات (ماكدونالدز) السريعة حيث يتشابه الحال على نطاق عولمي في أبو ظبي وسياتل وشانغهاي؟
لا بد أن نشير مرة أخرى إلى أن الروائية لطفية الدليمي، في كلمتها التي وضعتها مقدمة للكتاب، تشير فيها إلى أن هذا الإصدار يقترح خريطة قراءات معاصرة في عالم الأدب، ويضم فصولا مختارة من كتب حديثة تهم الدارسين والباحثين، وافتتحت كتابها بمقال يعد تاريخيا للروائية والناقدة فرجينيا وولف بعنوان «الرواية الحديثة»، ومن ضمن محتويات الكتاب الأخرى العناوين الآتية: «مثابات في فن الرواية» مارينا ماك كاي، «من معالم الأدب ما بعد الكولونيالي» لين إينيس، «رواية القرن الحادي والعشرين» بيتربوكسول، «الأدب والفلسفة، وأسئلة الحقيقة والمعرفة» أنتوني جي كاسكاردي، «الروائي طفلا: مشاهد من طفولة الكاتب نغوغي واثيونغو» نغوغي واثيونغو، «الأدب بين الإسمية والواقعية» تيري أيغلتون ، «السعادة في حياة الروائي: الحياة السعيدة كما يراها ديفيد معلوف» ديفيد معلوف.

 

٭ كاتب عراقي

جريدة القدس