المرض هو الجانب المظلم من الحياة، المواطنة الأكثر مشقة. كل شخصٍ ولد وهو يحمل جنسيةً مزدوجةً، في مملكة الصحة، وفى مملكة المرض. على الرغم من أننا جميعًا نفضل استخدام جواز السفر الطيب. عاجلًا أو آجلًا، كلٌ منا مجبر ولو لمرةٍ واحدةٍ على الأقل أن يعرّف نفسه كمواطنٍ في الجانب الآخر.
أريد أن أصف، ليس فقط ماذا يشبه حقيقة أن تهاجر إلى مملكة المرض، وأن تعيش هناك، بل أيضًا الأوهام العقابية والعاطفية الملفّقة حول هذا الوضع: ليست الجغرافيا المادية، بل الصورة النمطية للشخصية.
موضوعي ليس المرض الجسماني نفسه، إنما استخدامات المرض كشكلٍ، كاستعارةٍ. ما أود أن أشير إليه هو أن المرض ليس استعارة، وأن ذلك هو الطريق الأكثر صدقًا فيما يتعلق بالمرض، والطريق الأصح في أن تكون مريضًا، وكذلك الأكثر تطهرًا، ومقاومةً للتفكير المجازي.
وبعد، من الصعب تولي الإقامة في مملكة المرض دون تحامل بالمجازات الصارخة، التي صُورت كمناظرَ طبيعيةٍ.
بهدف إيضاح هذه الاستعارات، ولأجل التحرر منها، أكرس هذا التحقيق.
-١-
مرضان ارتهنا بشكلٍ مذهلٍ، وبالمثل، بزخارفَ الاستعارةِ: السل والسرطان.
التصورات المستوحاة من مرضِ السلِ في القرن الماضي، من السرطان الآن، هي استجابات لمرضٍ يُعتقد أنه مستعصٍ ومتقلب–المرض، ليس الفهم–في عصر تُمثل فيه الفرضية المركزية للطب أن كل الأمراض يمكن أن تعالَج. مثل هذ المرض غامض بالتعريف، طالما كان سببه غير مفهومٍ، وبقي عون الأطباءِ غير فعالٍ. لقد اعْتُقِدَ أن السل هو المرض الأشد خبثًا، وأنه السارق العنيد للأرواحِ. الآن، هذا هو منعطف السرطان ليكون المرض الذي لا يطرق الباب قبل الدخول، شَغَل السرطان دور المرض كخبرةٍ عديمة الرحمة، كانتهاكٍ غامضٍ. هذا الدور سوف يستمر إلى يوم تتضح أسباب المرض، وعلاجاته الفعالة مثلما سبق أن اكتُشِفَتْ علاجات السل.
على الرغم من أن طريقة تحديد المرض الغامض قد تَمّت على خلفيةٍ من التوقعات الجديدة، فإن المرض نفسه (مرة السل، السرطان اليوم) أيقظ بشدة طرزًا قديمة من الفزعِ.
أي مرض عُولج كمرضٍ غامضٍ ومخيفٍ بما فيه الكفاية سوف يستشعر أخلاقيًا، إن لم يكن حرفيًا، مُعديًا. وهكذا، وبشكلٍ مثيرٍ للدهشة، عددٌ كبيرٌ من الناسِ المصابين بالسرطان وجدوا أنفسهم يُتَجَنّبُون من قبل أقاربهم وأصدقائهم، ويتحولون إلى موضوع لممارسات التطهير من التلوث بواسطة أهل المنزل، كما لو كان السرطان معديًا مثل مرض السل.
ربطًا بشخص مبتلى بمرضٍ يُنظر إليه كمرضٍ غامضٍ، سَيُرَى حتمًا كتعدٍ على حرمة الغيرِ، أسوأ من ذلك كانتهاكٍ للحرمات. تشعر أن هذه الأمراض تمتلك قوة سحرية.
في رواية ستندال “أرمانس” الصادرة سنة ١٨٢٧ ترفض أم البطل أن تنطق كلمة “السل” خشية أن يؤدى نطق الكلمة إلى تعجيل مسار مرض ابنها.
لاحظ الدكتور ميننجر في كتابه “التوازن الجوهري” THE VITAL BALANCE أن كلمة سرطان هي أكثر كلمة قيلت لقتل بعض المرضى الذين ما كان لهم أن يستسلموا سريعًا جدًا للأورامِ الخبيثةِ التي يعانون منها.
هذه الملاحظة قيلت لدعم الثقافة المضادة للورع الديني، والشفقة السطحية، وكذلك أيضًا الغالب في الطبِ المعاصر والطب النفسي. “المرضى الذين استشارونا فيما يعانون منه، في محنتهم، وعجزهم،” واصل دكتور ميننجر، “لهم كل الحق في الامتعاضِ من لصقهم ببطاقةِ متابعةٍ لعينةٍ.”
الدكتور ميننجر يوصى الأطباء عمومًا بالتخلي عن “الأسماء” و“المسميات” (“وظيفتنا هي مساعدة هؤلاء الناس وليس ابتلائهم”) الأمر الذى عنى فى الحقيقة زيادة السرية، والرعاية الطبية الرحيمة، والتسمية على هذا النحو لن تكون ازدراءًا أو لعنةً، ولكنه مسمى السرطان.
ما ادام يتم التعامل مع مرض معين كمفترسٍ شريرٍ لا يُقهر، وليس فقط مجرد مرض، فإن أغلب المصابين بالسرطان سوف تنهار معنوياتهم حقًا إذا ما علموا أى مرض هو مرضهم.
الحل ليس فى التوقف بالكاد عن إخبار مرضى السرطان بالحقيقة، لكن فى تصحيح مفهوم المرض، عبر تدمير أسطورته.
متى؟ ليس منذ عدة عقود، أن تعلم أن شخصًا مصابٌ بمرض السل كان معادلا لسماع حكم الإعدام–مثلما يساوي السرطان اليوم فى المخيال الشعبي الموت–كان شائعًا التكتم على حقيقة الإصابة بمرض السل، وبعد الموت تُخفى الحقيقة حتى عن الأبناء، حتى مع المرضى الذين أحيطوا علمًا بحقيقةِ مرضهم. كلٌ من الأطباءِ والعائلةِ كانوا غير مستعدين للكلام بحريةٍ عن الموضوع.
كتب كافكا لصديقٍ فى أبريل ١٩٢٤من مصحةٍ سوف يموت فيها بعد نحو شهرين “شفاهياً، أنا لا أفهم أى شىء محدد، ففور مناقشة مرض السل الجميع يسقطون فى الخجل، فى أسلوب الكلام المراوغ بعيون زجاجيةٍ“.
تقاليد التمويه على السرطان كانت أكثر تعقيدًا.
فى فرنسا وإيطاليا لازالت القاعدة بالنسبة للأطباء هي توصيل تشخيص السرطان لعائلة المريض، وليس للمريض نفسه. يعتبر الأطباء أن الحقيقة سوف تكون غير محتملةٍ للجميعِ، ولكن بشكل استثنائى للناضجين، وللمرضى الأذكياء. طبيبٌ فرنسىٌ رائدٌ فى مجال الأورام أخبرنى أن أقل من عُشر مرضاه يعلمون أن لديهم سرطان.
فى أمريكا، جزئيًا بسبب الخوف من دعاوى إساءة التصرفِ، هناك المزيد من الصراحةِ مع المرضى، ولكن البريد الروتينى والاتصالات والفواتير الخاصة بالمرضى الخارجيين، والصادرة من أكبر مستشفيات البلاد فى علاج المرض، توضع فى مظاريف لا تكشف عن المرسلِ على افتراضِ أن المرض قد يكون سرًا حتى بالنسبة لعائلاتهم.
عند الإصابة بالسرطان، يمكن أن يكون ذلك فضيحة تهدد حياة المرء، فرصته فى الترقي، أو حتى الحصول على وظيفةٍ واحدةٍ، المرضى الذين يعرفون بماذا أصيبوا يميلون الى الاحتشام الصارم إذا لم تكن السرية التامة حول مرضهم. قانون حرية المعلومات الفيدرالي الصادر سنة ١٩٦٦ نوّه إلى أن “معاملة السرطان فى بند استثنائى بعيدًا عن قواعد كشف السرية، جعل إفشاء سرية المرضِ بمثابة انتهاكٍ غير مبررٍ للخصوصية الشخصية.”
هذا هو المرض الوحيد المذكور فى القانون.
كل هذا الكذب حول مرضى السرطان، هو مقياس لمدى صعوبة ما أصبح عليه الوضع فى المجتمعات الصناعية المتقدمة للتصالح مع الموت. طالما صار الموت على نحو كريه حدثًا بلا معنى، يعد السرطان على نطاق واسع مرادفا للموت، وقد اختبر كشىءٍ ينبغى الاختباء منه.
سياسة المواربة حول طبيعة المرض مع مرضى السرطان، يعكس قناعةً مؤداها أن الناس الذين يموتون هم أفضل حالًا بمنأى عن أخبار أنهم يموتون، وأن الموت الجيد هو الموت المفاجئ، والأفضل على الإطلاق هو الذي يحدث بينما نحن غير واعين أو نائمين.
وبعد، الفكرة الحديثة عن الحرمان من الموت لا تفسر مدى الكذب، والرغبة فى الكذب، لا يمكن لهذه الفكرة أن تلمس أعمق طبقات الرعبِ.
فى حين أن شخصًا ما سبق إصابته بالشريان التاجى هو أقرب احتمالًا –فى نظر شخص آخر– للوفاة خلال بضع سنوات، فإنه بالنسبة للشخص المصاب بالسرطان من المرجح أن يموت سريعًا.
ولكن لا أحد يفكرُ فى إخفاءِ الحقيقةِ عن مريضِ القلب: لايوجد شىءٌ مخجلٌ فى الأزمة القلبية. مرضى السرطان يُكذب عليهم، ليس لأن المرض كما يعتقد هو حكم بالإعدام ولكن لأن المرض يستشعر على أنه فاحشٌ بالمعنى الأصلى للكلمة: مشؤومٌ، ملعونُ، قبيح المنظر. مرض القلب يعنى الضعف، المتاعب، الفشل الوظيفى. لايوجد شىء مخزى، لاشىء يتعلق بالمحرمات التى أحاطت مرة واحدة المرضى المبتلين بالسل، واستمرت لتحيط بهؤلاء المصابين بالسرطان. الاستعارات المرتبطة بالسلِ والسرطانِ تنطوى على عمليات حيةٍ من رنينٍ خاصٍ ذى طبيعةٍ بغيضةٍ.
(هذا قسم من نص “المرض كاستعارة” لسوزان سونتاج (١٩٧٨)، وقد أعيد نشر هذه الترجمة منقحة ومطولة في موقع بوابة مدينة)