هكذا أفترض، أو هي واحدة من الشطحات بوصفها فكراً تحاول أن تكوّن خطاباً يشتغل في حياتِنا اليوم بعمومِها والكتابة للمسرح بشكلٍ خاص، هذه الشطحات تُعلن سقوط العالمِ بعد أن احتلهُ فايروس كورونا المتناهي الصغر! وبدأت حكاية انهزامِ الإنسان السوبرمان وتحوّله الى قزمٍ يبحثُ عن منقذٍ غيبي أو علمي يحفظ ماء وجهه من هذه الهزيمة النكراء بعد قرونٍ من التباهي والغرور والتفاخر والسوبرمانيات، فعالم ما قبل كورونا لم يكن سوى عالمٍ بشعٍ، ظلامي، عسكرتاري، قامع للإنسان المسالم والطيب، عالمٍ مأزومٍ لا يجد سوى الحروب حلولاً لصراعاتٍ هي أصلا صراع (الحكومات) مع بعضها الآخر والتي تُحوِّلها تلك السلطات من قضايا شخصية محكومة بالأمزجة المريضة.. الى صراعِ شعوبٍ مع بعضها الآخر، وتؤكد مباشرة بأنها حروبٌ مقدسة، وبالمقابل لا نجد فيها سوى نزفِ دماءٍ متواصل، ويمسي المقتول شهيداً من كلا الطرفين بلمح البصر! وتصبح الحياة بلا معنى، عالمٍ يفتخر الى حد كبير بآخر صياحات الأسلحة والصواريخ العابرة للقارات، وهو يرى القنابل النووية -في واحدة من أهم المفارقات- أعظم اكتشافٍ لصنع السلام على كرتنا الأرضية! وتبرر الدول ما يسمى بـ(العظمى) ذلك لخلق توازنٍ على مستوى الأقطاب لقيادة الكون. سقط العالم بعد تلك الرحلة الطويلة والمخيفة التي أنتجت لنا كوارث سحقت الانسان وجعلته مأزوما على طول خط حياته، مقموعاً بفعل الدكتاتوريات، وبات العلم أحد المصادر المرعبة بيد السلطات لتهديد البشرية من أقصاها الى أقصاها، ومن هنا لابدَّ أن نطرح سؤالاً اشكالياً مفاده: أن هذا السقوط.. هل سينتج لنا (عصر نهضة) جديد؟ بمعنى.. هل يمكن أن يُشعل ضوءً أخضر في طريق الانسان بعد قرون من الدماء والصراعات التي بدأت باكتشاف السيف وانتهت بصيحات القنابل النووية وأخواتها؟! سؤالٌ على درجةٍ كبيرةٍ من الأهمية والخطورة؛ فعصر النهضة الأول جاء بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية في العصور الوسطى عام 476م، أي بعد رحلةٍ طويلةٍ من الحروبِ والأوبئة كالموت الأسود أو الطاعون والفقر والاضطهاد الديني والسياسي وسواها؛ فكان العالم على غير موعدٍ مع حركةٍ ثقافيةٍ سُميت فيما بعد بـ(عصر النهضة) والتي خرج من معطفها جملة من التشكيليين العالميين أمثال ليوناردو دافينشي ورافائيل وساندرو بوتيتشيلي ويقف على رأسهم مايكل أنجلو في ايطاليا بأعماله النحتية الشهيرة التي حوّلت روما العاصمة الى متحف كبير مع مجايليه وسواهم من التشكيليين الكبار، وظهرت أسماء بارزة من كتّاب المسرح مازالوا حاضرين في عالمنا المعاصر اليوم كأنهم يعيشون مشكلاتنا اليومية ويطرحون الأسئلة نفسها التي طرحوها بنصوصهم آنذاك.. مثل كورني وراسين وموليير في فرنسا، وشكسبير وبن جونسون وكريستوفر مارلو وروبرت جرين في انكلترا.. وسواهم. وراح عصر النهضة يُعيد قراءة الآداب اليونانية والرومانية القديمة من جديد ليتحوّل الى مُنتج ثقافي بعد ركود طويل بدأ من ايطاليا ليجتاح أوروبا فيما بعد بشكل واسع. هذا السؤال الجوهري اليوم يبدو ماثلاً ليؤكد هل نحن باتجاه عصر نهضة جديد فعلاً ما بعد كورونا أم أن هذا الانهيار سيذهب باتجاه صراعات اقتصادية وسياسية تضع الحافر على الحافر، والرصاصة على الرصاصة، أيُّ حروبٍ على حروبٍ باردة أو ساخنة أخرى شعارها (الاقتصاد) المقدس هذه المرّة! ومن يقتل من أجله سيذهب شهيداً يضاف الى قوائم طويلة جداً من القتلى في حروب ستدرك الاجيال القادمة أنها بلا معنى على الإطلاق كما أدركت الأجيال اليوم أن كل الحروب السابقة لم تكن سوى حروب تحكم فيها المزاج الشخصي لطرفي النزاع من الحكام، أي أن هذا المفصل التاريخي هل سيذهب باتجاه أن يكون محفزاً للفن عموما والمسرح بشكل خاص، أم سيلتزم كتاب المسرح الصمت أمام هذا الحدث الذي أطاح بالكثير من الطروحات السياسية والاقتصادية والدينية وبرزت حياة العزلة التي يعيشها العالم اليوم، عزلة الإنسان وسط مخاوف غيبية برزت على السطح؟ وقد يجد البعض أن عصر النهضة يبدو بعيداً عن عالمنا اليوم وعلينا أن نرى أن موقفنا اليوم -كما أراه- يقترب الى حد ما من أعوام 1939-1945 وسط المحرقة وهذا رأي أكثر سخونة، فمازلنا نسمع أزيز الرصاص، ودوي المدافع وهدير الدبابات وسقوط ملايين الصواريخ عبر الطائرات على مدنٍ هدّمت على أهلها، شاركت فيها الغالبية من دول العالم منها الدول العظمى في حلفين عسكريين متنازعين هما قوات الحلفاء ودول المحور*. ويبرز السؤال نفسه ربما الآن.. ما الذي يحدث؟ هكذا قال العالم بصوت واحد كأننا جوقة اغريقية، كما طرحه الفرنسي صاموئيل بيكت في روح نص (في انتظار غودو) التي كتبه مطلع عام 1949 أي بعد الحرب بأربع سنوات تقريباً وأول عرض له عام 1953.. من خلال مقولته (لا شيء يحدث) بالرغم من أن كل شيء قد حدث! فهل يمكن اليوم أن نجد أي مبرر صغير جداً لنشوب حربين عالميتين راح ضحيتهما ما بين (62-78) مليون من الرجال والنساء والأطفال.. أولئك الذين قتلوا دون أن يعرفوا سبباً حقيقياً لتلك الحرب؟ كما لا نعرف اليوم ما الذي حدث هكذا دون موعد وبدأت الآلاف تموت بفايروس كورونا ولكن هذه المرة دون رصاصة واحدة، فمن يقف وراء كل هذا؟! الإشكالية الكبرى أن النص المسرحي ما بعد 1945 أشار الى السنة التي أطلقت عليها بـ(صفر) كما أزعم أو هو توصيف نقدي أطلقهُ الآن مع تصورات قادمة لنص مسرحي يدرك فداحة ما حدث. كتاب المسرح ما بعد تلك الحرب مسكوا (معولاً) عملاقاً وهدموا كل المقاسات التي جُبلت عليها النصوص المسرحية منذ الإغريق وراح هذا المعول يهدم ليبني ويقترح آفاقاً جديدةً تماما لنص مسرحي يحاول أن يستوعب ما حدث فعلاً، هكذا أرى أننا نعيش الآن لحظة انطلاق آخر رصاصة أو صاروخ مدفع وسقوط ألمانيا النازية بيد السوفيت بعد حصار برلين وانتحار هتلر والعديد من أتباعه. مسرحياً.. السنة صفر قادها كتّاب المسرح بوصفهم شهود عيان على تلك المحرقة، وبالرغم من أن جميع الكتاب لم يكونوا على موعد أو اتفاق على شكل الكتابة القادم، وتوزّعوا على جغرافيا واسعة في أوربا وامريكا، وأحدهم لم يلتقِ بالآخر ليتفقوا على روح النص المسرحي القادم والخارج من جحيم الحرب.. إلاّ ان الناقد مارتن إيسلن** حسم الموضوع وأطلاق على تلك الكتابات بمسرح اللامعقول، وقد اتسمت تلك الأعمال بأسئلة كثيرة خارجة من جحيم تلك السنوات، انتظار لا جدوى منه لمخلِّص يجلب العدالة الى الأرض بعد أن تسيّد الظلم، انعدام القدرة على الحوار مع الآخر بعد أن فقدت اللغة قدرتها على التواصل، وخلق السلام بين شعوب الأرض، مخاوف وقلق ورعب من عدو سيرسل قنابل نووية أخرى دون رادع إنساني أو أخلاقي، هوس العالم بالأقبية تحت الأرض أو الغرف والأمكنة المنعزلة، تجد شخصيات تلك النصوص مأزومة لا تملك القدرة على الحلم بعد أن فقدت الأمل، فلا نجد مغنية صلعاء ليوجين يونسكو في هذا النص على الإطلاق، الذي نراه فقط مستر سميث الذي يقرأ في صحيفة ما ربما قديمة غير مبال بـ مدام سميث التي تتحدث معه عن الطبخ ومواضيع تافهة أخرى، حتى الإطفائي الذي جاء ليطفئ نار الحريق في بيتهم لم يجد حريقاً بالمعنى الذي يريد، بل هو حريق الغربة التي تعيشها الشخصيات داخل محيط العائلة، فيجد نفسه عاطلاً عن الفعل، إنها الحياة غير القادرة على تكوين معنى، فيونسكو كمثال يرى بأن مسرحياته تأثرت بمسخ كافكا، إنها مزيج من أحلامه وكوابيس الحياة التي تشير الى صراعات وخلافات تجعل حياتنا أشبه بسلسلة من الكوابيس، ومن بولندا التي تقع تحت تأثير الاحتلال الألماني النازي التي انطلقت منها لمحاربة السوفييت.. خرج صوت المخرج البولوني (تاديوش كانتور) ليعلن عن (مسرح الموت) ويقدم عروضه المسرحية بثلاثيته الشهيرة (صف الموتى، لن أعود أبداً، اليوم عيد ميلادي) وتجد في هذه الأعمال وغيرها مجموعة من المشتركات تشير للقتل والتعذيب وغرف الغاز والموت الجماعي والصلب، لا تحكم تلك العروض الى اللغة إلاّ قليلاً بقدر ما نسمع أصواتاً داخليا موجعة تطلقها الشخصيات الواقعة تحت تأثير الحرب العالمية الثانية، ونرى بألم مراسيم عقد قرآن بين جندي بملابسه العسكرية الذاهب الى الجحيم، وعروسه بوجهها الأصفر وخوفها وجسدها الناحل، فلا زواج في حضرة الصواريخ والقتل الجماعي، حتى موسيقى العروض لم تكن سوى موسيقى جنائزية تلك التي تُعزف في حضرة الجنائز. كُلُّ هذا أيمكن أن يكون له تمثّل اليوم من قبل كتّاب المسرح عربياً وعالمياً والنظر لهذا الحدث بكونه مفصلياً في حياتنا، وتحفيز خيالنا باتجاه كتابة نصوص مسرحية بحجم الكارثة، وتستوعب فكرة الموت الجديدة لتصنع منها حياة مشرقة أو على أقل تقدير تشعل شمعة أمل في ظلام هذا الكون؟
الانسان الزراعي:
يبدو لي أن هذا العنوان يحتاج الى فهمٍ هادئ، فالوحشية التي غرق بها العالم حوّلت الكائنات ومن ضِمنها الانسان الى آلاتٍ يابسةٍ لا روح فيها، جردتهُ من براءته الأولى وجعلت منه مجموعة من الأزرار تتحكم بمصيره جاعلة منه أسيراً لها، تلك الوحشية التي ترفع يافطة (الانسان العسكري) الذي شطبت على فطرته التي ولدت معه، أو مع لحظة وجوده الأول ككائن على الأرض، ومن هنا نجد.. حتى الحيوانات قسّمها الإنسان العسكري الى مفترس وآخر أليف حتى يمكن لها أن تسير وفق السياق الذي يفكر فيه، ولم تتخلص حتى الحيوانات التي أطلق عليها بالأليفة من أفكاره العسكرتارية، فراح يطعمها بمكونات غذائية (صناعية) جعلتها أقرب للمفترس في نموه ووجوده أيضاً، ففكرة الافتراس -كما هكذا أفكر- لم تكن سائدة مع بدء وضع أقدام الإنسان على الأرض! إذ نجد الحيوانات بشتى تسمياتها كانت تعيش مع الانسان الزراعي وتتآلف معه بشكل يومي، وهي جزء من حياته التي استخدمها بالزراعة وحملِ الاثقال وسواها. وإذا توقفنا قليلاً أمام الديناصورات كحيوان بدائي يومها سنجده غير آكلٍ للحوم بطبيعة الحال وهذا الأمر ينعكس على طريقة عيشها وسلوكها الآليف.. ولكن ظلال وحشية الانسان أثرت في بنية هذه الحيوانات وصارت تفترس على طريقة البشر لتدافع عن نفسها على أقل تقدير، ومن ثم بدأت رحلة الافتراس الطويلة من أجل الغذاء، ورفع الانسان العسكري شعاراً بعد ذلك مفاده.. الصراع من أجل البقاء، في حين أصل الوجود –كما أرى- كله قد بُني على فكرة السلام والتعايش مع بعض والتي تحتِّم أن تنتجَ الأمان والعيش بمحبة.. لا فكرة الصراع التي تنتج الخوف ومن ثم الدفاع والقتل أو الافتراس وهذه مفردات لا معقولة، أما من يؤكد أن فكرة الوجود بُنيت أصلاً على الصراع مع الآخر.. سنجد أنفسنا أمام فكرة عبثية الحياة الذي قذف فيها الانسان الى الأرض من أجل أن يتقاتل ويسفك الدماء ويموت مقتولاً.. وتلك لا تُعطي معنىً فاضلاً لأصل الوجود وسنذهب باتجاه العدمية واللاجدوى من الحياة تماما!
ومع تفاقم وجود الانسان العسكري بأفعاله المروّعة راح المسرح في العالم يتأثر بقضاياه وعوالمه وتطلعاته بسحق الانسان الزراعي وجرّه الى منطقته بشتى الوسائل المغرية واخرى قسرية تتماشى مع شكل الحياة الجديد الذي أراده هذا الانسان، وهو يخلع ثياب البراءة ويرتدي ثياباً هي أصلاً على شكل أقنعة يظهر بها للتضليل على قبح شكله وشره المُضمر، لذلك تجد المسرح بات يميل لطرح قضايا ترتبط بالمشكلات الكبرى التي أنتجها المشهد السياسي في العالم، حتى تلك النصوص التي نراها تخرج من عباءة العائلة الواحدة بوصفها قضايا اجتماعية في ظاهرها، ولكن المُضمر يشير الى الأثر السياسي البالغ الذي أنتج هكذا قضايا، ولو أجرينا احصاء للنصوص والعروض التي قدمت منذ نهاية الحرب العالمية الأولى والثانية الى عام 2020 زمن هذه الكتابة.. سنجدها قد تأثرت بالحروب والفقدانات وتهديم المدن والقتل وصفقات الأسلحة وتصفير الاقتصادات من أجل ادامة ماكنة الحرب.. ومسرح بريشت يقف كمثالٍ بارزٍ في هذا السياق المتأثرة بمناخ الحربين العالميتين، وإذ نقترب من نص مسرحية (الأم شجاعة).. سنجده يشير الى فداحة قصة الأم (آنا فيرلنج) الملقبة بالأم شجاعة، هي امرأة مخادعة تصرّ على التكسّب مستغلة مناخات الحرب، غير عابئة بما يحدث، فهي تملك (خمّارة) وقد انتعشت تجارتها في تلك الأيام المزدحمة بالجنود وحاجتهم للخمر، ولكنها في النهاية تخسر أولادها الثلاث في إتون محرقة الحرب نفسها. في حين نجد نص (رجل برجل) عن رجل بسيط جدا اسمه كالي كاي، عاش مسالماً وطيباً الى حد كبير. ولكنه يقع ضحية ثلاثة جنود فقدوا زميلهم الجندي الرابع، ولا يستطيعون العودة للضابط المسؤول عنهم دونه، لذلك يطلبون من كالي كاي الانضمام معهم لسد النقص، ومن هنا تحوِّلهُ المؤسسة العسكرية من رجل طيب وبسيط جداً الى آلة بلا مشاعر، محارب، يتكيّف مع ظروف الحروب وقسوتها، وهكذا يتم تفكيكه من كينونته الجميلة والمسالمة وانسانيته الزراعية الأولى وتجميعه من جديد ليصبح مقاتلاً كما تريده تلك المؤسسة. ونجد في المثال الآخر الأهم في هذا السياق سحق الانسان جراء تلك السياسات بارزاً في أغلب نصوص مسرح اللامعقول وكلها نتاجات ما بعد الحرب، وراحت حتى النصوص التي كتبت ببراءة في وقتها لتأتي العديد من الأجيال وتحمّلها قراءات جديدة بحكم الظروف القاهرة التي أغرقت الفرد في بحر من الدخان والبارود وملايين الجنائز من القتلى وسحبتها من روحها الاجتماعية الى جسد السياسة المقرف، ونرى أيضاً قضايا الحب في المسرح التي كانت تتسيّد فيها براءة الانسان الزراعي على طريقة نصوص (روميو وجوليت) لشكسبير رغم بعده الزمني في القرن السادس عشر وسواها. باتت الآن تُناقش على شكل قضايا حروب وطائفيات وصراعات دينية ودكتاتوريات بوصفها الفاعل الاساس والمهيمن على عاطفة ومصائر البشر بشكل عام، وركن قضايا العواطف جانباً أو صارت هامشاً صغيراً في حياة ما قبل فايروس كورونا، ولم يعد المتلقي يحفل إلاّ بقضايا كبرى تناقش مشكلاته المعقدة والمستعصية عن الحل.
ومن هنا نرى أن تلك الصدمة التي أحدثها هذا الفايروس ستشكل ردة فعلٍ على سياسة الانسان العسكري القامعة باتجاه مسرح يدعو الى طرح قضايا تُثير الخيال الى أبعد ما يكون بنصوص غير متوقعة وفق اتجاه ربما سنطلق عليه بمسرح ما بعد الخراب، وطرح افكار غسل الحياة من وساخات القبح الذي خلفه الكائن العسكري المستبد والمتعجرف، وهو من صناعة رجالات السياسة الذي أرادوه أن يكون فرنكشتاين آخر لأنه بالضرورة يشبههم على مستوى الشكل، وأجد هنا ضرورة الإشارة الى مصطلح الإنسان العسكري في سياق هذه الكتابة.. جاءت لتشير الى الروح التي (تعسكرت) وتأثرت بمفاهيم المؤسسة السياسية التي تدعو للحرب دائما وسحق الإنسان وتجويعه وجعله تابعاً ومنفذاً لرغباتها، وليست اشارة لمفهوم الجندي المعروف، وهكذا أتطلع الى حياة مسرحية يقودها كتّاب المسرح في العالم ومنهم الكتّاب العرب وفق هذه التصوّرات في السنة صفر:
1- الإنسان مسخاً، أو هو هجين بين المرأة والرجل والحيوان.
2- الإنسان قزماً، وتهديم مفهوم السوبرمان الذي طالما عاش فكرته لسنوات طويلة، فلا أبطال يمكن أن نصفهم بالتراجيدين مثلما كان الكتاب الإغريق يجعلونهم يختارون مصيرهم بإيديهم كما فعل برميثيوس عند اسخيلوس الذي اختار مواجهة عقوبة الالهة بعد ان سرق النار ليهبها للبشرية، وأدويب عند سوفوكلس الذي اختار أن يواجه مصيره ببطولة وإقدام بعد أن اكتشف زواجه من أمه، ولن نجد ابطالاً على طريقة شكسبير بين عجوز متعجرف ومخدوع كالملك لير، او طاغية أرعن وطامع كـ ماكبث، أو بطل يقوده غضبه كـ عطيل، أو بطل يعيش الحيرة الارتباك وادعاء الجنون كـ هاملت.
3- الشخصيات لا تستطيع أن تتخذ موقفاً مما يحدث لها في الحاضر كما في مسرح بريشت، الشخصيات ما بعد وباء كورونا يحيطها الفزع من المستقبل.
4- الإنسان مهزوم رغم امتلاكه لترسانات الأسلحة بشتى تسمياتها.
5- تفتيت فكرة (الدولة) العدو والذهاب باتجاه (المجهول) العدو، الخفي، متناه الصِغر.
6- سيكون النص القادم على شكل مجموعة من الصدمات.. وليست صدمة واحدة.
7- الديستوبيا سيصبح لها فضاءها الواسع في الكتابة للمسرح أو ما يسمى بنصوص المدينة الفاسدة، أو مسرح ما بعد الخراب.
8- ستغادر اللغة شعريتها المفرطة الى لغة تملك ايقاعاً سريعاً وسط عزلة الشخصيات وعدم قدرتها الثقة بالآخر، أو ما أسميه (العائلة أعداء بعض)، وستبدأ المحاكم بمحاكمة المتهمين بجريمة المصافحة أو التقبيل أو العطاس والاقتراب من الغرف داخل البيت الواحد وسواها..
9- الكتابة في السنة صفر هي اعادة النظر بنظام القوى، وانتهاء عصر الأبوية في العالم، فالكل مهدد بالموت والمصير واحد.
10- ستذهب النصوص باتجاه أن الأفكار العظيمة لا يمكن لها أن تلتقي مع الشرع الخارج من معطف الأديان والمذاهب أو الأحكام الوضعية والعرفية والسياسية، وإذا قدر لها وأن التقت فإنها لن تذهب الى فضاءات مفتوحة الأفق على الإطلاق أو الخلود بنصوصها، وسنراها تظل حبيسة ما يمليه الفقيه الديني والسياسي أو المفسّر أو عقلية الاغلبية المؤمنة التي تؤمن بسحق الأقلية غير المؤمنة بشرعنة الأفكار، أي لابدَّ من ايجاد منافذ شرعية لأيِّ نتاجٍ أدبي بموافقة المُشرِّع، بالمقابل نجد أن النتاج الانساني المسرحي (الابداعي) الخالد ابتعد عن التفكير بشرعنة ما يَكتب والاهتمام بمباركة السلطة بتفرعاتها، أو ما يطرحه من أفكار على مستوى الأدب والعرض، وظلت تلك الاعمال الخالدة اضواء تضيء هذا الكون بأفكارها التنويرية بعد أن تخلص مُنتجها من شراك الشرع بشتى تسمياته غير مبالٍ بردود افعال المؤسسة السياسية والدينية والعرفية، باتجاه خلق هزّات اجتماعية يمكن لها أن تُحدث تغييرات هائلة في مستوى الأفكار، لذلك نصوص السنة صفر ستتخلص من شراك تلك المؤسسات والتمرد عليها.
ستظل عيوننا هكذا تنظر الى الأفق البعيد مسرحياً، علنا ندرك مسؤولية تمثّل هذا الحدث وتفكيكه من أجل العمل على انتاج مفاهيم جديدة قد تُسهم في صياغة حياة أخرى مسالمة وسعيدة وهادئة بين شعوب الأرض تستفيد من تجربة الموت والعزل والخوف الذي اجتاحت العالم!
إشارات
* قوات الحلفاء (امريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي وغيرها) ودول المحور (ألمانيا وايطاليا واليابان ودول أخرى…)
** تمّ اشتقاق هذا المصطلح من مقالة لـ البير كامو بعنوان Myth of Sisyphus عن اسطورة سيزيف التي كتبها عام 1942، ولكن الناقد مارتن ايسلين صاغها بشكل أوسع في كتاباته ما بين الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
(المصدر مجلة الفرجة)