ما زالت بعض المؤسسات الإعلامية لا تميز كثيراً بين الدراسات التلفزيونية وبعض كتابات علم الاجتماع، ففي الوقت الذي تعتمد فيه الأولى على تخصص أكاديمي ومنهج نقدي يملك رؤية استراتيجية، نرى أن الثانية ترتكز بشكل أساسي على إنشاء لغوي ينحو كثيراً نحو العشوائية التي قد تتناول أحياناً بعض الوظائف الاجتماعية للتلفزيون.
لقد تطورت الدراسات التلفزيونية بشكل كبير خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي وتشكلت هذه الدراسات من تفاعل ثلاث هيئات رئيسية: الصحافة، النقد الأدبي/ الدرامي، والعلوم الاجتماعية، وعلى إثره نرى أن كثيرا من أكاديمي ومخططي التلفزيون الرئيسيين يعملون في مجال فنون الاتصال والكلام والمسرح والإعلام ودراسات الأفلام وأيضا في أقسام علم الاجتماع والسياسة، حتى إنه تم استنباط بعض الأساليب أيضاً للتلفزيون من النقد الأدبي والدرامي التقليدي.
إن الحاجة لتطوير أي واقع تلفزيوني يتطلب تحليل الاحتياجات التلفزيونية لخطط داعمة، وإن استعراض البرامج التلفزيونية الحديثة يتطلب منهجَ نقدٍ أدبي ومسرحي بحيث يُفحص السيناريو التلفزيوني بنفس الطريقة التي يدرس بها النقد الأدبي والمسرحي والروايات والمسرحيات ثم يُفحص البرنامج إلى أي مدى يخدم وظيفة التلفزيون في المجتمع.
إن غياب منهج علمي أكاديمي معرفي وبحثي في آلية تطوير العمل التلفزيوني سيؤدي إلى خلل في آلية فهم "نظرية الجمهور" أو "نظرية الاستقبال"، وهذا سينعكس عموما على أداء التلفزيون وعلى شكل ومضمون المنتج النهائي أيضاً، ونقصد هنا (البرامج).
الوسيلة هي الرسالة
في التلفزيون الشكل مرتبط بالمضمون أي كلما انحدر الشكل الفني للبرنامج وأصابنا بالملل هذا يعني أن رسالة البرنامج ممّلة ومضمونه فاشل وضعيف، لذلك كان من الضروري الانتباه إلى معيار الحيوية والمواكبة عند تصميم أي برنامج تلفزيوني، هذه القاعدة يكسرها نمط البرامج الصفراء أو الـfreak show، حيث يُلاحظ هنا عموماً أنه كلما انحدر مستوى هذه البرامج وكانت (فضائحية) أكثر كلما جذبت مزيداً من الناس تماما كما هو الحال أيضاً في كثير من مقاطع الفيديو المنتشرة في النت، أي كلما زاد الوهم كثر المتابعون.
إذاً اتفقنا أن الإعلام (لا يصنع قراراً) لكنه (يصنع رأياً) لذلك فإن أخطر ما في التلفزيون بهذا المعنى هو (رسائل اللاوعي) التي يصدّرها، حيث وظيفة هذه الرسائل خلق مشاعر دون أن يستطيع الوعي تحليلها، وبالتالي تخلق مشاعر متعة سهلة التناول لا تتطلب أي جهد بدني أو عقلي ولا حتى تفاعل أو قراءة أو تعليق، عندها سيأخذك التلفزيون إلى عالم نجد فيه أن اللاواقعي يؤثر فينا بقوة الواقعي.
هذا ما قاله هربرت كرجمان، وتوماس مولهولاند في دراسة نُشرت عن مدى تأثير وسائل الإعلام على العقل، إننا حين نجلس لمشاهدة التلفاز ينتقل المخ خلال 30 ثانية من وضعية أمواج "بيتا" التي يكون عليها العقل عند القراءة ومحاولة التفكير العقلاني إلى وضعية أمواج "ألفا" وهي وضعية "نصف وعي" وحالات الاسترخاء الشديدة، قبل الدخول في النوم.
لكن في نفس الوقت نجد أن الإنسان يتابع وسائل الإعلام من أجل إشباع مجموعة من الحاجات والدوافع ومنها:
حاجات معرفية: تشمل المعلومات والمعرفة وفهم ما يدور في الواقع والاستكشاف ومتابعة الجديد وحل المشكلات.
حاجات عاطفية: مثل الحاجة إلى الترفيه والتسلية والشعور بالبهجة وعدم الشعور بالوحدة.
حاجات الاندماج الشخصي: تشمل تقوية الشخصية والشعور بالسيطرة والاستقرار والأمن والتوازن والمصداقية.
حاجات الاندماج الاجتماعي: تشمل التواصل مع الآخرين، والانتماء لجماعة والمشاركة في الحياة العامة.
حاجات هروبية: تشمل الرغبة في التخلص من التوتر والهروب من الضغوط وملء الفراغ.
* * *
"موت التلفزيون"
"لم يكن التلفزيون يتمتع بصحة جيدة ومنتصرة كما هو الحال في الوقت الحاضر" بهذه الجملة يدافع بعض العلماء في الواقع على أن التلفزيون يكاد يكون أداة التواصل الجماهيري الأولى حتى الآن بالرغم من كل تطور وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وما نظرية "موت التلفزيون" لصالح السوشيال ميديا، إلاّ وهم في أذهان بعض الغُلاة.
لقد استطاع التلفزيون أن يفرض نفسه كمنتج "بصري" أساسه "الصورة" خلال عشرات السنيين وهو بذلك يختلف عن الصحيفة والراديو، هو عالم مستقل بحد ذاته له سطوته وجانبه السحري وخطورته أيضاً في حياة الناس.
التلفزيون ما زال أحد أهم أدوات المجتمع، ومهما تطورت وسائل الاتصال، وظن البعض أن "فيسبوك"، أو "تويتر"، أو "يوتيوب" هي الوسائل الأكثر تطورا، والأكثر سرعة في نقل الأحداث، ستبقى الحقيقة أن كل هذه الوسائل ما زالت تعتمد على التلفزيون مصدرها الأول للخبر، حتى إنه وبالرغم من أن كثيرا من السياسيين يستخدمون التغريدات للتعبير عن مواقفهم إلا أنهم في النهاية يلجؤون إلى التلفزيون والشاشة للتعبير عن الموقف الرسمي.
* * *
ما بين البروباغندا والارتباك
لن نتناول هنا الإعلام الموالي لـ نظام الأسد لأنه باختصار إعلام مبني على نظرية "الدعاية"، أو "البروباغندا" التي برعت فيها أنظمة القمع الشمولي منذ بداية الدعاية النازية في ألمانيا، مروراً بمدرسة الاتحاد السوفيتي سابقاً و"روسيا الآن"، وانتهاءاً بباقي الأنظمة الرديئة في العالم، هذه النظرية التي لا تعتمد على نقل الحقائق ولا يهمها مصداقيتها بقدر ما أن عمودها الفقري يرتكزعلى الكذب وبث ما تريد من معلومات و"وقائع" حسب ما تريد هي لخلق الارتباك والخوف ونشر الفوضى وعدم الثقة في المناخ الشعبي العام، فمنذ 1970 لم تكن أولوية إعلام نظام الحكم في سوريا سوى تدعيم لسيرة نظام آل الأسد والترويج له، في حين أن الإعلام المعارض لم يستطع الالتزام بمنهج أكاديمي معرفي وبحثي عند إدارة منصاته الإعلامية إما لسبب ندرة وجود كوادر متخصصة وإعلاميين أَكْفَاء أو لسبب جهل في فهم وظيفة الإعلام والخلط بين "الناشط الثوري" و"التخصص المهني".
إن تفشي حكي غير المتخصصين في الشؤون المتخصصة يضعف الوسيلة الإعلامية ويؤدي إلى فقدان الثقة، كما أن تقييم أي موضوع حسب الرأي وليس حسب المهنية (يعتبر كارثة) في مجال الإعلام، وهذا ليس انتقاص من جهود "الناشطيين الثوريين"، وإنما هو توصيف الحالة الإعلامية كما هي، فبالرغم من الجهود الواضحة لشريحة مهمة من الناشطين والإعلاميين السوريين الذين حاولوا قدر الإمكان شرح وتناول "القضية السورية"، إلاّ أنه للأسف سقطت العديد من المنصات الإعلامية في مطب "الارتباك والارتجال"، سواء من خلال طريقة طرح المواضيع ومعالجتها، أو في عدم المسوؤلية في الاستنتاجات أحياناً.
بعد هذه السنوات لقد أصبح من الضرورة أكثر وأكثر أن يتولى السوريون أنفسهم شأن قضيتهم والتعريف بها من خلال تحديث معلوماتهم ومواكبتهم روح العصر من خلال المتابعة المدروسة والممنهجة في عملية بناء إعلام متوازن متين قادر على الاستمرار والنجاح.
* * *
(هشام الزعوقي مخرج سوري ولد في دمشق، نرويجي الجنسية. بعد دراسته الإعلامية في جامعة أوسلو انتقل إلى أكاديمية الفيلم والتلفزيون في العاصمة النرويجية وأنهى دراسته فيها عام 1999.
هشام كان عضو لجنة التحكيم في مهرجان الفيلم الوثائقي الأوروبي Eurodok 2012. أوسلو، النرويج , كما أن أفلامه حازت على عدة جوائز في مهرجانات دولية. من أفلامه، الباب، غسيل، المعري...).