الإهداء:
لجيل الشباب.. إنْ هرموا: عسى أن يجلسوا يوماً
على دكةٍ قرب البئر، ويحكوا لأحفادهم
صور سُلَّمات أخرى!.
تنويه:
يُعَدُّ الإله بازوزو كبير الآلهة الشيطانية للعالم السفلي، في ميثلوجيا الديانة البابلية والآشورية، وهو المسؤول عن الرياح الجنوبية الغربية، حاملة العواصف والجراد في الشتاء، والجفاف والتصحر في الصيف.
وقد وِجدَ المنقبون على ظهر تمثال الإله بازوزو هذه العبارة: أنا بازوزو ابن حنبو ملك أرواح الرياح الخبيثة،التي تخرج عنيفة من الجبال وتفعل الخراب،هو أنا»
(البِئْر)
لاح في أفق الشارع شخصان يمشيان الهوينا، ومن بعيد بان للناظر أن أحدهما يتوكأ على كتف الآخر وفيه عَرَجٌ بيمناه، وكان تجسيد ملامح الشبحين، يزداد وضوحا كلما سارا خطوة للأمام، ولو قُيِّضَ لثالث أن يصبّ اهتمامه على ما يدور بينهما، لشاهد أن ليس الأشكال لوحدها باتت تتوضح، بل لسمع أن ما كان يجري لم يكن همسا، إنما هو صوت أجش يدلقه شبح الرجل الكبير، فيه خشونة مريرة وتأكيدات منطق يتهيأ له أن ما جرى، وكل الذي يحصل الآن، كان سبباً منطقياً للذي حصل من نتائج تلك الصور، بتجميعها، وترتيبها من بعثرة ذاكرته الشائخة، ويستطيع الذي يسير بقربه أن يدلف لماضٍ متسلسل لكل ويلات الحاضر.
توقف الشبحان فجأة، واتجها للإنزواء تحت ظل محل للعطارة، بدا مغلقا في تلك الظهيرة القائضة، وبتوقف الشبحين، بدا الرجل الكبير أنه قد جاوز الخمسين من عمره، وتغضَّن جبينه، وابْيَضَّ شعر رأسه، ولا يستوي مستقيما بوقفته ما لم يحنِ جذع ظهره على جانبه، بين فينة وأخرى، ويظهر وجهه لمن يراقبه، فيه شكاية من ألمٍ تعاني منه ساقه اليمنى، ويتحسسها بيده كل حين، عاضا بفكه العلوي على شفته السفلى.
أما الشخص الذي يرافقه، فبدا شاباً في العشرينيات من عمره، فيه صَلعٌ قبل أوانه، له وجه مستطيل ولحية سوداء مستدقة، شذبها بالقص والتعديل كأنه بها لو طالت مثل شباب الساموراي إذا مزج شكل الوجه مع بنيته الضعيفة، وطوله الفارع، وكان ينصت باهتمام وحبّ فضول من يرغب أن يعاد الأمر عليه عشرات المرات، ليحفظه مثل فروض صفه الدراسي.
قال الرجل متوكأً على ذراع الشاب:
- ياولدي تلك صور حكايات كثيرة...مثل السَلالِمُ.
بلل جفاف شفتيه بطرف لسانه وأكمل قائلا:
- لو قُيِّضَ لي أن أحكي لك عنها أياماً طوالاً، فلن يكفي ما تبقى من العمر لإكمالها.
دقَّ على الأرض بطرف عكازه وأردف قائلا، فيما همّت رجلاه تستحثّ الشاب لأن يسند ذراعه الأخرى على كتفه ويكملا سيرهما:
- في هذه القحفة التي وهن داخلها...
صمت قليلا، وراح ينقر جبهة رأسه بسبابة اليد التي يحمل فيها عكازه،وتراءى للشاب، كأن له عيني صقر، لا يرف له جفن وهو يحدق في فريسته من فوقها:
- ثمة عشرات الصور، لو تَركْتَ فورة شبابك جانبا، وتعاطيت معها بذهنية من عاشها، ووقف مكتوف الأيدي إزاءها، بفعل الظروف، لكنت ستُجمّع مشاهد لفيلم، ما جرت أحداث ضيم، وجوع، وعري، وعوز، وقمع على أناس مثل الذي مرّ علينا!..كنّا ياولدي..لا نستطيع فعل شيء..كيف أقول لك ذلك..هي...هي مثل حلقات السلسلة، اشتدّت على الناس حلقة بعد أخرى، حتى اكتمل الطوق كما تراه اليوم.
وقف الشاب يائسا، محمرّ الخدين غيضا، وقهرا، وتمنى أن لا يفارقا مكانيهما قبل أن يكمل الرجل حكايته، لكن الأخير بعد أن خطا خطوة للأمام، التفت للشاب وحثّه قائلا وهو يبتسم:
- امشِ ولا تخف...سأحكي لك كل الصور، وسأنزل معك على كل السَلالِمَ، لكن إنْ كنت جادا لمعرفة الحقيقة كلها، عليك أن تبحث عن الصور الناقصة وتحشو فيها الفيلم، فدائما ثمّة وجهان للحقيقة، وما من شخص كلّه خير أو كلّه شرّ... تعال نعود لجدران بيتنا، فقد تعلمت من ذاك الزمن أنّ ثمّة أسراراً لا يبوح بها الرجل لولده، إلاّ وراء أبواب غرف مغلقة!.
السُلَّمَةُ رقم 34
انتحى الصغير برهان العسافي جانب الدكان متطاولا على أطراف أصابعه، يتحاشى تزاحم أقرانه وصراخا بين أخوين تقاسما قطعة حلوى، وتهديدا من الأصغر أن لا يشارك الأكبر مصروفه بعد اليوم، وفيه اتهام للأخير بالغش في اقتسام ما يشترونه بالتساوي، وثالثا يدفع البقية ليشق الزحمة خارجا ويده تقبض كيساً لما ابتاعه، وثلاثة منهم أوقفوا البيع والشراء بعد أن أمسك اثنان منهم بثالث وأبرحاه ضربا، وهو يحاول الإفلات من قبضتيهما اللتين تنازعاه ما اشتراه عنوة، وإمرأة ثلاثينية تجر صبيا لتشتري له شيئا يقنعه بالعدول عن تكاسله في دراسته.
كان عبق رائحة الحلوى وشواء الكعك المدهون بزيت حبات السمسم تدغدغ خياشيم أنفه، مع كل ذراع يرفعها تلميذ يمسك شيئا فيها، ولِما يمتزج عبقها مع اكتظاظهم على فتحة شباك الدكان المسورة بشبك حديدي، ولهاث أنفاسهم التي تستعجل البائع أن يعطيهم ما ابتاعوه قبل أن يرنّ جرس المدرسة، يجعل اللعاب يرطّب فمه من الداخل، وفيه طعم يحلب بلعومه لأكلة لم يتذوقها منذ آخر هدية عيد منحها له عمّه بحسرة بخيل أجبر على التنازل عن قطعة نقود، يحس أنها ستورثه الفقر والعوز، فيهبها مكفهرّ الوجه تنازعه رغبة أن لا تأتي مناسبة فيها تبذير للمال!.
انتزعه صوت صاحب الدكان من حلم التذوق وأحس بأصابعه تمسك مربعات المشبك الحديدي دون أن يدري بجسمه كيف وصل لمكانه!، فأجفل لصوت الرجل ينهره، هاشّاً بيده كأنه ذبابة صيف تشاكس قيلولته:
- تراجع، وافسح المجال لغيرك يشتري... ألم أقل لك سابقا لا تبحلق كل يوم هكذا؟
فتراجع تاركا المجال لغيره، واستدار ليدلف باب المدرسة بعد أن سمع جرس انتهاء الفرصة، لكنه تريّث عند الباب وأحسّ كأنه أمام مشبك الدكان لكن بحجم أكبر، وكان لحظتها قد انتابه هاجسان، كانت له رغبة أن لا يفارق مشبك الدكان ليُشبعَ رئتيه أكثر من رائحة الحلوى والبسكويت العطرة، وله رغبة أخرى أن يجتاز المشبك الكبير ويلج مدرسته ليختلط ويلعب مع أقرانه، غير أن وقوفه عند المشبك الصغير وطرده من قبل صاحب الدكان كل يوم، جعل فكرة تحدٍّ تقدح في دماغه، وراوده تخيل أن يكون جيبه مليئا بنقود يساعد فيها والدته بمصروف البيت من جانب، ويشتري ما يلذ له من الحلوى والبسكويت من جانب آخر، فامتدت يده دون أن يعي لجيب سرواله وراح يحرك أصابعه في فراغه، وثمّة غصة في حنجرته كأن حصاة بحجم قطع الحلوى حاشرة في فمه، وليس من سبيل لبلعها ولا سبيل لتخرج منه، قطعة واحدة لا يسعها فمه.
حَثَّهُ زميل له على أن يدخل، فالدرس أوشك أن يبدأ، لكنه أسرّ لصاحبه أن يرسل كتبه للبيت، وأدار ظهره له وللمدرسة، وشعاع الفكرة التي قررها يلمع في مخيلته. اجتاز شارع المدرسة مسرعا ودلف لشارع جانبي، كأنه قطٌ شمّ فأرا عن بعد فراح يقفز وثبا عليه، وتراقصت أمام مخيلته صورة دكان الميكانيكي الذي ترجته أمّه قبل أسبوع أن يعمل ولدها عنده، حتى يساعدها ويرفع عنها حمل عائلة لايجد معيلها عملا يسد فيه حاجتها.
كان الميكانيكي رجلاً أربعينياً، ذا سحنة سمراء يتناثر شعر لحيته عليها، كتناثر أدوات عمله في وسط محله وعلى عتبتهِ، يرتدي بدلة عمل زرقاء، أعجبت برهان لأنها قطعة واحدة من كتف الرجل إلى كعب قدميه، فتذكر ملابس المدرسة التي يرهقه كثرة قِطَعِها إذا ارتداها صباح كلّ يوم.
سأله الميكانيكي ناهراً لما أحسّ فيه نظرة فضول لتفحّص الدكان ومحتوياته:
- ماذا تريد يا ولد؟
راوده شعور وقوفه أمام الدكان الذي قرب مدرسته، وامتزج كلام الميكانيكي بكلام صاحب الدكان الذي ينهره كلما رآه، فردّ متلعثما لا يدري ما يقول، ورائحة الزيت تعب منخريه كما عُبَّ برائحة الدكان وعطرها فقال:
- حلوى....
بحلق الميكانيكي في عينيه مادّاً رقبته نحوه قليلا، وقال متعجبا:
- ماذا؟...قلت حلوى!!
فرد برهان برباطة جأش استعادها، والآخر يقبل محاورته، وقد ترك كومة الحديد التي كان يفتح فيها شيئا:
- أنا الذي جلبتني أمي الأسبوع الماضي للعمل عندك، وووو...
فقال الميكانيكي مبتسما:
- أعرف...أعرف. ناولني المطرقة تلك.
قفز برهان بين كوم الحديد، فرحا يخاف أن تدوسها قدمه، كأنها قطع حلوى العيد التي يشتريها، وتنصحه أمه لما تراها عند قدميه وهو يلهو قربها:
- ابعد قدمك عن نعمة ربك.
السُلَّمَةُ رقم 33
في العطلة الصيفية لطلبة المدارس تمدّد الفتى برهان العسافي تحت المركبة داخل كراج الغسل والتشحيم، فتلوّى خرطوم المياه أمام وجهه، وقبل أن تصل أصابعه لمسكه من مقدمته كان الخرطوم يتلوى، مثل ثعبان ابتلع جرذا كبيرا، فراح يتقلب على بطنه مرة وعلى ظهره مرة أخرى، لتشد عضلاته جسم الجرذ وتعصره، فيندفع لأسفل بلعومه أكثر، وتطايرت طبقات الطين كتلا رطبة وفيها صلابة، لتقع على جانبيه وبعض منها على وجهه وفي فتحة بذلة عمله عند صدره، فانتابه إحساس بالضيق رافقته نسمة هواء باردة اقشعر لها بدنه، واصطكت أسنانه وتخشّبت أصابع يديه، فانحنى عامل معه تحت المركبة وقال:
- أستاذ الله يرضى عليك، دعني أغسل السيارة بدلا عنك؟.
كان رغم صغر سنه، لكن شطارته في العمل جذبت انتباه صاحب الكراج فرقّاه في نهاية سنته الأولى بالعمل، ليصبح رئيس عمال الكراج، ويطيعه باحترام حتى من يكبره في العمر بين العمال. وكان برهان مع هذه الحظوة عند صاحب الكراج، ضامنا لفرصة العمل في كل عطلة صيفية لطلبة المدارس.
سحب ساقيه نحو جسمه ولفّهما، كمثلّث تستند عليه قاعدة ضلعيه الواقفين على الأرض قاعدة لهما، وجَرَّ جسمه خارج هيكل المركبة، في حين كان مستمرا بتوجيه رشاش الماء نحو ما تبقى من قطعها، وقال:
- اتفقنا واحدة لي كلما حان دوري، أنا عامل مثلكم عزيزي !.
زعق بوق مركبة صاحب العمل، فناول رشاش الماء لزميله، ونهض واقفا بسرعة واتجه نحوه، فقال صاحب العمل مشيرا ومعرفا فيه لضيف ترجّل معه من المركبة:
- أبو احسان..هذا من كلمتك عنه..(ثم أضاف).. برهان رئيس العمال.
وأردف ملتفتا لأبي إحسان بكامل جسمه وقال مؤكدا:
- مثل ما كلمتك في الطريق..بدونه لا أستطيع فعل شيء، فهو يدير العمل في الكراج.
وقال موجها كلامه للفتى برهان:
- عمك أبو احسان اشترى كراج الغسل مني، وأريده أن يعتمد عليك مثل ما كنت أعتمد عليك.
كان أبو احسان حتى تلك اللحظة صامتا يراقب صاحب العمل والفتى برهان، دون أن يبدي أية حركة ، يسوّي نظارته على أرنبة أنفه بين لحظة وأخرى، حتى يخال لمن يراه كأنه جديد عهد بلبس النظارة ولم يتعود عليها بعد، وثمة إبتسامة يوزعها بين رب العمل وعامله، تشي لأول وهلة لمن يراها مرتسمة على شفتيه، إنها تخبأ تحتها طيبة قلب لإنسان يلج عالم العمل والعمال أول مرة في حياته، كان يطوي على رقبته لفافة قماش من الصوف، ويرتدي سترة رصاصية حالكة اللون، مخططة بمربعات صغيرة خطوطها سوداء، وينقل خطواته بحذر متحاشيا كومة طين هنا وبركة ماء هناك، وهو يمشي بين صاحب العمل والفتى برهان، ولما ضاق الممر بين دَكَّةُ غسل المركبات وغرفة أجهزة ضغط الهواء حاول أن يزاحم برهان، فوضع يديه في جَيبيْ سترته وأفرد كوعيه جانبا ، فالتصق جسم برهان جنب الحائط ، كأنه معتقل لا يراد له أن يرى الذي يحدث خلفه، غير أن مهمة برهان كخبير في عمل معدات كراج الغسل والتشحيم، أجبرته أن ينسل متقدما عليهما للأمام، مثل شعرة أُخْرِجَتْ من عجينةٍ، فيما اعتبر أبو احسان فعل برهان تقليلا من شأنه كَرَبِّ عمل جديد، فزم أبو احسان شفتيه وأخرج يديه ثانية من جَيبيْ سترته مغلوبا على أمره، وقال موجها حديثه لصاحب العمل، ونبرة صوته تعلو ليسمعها برهان:
- موافق أشتري بالسعر الذي اتفقنا عليه، لكن بشرط..
تريث قليلا وافترت شفتاه عن ابتسامة فيها تكشيرة، بان منها إعوجاج صف أسنانه في الفك السفلي عن صف أسنانه لفكِّه العلوي، فبدت للفتى تكشيرة بلهاء فيها غباوة سلوك مصطنع ،ثم قال:
- أشتري كراج الغسل ومعه صاحبنا.
ضحك صاحب العمل مقهقها ليداري خجلا من برهان، ومجاملة لأبي إحسان، فاستوقفهما الشاب معترضا، ورفع يديه بموازاة كتفيه وقال:
- ذاك سوق هرج ، اذهب واشترِ منه صاحبا آخر غيري ، أما أنا فيفتح الله.
نحاه جانبا بساعده الأيمن، والتفت على رفاقه العمال وقال:
- شباب...اعذروني إذا قصرت..سلام.
فصاح بعض رفاقه بهرج وتراكضوا نحوه:
- أصبر ؟
- دقيقة ؟
- انتظر..انتظر...
غير أن برهان العسافي شبك يديه خلف ظهره ، وخبّ السير خارجاً يمشي كطاووس، تنتابه مرارة وفيه رغبة أن يتقيأ كل ما في أحشائه، دفعة واحدة.
السُلَّمَةُ رقم32
أدمنَ برهان العسافي منذ صغره أن يقرفص عند ساعات الصباح الأولى، في باب الدار مراقبا حركة عمال البناء، والحدادين، ومن تأخر عن موعد فاته فراح يغذ السير ليلحق حافلة، ربما إنْ إمتلأت بركابها لن يجد المتأخر غيرها، فيفوته الموعد، وتلك عادة لا يحلو لبرهان أن يتركها كلما طلعت عليه شمس الفجر، وكان غالبا ما يمارسها في أيام العطل، التي لا يشتغل فيها أو يذهب إلى دراسته، لكن جلوس برهان كل صباح في باب الدار لم يكن في أصله لمراقبة هؤلاء، بل ليشاهد مشاكسات جارهم يوسف صاحب محل تصليح العجلات الهوائية، وجارهم الآخر طارق صاحب كشك الشاي.
لوى يوسف إطار العجلة الهوائية فانبعج جانبه تحت ضغط (التايلبر)[1]، كأنه أفعى حُشِرَتْ بطنها بين صخرتين، رمى التايلبر جانبا فأحدث برنينه على الأرض دبكاً فيروزياً زاده عمقا ونغما أن الشارع كان مقفرا من المارة، مع خيوط شمس الصباح الأولى ليوم عمله الرتيب، في الثقب الذي شَقَّهُ جانب بيته، عند بداية الزقاق وسمّاه (دكان يوسف لتصليح العجلات الهوائية).
انغمس بمعالجة ثقب العجلة الهوائية بشكل روتيني، تَعوّدَ عليه مذ كان طفلا يعمل ذات المهنة مع والده، وانساب الوقت كسمكة تنزلق من يد صياد لا يتقن حرفته، من حسابات أيقظه على تدقيقها سلام المارة عليه، من جيران محلّته، فما أحس إلاّ وطارق يناديه:
- يوسف..أريد استفتاحَ هذا الصباح أن يكون من عندك. تعجل بالذي في يدك، ويكون إبريق الشاي عندي جاهزاً لقص شريطه...اتفقنا؟
بقي يوسف منكبا على ما بيده، ودون أن يرفع رأسه لمحدثه قال:
- إتفقنا...لا تنسَ أن تضع الهَال.
تناهى لسمعه رد طارق عليه مخلوطا بجلبة، أحدثها حمّال ينوء بجر عربة تكدست عليها علب كارتونية، ضاع قبالة حجمها الحمّال وعربته، ولوْلا جعجعة عجلاتها الحديدية، لخيل لمن يشاهدها كأنها كدس كارتون يتحرك من دون واسطة تدفعه.
ومثل جندي يفكك بندقيته لتنظيفها، فيعيد تركيبها، مبتدأ من آخر قطعة فككها، كان التايلبر أول قطعة مسكها بيده قبل مسك أطار العجلة، فرماه في صندوق أدواته، كآخر قطعة، انتهت الحاجة منها بعمله، ونهض واقفا لينفض التراب العالق في السروال عند ركبتيه، ثم قرفص يغسل يديه في حوض ماء الفحص، الذي ثبته في الجانب الأيمن، عند مقدمة دكانه.
قبل أن يعبر الشارع، الذي يفصله عن زاوية الركن الآخر للزقاق، التي جعل منها طارق مكانا لبيع الشاي، بان رأس زوجته من وراء ستارة باب الدار، تذكره بما أوصته فجرا، قبل أن يخرج لعمله، فأحس كأنها بندول ساعة رنّ بميعاد ثُبّت عليه، قالت:
- الثلاجة فارغة....لا تنسَ.
رد باقتضاب:
- صار.
وبحركة مشوبة بسخرية مدّ يده وأخرج جيب سرواله، وغمزها بعينه جانبا، فسحبت رأسها على استحياء، وأغلقت ستارة الباب بهدوء، فانتبه طارق لما دار بينهما، وشاكس يوسفَ وهو يقدم له قدح الشاي:
- إن شاء الله سيكون هذا القدح استفتاحَ خير عليك وعليَّ.
سحب يوسف صفيحة الزيت الفارغة، وجلس عليها، وكور رجليه القرفصاء قبالة طارق، ورد عليه:
- بل قل: استفتاحُ خير عليك وعلى البقال.
وراح يمزج الشاي وسكره بالملعقة، ناقرا فيها دقات لهاون قهوة، علقت نغمتها في فكره مذ كان طفلا صغيرا
السُلَّمَةُ رقم 31
صورة أولى:
تناهت لسمع طالب الإعدادية برهان العسافي، حكاية من جاره يوسف، لكن برهان لم يعرف من الجار إن كانت هذه الحكاية جرت معه، وأفلت من مصيبتها بقدرة قادر! أو هي حدثت مع غيره وسمع بها؟:
قال الجار:
- خرخش محرك سيارة الأمن، وبدا مثل تنفس مريض مضطرب، مرّة يخرج بحشرجة من أنفه ومرّة يخرج فيه غرغرة من فمه، وسمع الرجل صرير مزلاج بوابة تُفْتَحُ، ثم تحركت السيارة ببطء، فأصبح عطاس المحرك كأنه أنين طفل فيه نزلة برد.
صاح صوت خلفهم، وسمعه الرجل المعصوب العينين داخل السيارة:
- أهلا بالبطل...كن بطلا في (قصر النهاية)[2]..
خَفَتَ الصوت قليلا، لكن الرجل سمع سبابا خلفه ميّز فيه شتيمة تقول:
- ابن الكلب...
تيقن أن السيارة جلبته لمعتقل قصر النهاية، وتراءت له مشاهد أحس خشونة تنتاب جلده منها، كأنه من ساعته يتلقى لسعات السوط الحامية، ولم يك لوقته ذاك قد أعتقل سابقا، لكنه سمع ممن سبقه لهذا المكان عن بشاعة التعذيب فيه، ولم تخنه الذاكرة وهو يستحضر مشهد بنايات القصر من واجهته، تلك البنايات التي طالع لها في الصحف اليومية صورا لجنود يحملون بنادقهم ويقفون في واجهتها، وهم يتفرجون على أناس يسحلون جثة على أرصفة حدائق القصر، وبدت له العواميد الدائرية الأربعة التي تسند أسفل شرفة الطابق العلوي للقصر، كأنها الأعمدة الرخامية للآثار الرومانية في كتب التأريخ، وأصبح الزمن لديه في تلك اللحظة منتهيا عند سماعه باب القصر المقوس يُفتح ويُغلق، مخلفا وراءه العواميد الرومانية حدا فاصلا بين الحياة والموت.
كان الرجال يسيرون فيه مسرعين، لكنهم في لحظة ما يفلتون أيديهم عنه فيصطدم برأسه وركبتيه، في جدار ما أمامه، لكنه انتبه بعد المرة الثانية، وتروّى بسيره في الثالثة، ليعاقب وهو يسير والأيدي تنهال على قفاه.
كان ثمة صراخ موجوع يسمعه يخرج من وراء أبواب مغلقة، يمر من قربها، ومع كل صراخ ممطوط يخيّل له أن طريقه لن ينتهي، وسيستمر هكذا يسير حتى ينتهي عمره، وانتابته رغبة لأن يتأوّه ويخرج صوتاً، جزم لو خرج، لكان أكثر إيلاما من كل مواويل الصيادين في الجنوب!، لكن الخوف من الأيدي منعه أن يخرجه.
تريثت الأقدام السائرة فيه، وتوقفت عند أحد الأبواب الجانبية، ثم سمع صريرا ودفعته الأيدي للداخل، فأراد أن يفلتوا يديه في تلك اللحظة ليتكور على نفسه ويحمي رأسه من أجسام صلبة ستدقه على البلاط البارد تحت قدميه الحافيتين.
لكن الأيدي عاجلته وأجلسته على كرسي، وامتدت بعضها لتفلت يديه وتربطهما على مسندي الكرسي، ثم امتدت أخرى ولوت عنقه للخلف وربطت رقبته لطوق في ظهر الكرسي، أحسّ أنه سيكسر عنقه، وبدا له رأسه منزوعا من كتفه لشدة الألم، وكأنه سيتدحرج فائرا بدمه على الأرض، خلف الكرسي الجالس عليه.
تبخّرت رائحة في الهواء تجرح البلعوم، وتقبض الرئتين، ونفذ قليلا منها تحت العصابة لتتبلل من دمع عينيه، وراح يبكي من وجع يحرقهما، وتحت انسحاق وعيه بين الغيبوبة وبين الانتباه لما يجري له، سمع أصوات أقدام تهرول خلفه، وأحدهم يصيح:
- انتظر، لا داعي للتحقيق...
واقتربت الأقدام تهرول أكثر، فسمع لهاثا كأنه يخرج من خلف ستار يكمم فم المُهرْوِل، وارتفعت الأيدي من على أكتافه، وأفلتت أخرى تمسك رأسه من الجانبين بإحكام.
قال المُهَرْول بثقة وحزم:
- مدير الأمن العام يطلبه صاحيا عند (حوض التيزاب)[3].
ثم أردف بكلمات كأنها تخرج من بين أسنان تصطك تشفّياً وغلاً:
- يريد أن ينظف الأرض منهم.
رفعوا العصابة عن عينيه، فأيقن أنهم باتوا لا يخشون أن يفشي سرا، ويتلذذون أن يَروه يمشي مرعوبا لنهايته.
كانت جثثهم ضخمة وعضلاتهم مفتولة، وقبضات أياديهم مثل كماشة حديد بقوتها، فأحسّ كأن جسمه بحجم جسم عصفور في يد طفل مشاكس، يلهو به دون رحمة، وإمتدّ ممرّ البناية طويلا أمام ناظريه، ولمعتْ برك دم على البلاط كانت أرجلهم تتحاشى الخوض فيها، فيما تدفعه أكتافهم لأن يخضب رجليه وينزلق وسطها، ولاح له نثار دم على الحائط بنقط مبعثرة سال طرفها السفلي ليختلط بعمامة رجل دين، مثقوبة بطلقة ومرمية وسط بركة دم أخرى أسفل سيل خيط النقاط المبعثرة على الحائط.
أدخلوه لقاعة في وسطها طاولة خشبية، يجلس خلفها رجل مهندم بلباس رسمي، يلبس نظارات طبية بإطار أسود مستقيم من أعلاه تحت حاجبين رفيعين،وله شاربان حلقهما من تحت أنفه وشذبهما من نهاية التقاء شفتيه على الجانبين، مع حنك مستدق وملموم على بعضه، بادره الجالس قائلا:
- أهلا وسهلا بكل وطني مثلك.
صمت قليلا وأضاف:
- نحن نعتذر لسوء الفهم..وبهذه المناسبة أنت ضيفي الآن، قبل أن يوصِلوك الأخوة معزّزاً مكرما لبيتك.
وبسرعة فائقة امتدت أيدٍ تفرش الطاولة الخشبية بقناني البيرة، ثم عاجله الرجل قائلا بعد أن فتح إحدى الزجاجات وقدمها له:
- اشرب يا رجل..أنت ضيف ناظم كزار مدير الأمن العام..اشرب.
كان كلما أنهى زجاجة فتح له أخرى غيرها، وأحس في الخامسة ضيق في إمتلاء مثانته، فترقرقت ابتسامة شفافة على شفتي ناظم وقال:
- دعنا نشرب آخر زجاجة، ثم تقضي حاجتك.. وتذهب لبيتك آمنا سالماً.
كانت الحاجة لافراغ مثانته تزداد إلحاحا عليه كلما تجرع رشفة من الزجاجة السادسة، وغدا تململه في كرسيه أكثر حركة، وانتابته رغبة لأن يفرغ مثانته على ثيابه، لكن الخجل منعه أن يفعلها، فاحْمَرّ وجهه، وجحضت عيناه تبرما وجزعا، وقريبا من تبليل سرواله تلاقفته الأيدي من خلفه، فاتحة أزرار بنطاله، وقبل أن يستفيق من المفاجأة كان عضوه التناسلي مشدودا بخيط رفيع يكاد يقطعه، ويتدحرج نصفه عند رجليه.
نهض مدير الأمن، والمشرف داخل قصر النهاية، من خلف الطاولة وأوجز الرجال بكلمات مختصرة، كأنه يريد أن يَسْمَعَها المعتقل:
- إنْ لم يعترف، انقعوه في حوض التيزاب ببوله، فَلَمْ تعد لي حاجة بأمثاله.
ثم ضمّ أصابع يده اليمنى وأفرد فيها السبابة والإبهام أمام رجاله، قبل أن يخرج ضاربا باب القاعة بعنف، كأنه يقول لهم انقعوه في الحوض إنْ اعْتَرَفَ أو لَمْ يَعترِفْ.
صورة ثانية:
وفي مناسبة أخرى، وبعد أن عضَّد الشاب برهان العسافي علاقته مع جاره يوسف، روى له حكاية ثانية، فأحس برهان كأن يوسف يريد أن يوثِّق حكايا، يخاف أن يطمسها تقادم الأيام على عمره، فيستقبله القبر قبل أن يودِّع ما ترسَّخ من واقع عاش فيه، وذاق مرارته، في ذاكرة شاب بمقتبل عمره!.
قال يوسف هامسا لبرهان:
- دخل المعتقل قاسم، الوافد الجديد لمديرية الأمن، فطوقته الأنظار، علَّ في جعبته جديدا عن أهلها في الخارج، يفرح البعض ويحزن الآخر، وتحلّق حوله مجموعة ممن يسكنون المنطقة التي اعتُقِلَ منها، كان واثقا من نفسه وهو يبادرهم بالسؤال:
- كيف هي معنوياتكم؟.
ولأن كل المعتقلين تقريبا لهم القدرة على التحليل والاستنباط، فقد فُهِمَ سؤاله على أن صاحبه يريد أن يلعب دورا قياديا بينهم، ويسيطر على مبدأ المبادرة وأخذ ناصية التصدي والرد، في الوقت الذي لا يمكن لأي إنسان أن يبحث عن زعامة في المعتقل كما كانوا يرون، لأن الهَمّ مشترك عند الكل، وليس هناك دورٌ لمن يريد أن يسن قانون شريعة الغاب وسط المضحين عن فكرهم، ويكون مقياس الرجولة بينهم مدى القدرة على تخطي محنة حفلة التعذيب، التي ما من معتقل يسلم منها. ولما سُئِل عن معنوياته هو، رد قائلا:
- أنا بخير (تريث قليلا وأضاف) رغم شعوري بأني سوف لن أتحمل سوطا واحدا!.
تنحى قاسم جانبا وأخرج علبة تبغ، وأراد أن يشعل منها لفافة، فاستوقفه مدرس اللغة الانكليزية،وكان يسبقه في المعتقل بأشهر:
- دقيقة أخي..ماهذا الذي تفعل؟...تريد أن تدخن لوحدك، وغيرك محروم من التدخين، لأشهرٍ!.
ثم ضمَّ إبهامه على سبابته، قبالة وجهه وقال:
- إذا أنت معتقل فِكْرٍ ومؤمن بالذي اعتقلت بسببه؟..يجب أن تعرف إعتبارا من هذه اللحظة كل شيء مُشْترَّكاً بيننا..فقط الصمود والإنهيار بالحفلة..هذا شيء خاص بالمعتقل ومدى قدرته على التحمل !.
صمت المدرس قليلا، وأكمل قائلا:
- إعطني السجائر.
امتثل قاسم لأمره وناوله علبة التبغ، وأمَر مدرس اللغة الإنكليزية أن يجلس المعتقلون عند الحائط متراصين جنبا لجنب، وأشعل لفافة تبغ ثم أعطاها لأول جالس منهم عند الباب ، الذي سحب نفسا منها وسلمها للذي يليه، حتى انتهت عقب لفافة عند آخر مدخن فيهم.
كان في علبة التبغ ثلاث لفائف، استقر الرأي على أن تدخن أنفاسا لثلاث ليال، وكان نصيب قاسم منها أنه أخذ من كل لفافة نفسا واحدا، مثل باقي المدخنين من المعتقلين.
لما تحرك مزلاج باب المعتقل وأطلّ وجه شرطي الأمن أبو راجحة، كان قاسم متجها للقبلة يصلي، وحالما صاح على اسمه ، أتمّ صلاته على عجل، وإتجه إلى الباب ليخرج منه معصب العينين، وقد كان الرجل صادقا، فلم يستطع أن يتحمل جسمه سوطا واحدا، تلك الليلة في الحفلة، واعترف على ثلاثة وعشرين ممن يرتبط معهم، ولما جئ به للزنزانة، بان أثر السوط ملتويا على ظهره، وقد صنع فيه أخدوداً أحمر، فأخذ حيفا كثيرا من ملامة المعتقلين، لكن المعلم شاكر انبرى مدافعا عنه:
- أخوان..الرجل منذ أول دخوله اعترف لكم، أنه لن يتحمل سوطا واحدا..فلِمَ الملامة ؟....
أطرق حزينا وقال:
- قاسم لم يتحمل التعذيب واعترف... طيب مارأيكم بي أنا؟...إنْ استدعيت للتحقيق ثانية فسأعترف على زوجتي !.
استنكر المعتقلون سلوك المعلم شاكر، ونيته بالاعتراف على شريكة عمره، وثار لغط كبير بينهم، لم يسكته غير صوت المعلم شاكر، يبرر فعلته قائلا:
- على الأقل لتعش مقدار الألم الذي يُصبُّ فوق رأسي..أو هي فقط تعرف التنظير لي: ماذا قالت البروليتاريا، وماذا فعلت الطبقية؟!.
ووفى المعلم شاكر بعد يومين بوعده، معترفاً على زوجته، ثم تناقل الوافدون الآخرون لاحقا، أنهما أعدما سوية.
صورة ثالثة:
سنة انطوت على صداقتهما، اطمئن يوسف فيها للشاب الجامعي برهان العسافي أكثر من ذي قبل، بعد أن حكى له عن حاكمية قصر النهاية، وما جرى في مديرية الأمن، وطمر برهان أمر الحكاية، وما سمع بعدها يوسف أن أحد حكاها مذ أن كاشف برهان فيها، فأسرَّ له هذه المرة بحكاية ألقت الضوء في نفس برهان، على جانب مظلم ومخبوء في سيرة جاره، وأكتشف منها أن جاره عاش بعض من الصور التي حكاها له قبل سنة من الآن!.
قال الجار:
- عمّ هرج خفيف حالما سمع بعض النزلاء إطلاق سراحي، وأشار إليَّ المعتقل طالب باقر عيدان أن: اجلس قربيَّ، فالتفتت كل الوجوه ناحيتي، كانوا كلهم يتخيلون لأنفسهم لحظة تُزَفُ لهم مثل هذه اللحظة، وبدت مشاريع أحلام تركوها خلفهم، ترفرف مستعجلة إياهم لينجزوها سريعا، لكن كل الوجوه حتما كانت ترنو إليَّ فرحة بإطلاق السراح الذي رفرف اغتباط ممزوج بغصة أرادت أن تبكيني، حتى الوجوه التي أخالفها فكريا، كانت بشوشة، رغم نظرة الحزن التي كانت قاسما مشتركا بيننا كلنا.
كان المعتقل طالب باقر عيدان يجلس طاويا رجليه تحته، وراح يُمَسِّدُ شعر لحيته الرمادي، كأنه يمشط فيها، خفض يده جانبه وأمسك يدي، وراح يتكلم مديرا وجهه بين الوجوه التي حوله، كأنه يريد أن يفشي سرا، ويريد الجميع أن يسمع منه ذلك، افترت شفتاه مفتوحة وقال مبتسما:
- لو كنت روائياً وكُتِبَتْ لي النجاة من هذه المحنة، لكنت إعتبرتكم شخصية واحدة بروايتي.. فانتم قضيتكم واحدة، ووعيكم متقارب، إلى حد ما، وأنتم كلكم من جيل واحد.
توقف قليلا ليسترد أنفاسا، أنهكها طول حفلات التعذيب معه وقال:
- مشاريعكم وتطلعاتكم متساوية أيضاً.
ثم إستنتج مستفسرا وقال:
- فما المانع إنْ رأيتكم بعين واحدة؟!.
بدا صوته خاشعا متوسلا، وأضاف:
- أنا بعمر آبائكم..أخذت نصيبي من الحياة، واستمتعت بها كثيرا.. على قدر ما أستطيع.
ران الصمت على كل الموجودين، ولو وقعت قشة على البلاط لسُمِعَ صوتها:
- عندي وصية أريدكم إن تنفذوها لي..كلكم دون استثناء.
اشرأبَّت الأعناق كلها تحمل فضول وجوهها، لمعرفة الوصية منه:
- أنا صيد ثمين لهم، ومن المستحيل أن يُطلقوا سراحي...
صمت قليلا ثم أكمل:
- جماعتي خارج السجن يشتغلون الآن، لكن هم داخلون بالإنذار بسبب اعتقالي.
سحب نفسا عميقا، وحبسه داخل صدره، دون أن يزفره، وقال كمن يضع آخر فرشاة على لوحة، ليرسم النور فيها:
- أي واحد منكم يطلق سراحه...أريد منه أن يوصل خبر، لأي دكان، أومقهى، أو بيت بمدينتي...
صمت ثانية، وقد كاد الصبر يفلت من بين أيدي مستمعيه من الشباب، فقال:
- أوصلوا هذا الخبر: طالب باقر عيدان..أبو نعمة، يقول لو قطعوني قطعة إثر قطعة...لن أنطق بحرف واحد.
مرت فراشة صغيرة فوق رؤوس المعتقلين، وراحت تحوم حولهم، ثم اتجهت صوب نافذة صغيرة، في أعلى الزنزانة، وأطبقت جناحيها لتفردهما ثانية، قبل أن تخرج نحو شعاع الشمس.
صورة رابعة:
في العطلة الصيفية للمرحلة الأولى، وفي أثناء دراسته في المعهد التكنلوجي، بعد أن أهلَّه معدله الدراسي لأن يُقبل بقسم المساحة فيه، وفي أحد الصباحات المشرقة، قرفص برهان في باب الدار كعادته، وكانت ساعتها تنبعث من دكان يوسف أغنية لفيروز، تحكي فيها عن حبيب يطلب منها القمر، ولأن القمر بعيدا في سماء عالية، فهي تجلس ليلها ترقبه خائفة من جارة لها قد تطوله وتعطيه لحبيبها، فيتركها ويعشق من لبت طلبه وأحضرت القمر له، وأحس برهان أن يوسف يحاول أن يجعل يديه التي ترش الماء قبالة دكانه، تتناغم مع موسيقى أغنية فيروز، لكن في لحظة بدت لبرهان كأن الزمن توقف عندها، شاهد جاره يوسف يوقف رشه للماء، وتخبو الابتسامة على ملامح وجهه، وتغشاه صفرة وجوه المحتضرين، مع عبور رجلي أمن ترجلا من سيارتهما في الجهة الأخرى من الشارع، وتوجههما مباشرة لدكان يوسف.
ركز برهان حاسة السمع، محاولا أن يستشف الحديث الذي يدور بين الرجلين وجاره يوسف، لكن قصر المحادثة بينهم لم يمهله ليتبين محتواها، غير أن شبك أصابع يديهما بأصابع يدي يوسف من الجهتين، وجعله يتوسطهما، فيما كان كتفاهما يعصراه بينهما، وحركة رأسيهما على الجانبين يرقبان المارة قربهما، فيما كانا يسرعان الخطى ليصلا سيارتهما، كل ذلك جعل برهان يعرف أن رجلي الأمن ألقيا القبض على جاره يوسف، وبقيت فيروز في المذياع داخل دكان يوسف، ترقُب القمر كل ليلة لتقدمه عرفان حب لحبيبها.
السُلَّمَة رقم 30
(صورٌ خلف بابٍ بمزلاج صدئ يرفض قرصان التأريخ أن يُفْتَحْ )[4]
السُلَّمَةُ رقم 29
(التشظي)
(1)
ضاع شذا عطر عصابة أمه شيئا فشيئا، وخَلَّفَ نشيجها تبكي خلفه، ورذاذ الماء تنثره على طريقه وتبلل فيه ساقيه من وراء بنطلونه الخاكي، وصدى صوتها يضيع خَلْفَ زاوية الزقاق كل مرة، تدعو له أن يرجع لها سالما، وبدت سيارة الأجرة لبرهان العسافي لا تريد أن تتجاوز الطريق باتجاه محطة القطار في الحلة، وأمامه فغر نفق (حي البكرلي) فمه واسعا ليبتلع السيارة وفي داخلها شبح برهان وصديقه أحمد، الذي يخدم بوحدة عسكرية غير التي يخدم بها برهان، وكان اختلاف النية بينهما في الالتحاق، جعلتهما يبدوان كجسمين مكورين يفكران بأحلام لا تشبه بعضها، لكنهما تشابها في رغبة أن يبقيا ملتصقين في مقعديهما وتستمر سيارة الإجرة تدور فيهما على شوارع مدينة الحلة وأزقتها، قبل أن يبتلعهما أتون الحرب الدائرة على الحدود العراقية الإيرانية، ولاحت أمام عيني برهان البوابة الرئيسة للمحطة، مزدحمة بحقائب تحملها أكتاف تجللت بملابس الخاكي العسكرية، وانحنت الأظهر تحت حمل أكلٍ صُرَّ للرفاق هناك، فيه رائحة (تنور) الأم، والزوجة، والأخت، وملابس دُعكتْ لتنظف بأيادٍ تدعو لمن يحملها بالسلامة، مصحوبة بدلو ماء يرش خلف خطوات يتمنون أن تكون خضراء لأصحابها، وفيهم غصة أن لا يكون هذا التوديع آخر تلويح لقفا ظهر من فارقهم.
تراءت لبرهان العسافي عواميد شرفة المحطة بيضاء ضخمة، تدفع الكتل البشرية لخليط المسافرين وتبقى مغروسة في الأرض لا تبالي بمن احتكّ جسمه فيها، وخلف العمود الأخير يمين بوابة الشرفة انزوى رجل وامرأة في منتصف العمر يتهامسان، واتكأ جندي شاب على العمود في الوسط ينفث دخان سيجارته بتلذذ، لكنه بدا متبرما ينظر ساعة معصمه بانتظار مميت.
كان الوقت في قاعة المسافرين يقارب السابعة وعشرة دقائق مساءً، حسب ما تشير له الساعة المعلقة فوق الباب الموارب قليلا لمكتب مدير المحطة من خارجها، والقطار النازل إلى مدينة البصرة موعده في الثامنة مساءً، مما جعل لبرهان فضلة وقتٍ يستطيع فيها أن يشرب كوب شاي، ويثرثر قليلا مع ثلة الجنود الذين تجمهروا حول إمرأة لم تصل عقدها الثالث، تبيع الشاي ولفات الأكل، ولم يُتعب برهان نفسه بالبحث عن صديقه أحمد، بعد أن لفظتهما سيارة الأجرة أمام البوابة الرئيسة للمحطة، فقد أسَرّ له أحمد قبل أن يستقلاها برغبته في الرجوع والتمتع بيومين إضافيين، يغيبهما على سبعة أيام إجازته، لكن برهان تراجع عن وجهته إلى المرأة، بعد أن لمح صديقه ينسل بين ثلة الجنود ويتدانى حثيثا إليها.
تمتد علاقة برهان بصديقه أحمد إلى ما قبل سنة من الآن، وقد تعارفا في المحطة، وشاءت الصدف أن يتزامن موعد إجازتيهما والتحاقهما سوية طيلة تلك السنة، فتعمقت الصداقة بينهما في المحطة، وداخل القطار، وامتدت للتزاور بينهما، وبدا الإثنان مرتاحين لبعضهما، وكان واضحا لبرهان أن صديقه من الشباب المتبرمين ليس على الحرب وأسبابها فحسب، بل على كل أمور الحياة، فهو يعيش ساعته بكل دقائقها ولا يبالي فيما سيحدث له من بعدها، وصاحب نكتة عابرة ساخرة، نبهه برهان أن (عقوبة قطع اللسان)[5] قد تطال قطعة اللحم الثرثارة في فمه من وراء نكتة يطلقها في ساعة انشراح لا ينتبه لها هو، فتتلقفها إذن أحدهم ويوشي عليه للسلطة، من أجل أن يُشكر ويقال له أنت أحدُ رجال الحزب والثورة!.
كان برهان يَطْمَئِنَّ لصديقه كثيرا وهما لوحدهما، لكنه يخشاه ويرى في كل قول يطلقه، ومع كل خطوة يمشيها هو سائر إلى رصاص صليب المعدومين، قرب ساتر ترابي لا يتذكره برهان إلّا إذا بدأ صديقه يثرثر ويتندر على الوضع العام، وكان مثل هذا التندر سببا كافيا لأن يُغيب الانسان ولا يعثر له على أثر، وبعض الأهالي تتبرأ أمام رجال السلطة في الدنيا وفي الآخرة من أفعال أولادهم وحتى من أولادهم!، وكل من خضعوا لحيف هذه التجربة وذلها كانوا يجبرون، بغصة ملؤها الدم على ضياع أولادهم، أن يصرحوا بأن أولادهم أصابع معوجة في أياديهم، وبترها يريح عظام أياديهم من وجعها!، ووحدها الأمهات تنكفئ نادبة بصمت ضياع من قضت العمر ساهرة لأجل أن يشتد عوده وتفرح فيه، ليداري شيخوخة تخاف فيها أن ينعدم البصر، وينحني الظهر، وتُلازم الفراش، تنتظر رحمة وليدٍ غُيبتْ روحه معدوما رميا بالرصاص عند ساتر ترابيٍ ما،وكان أصعب ما يزعج برهان أن على ذوي المعدوم دفع ثمن عدد الإطلاقات التي رميت على جسده!، وبرهان كل حين يتذكر خائفا، ويتعجب كيف أن معمل فرم لحم الإنسان ذاك لم يجع ويطلب مزيدا من الهرس، يكون هو أحد الأشلاء التي تُرمى له لتُسكت عويله!.
دلف برهان إلى قاعة المسافرين، تاركا صديقه أحمد عند البائعة، وانتابه هاجس أن أحمد سيلازمها جالسا قربها مادام في سلتها أكل تبيعه!، وبدت مقاعد الصالة الخشبية موحشة من سكانها عند دخول برهان، وثمة أكياس حلوى فارغة نثرتها أيادي الأطفال هنا وهناك، بعد أن التهمت ما في داخلها، و نثار قطع الكيك وأغلفة فارغة أخرى لم يعلم برهان لأي أكلة أطفال محببة لهم تنتمي تلك الأغلفة، كانت مرمية بإهمال على الأرض، قرب حيطان الصالة، وبعضها قد دعكت بمهارة، ورميت تحت المقاعد، على أمل من الأهالي أن لا يراها عريف الإنضباط، الذي يبدو لمن يراه بمشيته العسكرية، وطاقية رأسه الحمراء، وبدلته المهندمة، وعصى التبختر العسكرية تحت إبطه، كأنه ديك يتباهى دائرا حول سرب دجاج، لا ينافسه عليه ديك غيره!.
كانت برودة القاعة لا تطاق، وإحساس الرجفة يراود كل من يدخلها، وحيطانها تنفث صليل برودة بداية شهر شباط كأنها عربة لتبريد المثلجات، وانقبضت نفس برهان فأسرع خارجا منها إلى الجهة الأخرى، حيث يتجمهر المسافرون عند ناصية السكة الحديدية بإنتظار القطار القادم من بغداد، وقابله صياح الآباء على أطفالهم لتجنب الإنزلاق حيث كومة عواميد السكك الحديدية متشابكة على بعضها تحت الناصية بمتر تقريبا، كأنها كومة أفاعٍ هدّها حر جحورها في الصيف، ونامت ملتوية على بعضها في ليل مدينة الحلة الموشح بردا قارصا كلما تقدمت ساعاته، وإتجهت عيون المسافرين تَرْقِب ظلمة الطريق، على أمل أن يخترق ضوء مصابيح القطار ليل المحطة الدامس، خوفا من غارة قد تشنها الطائرات الإيرانية، بعد أن أُعْطِيَتْ القوات الإيرانية دفقة عزيمة بإحتلالها لشبه جزيرة الفاو في محافظة البصرة، وتناهى لسمع برهان همسٌ يقول أن البصرة سقطت عسكريا بعد أن تجاوزتها نيران سلاح المدفعية الإيراني.
أحسّ برهان أن موعد وصول القطار قد أزف، وبدأ المسافرون يصيبهم الملل، فكان بعضهم يلملم حقائبه سوية، ويجرها بنزق من أيدي الأطفال لتكون قريبة من بعضها، وآخر يشد يدي طفليه سوية ويرقب الطريق، رافعا جسمه على أطراف قدميه، وثالث وقف ساهما ينظر لفراغ الظلمة أمامه ويفكر في صمت، وانزوى رجل مكفهر الوجه يريد أن يحتضن بناته ويلمهن بين ذراعيه، مستفزا من بعض الجنود وعيونهم الوقحة تتلصص على الفتيات، وحُوصِرت الفتيات بين صرامة الأب، وعيون الجنود لأن يدرن ظهورهن لسكة القطار، فبدونَ للناظر من خلفهن كأنهن خيمة سوداء تذري فيها الريح وتطير أطراف عباءاتهن، ووالدهن يقف من الجهة الأخرى ووجهه صارما ينظر بضيق ونفاذ صبر للسكة، مثل بدوي يقف بباب خيمته وحيدا يرقب جاره خائفا أن يغزوه في عقر داره.
اخترق الأفق طيف ضوء مر سريعا، فَعَلا صوت همهمة بين المسافرين، وارتفع صوت غيرهم معلنا قدوم القطار، بينما نفته مجموعة أخرى، وتندر جندي أنه سيتوسد الحقيبة وينام لحين وصول القطار، لكن إنعطافة الطريق في البعيد لاح منها ضوء المصابيح، وجأر صوت المنبه فيه نائحا، كأنه ناي مشروخ عند راع لا يجيد العزف عليه، وإهتزت الأرض تحت أقدام المسافرين، بضربات رأس مطرقة كبيرة، راحت تزداد قوة في طرقها كلما إقترب القطار من المحطة أكثر.
(2)
كانت المرأة تنزوي خلف البوابة الرئيسة للمحطة، وأمامها صندوق فلين فيه أكل برزت من بين لفات أرغفة خبزها أوراق الخضروات، وتناثر على جوانب الصندوق قطع الطماطم، وقشور البيض، وفتات من الخبز، وقبالتها داخل قاعة المسافرين كمن أمام شباك التذاكر موظف في أواسط عمره يرقب البائعة بعيون زائغة لحضنها، على بصيص أنوار الداخل تضيعها ظلال أجساد الجنود حولها، والبائعة تلف العباءة بين فينة وأخرى لتهيئ له أنها تتقي شعاع عينين تريدهما أن تستمرا ترقبانها، وتترك أطراف العباءة تتهدل على كتفيها، وترخي فوطتها من الصدر، ليبان نحرها أبيضا، ويتلألأ ظل كتفها على نهر نهديها، فتحني ظهرها بغنج للأمام ، متشاغلة مع جندي يطلب أكلا أو كوب شاي، وتتباطأ في ترك ما تبيع ليد الجندي حتى يطول إنحنائها، فتبدو في تلك اللحظات القصيرة ناعسة العينين فيها خدر إنوثة، لم تشبع من فراش زوج، قد يكون فارقها ملتحقا بوحدته في قطار الساعة الثامنة قبل أسابيع من يومها هذا.
استبطأ الجندي أحمد استلام لفة أكله، وثنى رجله جنب البائعة بحجة الجوع ورغبته أن يكون قريبا من إبريق الشاي، فاتحا حقيبته، وتشاغلت يداه تبحث بين طياتها، وراقبته بعض العيون، فتشجع أحمد وحاول أن يلفت انتباه البائعة، متصنعا دفن رأسه قرب فتحة الحقيبة، في حين دفع ثنية رجله بهدوء وبطء تحت فخذ البائعة، وراح يتحسس وئيدا من الأسفل.
راقبهما برهان خلسة وخمن أن البائعة استمتعت بالأمر، بعد أن سوت طرف العباءة على رجل أحمد، لتبدو كأنها غطتها دون علمها، واحْمَرّ خَدَّاها، وتهدلت شفتها على حنكها كأنها عنقود عنب نضجت حباته وحان قطافه، فخفض الجندي أحمد يده أسفل فخذه وزحفت أصابع يده تحت العباءة مثل أفعى تبحث عن مخبئٍ لها، وتأكد لبرهان أن أحمد سيترك المحطة، ربما قبل أن يأتي القطار، وينسلّ وراء البائعة حال أن تنهي عملها، بعد أن رآه يخرج دجاجة مطبوخة كانت في صٌرّةِ كيس أغْلقَ بأحكام عليها داخل حقيبته، وفرشها أمامه منتقيا منها عظم فخذها يتلمظ فيه ماصا نخاعه، بصوت أراد له أن يكون مسموعا خاصة من قبل البائعة، وزوى ما بين حاجبيه يختلس النظر لوجه البائعة، ويلعق شفته السفلى ليتركها فكه العلوي تتهدل سريعا، كأنها شريحة لحم كبيرة تهدلت من بين يدي قصاب ينوء بحملها، وراحت تترجرج أسفل ساعده حمراء مقددة، فترقرقت ابتسامة على مُحيّا البائعة.
انتبه أحمد لاحْمِرار خديها فكوَّر لها قطعة لحم في رغيف خبز وقدمها أمام وجهها، وفيه رغبة أن تفتح فكيها دون أن تمسكها ليطعمها بيديه، وشجعها قائلا:
- لا تردي يدي.
فاجأها سلوك الجندي وتحرشه العلني أمام العيون المبحلقة فيهما، فأطرقت رأسها أسفل وقالت بغنج:
- لا.. أريد.
أثاره تقطيعها لكلمات رفضها فقال يستحثها بوقاحة، غافلاً عن كل من حوله:
- لا تكسري خاطري، وتسدي نفسي.
تشربت عيناه قسمات وجهها واحتوتهما، والتوى كتفه الثاني ناحيتها، دافعا أصابع يده تحت العباءة أكثر من ذي قبل، فاشتعل لهيب نار على وجوه دائرة الجنود حولهما، وفي داخل كل واحد منهم حلم يقظة أن تكون يده هو لا غيره من تمتد الآن أصابعها تحت عباءة البائعة.
انسل الموظف من خلف شباك التذاكر وتوارى عن الأنظار، ليعقبه بعد لحظات حضور أحد أفراد الإنضباط العسكري برتبة عريف، واقفا فوق رأس الجندي أحمد:
- (أبو خليل)[6]، أعطني إجازتك.
غصّ أحمد بلقمته، وعبثت أصابع يديه مضطربة داخل جيوب بذلته، تبحث عن نموذج الإجازة، وبفوضى أخرج الورقة وقدمها بأدب وهدوء للعريف:
- تفضل عريفي.
دقق العريف في نموذج الإجازة، ولما تأكد من سلامة موقف صاحبها أرجعها له، وإنصرف غائبا داخل قاعة المسافرين.
تشاغلت البائعة تلملم أغراضها بعد أن استلمت ثمن أخر لفة أكل من أحد الجنود، وسكبت ما في داخل الإبريق، ونهضت منصرفة، لكن أحمد فاجأها على ناصية الشارع المقابل لبوابة المحطة، قبل أن تغيبها ظلمة أشجار غرست جنب أحد حيطان البيوت فقالت مذعورة:
- (عزه العزاك..يمه)[7]...خوفتني!.
خفضت صندوق الفلين عن رأسها بعد أن دعت عليه بعزاء مصيبة يفزعه مثلما أفزعها، لكنها أسرت له متلفتة لخلفها:
- سيفوتك موعد القطار(ثم كأنها تحرضه أردفت)لا تقل أنك لن تذهب، وستغيب!.
فقال أحمد حالما بليلة حمراء يقضيها بين أحضانها:
- ألعن أبا القطار، وألعن أبا من سيتركك ويركبه.
فقالت متلفتة مرة أخرى:
- ياويلي..تفور منك النار حتى قبل أن تلمسني!.
وأضافت كأنها خبيرة فيما تفعل:
- انتبه..هي ساعة واحدة لا غيرها.
وانسلا شبحين في ظلمة الليل، لا يطارد روحيهما غير ظلين خفيفين لهما على أنوار مصابيح المحطة خلفهما، وصوت القطار القادم من بغداد، بعد أن هدأ دقائق قليلة، ورجع يجأر ثانية جعل البائعة تفكر أنه تحرك نازلا في اتجاه البصرة، فشبكت أصابع يديها بين أصابع يدي أحمد تستحثه الخطى، لأطلال دار قريبة من محطة القطار.
(3)
بانت لبرهان عربات القطار من الداخل مكتظة بحمولتها، ولا تستوعب الكثير ممن يفدون لها في المحطات الآتية، فقد كانت كل محطة معبئة بالمزيد من الجنود الملتحقين لوحداتهم العسكرية، ونظام السكك الحديدية لا يجبي تذاكر سفر من الجنود عند التحاقهم لجبهات القتال دعما للمجهود الحربي، ولهذا فأنت ترى القطارات غاصة براكبيها الخاكيين دوما، وتراهم في كل حين يشغلون جُلَّ مقاعد القطارات النازلة إلى الجنوب، لا سيما قطار مدينة البصرة، لأنها مدينة حدودية مع إيران، تُحاصرها سواتر المعركة هلالاً خانقاً لها من جهة الشرق كلها.
تزاحمت الأجساد، وتراصت الأكتاف، وغدا المروق عبر الممر ليس بالأمر الهَيِّن، وكل الذين صعدوا على متن القطار يبحثون عن مقاعد فارغة، والتجربة عَلَّمتْ برهان العسافي أن موجة الراكبين عادة ما تتحرك في بحثها عن المقاعد الفارغة بإتجاه العربات الأمامية، وتبقى فرصة الحصول على المقعد المنشود أيْسَر وأكثر حدوثا لو توجه المسافر فور صعوده نحو العربات الخلفية، هناك حيث ذَيْل القطار يتحركُ منساباً، مثل ذيل ابن عرس يريد أن يختبيء سريعا.
مَرَّت الإضاءة الشاحبة عبر نوافذ القطار سريعة، تَلطُم عينيه بوهجها الخاطف، وهي تقابله وجها لوجه ثم تتلاشى بذات سرعة خطفها للوراء، تاركة ظلاما آخر أمام عينيه يفاجأه خطف مصباح إنارة يسير على خُطى المصباح الذي سبقه، وكأن القطار رغم سرعته يُودع محطة سكة الحديد بحزن مليء بالأسف، ويعتذر صامتا من مدينة حط رحاله فيها مُتعبا منهكا، وسيُبارحها لمحطة أخرى سيقضي ثلث وقته ليصل لها فاتر الهمة يراوده شبح النعاس، محملا حَدُّ التخمة براكبيه قبل أن يلفظهم في محطة المعقل، حيث يهدأ محركه وتختفي سحابة الدخان من مقدمته، وينام متخما بلزوجة هواء يَهِبُّ عليه من خليج يتحارب عليه طرفان لا يتفقا على تسمية واحدة له، قبل أن يختلفا على ملكية جرفيه وساحليهما!.
أصبح صوت القطار الفرنسي رتيبا على خط سيره، وميزه برهان عن غيره من أبوابه التي تُفتَحُ ذاتيا، عبر خيط شعاع في أعلى باب كل عربة لو قُطِعَتْ لوحته الكهربائية بجسم راكب فُتِحَ ذلك الباب ذاتيا، ليُصْفَقَ بهدوء ودون إزعاج وراء كل راكب يمر عبره، ولمن هم وراءه في العربة التي خلفها.
اخترق برهان حشود الركاب المتراصة، وكان الجنود يفترشون الممرات، وفيهم من تمدد على ظهره، وشبك يديه خلف رأسه يحلم بأرغفة الخبز الحار التي خلفها وراءه تخبز فيها أمه، وآخر غط في نوم متعب، وعكف ركبتيه على وسطه سادا الممر، وفيهم من يزاحم الركاب على جانبيه بأرجله الممتدة بين المقاعد، ورابع يركل رأس الجندي النائم عند نهاية امتداد ساقيه، وخامس نزع حذاءه العسكري ليجعله وسادة له في الممر، تاركا رائحة العطن تفوح من بين أصابعه، وتزكم أنوف من لازال صاحيا قربه، ولا يترك له فرصة إلا أن يسد أنفه بكفه ويتشاغل بالنظر جانبا متأففاً، أو يترك مقعده ويخرج من العربة متسكعا بين الممرات، أو يذهب ليقتل الوقت في كافتريا القطار لحين وصوله لوجهته الأخرى.
إستغرق برهان وقتا ليس بالقصير في بحثه عن مقعدٍ شاغرٍ بين الركاب، وفي العربات الأخيرة للقطار أزاحت له امرأة أربعينية تجلس مع ابنتها، حقيبة كبيرة تركتها تسقط على عجالة بين المقاعد التي أمامها، ودعته لأن يجلس قرب ابنتها، وانزوت الأم قرب النافذة ترقب أشباح الطريق على جانب السكة الحديدية بصمت.
أفسحت له الفتاة مكانا أوسع، وتدانت لصق كتف أمها حذرة وهي تتمتم:
- تفضل.
كانت الكلمة خجلة، ممطوطة، وخرجت من بين حبال صوتية فيها بحة تحشرجت نهاية الحروف فيها، ولمح برهان من زاوية عينه اليمنى توشح خدّا الفتاة بحُمْرَةٍ استطالت مع وجهها الطويل، وترقرقت إبتسامة في زاوية فمها الهلالي، زادتها حلاوة عينيها الواسعتين تحت حاجبين خطا بعناية وإتقان، بقلم مكحلة سوداء كظلام الليل خارج القطار.
سألته المرأة بحنان الأم:
- إبني..من أي محافظة أنت؟.
قال متشاغلا بتعديل حقيبته قرب ساقيه بين المقاعد:
- من الحلة.
التفتت الفتاة ودققت في ملامحه، فقالت أمها متعجبة:
- أنا وابنتي من الحلة..لكني لم أشاهدك تصعد القطار من محطتها!.
فقال باعتذار:
- الناس والجنود كثيرون هناك...لكن من المؤكد كنا موجودين سوية في المحطة، من دون أن ننتبه لذلك.
سألته برقة:
- وحدتك بالبصرة؟.
خفض صوته وقال هامسا:
- عميت عين البصرة يا إمي... ستنتهي أرواحنا برطوبتها، بخاصة في شهر حزيران.
فردت مواسية له:
- الله كريم إبني...إن الله مع الصابرين.
وأضافت كأنها تريد أن تحرف الحديث عما ذهب إليه:
- أنا جئت مع أبنتي..امتحانات نصف السنة قربت...(ودون أن يسألها) هي بمعهد الصحة في البصرة...
ثم إندلق لسانها لبقاً يفصح عما تعانيه:
- المسكين أبوها دَعوهْ للإحتياط...من المؤجلين.. موظف..لكن دائرته فكت إرتباطه..كان ستراً نستظل به، وهي بعد عمري عمرها... صغيرتي! وما أكملت سنتها الإولى بالمعهد.
فسألها برهان ليشاركها الحديث، ويقتل مزيدا من الوقت قبل أن يغفو قليلا:
- وما تخصصها؟.
تطوعت الفتاة لترد قائلة بتباهي:
- معهد... صيدلة، مرحله أولى.
فسأل الفتاة قائلا:
- صعبة... أليس كذلك!.
ردت الأم متضامنة مع تعب إبنتها:
- مسكينة..دراستها صعبة...حتى في البيت، تسهر للفجر وهي تقرأ دروسها!.
وشكت له باعتداد:
- دوماً وقتها ضيق، دراستها صعبة.
فقال برهان مؤكدا:
- أكيد...خاصة أغلب دراستهم عن علم الفارماكولوجي.
فقالت الأم مستفسرة من إبنتها:
- (علم الفاركوجي؟).
افترّت شفتا الفتاة عن إبتسامة كبيرة، وراحت تصحح لأمها وتشرح المصطلح الطبي:
- لا يا أمي هو علم الفارماكولوجي، وليس علم الفاركوجي!..هذا علم دراسة الأدوية وتركيبها.
فقالت الأم:
- أليست الأدوية جاهزة؟..لما نصدع رأسنا بما فيها!.
ندت ضحكة شفافة من الفتاة عزفت على أوتار طيبة نكتة أمها وبساطتها:
- يا أمي..الصيدلة هي العلم الذي يدرس مزج المواد لتكون أدوية..لتكون بالشكل الذي تستعمليها فيه!.
ولكي تقطع سلسلة تساؤلات أمها إلتفتت على برهان وقالت:
- أنت درست صيدلة؟.
ضحك بهدوء وقال:
- لا.
فقالت، وأحسها تستحثّه المزيد:
- فمن أين إذن تعرف مواد دراستنا؟!.
- من بعض الأصدقاء، ومعلومات عامة.
ثم أضاف ليزيل اللبس عنها:
- أنا خريج معهد تكنلوجيا قسم المساحة.
فهللت متعجبة:
- ما شاء الله..تخصصك بعلم المساحة، وتعرف بعلم الأدوية وأهميته.
فقال متوددا بعتب:
- ألم تسمعي:...يضع الله قوته في أضعف خلقه!.
فأسرعت تعتذر خجلة:
- لا العفو، ليس هذا قصدي، لكن ما شاء الله معلوماتك العامة... واسعة.
رد بترميز مبهم:
- الجميل بالمعرفة الموسوعية تجعل الذي يرتادها يأخذ من كل شيء جزءً، وأنا آخذ من كل علم ما تيسَّر منه.. لهذا ربما تكون معرفتي موسوعية!.
وراح يكور أصابع يديه ويفتحهما، ليشير إلى حجم فكر الإنسان إن توسعت معلوماته العامة:
- أكيد ،مثل معلومات الطالب.. كلما يتعدى مرحلة تزداد معرفته بتخصصه الدراسي.
قاطعتهما الأم موجهة كلامها لابنتها:
- ندى أنا رأسي يوجعني من الصبح...سأغفو قليلاً.
اتكأت الأم على النافذة بكوعها وأراحت رأسها عليه، ثم غطت جزءً منه بطرف عباءتها، فقالت ندى مسوّغة سلوك والدتها:
- رأسها يؤلمها بسببي.
رد برهان:
- حقها، والدة.
إطمأنت لقوله وفضفضت:
- تحبني جداً..ابنتها الوحيدة، ثم قس على ذلك!.
فقال كمن يعتذر منها:
- أخشى أن تكوني أنت الأخرى رأسك يؤلمك....تصبحين على خير.
فردت قائلة بكياسة:
- لا بالعكس...آسفة، خذ راحتك.
خيم الصمت عليهما قليلا، وبعدت المسافة بينهما، فأخرج برهان من حقيبته (مقدمة ابن خلدون) وصحيفة، لكنه أرجأ قراءة المقدمة لوقت يكون فيه قد هَدأ رصاص الحرب وشظاياها، وكان في وحدته كثيرا ما يبدو الوقت سأمٌ، وفيه رتابة مملّة، يقضيها مع جنود آخرين تواصوا أن يجلب كل منهم كتابين، أو ثلاثة يتبادلون قراءتها فيما بينهم، فأعاد المقدمة تحت حاجيات حقيبته، وفتح طيات الصحيفة ليقرأ رسالة من (أوراق امرأة عاشقة) لعبد الستار ناصر.
غرد بلبل قلم الناصر شجيا بفكره، وحوم شبح العاشق يحمل حقيبته بيتا له في أسفاره، يحط في القاهرة ويرحل لمرسيليا، فيما أخرجت ندى دفتراً صغيراً من حقيبة يدها، وراحت تدون فيه شيئا، ويدها التي تمسكه تطوي صفحته عن عيني برهان، وتميل بكتفها على ساعد أمها لتحاشي تطفله لو أراد أن يتلصص على ما تدونه.
كانت تكتب شيئا ثم ترنو على زجاج نافذة القطار، وقبل أن تكتب ثانية تسترق النظر إلى برهان ثم تنكب على دفترها، وزادتها حركة القطار وإرتجاج جسمها برتابة تتكرر مع كل دورة لدواليب العربات وعربدتها على سكة الحديد، بشحنة تُناسقُ بين الكتابة والنظر عبر ظلام الجهة الأخرى خارج القطار، ثم الرجوع لدفترها مرة أخرى، وتناست وجود أمها قربها، فاتكأت بكامل ثقلها على كتفها، وانشغلت بطيف تناجيه على أوراقها، في حين كان برهان لا زال يبحر مع عبد الستار ناصر عبر مدينة نابولي، ولا ينام ليلة فيها إلا وقد حلم بليلة يقضيها في أمستردام، يناجي أهداب عيون حبيبة مرة يجعلها ضحية طيشه وأسفاره، ومرة يجعلها سبب ذلك الطيش وهجرته.
انقطع الاثنان عما يجري داخل العربة، وغدا شخير الجنود حولهما كأنه ريح تَصْفِرُ خارج خيمتهم، وانتشى كل واحد منهما مع تخيلات حلم يقظة يصوغه على هواه، قطعه مرور عنصر من الإنضباط العسكري بعصا تبختره، يركل جندياً نام متوسدا حذاءه، ويحاول أن يزعج كل نائم آخر منهم ليس لتجاوزٍ ارتكبوه، بل لشعور داخلي يمارس فيه أمرا أباحته السلطة التي مُنِحَتْ له، وكان جِلّ الجنود مضطرين لأن يتلقوا ركلاته المُستفِزة، وجنون توحش سلوكه عليهم بصبر وأناة، وفيهم أمل أن المحطة الآتية ربما تكون منقذا لهم ينزل فيها عنصر الإنضباط ويستبدل بآخر، قد يكون أكثر رحمة منه، وأقل خشونة معهم، وفيهم من يأمل أن يغشى النعاس عنصر الإنضباط فيركن لعربة القطار الأخيرة، ينام فيها ما تبقى من تلك الليلة.
تشتتت أضواء خفيفة لبيوت متناثرة خارج زجاج نافذة القطار، وتكدست حزمة ضوء كبيرة تخرج من قرية أشعلت كومة حطب، فكر برهان ربما تكون لتسخين مياه تغسل فيها مواعين طبخ لزفة عرس إنتهت فيها!، ونحبت صفارة القطار تبكي تعبه من طول السفر، وحدثت جلبة بين المسافرين المدنيين، وتساءل بعض الجنود عن المحطة التي سيصلها القطار، فتطوع بعضهم وأجاب، فيما نفى الآخر غير مصدق، ليتركا الإثنان صاحب السؤال الأول حائرا، لا يعرف أيهما صاحب الإجابة الصحيحة!.
تراءت المصابيح الفسفورية الملونة لمحطة سكة حديد السماوة، وأبطأ القطار من سرعته فتزاحم زخم العربات تضرب بعضها، وترجرجت السرعة من العربة الأولى حتى الأخيرة، كأنها حصى قَذفتْ فيها يد طفل على شاطئ نهر، فأحدثت شططا يتهادى نحو الجرف، لا تستكين موجته إلاّ عند رماله، ثم زعق القطار يعلن تمرده على مراجل محركه، وطقطق حديد هيكله، واستكان واقفا دون صوت.
نهض برهان واقفا وترك الصحيفة على مقعده بعد أن وضع عليها حقيبته ، وإنسل بين الركاب النازلين مخلفا وراءه جارة سفره ندى دون أن يلتفت إليها، على أمل أن يتركها تأخذ راحتها لوحدها قبل أن يتحرك القطار بهما ثانية.
كانت قضبان سكة الحديد في محطة السماوة تمتد مستقيمة ومتوازية، كأنها أسطر في دفتر ندى التي خلفها تخربش فيه، بأفكار لا يعلم كنهها، وبدا ثمة أكثر من قطار ينام ساكنا على سكته، ومرق قطار يجر عرباته متعبا ليصعد فيها إلى محطة الحلة، وقطعا سيتجاوزها صاعدا في من يسافر على متنه إلى بغداد كما فكر بذلك برهان، وشغله توسط محطة السماوة باقي المحطات لتكون دار استراحة للقطارات الصاعدة منها والنازلة إليها، وتجسد كل قطار فيها لبرهان العسافي كأنه وحش كبير يهده التعب، وتخور قواه، ويضنيه الجوع والعطش، فيلجأ مجبرا لمحطة السماوة يتزود منها وقودا، ويبتلع مسافرين جدّداً، ويلفظ خارجه آخرين، ثم يواصل سيره، غير عابئ برحلته الطويلة، وانتاب برهان شعور بالعرفان والجميل لخدمات القطارات، وعدّها كائنات صنعت لتكون مضحية، لا تعرف شيئا عن نرجسية المسافرين الذين تحملهم في بطونها!.
جلب معه كوبي شاي وقطعتي كيك لفّتا بورق أبيض ورجع صاعدا للقطار، ثم ناول ندى كوباً منهما وقطعة كيك، قبل أن يزيح حقيبته ويجلس ممسكا الصحيفة بيده الأخرى، فشكرت له فعله، وتشاغلت بمحاولة خفض رأ سها على حجرها ليتهدل شعرها الأسود على جانبي وجهها، وتشرب ما في كوبها دون أن يلحظها برهان، لكنه أشاح بوجهه للجانب الآخر وراح يمضغ قطعة الكيك على مهل، ليفسح لها متعة شرب ما ابتاعه لها من دون ازعاج منه، ولم يفت عن باله ارتعاش أطراف أصابعها عندما لامست كفه الممسكة بكوب الشاي.
كان الارتعاش مثل مس تيار كهربائي سرى بين يديهما، والتقت أعينهما، ورمشت الأهداب فيها، وأحس برهان أن طريق تواصل بدأ يُحفر بينهما، وإمتلأ داخل ندى فيضٌ بالشكر لمن بات ينبش في طريق التواصل بينهما ويُعمق فيه، وأحست برغبة لأن تنحني إجلالا لمحطة قطار السماوة، وصاحب كشك الشاي، ومن باع برهان قطعتي الكيك، وفي داخلها إشتعل نور بدا إشعاعه يخفق له قلبها دون توقف!.وأحست أن من يشاركها احتكاك الكتفين لو اهتزت العربة وكان يبدو لها قبل ساعات مثل أي جندي آخر، بدا الآن يمثل لها ربيع العمر، وقَزّمَ كل الشباب في فصلها أمام هيبة شكله، وغدت ملامح وجهه، وإنحناءة كتفيه، ونحول جسمه، كأنها آيات جمال ما خُلِقَ لها شبيه على الأرض مثله أبدا!.وازداد عندها تحضرا عندما لم يفرض وجوده عليها عنوة، وراقبته وهي تكتب وما رأت منه التفاتة فضول على دفترها، فتناغم سلوكه هذا مع جنونها بمن يلتفت لما بين يديه ولا يلتفت لغيره ما لم ينهه، وتلك صفة راقت لها عندما أحنى كتفيه وانتحى جانبا عنها، ثم دس عينيه بين سطور الصحيفة التي يطالعها!.
انتبهت ندى لبرهان مستغرقا في مطالعته، فاستلت دفترها وراحت تكتب ثانية، حتى غشاها النعاس وثقلت جفونها، وانتابها خدر زاده اهتزاز العربة الرتيب لذة، جعلتها كأنها طفل صغير هُزَ فيه المهد وغفا.
التوت رقبتها بعد دقائق ومالت على كتف برهان، فانتبه وأرخى لها رمانة كتفه لتنام هادئة مطمئنة، وتناثر ليل شعر رأسها على صدره، وتعبأ أنفه برائحته ممتزجة مع عطر راح يختلط فيه من ثنية قميصها عند رقبتها، وارتخت يدها الممسكة بالدفتر، فاستقر في حجرها مفتوحا على صفحتين كتبت فيهما رؤوس أسطر راح يقرأ منها برهان مقتطفات مثل ( مذ صعدت القطارمن محطة الحلة وقربي يجلس قدرٌ، لو تلبسني لما رفضته، ولسرت وراءه عبر حدود الدنيا كلّها)
فانتابه الفضول ونزل بعينيه على هامشها الآخر وقرأ فيه (قال لي بعد أن فك حجاب روحي وغلافها:تصبحين على خير، وأحسست أنه يريد أن يقول: تصبحين على ما تتمنين، وما علم المجنون أنه أصبح كل أمنياتي!.)
جَمّدَ برهان جسمه حتى لا تبدو منه حركة توقظ ندى، فاضطرب قلبه خافقا بينما كانت ندى نائمة ملء جفنيها، وقرب محطة المعقل في البصرة فكرت ندى أنها صعدت عربة القطار في الحلة طالبة صيدلة لا يشغلها هم غير الدراسة وسهرها، لكنها نزلت منها في المعقل ولها همّان، هَمُّ دراسة الصيدلة، وهَمُّ الإعجاب بجندي شاب رافقها الرحلة جالسا قربها، ولا تعرف متى سيتسنى لها الوقت لتراه وتتشرب عيناها من ملامح وجهه ثانية، وقد لا يعود أبداً!.
(4)
البصرة عادة هي مدينة لا تغفو أبدا، لكنها بدت لعيني برهان العسافي عند الساعة الخامسة فجرا، رغم الضجيج والبرودة ووحل الأمطار فيها، مثل طفلة غافية على جرف الشاطئ، صحت مفزوعة على صفارة القطار في محطة المعقل، تلملم نعاسها، وتفرك عينيها،علها تستوعب حشود النازلين من عربات القطار، وتسير فيهم لدروب يطول وقت سيرهم فيها، فتجعل بعضهم يسرق مزيدا من الوقت علّها تنساه يتسكع في شوارعها ليتشرب ما يجري داخلها.
كان دوي المدافع يسمع صداه يأتي من جنوبها، وصفارات الإنذار تزعق كل بضع دقائق تحذر الناس من موجة قصف مدفعي، أو سرب طائرات إيرانية ستقصف المدينة، وبدا الناس مرعوبين مما يجري، لكن الجنود كانوا غير مكترثين، وفيهم إحساس أنهم في الخلف، بعيدين عن الخطر، ويشيرون لمكان تساقط قذائف المدفعية، بلا مبالاة ومن دون اهتمام، لكنهم كانوا مشغولين بما يجري هناك في الأمام، حيث ستلفظهم السيارات المدنية عند أول نقطة عسكرية تتحول بعدها الأرض لمنطقة عسكرية يمنع على المدنيين دخولها، ويكون نقل الجنود عبرها محصورا بالعربات العسكرية، وثمة غرفة يرفرف الموت حولها كأنها بومة تنعق على أهل دار حطت فوق أشجارهم، لو تقربت منها لقرأت قطعة خطتها يد عنصر لا يجيد الإملاء في الكتابة، وقد يكون من خطها على عجلة من أمره، فكتب عبارة (فرقة الاعدامات)[8] بالتاء الطويلة، وتلك مشاهد سبق لبرهان أن رآها عند التحاقه في المرات السابقة، لكنه الآن أراد أن يسرق مزيدا من الوقت قبل أن يلتحق بوحدته في الأمام.
كانت الكتل البشرية تخرج مثل أسراب النمل من عربات القطار، والمدنيون منهم يحثون الخطى مسربلين بملابسهم الملونة، يجرون الحقائب بأيدهم من جهة والأطفال يمسكون كل إثنين وثلاثة من معاصمهم باليد الثانية من جهة أخرى، وبعض الأطفال لا يجاروهم السير لقصر خطواتهم، وبعضهم أكبر سنا فيحاولون أن يفلتوا معاصمهم من أيدي آبائهم وأمهاتهم، يشدهم بائع حلوى يعرض بضاعته أمامهم، وثان يهز بالونات كبيرة بألوان متعددة في جنبهم، وثالث تجذبهم إليه رائحة شواء وأرغفة خبز كومها قربه، فيما ضاعت توسلاتهم لأن يشتروا لهم أهاليهم شيئا مما يرغبون فيه وسط أصوات أبواق سائقي السيارات، وكل منهم يصيح بإسم وجهة خط سير عربته.
أما المسافرون العسكريون فقد امتدوا على طول الشارع موجة زواحف خضراء فاتحة، مبطئين من سيرهم، ومن يريد منهم التملص وسرقة الوقت قبل أن يلتحق بوحدته، تراه ينتحي جانب لطخة الفرشاة الخضراء الباهتة الممتدة للجنود على الإسفلت الأسود للشارع، متوقفا هنا ومنزويا هناك، وكانت منهم مجموعة ادّعت الجوع لرفاقها وتجمهرت عند امرأة تبيع الجبن والقيمر، وجزم برهان العسافي أن معظم من تمتهن هذه المهن عند محطات القطارات، فقدت معيلها في ريعان الشباب، واضطرتها الظروف لأن تسكن ليل المحطات ووحشتها، وتتحمل تحرش الجنود وتفريغ كبتهم الجنسي فيها، ومنهم من يتحول فيه الكبت إلى تطرف جنسي، يطفو وقاحة واستهتاراً يحرج البائعات، لكن التعود على سماع الوقاحة طيلة ساعات الليل، جعلهن يوافقن على سماعها صامتات، صاغرات، وكثيرات منهن تستغله لتصريف ما تبيع، لكن الغالبية فيهن من فهمت اللعبة وأتقنت الدور، حتى وإن لم تمارسه، فراحت تخرج من دارها بأبهى زينة على وجهها، كأنها أميرة خرجت لتوها من حمام ساخن، وتزينت لضيوف ينتظروها بفارغ الصبر، ولم يغب عن بال برهان العسافي أن تلك الزينة لا تتعدى الوجه وتحديد الملامح فيه، مع التركيز على خط الشفتين بأحمر شفاه فاقع اللون يعلوه خط الحاجبين بقلم الكحل الأسود، وتحت الجفنين برز لون البودرة الخضراء، دون أن تنتبه البائعة للون سواد الملابس الذي يرفل فيه جسمها، ولو عبأ الهواء أردان ثوبها وعباءتها لفاحت رائحة تخمر الجبن والقيمر ممزوجة برائحة عرق جسدها، تضطرها لأن تنفض فتحة ثوبها عند الصدر تأففا منها. وهن يعرفن أن زوارهن لا يعبئون لتناسق زينتهن مع ما يلبسن، ولا يهمهم أمر الرائحة التي تفوح من أجسادهن، بقدر ما يهمهم أن يتملوا واجمين في وجوههن، وكل ابتسامة تصدر على محياهن يتخيلها أي جندي منهم إشارة من البائعة وجهت له دون الباقين، ويحاكم تصرفاته معها وفق تلك الإبتسامة، مادام واقفا يعبئ أكواب الشاي، ويلتهم الأرغفة الملطخة بقطع الجبن والقيمر!.وكانت كل ثلة جنود يراهم برهان العسافي يتجمهرون حول بائعة منهن، مثل مجموعة قرود، إن أعطتها يد خارج قفصها أثمار الموز أشارت على رأسها امتنانا لمن مد اليد، ومن لا يعطيها أشارت بأيديها له على مؤخراتها، فأضحكت الجمهور خارج قفصها وزادت عطاياه لها!. وكان يرى باختصار شديد أن بؤس حياة الجنود العاطفية، وطول غيابهم عن أهاليهم، وعيشهم وسط حياة بدائية داخل جحور في الأرض، طيلة ثلاثين يوما، جعلتهم مثل البهائم، لا تفكر في شيء غير أن تأكل، وتتناسل، وتنام، والجو السياسي العام يجبرهم على ممارسة هواية القتل ليرفه عنهم، ويجعلهم بعيدين عن التفكير بما يفعله من يجلس على كرسي الحكم.
(5)
شارف الوقت على الساعة السادسة صباحا في معصم برهان، وبقي له أربع ساعات قبل أن يدخل اسمه ضمن الغائبين ذلك اليوم، وفكر أن لديه ما يقارب الثلاث ساعات فائضة، وله أن يروح فيها عن نفسه، وراودته رغبة لأن يزور ندى في معهدها، ويقضي هناك بعض الوقت ليناقشها فيما كتبت بدفترها، أفضل من أن ينتظر ثلاثين يوما وقد يمنعها الخجل ولن تستطيع أن تكون جريئة، وتخرج ما دونته بدفترها، إن استطاع هو وأوجد ظرفا يلتقيا فيه مرة أخرى!، لكنه استثنى في آخر لحظة بعد أن تذكر أن اليوم جمعة، وأبواب المعهد مغلقة فيه، وندى الآن قد تكون هي ووالدتها تتسكعان في أسواق البصرة، قبل أن تذهبا لمجمع الأقسام الداخلية لطالبات المعهد الطبي في البصرة.
رغب أن يزور كورنيش السياب على شاطئ الخليج، ويجلس عند نصبه التذكاري، وتمنى لو أنَّ صديقه أحمد كان بصحبته، لكنه تذكر سيارة النجدة التي ترابط قرب النصب فخاف أن يقع بمشكلة لو ثرثر أحمد كعادته، وسمعه أحد عناصر شرطة النجدة هناك!، وفكر إن كانت ندى تعرف المكان وزارته سابقا، ثم افترت شفتاه عن إبتسامة حالمة، وقطع وعدا على نفسه أنه سيصطحبها ذات يوم ليجلسا سوية قرب تمثال السياب، لو سارت الأمور بينهما على أفضل وجه، وخطط أن يلتقيها ثانية وسيعيش أياما حلوة معها ويصحبها أينما يريد، وقد يعرفها بأمه وأخواته، وسيخلق غير ذلك آلاف المواقف معها لكن في خياله، لتكون له عونا في تحمل الثلاثين يوما حتى موعد إجازته اللاحقة!.
وانتبه برهان لحاله يحلم بندى ورجلاه تسيران به في أسواق البصرة وأزقتها، لكنه انتحى في زقاق جانبي أوصله لجرف شط العرب، ووقف قبالة مركب بحري غطس في المياه لنصفه، وآخر ليس بعيدا عنه مقلوبا على قفاه، وثالث هناك إلى الأمام لا تخرج منه غير صواريه، واستنتج برهان أن من المستحيل على أي مركبٍ الإبحار وسط الشط مادامت الحرب قائمة، والدولة ليست بمزاج رائق لتنظف المياه من المراكب التي أغرقتها غارات الطائرات الإيرانية.
كان برهان أينما وضع قدميه يرى للمرأة حضوراً في أي شأن بسبب حالة التجنيد الإجباري للشباب، والدعوة لمواليد الإحتياط للكبار من الرجال، فيراها في كل المهن التي تعج فيها الأسواق، وبعضهن تجرأن تحت ضغط الحاجة وغياب المعيل لأن يكن سائقات سيارات أجرة، وأخريات كن يعتكفن ببيوتهن ويزاولن أعمال الخياطة والحياكة، ونشطت تجارة صالونات الحلاقة والتجميل النسائية،ورغم كثرة من يتباهين بجمالهن إلّا أنَّ بضاعة الجمال والخدر لم يكن الإقبال عليها واسعا، مع كل هجوم يشنه طرفا النزاع على بعضيهما، ويخلف آلاف القتلى ناهيك عن آلاف غيرهم من الأسرى والمفقودين، ورأى برهان في سره أن طاحونة الموت في هذه الحرب مثل شرارة النار مهما غطيتها بالحطب، اشتعلت أكثر وطالبتك بالمزيد، لكن ما كان يأسف له برهان أن في زمن هذه الحرب نشط البغاء واستفحلت حالة الخيانة الزوجية من المرأة والرجل على حدٍ سواء.
وتعجب برهان مبتسما أن يتذكر حالة بغاء المرأة وخيانتها لفراش الزوجية، وهو أحد المشاركين فيها، ومر شريط علاقته بالحائكة، وكيف تعلم على يديها فن الجنس، وتذوق مهارة سيقانها تلتف على وسطه وتعصره، ليرتشف عالم الجنس أول مرة وهو يودع المراهقة بين أحضانها!.
انزوى في أحد المطاعم الرخيصة وتناول أكلته مستعجلا، ثم خرج قاصدا سيارات سيطرة سعد، وهي آخر سيطرة يمكن للسيارات المدنية أن تصلها، وفيها تلفظ آخر راكب لها ثم تبتلع من يلوح بإجازته فرحا، لتعود به إلى الكراج الموحد في البصرة.
(6)
في سيطرة سعد شاهد برهان ثمة ثلاثة جنود اصطفوا عند حائط غرفة فرقة الاعدامات، منهوكي القوى، ووجوههم شاحبة، مصفرة، يلوح الموت على أشكالهم قبل أن تخترق رصاصات الإعدام أجسادهم، ولأجل بث الرعب بين الجنود وجعلهم يتناقلون خبر عقوبة من يهرب من أرض المعركة، فقد احتجز عناصر سيطرة سعد كل الواصلين لها، وحتى من يريد أن يغادرها، فتجمع العسكرُ، ضباطاً ومراتب، بالعشرات بعد أقل من الساعة، وخرج من حجرة الموت خمسة جنود وضابط ، واقتادوا الجنود الثلاثة ليوثقوا كل جندي على صليب الإعدام، وهو خشبة متينة غرست في الأرض، ودقت خشبة أخرى أفقيا تحت نهايتها من فوق بحوالي الشبرين، ليمدوا الأطراف العلوية لمن يُعْدَم ويوثقوها للخشبة الأفقية، فيما يقف جسم المعدوم بإستقامة مع الخشبة المغروسة في الأرض.
كان عناصر فرقة الإعدامات وضابطهم مثل بقية أفراد الجيش، لكن ما يميزهم كان تلك الخوذة العسكرية الخضراء التي يلبسونها، عكس خوذ الجنود التبنية اللون، وهنالك ميزة أخرى لخوذ فرقة الإعدام، فقد كانت تتميز بالدائرة السوداء وسطها من منطقة جبهة الرأس.
سُحِبَ الجنود الثلاثة وأكال لهم الضابط صفات الجبن والتخاذل، ثم ربطتهم المجموعة على صلبان الإعدامات عند ساتر ترابي عُدَّ لهذا الأمر قرب سيطرة سعد، وقرفص إثنان من مجموعة فرقة الإعدامات متكآن على ركبهم، ووقف ثلاثة آخرون مفرودو السيقان خلفهم فزعق فيهم الضابط:
- مجموعه..إملؤا البنادق.
امتدت أذرع عناصر المجموعة تلقم بنادقها الرصاص، وعم الصمت كل الجنود المتفرجين بالاكراه، وسمع برهان ضابط المجموعة يجأر ثانية بصوت رخيم:
- مجموعة...إرمِ.
انهمر أزيز الرصاص كالمطر على الجنود الثلاثة، واهتزّت أ جسادهم مرتجفة، فتكورت الركب، وانحنت الأكتاف، ومالت الرؤوس على صدورها، وانبثق الدم يفور ليبلل الملابس أولاً قبل أن يُنقِعُها ويُقطِر خارجها، مكونا بركة حمراء قانية عند أقدام المعدومين المعقوفة تحت سيقان التوتْ على بعضها، وخمد الارتجاف في أطرافها.
كان برهان العسافي يرى دماء الجنود مثل نبع ماء فَجَّ الأرض فائرا بغيض أول مرة، ثم راح يرطب ما حوله من رمال الصحراء، قبل أن تفيض دائرته لتسقي النبات البري قربها.
تقدم ضابط المجموعة ساحبا مسدسه من وسطه، وأطلق على كل رأس متدل رصاصة رحمة أنهت كل نَفَسٍ متبق في أجسادهم التي سكنت هادئة دون حركة، ثم انسحب الضابط عاقفا حاجبيه، ينظر بحقد على جمع الجنود، صارخا فيهم:
- (بالعجل على وحداتكم..).
وأضاف مهددا وهو يشير إلى جثث المعدومين، التي أبْقيَتْ على صلبانها، مُضَرّجة بدمائها لترعب كل من يراها:
- كل واحد يلعب (إبذيلو..مصيرو هين).
كان يقصد بكلامه أن كل من سيدخل الجبهة ويتخاذل في المعركة، سيكون مصيره الإعدام، مثل الجنود الثلاثة الذين أشار لهم. فانسل الجنود تتصادم أكتافهم في بعضها، لأحواض السيارات العسكرية خارج نقطة السيطرة، خائفين، مرعوبين من فرقة الاعدامات، وغرفة الموت التي تحمل اسمها.
(7)
امتلأت أحواض السيارات العسكرية بأجساد الجنود المحشورة على متنها، وتحركت مثيرة زوبعة من العجاج أخمدتها كثافة الرطوبة القادمة من سطح مياه الخليج العربي، والجو الماطر قبل ستة أيام في قضاء الفاو، الذي احتلته القوات الايرانية قبل خمسة أيام.
ابتعدت السيارة العسكرية ببرهان عن السيطرة، وتشبثت إطاراتها باسفلت الطريق الستراتيجي، متجنبا سائقها حفر قنابل المدفعية الايرانية التي تستهدفه كونه طريق إمداد الجيش العراقي، بين مدينة البصرة والساتر الأول القريب من منطقة المملحة، التي تقدم إليها الجيش الايراني، بعد أن أحكم السيطرة على قضاء الفاو، وراح يزحف شمالا باتجاه البصرة، لكن زخم الطلعات الجوية لسلاح الطيران العراقي، وزج وزارة الدفاع العراقية للوحدات العسكرية بالتعاقب لصد الهجوم، من دون الالتفات لمقدار الخسائر المادية في الأرواح والمعدات، جعلت القوات الإيرانية تحصن نفسها في مواضع كونكريتية أنشأها الجيش العراقي سابقا، مغلقة من جهة البصرة ومفتوحة من جهة الفاو، ومن الصعب لو تحصن فيها الجيش الايراني أن يصار لاخراجه منها، فهو عندها لن يتأثر بالقصف المدفعي العراقي من الشمال، ولا برمي الأسلحة الخفيفة والمتوسطة للجنود العراقيون، أن هجموا لاسترداد المواضع منهم، ولهذا فقد تحطمت معظم الألوية المدرعة، التي أرادت أن تعيد الفاو للحضن العراقي وفي مقدمة الألوية التي تحطمت في معركة الفاو، اللواء المدرع العاشر الذي يعد الأحسن تسليحا في العدة والعدد، بعد تسليح قوات الحرس الجمهوري، التابعة للقصر الجمهوري مباشرة، والتي لا ترتبط في أوامرها بوزارة الدفاع العراقية.
وتذكر برهان العسافي كيف أن إعلام الحكومة العراقية كان مرتبكا ليلة هجوم الجيش الايراني وإحتلاله لميناء الفاو، وظهر بيان القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية في بغداد كاذبا، وهو يعلن خبر أن القوات الايرانية حصلت فقط على موطئ قدم لها في الفاو، وأن (أبطال القرن العشرين) و(حراس البوابة الشرقية)، كما سمّاهم البيان، يباشرون في استرداد موطئ القدم ذاك!، بينما الواقع كان يقول أن أبطال القرن العشرون يصدون الهجوم الايراني عن بقية مدن البصرة، قابلين فيما وصلت له القوات المهاجمة، التي وإن لم تحتل مركز مدينة البصرة لكنها أسقطتها عسكريا، وأضحت المدينة كلها ضمن مرمى المدفعية الايرانية ذات المدى البعيد، وصار طبيعيا بعد خمسة أيام من إحتلال شبه الجزيرة أن تَسمَع العوائل الساكنة داخل مركز مدينة البصرة أصوات قذائف المدفعية الايرانية تسقط فوق أرصفة الشوارع، وظهرت أسِرّة في مستشفى البصرة العسكري يرقد عليها أطفال ونساء، جراء ذلك القصف.
كانت مشاهد التدمير للآلة العسكرية العراقية واضحة لعيني برهان، وتقاطرت ناقلات الجيش العملاقة تأتي من جهة الفاو محملة بالدبابات والمدرعات المعطوبة، والطائرات الإيرانية تخترق الأجواء ما بين البصرة والفاو بارتفاعات منخفضة جدا حتى لا تستهدفها المضادات الأرضية العراقية، فتقصف وحدة خلفية هنا، وتفجر مخزن عتاد هناك، وسرب آخر يغير على رتلٍ عراقيٍّ متوجها لتعزيز الخطوط الأمامية.
(8)
خطف سريعا مشهد أمام عيني برهان لقطعة كبيرة على الشارع الستراتيجي، خط عليها بفرشاة عريضة (كتيبة 137)، فطبل بيده على السطح الخارجي لمقصورة السائق، إشارة لأن يتوقف حتى يتسنى له الترجل، وارتكنت السيارة العسكرية بعيدا عن القطعة للأمام، وراح برهان يرجع خلفا كأنه يرجع إلى البصرة، وبدت راجمات الصواريخ جاثمة على بعد، وحزمة الفوهات الأربعين لكل راجمة موجهة إلى الفاو، وكانت بالكاد تستبين هياكل الراجمات وسط ركام أغلفة الصواريخ الفارغة المنثورة دون انتظام، فيما تكدست بانتظام أكوام الصواريخ التي لم تستخرج من صناديقها وتستخدم بعد، وكانت ناقلات العتاد ما إن تخرج واحدة منها حتى تدخل بديلة لها، وبدا سائقو الناقلات يتزاحمون على الطريق الترابي النازل من الطريق الستراتيجي المبلط للدخول إلى كتيبة صواريخ الراجمات 137، واستيقظت فيهم دعة الراحة والاسترخاء التي كان ينعمون فيها في ألوية النقل والتموين، والتي عادة ما تكون مقراتها في الخلف، بعيدا عن الخطوط الأمامية ومخاطرها، وكانوا يبدون نظيفي الثياب، ووجوههم حليقة، ولولا الخوف من هاجس كونهم موجودين في الخطوط الأمامية، لأخرجوا أسرتهم من خلف مقصورة القيادة وناموا من دون أن يلتفتوا لأي أمر، وهم متأكدون أصلا أن هذا الأمر لن يصدر لهم مادام الضباط المسؤولون عنهم هناك في مقراتهم إلى الخلف، عدا ضابط إداري واحد يكون بصحبتهم دوما، وهو عادة ما يكون ضعيف الشخصية أمامهم، لأنه بحاجة لخدماتهم في الأكل، ولو حاول أن يتنمر عليهم فلن يتعبوا حالهم معه، إذ يكفي أن يقاطعوه ولا يشركوه في الأكل معهم حتى يلين، ويأتي طائعا يتوسل صحبتهم، وتلك كانت نقطة ضعف كل الضباط في صنف المدفعية، لا سيما من لا يتوفر له مراسلٌ يخدمه ويقوم في مهمة قضاء حاجياته.
أما داخل الكتيبة فقد تغير المشهد واختلطت الصور عند برهان، فتحولت الراجمات لملكات نحل ينمن في خلاياهن ساكنات وديعات، وأصبح جنود الكتيبة نحلات عاملات همهن توفير الغذاء لملكاتهم، وورود الهدف عبر (جهاز الراكال العسكري)[9] عدَّهُ بمثابة دبور هاجم الملكة في خليتها، وهو الوحيد الذي يخرجها عن طور السكينة والهدوء، ودفاعها يتحول لنار حارقة تنفثها الصواريخ من أعقابها، فتحرق الأخضر واليابس وراءها، ولو انطلقت أفقيا لطار غلاف يوصل لها صعق التيار الكهربائي ليحرق وقودها الذي سيوصلها لأهدافها، ولأصاب ذلك الغلاف كل من يكون في مداه الأفقي للخلف على مسافة ثلاثمائة مترٍ، حد البتر للطرف المصاب!.
وتخلت الصنوف الساندة في الكتيبة عن مهامها، وعُدَّت أعمالها في أيام ما قبل الهجوم سهلة قياسا لما يراد منها عمله هذا اليوم، وغدا ملء الراجمات بالصواريخ أمرا يستوجب السرعة، إذا حسبنا أن الراجمة التي تملأ بأربعين صاروخا تستغرق وقتا يصل لنصف ساعة،في الوقت الذي تطلق فيه الأربعون صاروخا في أقل من دقيقةٍ، برمي أوتوماتيكي متوالٍ!.
ونشط رمي الإزعاج من جانب المدفعية الايرانية، فخيم الحذر والترقب على أفراد الكتيبة في أثناء تحركهم في محيط مساحتها الذي نشرت فيه راجماتها، وعسكريا يُعَدّ رمي الإزعاج معوقا للحركة، وفيه يقوم الجانب الآخر برمي القذائف متقطعة، يفصل بينها وقتٌ محددٌ بين رمية وأخرى، لشل الحركة في الوحدة التي يراها ناشطة وتؤثر على سير خططه العسكرية، يواكبه الرمي العشوائي الذي تتخصص فيه وحدات مدفعية ثانية، تجعل الطرف الآخر ينتابه إحساس أنه مستهدف في كل حين، ويتولد لديه إحساس آخر أن المهاجم يبحث عن موقع وحدته ليسجلها كهدف ويواكب على تدميره، فيفقد المُستهدَف القدرة على تركيز الجهد في المقاومة، وينخفض أداء الفعل العسكري عنده، وكل تلك الأفعال ترتبط في نهاية الأمر لتصب في صالح المهاجم وتحقق ما خطط له.
أشار أحد الجنود لبرهان أن يسرع الخطى لموضعه وسط عاصفة غبار أثارتها الراجمات وهي تقصف أهدافها، مما أضاع عليه فرصة أن يتبين ملامح ذلك الجندي الذي بدا من بعيد مغبر الملامح، وهو يمسك خوذته ويركض جانبا مبتعدا عن برهان.
أناخ رأسه وأحنى ظهره ثم دلف داخل الموضع، فواجهته أربعة أسرة فارغة، وبدا الفراش أمامه مبعثرا، كأن من نام فيه تركه منذ أن أُحتِلَّت الفاو، وتبعثرت أكياس سوداء داخل الموضع، وتناثر فتات خبز على حافات الأسرة، وعلا الغبار سطح التخت الخشبي وسط الموضع، وثمة أصبع من يد أحد رفاقه جَرّتْ على سطح التخت راسمة خطاً وسط الغبار الذي يغطيه، كأن صاحبها يتمنى وقتا فائضا لينظفه فيه، وقرب باب الموضع من جهة اليسار كان يقبع فراش برهان مطويا على بعضه، بين أحضان حبل كتاني أبيض لتخفيف الجهد عن زملائه في حمله، لو فاجأهم أمرُ حركة مستعجل لوحدتهم، أثناء تمتعه باجازته الدورية.
بدا النعاس يثقل جفني برهان، وخرج الإرهاق، وشد الأعصاب الذي عاشه في أثناء إلتحاقه، ولقاء المصادفة الذي جمعه بندى في القطار، يوشح قسمات وجهه، وتكاسلت حركات أطرافه، واستثقل فتح رزم فراشه، فارتمى منهكا على أحد الأسرة بكامل ملابسه دون أن يفتح حذاءه العسكري ويريح قدميه المخدرتين، واضعا طاقية رأسه لتغطي قسما من جبهته وعينيه، وترك أنفه وفمه خارجها، ليستنشق الهواء صافيا، من دون أن يختلط بزفير منخريه، وغط في نوم عميق.
بعد ساعات لا يعرف عددها كان دوي القذائف في الخارج، وتناثر شظاياها ينساب لأذنيه مثل صوت طبل مشروخ، بفعل الرطوبة الخانقة في أجواء الأطراف الشمالية لقضاء الفاو أيام شهر شباط، رغم أن الوقت شتاءً، والمفروض أن تكون الرطوبة الخانقة عندما يحل شهر آب،وربما كان هذا الإحساس يراود برهان بسبب أجواء الحرب المزهقة لأرواح الجنود في كل ساعة وحين!، وكان تناثر شظى القذائف يمر فوق الموضع كأنه رف حمام فوق سطح داره، وسمع لغطا يأتيه من رفاقه، ويخترق سكينة نومه العميق عن جندي جرح في ساقه قرب كدس العتاد، وآخر وخزته شظية بمقتل لولا الله ستر، وامتد الحديث بينهم عن أسماء ألوية مشاة، وأخرى مدرعة رجعت من الساتر الأول في الفاو ليعاد تنظيمها في الخلف.
(9)
كان الخبر الفاصل بين لحظة نومه ولحظة يقظته، خبر محاصرة آمر البطرية الأولى في الكتيبة، الرائد علاء، في معمل الملح في منطقة المملحة، وسمع آراء رفاقه تقول بأن الساعات القادمة ستزف خبر موته، أو أسره، وأن معظم ضباط الكتيبة متواجدون الآن قرب جهاز الراكال، لأن الرائد علاء لا زال رغم محاصرته يرسل إحداثيات الأهداف التي يراها أمامه، وتواصى الرفاق أن يلتزموا أداء الواجب داخل موقع القيادة، واقترح أحدهم أن يوقظوا النائب عريف (معين)[10] برهان من نومه، ليباشر واجبه بعد أن أرتاح من عناء سفره.
وفي صنف المدفعية والصواريخ يُعَدّ موضع موقع القيادة، قلب الحركات الفعلية في الوحدة، ومن خلاله تصدر أوامر الرمي بعد أن ترده الإحداثيات عبر جهاز الراكال الذي يشرف عليه مخابر متمرس يسلم المعلومات المشفرة التي تصله للمعين الخفر، فيحولها هذا لمعلومات عن إرتفاع الفوهة النارية وإنحرافها، ليتمكن آمر حظيرة (القداحين)[11] من تطبيقها على نظام توجيه الراجمة، ويخبر موقع القيادة عند إنتهاء تطبيقه منتظرا لأمر الرمي، الذي يأمر فيه الضابط الخفر أو المعين الخفر.
(10)
خارج الفتحة المستطيلة، لموضع موقع القيادة، المشرفة على هلال انتشار راجمات البطرية الأولى، كان الظلام يسدل أستاره، وكلما تقدم الوقت بدا الأفق أشد حلكة، وراح الجنود في الخارج يتنقلون على أضواء المصابيح اليدوية، في انتظار الوحدات المسؤولة عن رمي قذائف التنوير، وقد يكلف سلاح الطيران برمي مظلات التنوير العنقودية، إن اكتشفت المراصد الأمامية حركة مريبة عند الطرف المهاجم.
كانت الراجمات أمام عيني برهان ترى من فتحة موقع القيادة المستطيلة، جاثمة كأشباح سوداء، وحزمة فوهاتها النارية التي رفعت عاليا لأهداف فُهِمَ من بعدها قطع عُقَد الطرق لإمدادات القوات الايرانية، بعد أن خبا نشاط سلاح الطيران العراقي، وانخفض مستوى طلعاته مع حلول الظلام، وغياب الرؤية، وصار الفعل الملموس لوحدات المدفعية، وبطريات الصواريخ المتوسطة منها والبعيدة المدى، وكانت همم الجنود تستثار عند إنطلاق صواريخ الأرض- أرض، تلك الكتل الحديدية، الضخمة، البيضاء التي لو شبك برهان ذراعيه على سعتيهما حول محيطها، لاحتاج لذراع آخر حتى يشبك أصابعه ويلتقيا كفاه، لو أراد أن يحضن واحد منها.
قرّب برهان كرسيه منتصف الموضع وجعل الفتحة إزاءه، بعد أن انصرف الضباط لتناول عشائهم عند المساعد، وقبع كريم المخابر قرب جهاز الراكال متيقظا لاستلام أية إحداثيات قد يرسلها الرائد علاء المحاصر منذ ثلاثة أيام في معمل الملح هناك في الأمام، وكان المخابر كريم ينظر لساعة معصمه نافذ الصبر، بانتظار المخابر رزاق لاستبداله، لكن حشرجة صوت راح يصدرها الجهاز اللاسلكي ألهته عن التطلع لساعة معصمه، وبان أن ثمة نداء من الرائد علاء قد طواه الأثير ليبلغ آخر أخبار حصاره، دون أن يلتزم بسرية تشفير الكلام كلما طال نداؤه:
- 23 كيف تسمعني أجب.
تحفّز المخابر ساحبا دفتر الإحداثيات الواردة أمامه، وأمسك القلم قبل أن يجيب قائلا:
- صفر..صفر..أسمعك جيد..أجب.
كان صوت الرائد علاء يبدو متعبا، وفيه بحة حبال صوتية خائفة، وبدت مخارج الحروف لسمع برهان كأن اللسان لا ينطبق على سقف فمه في بعض الحروف، ليبوسة عطش قد يعاني منها فم الرائد وهو يستنجد قائلا:
- 23 حضر نقيب عباس بسرعة.
تطوع برهان ورفع سماعة التلفون السلكي ورن على موضع المساعد عباس:
- سيدي..رائد علاء يطلبك شخصيا على الجهاز.
أغلق سماعة التلفون السلكي، وسمع المخابر كريم يوجز الرائد علاء عبر جهاز الارسال قائلا:
- هلو صفر..كيف تسمعني أجب.
رد الرائد علاء بالتشفير هذه المرة:
- 23 صفر معك..أسمعك جيد أجب.
قال المخابر يغافل الرائد علاء، ليسرق الوقت منه:
- صفر..جاري إحضار طلبك..إنتظر.
فأتاه الرد مؤنبا دون تشفير:
- (إبني حضر نقيب عباس بسرعه...العدو قريب جدا مني..أجب).
دلف المساعد وثمة ضابطان آخران خلفه، متجها صوب زاوية جهاز الارسال رافعا السماعة بسرعة، وأرسل عبرها قائلا:
- صفر...صفر،كيف تسمعني. أجب.
- 23 أسمعك جيد...أجب.
ثم خرج عن سياق التشفير قائلا:
- نقيب عباس العدو على بعد أمتار عني..إبقِ الجهاز مفتوحاً، واذا انتهى الارسال بيني وبينكم إسحب وحدتك للخلف..لموقعك القديم.
فقال المساعد عباس:
- تبلغ سيدي..سأرسل لك التفاح فورا..أجب.
رد الرائد علاء مفزوعا:
- لا...لا ترمِ أي هدف إنقاذ..إنتهى كل شي..أسمع أصواتهم داخل المعمل.
أراد النقيب عباس أن يقوي عزيمة آمر وحدته، لكن صوت الرائد علاء جاءه مستغيثا:
- لا..لا..
وسمع من في موضع موقع القيادة أصوات سلاح تلقم عتادا، ولكنة فارسية تقول:
- (دستت بُلاند كن)[12]
فرد الرائد علاء بصوت بدا للجميع كأنه بَعُدَ عن سماعة جهاز الارسال، قبل أن تفلت من يده:
- بجاه النبي محمد...عند ربه...لااااا.
خشخش الصوت في سماعة الاستقبال، وتقطَّع قبل أن ينتهي الارسال، ثم هدأ الجهاز صامتا، مثلما كان في الأول، عندما استلم برهان واجبه بعد مغيب الشمس.
تلك الليلة لم تسكن الحركة ورزم التجهيزات في البطرية الأولى، وتوجس مقر المدفعية في الفيلق السابع أن يكون باستطاعة الايرانيين انتزاع إحداثيات مواقع الوحدات الخلفية من الرائد علاء عنوة، فأُخِذَ برأي الرائد وتراجعت وحدته للخلف، كما أمر مساعده، وصدرت أوامر تحركات لباقي الوحدات، التي من الممكن تواجدها على الخرائط الموجودة في المرصد المخول الذي كان بإمرة الرائد علاء.
(11)
تحركت آليات البطرية الأولى على عجل، ووقف المساعد مشرفا على رزم أجهزة المراصد واستخراج معلومات الإحداثيات، وتأكد أن المعينَينْ سيكونان برفقة الأدوات والأجهزة الفنية لموقع القيادة، وانتدب سائق شاب من المواليد الحديثة الذي إلتحق توا للجبهة، ليكون سائقا لسيارة موقع القيادة.
وفي السياقات العسكرية لا يُلزمْ الضابط بتعريف المنتسبين في وحدته بأي جندي يلتحق حديثا لهم، رغم أنهم يفترض أن يكونوا فريقا واحد منسجما، ليكملوا إنجاز واجباتهم على أحسن وجه، وكم يبدو الملتحق غامضا، وسلوكه مبهما، وذا غرابة لبرهان حتى لو كان طبيعيا لغيره!، ويجد الصعوبة دائما في فهم وتحليل شخصية الجندي المستجد، ويرى نفسه مراقبا للقادم أطول فترة، أكثر مما هو مندمجٌ معه، وكثيرا ما يلوم نفسه على فعله هذا لكنه يرجع ليعذرها، بحجة أن القادم ينتمي لبيئة وأعراف مجتمع لا يشترك معه إلا في اللغة الواحدة، مع اختلاف اللهجة وتباينها بين مستجد وأخر، ولم يفاجأ بمحمد الذي التحق للبطرية أثناء تمتعه في إجازته الدورية، ووجد هذا الجندي يُلقب من قبل الجنود بمحمد حويجه، نسبة إلى قضاء الحويجة الذي يسكنه، ولتمييزه عن آخرين غيره يحملون ذات الإسم.
بدا محمد حويجه من النظرة الأولى لبرهان كأنه فتى لم يتجاوز عمر المراهقة، وزاد الأمر رسوخا أن هيئته الريفية، والتزامه العشائري في الاحترام المفرط لمن هو أكبر سنا منه، يضاف له أن شاربه ولحيته لازالا في طور الزغب، ولم تنبت على خديه شعرة واحدة، جعلت منه طفلا غرا لم يجرب الحياة ويسبر غورها، لكنه كان ذا إباء وأنفة، ولم يك فضوليا فيما يجري حوله، ولا يتدخل في أمر ليس ضمن صنف قيادة العجلات التي دخل الدورة عليها وتخرج حاملا لصنفها، وفي المحصلة النهائية لبرهان فقد بدا محمد حويجه جندياً هادئاً وودوداً، وكان يتشبث في مقود العجلة الحوضية، صامتا، يفتح عينيه على سعتهما، كأنه يتشرب صور عوالم أول مرة يلجها، وبدا لحظتها لبرهان كأنه فرحٌ لأمر انسحاب الوحدة من خطورة موضعها السابق إلى الخلف، وترقرقت ابتسامة خفيفة على محياه، أو أن وهج رأس السيكارة المشتعل في يد برهان هو من جعل الإبتسامة على وجه محمد حويجه تبدو خفيفة، وربما هي في واقعها تكشيرة واسعة، تشي بإنفعالات كثيرة كانت تختلط في نفسه، ويفرحه درب نجاة انفتح أمامه، دون أن يحسبه سابقا، وتدلّ على انفعالات مختلجة عاشها قبل الانسحاب، كانت تتأرجح في نفسه بين الاستسلام لخوفه والموت رعبا، أو بين أن يهرب ليمسك عند سيطرة سعد ويعدم هناك، لأنه أصبح على رأي ضابط فرقة الإعدامات مثل من(يلعب ابذيلو)،وقطعا سيصدر القرار(مصيرو هين) مثل الجنود الثلاثة الذين شاهد برهان لحظة إعدامهم مجبراً! لكن السائق محمد كان بسيطا لدرجة لو سأله في وقتها أخوه أو والده عما يشعر فيه لحظة الإنسحاب، وما قبلها، لما استطاع أن يعبر عما في داخله، مثلما افترض برهان متخيلا مشاعر السائق.
وفي الموضع الجديد عندما حطوا رحالهم وبدأ برهان وزميله المعين الآخر يعالجان على الخرائط العسكرية ايجاد إحداثيات الموضع، وتنزيلها على الأرض لجعل الراجمات تنتشر حولها كالهلال، إتكأ محمد حويجه قربهما، ماسكا مصباحا يدويا ليوفر لهما إنارة كافية، تجعلهما ينجزا مهمتهما جيدا، لكنه لم يبارح صمته الخجول، مما عمق احترام برهان العسافي له في نفسه، وغدا محمد أقرب له من ذي قبل، وبات يرغب أن لا يفارقه كأنه أخٌ صغيرٌ له.
انصرف هزيع الليل الأخير حتى الفجر وأفراد البطرية الأولى يدبون على الأرض كالنحل في خلاياه، وكل فرد يعرف ما عليه فعله، حتى انبلج ضياء الصبح الآتي عليهم، وأشرقت الشمس، وآمنوا القصف المدفعي الإيراني الذي يستغل الليل خيمة له، ونشط سلاح الطيران العراقي يقصف بعنف وشراسة، واشتعلت حرائق في السواتر الأمامية الأولى، أثر طلعة جوية هلل لها جنود البطرية، وارتفعت معنوياتهم، لكنها انكفأت منخفضة على أثر مشاهدتهم لرتل ناقلات عسكرية جاء محملا من الفاو بدبابات ومدرعات اللواء المدرع العاشر معطوبة، وبعضها حُرِقَتْ وأصبحت كومة فحم سوداء، وإنتثرت بضع قذائف مدفعية إيرانية على الطريق، كان راصدها يتعقب رتل الناقلات، وفيه رغبة لأن يجعل آلياته مرمية على جانبي الطريق الستراتيجي، وبدا الراصد غبيا لبرهان، ورآه ينشغل في تعقب هدف دمر أصلاً، وتمنى أن يكون الآن صاعدا على برج رصد ليُلقِّنْ الراصد الإيراني ، في الجهة الأخرى، درسا في انتخاب الأهداف وتدميرها.
تكدست هذه المرة مئات الصواريخ مبعثرة بصناديقها في الموضع الجديد، واستغل سائقو الناقلات العسكرية حالة الإرباك التي عاشتها البطرية الأولى، أثر إختفاء آمرها الرائد علاء، وحيرة تأكيد مصيره أن كان قد وقع أسيرا أم أنه قُتِل، وأفرغوا حمولتهم من الصواريخ دون تنظيم، ولا استشارة من أحد ضباط البطرية، ثم ولوا كالهاربين، بعد أن وقّعَتْ لهم مستندات استلام حمولاتهم على عجل من المساعد، ومن معه من الضباط، وأوْقِفَتْ إحدى الراجمات عن رمي أهدافها صباحا، بعد أن أكتشفت صواريخ كومها أحد سائقي الناقلات خلفها، مستغلا وضع الإرباك الذي تعيشه البطرية، وجنح ستار ظلام الليل الدامس، وصدرت الأوامر أن تباشر أعداد الملئِ والعتاد في تعبئة من فرغت من الراجمات، من تلك الكومة لتعاد الراجمة التي أمامه للخدمة الفعلية، لكن مقر المدفعية يظهر أنه أراد أن يمنح البطرية الأولى مزيدا من الراحة لتنظيم موضعها وإعادة هيكلتها، فتركت البطرية ذلك الصباح دون أن يرسل لها أي هدف لمعالجته، مما زاد الطين بله، وراح سائقو الناقلات العسكرية يفرغون مزيدا من حمولتهم داخل الموضع، دون أن يطلق منها صاروخا واحدا حتى الظهر.
كانت السكينة مطبقة على الوحدة، وسرى الخدر والنعاس على معظم جنودها، ومع اقتراب توزيع وجبة الغداء، اخترقت طائرتان عسكريتان إيرانيتان الأجواء العراقية في منطقة الفاو وبانخفاض شديد، ثم اقتربتا تحومان على محيط البطرية الأولى، فارتقى
أعداد المضادة الأرضية لمقاومة الطائرات في البطرية تلا ترابيا يسار الموضع، وأطلقوا فيض شريط من الرصاص خلف جهة صوت الطائرتين اللتين غابتا عن الرؤية، لكنهما مابرحتا أن عادتا من جانب المضادة بصورة مفاجأة، فاتحتين نيران رشاشتيهما، مع إطلاق صاروخين على أكبر كدسي عتاد يجثمان في أرض الموضع.
كان برهان داخل موقع القيادة، ولم يمهله الوقت مزيدا منه ليستوعب فوضى التفجير، فعندما خرج من باب الموقع ليرى ما الذي يحصل، شاهد الصواريخ تنفلت من عقالها على الأرض، مثل بالونات مليئة بالهواء فلتت من أيدي مجموعة أطفال دفعة واحدة، وكان يطير في الجو بشكل حلزوني كل صاروخ لم يُعد للدفع داخل فوهته في الراجمة، ولم تنفتح زعانفه الأربعة في خلفيته من طوقها المعدني.
دب الذعر بين الجنود الهاربين في كل الإتجاهات، وبعثر القصف قطع خشب صناديق الصواريخ على محيط الموضع، مثل نثار القطن في دكان الحائك، والتوت أعناق بعض الصواريخ نحو الأرض تحفر فيها دون أن تنفجر، بعد أن شهقت إلى السماء عاليا وإرتدتْ ساقطة عموديا، واحتمى برهان خلف سد ترابي يراقب صاروخا جاء مستقيما ليبقر ظهر جندي هارباً أمامه، ثم ارتفع فيه عاليا فتكور جسد الجندي على عامود الصاروخ مادا ذراعيه على جانبيه، دون أن يشبكهما حوله ويحتضنه، وسقط غير بعيد من برهان ورائحة شواء جسده المبقور تفوح في المكان، وقُلِبَتْ عجلة ضابط بصاروخ من دون رأس صاعق، وراحت عجلاتها تدور في الهواء مثل مروحة الهواء.
صدرت أوامر من المساعد عباس لجنوده، بعد موافقة مقر المدفعية بترك كل شيء، والنجاة بالأرواح فقط، لكن عريفا سائقا لإحدى الراجمات عصى الأمر، وإنسل دون أن يعلن عما أراد فعله، وأخرج راجمته سالمة من أي خدش، مبتعدا فيها خارج الموضع، وحاول آخرون غيره أن يقتدوا بفعله، لكن عنف الإنفجار وإنتقاله سريعا لأكداس أخرى جعلتهم يتراجعون هاربين مثل باقي الجنود، ولم تكتف الصواريخ بإصابة الموجودين في الموضع بل تعدتها إلى السابلة من وحدات أخرى، فقتل أكثر من إثني عشر جنديا، وأعْطبَتْ أكثر من آلية عسكرية تسير خارج ما يجري داخل موضع البطرية الأولى، وكان الإنفجار فرصة طيبة لكل جندي فقد شيئا من تجهيزاته العسكرية سابقا، لأن يسجلها ضمن ما دمر أثناء الإنفجار، كخسائر عسكرية إثناء المعركة ومن جرائها.
وحُلِّلَ الأمر بأن ما جرى هو إحداثيات وصلت لأيدي القوات الإيرانية، من خلال الخرائط العسكرية التي وجدت في المرصد المخول للرائد علاء، لكن محبين للرائد عارضوا هذا التحليل جملة وتفصيلا، مدعين أنهم شاهدوا الطائرتين تمرقان فوق البطرية، ثم رجعتا ثانية من الجانب وقصفتا أكداس العتاد، مشددين أن لو في الأمر ريبة لكانت البطرية قد قصفت في موضعها الأول، قبل إنسحابها للخلف!، وأن أمر القصف جاء صدفة، بعد أن اعترض مشهد أكداس الصواريخ خط سير الطائرتين المنخفض جدا، وهذا الرأي هو ما انسحب له تفكير برهان العسافي وآمن به.
(12)
تعودت ندى أن تدون إشعاعات فكرها، وتجلياته كأي بنت تتوقد بالجو الجامعي الصاخب حولها، وفارس الأحلام يمتطي حصانه الأبيض ليطوف على وسادة كل بنت عندما يشارف عمرها عتبة العشرين عام، لكن فارس أحلام ندى خرج من تحت غطائها ليلا، وراح يكمن لها وراء كل أجمة أشجار في معهدها، كانت ترى برهان في ضحكات زملائها، وفي تشابك الأيدي المحموم، وركب حصانه ليجعل من دخان السجائر في ممرات المعهد الطبي غيمة، يفرش جناحيه عليها، ويدا فارسه تشير لها دوما: تعالي لنركب الحصان سوية.
كانت تُعْرَف بين زميلاتها في القسم الداخلي بالبنت المنظمة، وفيها إباء نفس يمنعها أن تستعير قطعة ملابس منهن، كعادة تبادل الأثواب بين الطالبات الجامعيات والتباهي فيها، وانسحب الأمر إلى أثوابها لتكون نقطة تتراجع عنها كل رغبات البنات اللائي يشاركنها غرفتها، حتى حبل الغسيل على شرفة الغرفة في القسم الداخلي تركنه لها، وشددن حبلا غيره لملابسهن، ولم تكن العلاقة بينها وبين زميلاتها يشوبها التعالي منها، أو الغضاضة منهن كما يخال، بل كان يشوبها الاحترام لشخصها، والتعود من زميلاتها على النأي بأنفسهن عن التحرش بكل شيء خاص بندى، وكن دائما ما يثرثرن مساءً عن علاقاتهن العابرة منها والدائمة مع طلاب المعهد، وكانت ندى تشاركهن الانصات، وتبدي رأيها مقتضبا في سلوك طالب ما، أو تمتدح سلوك طالب آخر، فيما تزم شفتيها تضايقا من سلوك ثالث مع زميلة لها، لكنها تفضل الصمت على البوح بكلمات إمتعاضها منه، وما تجرأت واحدة منهن يوما وسألتها عن وجيب قلبها لمن يخفق؟
بعد ثلاثة أيام من التقائهما، أرادت مساءً أن تدون في دفترها، أنها اشتاقت له!.
(13)
أصبح على بعد خطوات قبالتها،وأسَرَّ زميل لها قائلا:
- ابن خالتك ينتظرك في النادي.
أرادت أن ترد عليه مستفسرة بتعجب:
- ابن خالتي أنا!.
لكن زميلها أضاف قبل أن يجتازها:
- شاب بملابس خاكية.
تعثرت خطواتها، وتبعثرت الأفكار برأسها، وغيرت وجهتها عن نادي المعهد، لكن الكلمات أطلت من بين سطور دفترها تغرد فرحا وكياسة، وعلت طقطقة عربات قطار يسير فيها متهاديا فوق سكته، فتَبَخَّر كوب الشاي في محطة السماوة يعبأ أنفها برائحة الهال تتصاعد منه نفاذة قوية، وتناثرت على سمعها بضع كلمات يسأل صاحبها عن تخصص دراستها، وتلفلفت عباءة أمها تغطيها كما غطت وجه أمها بجزء منها، ورن جرس صوت يشدو فيه من يتمنى لها أن تصبح على خير!.
كان لون ملابسه مميزا وهو يجلس على كرسيه داخل النادي يرتشف الشاي، اقتربت من طاولته وجلست صامتة:
- اتركي صمتك وإدَّعي الابتسام، فقد عرفت نفسي لزملائك..
تحرَّج أن يكمل، فردت تدقق بعينيها على قسمات وجهه تريد أن تحتويها، لكن بدور تتقمص فيه شكل الحانقة من سلوكه:
- ابن خالتي...ها..أما فكرت لو سألك أحدهم عن اسم والدي؟.
زايله التحرّج وسرى الدم في عروق وجهه فابتسم منشرحا وقال:
- من يتلصص على ما دون بدفتر بنت تجلس بمقعد قطار يجاور مقعده، لن يعدم وسيلة، ولن يتضاعف عليه تبكيت الضمير لو ألقى نظرة على غلاف الدفتر، وقرأ أسم البنت: ندى سرحان ماجد....حَفَظْتَهُ مثل أناشيد العيد.
فقالت دون أنْ تظهر له، كيف أنَّ داخلها يرقص فرحا لمقدمه:
- ممكن...أفهم سبب مجازفتك وإدِّعاء قرابتي؟.
أجابها بهدوء:
- لأراك، وأسلمك هذا المظروف.
وأخرج من جيب بدلته ظرف رسالة مغلق، دسه لها تحت حقيبة يدها، التي كانت تنام على الطاولة كطفل هده التعب:
- وما الذي يدعوني لقبول استلامه منك؟
فقال جادا:
- سطور الكلمات التي قرأتها في دفترك...ثم اسمعي، أنا ما خاطرت لأجل أن آتي ها هنا لأراك مثل النعامة...تدفن رأسها بالتراب وجسمها في العراء..
صمت قليلا يراقب ردة فعلها، ولما شاهدها مطرقة برأسها على حجرها أضاف قائلا:
- ندى...الظرف فيه ردي على ما قرأته بدفترك، وأسفله إسمي، ورقم هاتف البيت الأرضي، وموعد إجازتي اللاحق، لتزاوجي موعد ذهابك لأهلك مع موعد إجازتي، ثم إني أعتذر عما حصل، فما كان لي من وسيلة أراكِ فيها غير إدعاء أنكِ بنت خالتي.
نهض واقفا وراح يمشي خارجا بسرعة، ليترك ندى تتمهل قليلا في فض المظروف، وداخلها يغلي مثل المرجل لقراءة ما كتبه لها برهان:
- ( عزيزتي ندى:
مصادفة بحتة تلك التي أوقعت ما كتبتي بين يدي، ورغم ما أحسه من جُدبِ عواطفي الآن، سيما وأنا سأغيب ثلاثين يوما عما تعودت عليه من مباهج الحياة، بين رمال لا أرى في ليلها غير زواحف تحمل الموت تحت أقدامي، وقطع حديد لا أكاد أسمع صفيرها فوق رأسي قبل أن أحميه منها، تأتيني طائرة حمراء كالشهب، ما تلبث أن تستقر على جسدي أو على الأرض إلّا وقد اسودت وشوي ما تحتها، ووسط هذا الإحساس، وقعت عيناي على حروف دفترك فتخيلت حدثا يتحرك خلاله كل الجماد حولي، فما بالك آنستي وأنا كائن حي!. فقد خُيلَ لي أن قصاصات الورق انتفضت أمام عيني في دفترك فرحة، لتخبر الجميع بكلماتك، وخُلِعتْ بذلتي الخاكية متوهما أن في كمها بذلة عرس بيضاء، والأوراق التي بين يدي أقرأها نزلت من علياء نرجسيتها، لترقص مع البدلة على نغم أقدامي رقصة (الجوبي) العراقية، مبهورة بما أقرأ، وليتحول جدب الثلاثين يوما حفلا راقصا طيلة ساعاته)!
برهان العسافي.
(14)
إلتفَّ وراء عباءتها مثل طفل صغير يَطْمِر رأسه بين أردان ثوب أمه خائفا، وتشرب منخريه برائحة أبطيها، وأحس لزوجة في أنفاسه، فحضنها بذراعه وأراحَ أصابع يده الأخرى على صدرها، ثم انتابه الهيجان فعصر وركها بين ساقيه.
أنَّتْ مولولة لدغدغة أصابعه فوق حلمة نهدها، واتكأت على إطار باب الدار قائلة:
- انتظر...لأرى الصغير في فراشه.
تشبَّث في وسطها غير راغب بتركها، وفيه إحساس أن بدلته باتت ثقيلة عليه، فامتدَّت يده تعالج فتح نطاقها، وأحس لزوجة بين ساقيه، فالتهم شفتيها المتهدلتين، وأحسهما كفلقتي حبة تينٍ انفطرت لنصفين على لسانه، وانتفخ لسانها داخل فمه، وراحت شعيرات لعابه تدغدغ لهاته، فتحلب ريقه وامتص الشفتين واللسان، يريد بلعهما كقطعة جبن دون مضغ.
فلتت من حضنه زائغة عبر باب الدار، كطير حجل ينسل بين الأحراش، ليختفي عن أنظار صياد يراقبه.
بعد لحظات أحسها طويلة وهو يقف قرب الباب يرقب زاوية البيت حذرا، سيما بعد أن مرق منه طيف خيال أحسه يراقبه مذ ترك المحطة وجاء بصحبتها، لكن يدا بضَّة بيضاء إمتدت من فتحة الباب الموارب وتشبثت في قميص بذلته، تسحبه للداخل وتغلق الباب خلفه، وانفتحت باحة الدار أمام عينيه على ضوء القمر، واسعة متربة تكسو جوانبها أعواد القصب، وتبدو خيالاتها مستطيلة تتمايل، مثل قطيع إبل يتهادى في ليل الصحراء.
كانت تتراقص أمام عينيه صور فراش مهلهل في زاوية غرفة مظلمة ستقوده إ ليه، لكنه تفاجأ أن تنتحي فيه جانبا، خلف أجمة قصب في الزاوية البعيدة عن الغرفة الوحيدة، والمطبخ الملاصق لها، وفرشت حصيرة بطرف قدميها بسرعة وإتقان، راحت الحصيرة تتكسر تحت سيقانهما المتشابكة على بعضها وهو يدور فيها، مرتخية بين ذراعيه يقلب جذعها كيفما يريد، كقطعة نايلون تبرمها خيطا لتشد فيه وجع أصاب أصبعك، وتصارع كلكامش مع خمبابا، يريد أن يفوز بزهرة الحياة، ولف أحمد ساقيه على فخذيها، لكن طرقا على الباب، جعله يقفز هاربا لسياج الدار.
عدَّلت البائعة فوطتها فوق رأسها قبل أن تركض لتقف وراء السياج، مستفسرة عمن يطرق بابها دون أن تتفق معه مسبقا!، وتسور أحمد السياج من الجهة التي خلفها في الضلع الآخر، مثل قط خطف قطعة لحم وولى هاربا، وحاولت أيدٍ من الخلف دفع باب الدار تريد فتحه بالقوة، لكن البائعة عالجت المزلاج في جلبة، فَفُتِحَ الإطار ودخلت زحمة الأرجل تركل كل شيء أمامها، وتستفسر عن جندي وصلت معلومات لهم تفيد أنه من الهاربين، فانعكس خاطر فكري في دماغ البائعة أنها مراقبة من أحد المتلصصين عليها، ليس من يومها هذا مع أحمد بل من أيام أخرى سابقة!، وتشتت ذهنها خوفا على بحبوحة صندوق الفلين ومكان رزقها في محطة القطار، وبين ضيوف الليل الذين تجلبهم معها كلما أعجبها واحد منهم، وخشيت أكثر ما خشيت على مكان رزقها في محطة القطار الذي لا يمكن لها أن تتركه ليلة واحدة، وإن حصل مرة فهي لا محالة في اليوم القادم ستمد يدها لما إدخرته لتربية طفلها، أما استغنائها عن ضيوف الليل فبإمكانها أنْ تكتفي بموعد أو موعدين لكل أسبوع، وحتى لو قتَّرت رغبتها لهذا الحد فعليها أن تكون حذرة من الآن فصاعدا، مادامت هذه الأرجل وطأت باحة دارها تسأل عن هذا الجندي، قبل أن تعرف اسمه على الأقل، فضلا عن أن تشبع رغبتها منه!.
نبش الرجال المسلحون كل شبر في دارها، وحاول أحدهم أن يحرق أجمة القصب قرب السياج لكن آمر المجموعة نهره، فيما كانت عيناه ترنوان على جسد البائعة، وتتفحصه في إمعان وتركيز، وحذرها في نهاية المهمة من إيواء الجبناء والخونة، وعَدَّ المعركة ما قامت إلا لترفع شأن الماجدة العراقية وتعزها، ثم قرر، ليُسمعَ أفراد مجموعته، أن البلاغ كان كاذبا، وانصرفوا دون الاعتذار منها.
نقمت البائعة ولعنت حظها العاثر، وفيما كانت تُهَدّأ صغيرها الذي تعوَّدت وعوَّدته أن تبقيه في البيت وحيدا دون أن تخاف عليه، فمن تصطحبهم معها بعضهم فيه من اليُسر المادي والبذخ لأن يغدق عليها دون حساب، وقد تقضي معظم شطر الليل الثاني معه، وإصطحاب صغيرها يفسد الأمر ويضيع الهبة السخية عليها، هذا الطفل الذي لازال نائماً رغم جلبة كل من اخترقوا صمت الليل في بيتها.
تركت الحصير مفروشا لتجلس عليه وتُعبِئ برودة ليل شباط ثوبها، وأحست ضيقا ستختنق منه فخلعت الثوب،وتمددت على ظهرها في البرد، كالمجنونة، تتمرغ مثل الذبيحة.
كانت الرغبة تشويها، وتمنت أن يرجع الجندي ليطفئ شرار النار المشتعلة داخلها، وأصبح دبيب النمل على فخذيها يسري خدرا تستلذ له، وامتدت أصابع يدها تتحسس مصدر الخدر وتزيد دبيب النمل فضولا لأن يتكوم على شريحة اللحم الحمراء، يحاول جرها ليطمرها هناك بعيدا عنها في ظلمة جحرها.
فزَّتْ من مكانها كتلة لهب مشتعلة، وراحت تخطو حافية إلى الجدار الذي قفز منه الجندي هاربا، وفيها أمل أن يكون لازال كامنا خلفه، دققت في عتمة الليل، وكان ظل دارها يسربل أجنحته على السياج من الجهة الأخرى، وتكاثف خيال الأشباح أمامها واستطال، فغدت ظلال أجمة القصب تتقدم عليها كأنها جنود تركت قطارها النازل للبصرة، لتعوض الخسارة فيها بانتصار واهٍ في احتلال دارها واستباحته، كما استباحته الأقدام قبل قليل، وفكرت إن ضيعت الأقدام الأولى فرصة إطفاء رغبتها الثائرة، فهذا الجيش الذي تراه سيضيعها هي!.
وقفت هناك وقتا أحسته بدا طويلا، وانتبهت لفخذيها ترتخيان من احتكاكهما مع بعضهما، وإنتابها نعاس أثقل جفونها، وآلمها نهدها الأيسر مضغوطا على حافة سياج الدار، فانسحبت من مكانها لتغفو على حصيرتها، دون أدنى شعور في البرد الذي بدا يلف الباحة من حولها.
وهام أحمد طيلة الليل في شوارع الحلة، وحقيبة التحاقه على كتفه ، مثل بيتٍ متنقلٍ طواه مقررا أن يكون مستقره، ليترك الالتحاق لوحدته ويمتهن التسكع ليلا في الأزقة والشوارع، لحين رجوع البائعة من عملها في المحطة، وكان تسوره لحائطها فرصة ليتخفّى أكثر في علاقته معها، وأصبح القفز على الجدار بابا يلج فيه عتبة دارها، بعد أن يكمن لها قبل مجيها بدقائق خلف إحدى الزوايا، ثم ينسل قافزا عبر الجدار بعد دخولها للدار، وعَرّفتْ صغيرها فيه على أنه أحد أقربائها من محافظة بعيدة يتدرب في معسكر الحلة، ويضطر في بعض الليالي لأن يبات عندها، لأن حياة الجيش والمبيت في المعسكر لا يطيقها، لكن الطفل بعد أسبوع من تكرار تردد أحمد على أمه، عندما أراد أن يوقظ أمه ذات ليلة ليتبول ووجدها تتمرغ على الحصيرة قرب أحمد، وثوبها ينحسر كثيرا فوق ركبتيها، فجعله هذا الموقف ينكمش منزويا في حجرة الدار الوحيدة يبكي دون أن يعطي سببا لذلك، وحَذرَتْ هي كما حَذرَ هو بعد هذه الحادثة أن يكون لقاءهما بعد التأكد من نوم الولد، وهو مثل باقي الأطفال يتعب لعبا في النهار، وينام قبل أن تخرج أمه لمحطة القطار، لكن الاستثناء في قاعدة نومه متوفر، ووارد الحصول كما حدث وقت أن استيقظ ليتبول..
وفي سجنه بعد أن ألقي القبض عليه ليلا داخل بيتها هاربا بعد ثلاثة أشهر من تعرفه عليها، راح يقلب أمر إلقاء القبض على أكثر من وجه وعلة، فهو مرة يلوم نفسه لأنه لم يكن حذرا أكثر، وقد يكون أحدهم راقبه ووشى فيه لآذان السلطة، ومرة لام نفسه لتكرار زياراته لها كل ليلة في بعض الأسابيع، لكن أخطر ما فكر فيه أن الطفل اكتشف أمر نوم أمه معه على فراش واحد، وقد يكون هو من وشى عليه، وزاد اقتناعه يقينا أن الطفل بعد أن رآهما سوية تلك الليلة لم يكتف بالانزواء والبكاء، بل كان يتحاشى لقاءه وينفر منه كثيرا إنْ إضطرّ وتلاقت عيونهما.
(15)
ترك برهان باب سيارة الأجرة مفتوحا، ولم يلتفت لصيحات سائقها وراءه، فلم يتبقَّ على موعده مع ندى إلا ربع ساعة فقط، وشعر بخوف أن تلج حديقة الأمة في نهاية شارع أربعين ولا تجده بانتظارها، فقد تواعدا منذ ثلاثة أيام، بعد أن اتصلت به على الهاتف الأرضي لداره، وهي في البصرة قبل أن تصل من هناك، على اللقاء عصر الخميس عند الساعة الثالثة في الحديقة.
دخل الحديقة متلفتا، فاستوقفه شرطي عند الباب وطلب هويته، ولما تأكد من موقفه، بدا له الشرطي مؤدبا، أو هو أحسَّ بالذنب أن يستوقف جندياً، ويسرق شيئا من إجازة تحسب عليه بالدقائق، فربت على كتف برهان معتذراً ودعاه لأن يستمتع بوقته!.
كانت ندى تجلس على مسطبة خشبية منزوية خلف شجرة، وثمة ريح خفيفة تلعب في شعرها وتطيره جانبا، فتبدو ياقة ثوبها كأنها جناح عصفور يرفرف قرب رقبتها، ودارت النسمة حول الشجرة فتمايلت أغصانها المتدلية قرب رأس ندى، وأحست بشيء يتساقط على جسمها، فامتدَّت أصابع يدها تمشط شعرها وترسله على كتفيها، ذوائب سوداء كالفحم، ليبرق من جانبه وجهها المستطيل الأبيضَ، تطرزه بضع دمامل صغيرة لحب الشباب، لا تبدو واضحة على صفحة وجهها لولا رؤوسها المدببة الحمراء.
رمقها تجلس مديرة ظهرها له، فخشي أن يفزعها لو أقبل عليها من خلفها، ولف جانبا قبل أن يتسربل وجهها بابتسامة بشوشة فقال معتذرا:
- إذا قلت آسف، ستكون قليلة بحقك...أتعرفين السبب؟.
شخصت بعينيها النرجسيتين ترنو له مبتسمة، وقالت باختصار:
- لِمَ؟.
تلبَّس دور المذنب وأقرَّ لها:
- المفروض أنا الذي أنتظرك!..
استغل الفرصة وأراد أن يوظفها في استغلال الانفراد بها لمدة أطول فقال:
- والله لأعشيك أحسن عشاء.
هزت رأسها رافضة بإصرار:
- إلّا العشاء لا..وافقت أخرج معك حتى أراك قبل سفري.
وأضافت مؤنبة:
- ثم مَنْ يسمح لي أن أتأخر طويلا خارج البيت!.
ضحكت واستغلتها مازحة معه:
- أطلبكْ عشاءً... لكن هناك في البصرة..على شرط أن يكون قبل مغيب الشمس.
وكان هو عادة ما يوصلها لمدخل بوابة الأقسام الداخلية لطالبات المعهد قبل الساعة السابعة مساءً، إذا استطاع الحصول على نزولٍ وقتي من وحدته، بحجة الاتصال بوالدته من داخل مدينة البصرة، ليطمئنها على وضعه، وتلك حجة يعرف برهان أنها ما عادت تنفع شيئا بعد أن أعطوه النزول المؤقت لأكثر من مرة، لكنه استطاع أن يقنع ملازم أول صغير في العمر أن يتعاطف معه، ومع حالة أمه التي جعلها ستموت أن لم يتصل فيها كل أسبوع!. فالجندي أبان الحروب واشتداد الضغط النفسي يلجأ لأن يميت معظم أقربائه، وقد يميت الواحد منهم لأكثر من مرة حتى يحصل على مساعدة وقتيه لبضع ساعات!، وبعضهم يتجاوز ادعاء المسكنة والاحساس بالضيق إلى البكاء بحرقة تملأها اللوعة عمن فقده!، وبرهان لم تضطره الظروف لفعل ذلك إلا بعد أن تعرف على ندى، واستوجب التقرب منها وفهمها لأن يرافقها متسكعا في الأزقة الخلفية لأحياء البصرة، لكن طول المدة، وتكرار الرفقة جعلته يعلن عشقه ويذوبا سوية وسط زحام شارع الجمهورية مرة، وأخرى وسط المدينة، وثالثة قرب شط العرب، وبدا ساهيا بذكرى علاقته فيها، وتشاغلت هي شاردة الفكر في ملامحه، تتشربها كطفل صغير لا يمل حضن أمه.
مر قربهما صبي يحمل على كتفه صندوق فلين يبيع فيه لفات بيض ومشروبات غازية، وأحسّ برهان بالمواساة لجهده، وبالتعاطف معه، وقدر له كفاحه حاملا الصندوق بثقل زجاجاته على كتفه من أجل لقمة نظيفة.
كان ينازعه إحساس بالذنب أمامها وهو يخفي عنها أمر تحرك وحدته للشمال، بعد أن اتصل به محمد حويجه على هاتفه المنزلي وأبلغه بالأمر، وانتابه هاجس أن أيام التسكع معها في شوارع البصرة قد لا تعود أبدا، وراح يراوح على جنبيه جالسا قربها، وألحت عليه الرغبة في إخبارها، لكنه خشي مفاجأتها، ولم يختبر ردة فعلها سابقا، وانتبه أنهما عاشا لأكثر من عشرة أشهر، مذ عرفها، ولم ينغص علاقتهما طارئ ما، حتى انه لا يتذكر مرة واحدة تخاصما فيها، ورغم أنه يحبها لكنه كان يحنو عليها مثل خوف الأخ وخشيته على أخته، وعَدَّ على أصابع يده اليمنى لقاءاته بها، فوجد أن لقاءهما في البصرة يفوق لقاءهما في الحلة، تحسبا لأن يراهما أحد معارفها، ويخضعها ذلك للاستفسار، والمراقبة عند أهلها وأولاد عمها، وحاول أن يطرد شبح التفكير بالمنغصات لعلاقتيهما، لو ثبتت وحدته في الشمال، واضطرا لأن يلتقيا في الحلة فقط، وفي تلك اللحظة قرر خطبتها ليَئِدَ كل مشكلة في مهدها.
ما يعجبه في طباعها أنها لم تكن ثرثارة كثيرا، فهي عادة ما تتركه وشأنه إن لاذ في الصمت مفكرا، لكنها تضمر ثرثرتها حتى يخرج من قوقعة صمته، فتدلق فيض أسألتها دفعة واحدة، وبطول الصحبة بينهما كانت تعرف كيف تختصر المسافات في أسالتها فتخرج بأقرب الطرق لتشفي غليلها من أجوبته!.
قرر أخيرا أن يصب الخبر سريعا، دون توقف، ليناقش بعده شكل علاقته معها، فأنصتت مصدومة، وزمت شفتيها، ثم طوتهما على بعضهما مثل شفتي طفل صغير حضنه قريب لأبويه وهو معتاد على حضن والديه، وراحت تنشج مفتوحة الفم، وتحولت عيناها لقطعة دم حمراء أرعبته، فنهض سريعا يبحث عن حفنة ماء تغسل وجهها فيها، قبل أن يوصلها قريبا من دارها.
(16)
ارتقت حافلة نقل الركاب مرتفع سيطرة السليمانية، ورفرف العلم العراقي على الجانب الأيسر منها، فانبسط السهل واسعا أمام برهان العسافي، وتناثرت بيوت قضاء جمجمال على خديه هناك في الأمام، في حين تكاثرت جدران بعضها كخلايا النحل في وسط المدينة، وانساب الطريق أسودَ مثل أفعى طويلة وسط مرج أخضر على جانبيه، تنقطه بضعة صخور بيضاء جعلت منه ثوب فتاة كردية من القرى تَرقّطَ بألوان زاهية، ودبت الحركة في كتفي سائق الحافلة تُمايل جسمه مع كل انحراف في الطريق، ولاحت أظهر الفلاحين منحنية تعزق أرضا زرعت بالبصل، وبدت وجوه الفلاحات موردة حمراء من برودة تحملت مع هواء هب من جبل أزمر الذي اكتست قمته بالثلج، وارتفع عليه برج الإذاعة للتشويش على المحطات المعارضة لنظام حكم الدولة المركزية، وتدرجت مباني مدينة السليمانية على سفح الجبل، فغدت كأنها فتاة تتوسد حضن حبيبها، وتنام مفرودة الذراعين على ركبتيه.
بدا المنظر ملموما على بعضه لعيني برهان من بعيد، لكن حافلة نقل الركاب سارت كثيرا قبل أن تصل مدينة السليمانية، وما كان من المباني صندوقا صغيرا من بعيد أصبح لعينيه مبانيَ كبيرة، وعمارات بطوابق عدة، وتفرعت الطرق الكبيرة لأزقة لاذت داخلها بيوت تعج بحركة ساكنيها ليل نهار، واستيقظت حياة صاخبة للمدينة، بعد أن كانت له مدينة خربة من بعيد، فتكومت سيارات الإجرة الصفراء يصيح سائقوها على وجهتهم لكل راكب تلفظه حافلةٌ جاء بها طريق كركوك، وراح الباعة المتجولون يعرضون أكلهم وحاجياتهم على الجنود، متوسلين اليهم أن يشتروا منهم، ومر حمال بعربته مسرعا تحاشى أن يصدم برهان في طريقه، وتحول لون وجوه الفتيات الأسمر الذي تعود أن يراه في البصرة للون وجوه حمراء موردة تحاكي ألوان أثوابهن، واصطبغ شعرهن أشقرَ مصفرا، وودع ما تعود أن يراه في الجنوب من سواد الليل وحلكته على شعر البنات هناك، وتماثل لون الثلج على الطرقات من بعيد كأنه لون الملح يسار الطريق الستراتيجي النازل إلى قضاء الفاو، والصخور الصفراء التي تقطع بياضه هنا وهناك مثل السدود الترابية التي قَطَّعَتْ منطقة المملحة طرقا لأقصاها في جنوب البصرة، وأضمر المارة في الشوارع وأصحاب الدكاكين نظرة تملق لرجال السلطة، وتحاشوهم في التركيز بأعينهم، ونافقوهم في تنزيل أسعار الحاجيات لهم، لكن العيون كانت تبرق مع بعضها وعيدا مدفونا، تشي أن الوضع داخل المدينة مكهربا، ونقمة الغضب الصامت تقع على كاهل الجندي البسيط، فهو إن جلس على تخت المقهى محاسب من الانضباط العسكري، ومهمل من رواد المقهى، وطلباته لا تنفذ كما يرغب، وقد لا تنفذ نهائيا، فينهض جارا أذيال خيبته دون أن ينطق حرفا، وكان أضعف ما يُرد عليه لو خشوه أن يجيبوه بلغتهم الدارجة التي لايفهمها، بحجة أنهم لا يجيدون النطق باللغة العربية، ولا يتبقى له في النهاية غير أن يتفرج بعينيه صامتا، ولو كان في استطاعة الأهالي أن يمنعوا على الجنود التفرج والتمتع في المشاهدة، لفعلوا!.وفي المقابل كان رجال الدولة من أمن، واستخبارات، وانضباط عسكري، ورفاق حزبيين مثل رحى دقيق وسطها ثقب دائري تؤدي كل الطرق التي يسلكها الجندي له، وواجب السطوة يلزمهم أن يهرشوه داخل هذا الثقب، ليؤدبوا من خلاله بقية السكان المحلين، فإن تعذر عليهم فعل ذلك اضطروا لأن يتباهوا أن زمام المبادرة بأيديهم، وراحوا يتبخترون بأسلحتهم الشخصية، ويلعبون فيها بين أيديهم، وكأن لسان حالهم يقول للسكان المحليين:نحن لكم بالمرصاد.
(17)
كان التمرد الكردي في الشمال غير مكتمل الصورة لبرهان في حينها، لكن له علم به، وله معرفة أن الكبت السياسي، والتضييق الفكري الذي تفرضه السلطة، اضطر الكثير من المعارضين لها لأن يلجئوا لكهوف الجبال، ووعورة الطرق فيها، ويقودوا حرب عصابات على السلطة من هناك، والحقيقة التي يحاول أن يطمرها برهان في داخله ولا يبوح بها لأحد، خوف أن يقع تحت طائلة التساؤل الأمني، كونه كان يوالي من هم في الجبل سخطهم!.
أثار اسم الشمال، ومن يعارض في الكهوف ما يكمن في نفس برهان ويشتتها، لكن عنصر انضباط عسكري أوقفه مدققا في هويته، فانتشله من أفكاره وثبت قدميه على حجر شوارع السليمانية، وسأل الانضباط العسكري عن مكان وحدته، فأكد له هذا بعد أن دقق في ورقة أخرجها من جيب بنطاله الخلفي، أنها موجودة ضمن قاطع دربندخان، وأرشده لسيارات الأجرة التي توصله إلى دربندخان، لكنه نصحه بصوت خفيض أن لا يثق بأي سائق يصادفه، وأشار عليه أن ينتظر سيارة عسكرية تكون وجهتها إلى هناك، ووعده إذا بقي قريبا منه سيجعل أول سائق عسكري يصطحبه معه، فأُخِذَ برهان على أمره وحار كيف سيستطيع أن يميز السائق الذي يثق فيه ممن لا يثق فيه!، واضطر في نهاية الأمر أن يتبع الانضباط العسكري كظله، ليُركبه سيارة عسكرية توصله إلى وحدته في دربندخان.
وسريعا ما وجد له الانضباط العسكري سيارة توصله، لكن سائقها طلب منه أن يستأذن الضابط الذي يرافقه، قبل أن يصعد برهان لحوضها الخلفي، فاستمهله عنصر الانضباط أن يقف قريبا من السيارة، وراح يستأذن الضابط الذي يقف قرب أحد الحوانيت يقلب تماثيل صخرية معروضة للبيع، ووافق الضابط فأشار الانضباط لبرهان بالصعود لحوض السيارة العسكرية، التي انطلقت سريعا في طريقها، حالما انتهى الضابط من تقليب التماثيل دون أن يشتري منها واحدا.
كانت تلك أول مرة يشاهد فيها برهان شمال العراق، وعدّ صعوده في حوض السيارة المكشوف فرصة لأن يتملى جانبي الطريق جيدا، وتتشرب عيناه صور المناظر الطبيعية الخلابة، وأذهلته عمامة الجبال البيضاء من بعيد، ولون سفوحها المائل لخضرة داكنة، وملأه الإعجاب بمهارة سائق السيارة الذي كان منتبها لتعرجات الطريق وإنحناءاته بين سن صخري وآخر!، وهاله شق الطريق في جانب حافة سلسلة جبلية على يمين خط السير، وكانت بعض الحافات تبدو كأنها قدت بالسكين عموديا، فأضحت الصخور على جانبها كأنها مرآة علقت فوق حائط، ملساء، تبرق كحراشف ظهر أفعى صحراوية، وشعر أنَّ الأشجار وقد خرجت من بين شقوق الصخور، مثل كتل أخشاب ستدفعها أول هبة ريح فوق السيارة، لتطوح بها إلى الوادي في الجانب الآخر من الطريق، وكان يتطاول لبضع دقائق رافعا جسمه عن المقعد الخشبي للسيارة ليراقب الطريق أمامه، وقد امتد أسودَ، فيبدو عريضا أمامه ليكون رفيعا كالخيط وينحني نازلا وراء تل، أو يلتوي خلف السلسلة الجبلية ليظهر مقطوعا في انحناءة أخرى لها، لكنه أحس خطورة الدرب وهو يشاهد نقاط الحراسة ممتدة عليه بمسافات متساوية، وغدا له الطريق كأنه ثكنة عسكرية ممتدة طوليا، وراح جنودها يدبون على الجانبين، فظهر جندي في إنحناءة وهو يحمل على كتفه خزان ماء صغير جلبه من عين في الوادي ويصعد فيه سفح الجبل، بينما سار أحدهم على رصيف الشارع وفي يديه أكياس مؤونة، وثالث يصعد الصخور متأبطا بندقيته، وسمع للأمام صوت قذائف مدفعية تسقط على الأرض فيتضخم صوتها عبر الوادي، ليضيع في عمقه مشروخا كأن حاجزا مائيا صدهُ.
خفّف السائق من سرعة السيارة، وإصطف مع سيارات أخرى عند نقطة تفتيش على الطريق، وبدا رتل السيارات طويلا، فتشوش أمر توقفها على برهان، وحار في معرفة السبب، لكنه راقب سير المقدمة، ومع أول أزيز قذيفة مدفع سقطت قرب فتحة نفق دربندخان فهم أن المدفعية الإيرانية تستهدف النفق، لقطع الطريق بين السليمانية ودربندخان، وعلمته التجربة أن إستهداف عقد الطريق وتعويق الحركة فيها، يُدلل أن الجانب الآخر يعد لهجوم على المحور الذي يحاول أن يقطع الإمداد عنه، وكان القصف يتركز على فتحة النفق بواقع قذيفة واحدة بين دقيقة وأخرى، وعلى نقطة التفتيش أن تستغل المدة الفاصلة بين سقوط القذيفة والتي تليها، لتقطع سير رتل السيارات دون أن تصاب إحداها، وحاول برهان حساب عدد السيارات التي يسمح لها بالمرور كل دقيقة، فأحس بصعوبة الأمر عليه، وضغط الخوف على أعصابه، وتركز الانتباه عنده على الفتحة، وغدا دخول النفق غاية يطلبها الجميع، فاحس برهان باضطراب في دقات قلبه، وراحت ساقاه ترتجفان دون أن يسيطر عليهما، ومما زاد حالة التوجس عنده امتلاء مثانته ورغبة شديدة باتت تراوده لأن يُفرِّغُها في حوض السيارة، وتشتت ذهنه بين التفكير في سلامته، وبين آلام ضغط البول في مثانته، وقارن بين السلامة وبين إزالة آلام المثانة، فلم يتحمل مزيدا منه، وقفز خفيفا من حوض السيارة، وانزوى خلف صخرة كبيرة على جانب الطريق من جهة الوادي، وأراد أن يتكأ عليها بعد أن أفرغ ضيقه لكنه خاف أن تتدحرج عليه وتهشم عظامه، قبل أن تستقر في الوادي السحيق تحته.
أصابه نوع من التعاطف مع المنظمين للسير في فتحة النفق، ففي الوقت الذي يسمحون فيه لأن يدخل عددٌ معيَّنٌ من السيارات لداخل النفق، يتوجب عليهم أن يسمحوا لعدد آخر أن يخرج منه قبل سقوط القذيفة، وتلك مهمة أحسها برهان صعبة جدا وفيها خطورة كبيره على الطرفين، الداخل والخارج، وعُدَّ من يفعلها مجنوناً لا محالة!، لكنه ابتسم ساخرا من وصف لو طُبّق فسيكون هو أول ضحاياه، لا سيما وأن صف السيارات المسموح له بالدخول بدأ يتحرك ومعه السيارة التي يركبها.
كانت المسافة بين توقف السيارات وفتحة النفق تقدر بثلاثمائة متر، وهي مسافة كافية لأن تجعل كل راكبي السيارات المتحركة خائفين، تخفق قلوبهم أسرع من دوران العجلات، ووجوههم تصفر رعبا، وتجف أفواههم، وتبدو المسافة أقرب مسافة لكل واحد منهم بين الحياة والموت، والدقيقة التي تفصلهم بين القذيفة والأخرى تجعلهم يديرون رؤوسهم كأنهم محكومون بالإعدام وأعينهم معصوبة، وثمة لغط حولهم لا يدرون مصدره، فيديرون الرؤوس على كل الجهات لأصوات تصيح معجلة لتنفيذ حكم الموت فيهم!.
تلاشت فتحة الدخول للنفق أمام برهان، وغشيتها زوبعة دخان أطلقتها محركات السيارات المسرعة للداخل، وتلألأ خيط إنارة داخل سقف النفق، أبيضُ كلون الدخان، وظهر ضوء ساطع لكوة في البعد إلى الأمام، راح يشتد قوة وسطوعا كلما اقتربت السيارة منه، وانبهر برهان بالأيدي التي شقت النفق بهذه البراعة، وجعلته مقوسا، صقيلا، وحولت داخله نهارا بمصابيح لا يبعد أحدها عن الآخر أكثر من مترين، وعَبدت الطريق فيه، حتى انها جعلت لجانبيه أرصفة الطرق العامة في الخارج، وفيه شبكة لتصريف مياه الأمطار، واشتد ضوء الكوة وهجاً يعمي البصر في آخر عشرة أمتار قبل الخروج من النفق، ثم انفتح الأفق على سعته أمام برهان ولاحت أشجار بلوط متناثرة هنا وهناك، ورجعت للمشهد صور حظائر الجنود المرابية للطريق، والتوى الطريق عدة مرات في السيارة قبل أن يتوقف سائقها قرب سيطرة عسكرية ليترجل برهان عندها، وأوصى الضابط جنود السيطرة أن يرشدوا برهان لموقع وحدته العسكرية.
لم ينتبه برهان لطول المسافة بين السيطرة ومكان وحدته، فقد كان مذهولا في الطبيعة التي حوله، وما أحس إلا وهو على شبه مرتفع، وشاهد في الأسفل، فسحة بدت منبسطة أمامه، جثمت عليها راجمات الصواريخ وحزمة فوهاتها النارية مرفوعة على أقصاها في اتجاه الشرق وعلى الفتحة المحصورة بين جبلي زرده وزمناكو جنوب شرق مدينة دربندخان، وبدا مشهد سفحي الجبلين المتعامدين لبرهان كأنهما عاشقان يقفان طول النهار بانتظار أن تغفو عنهما العيون ليحتضنا بعضهما!.
ارتفعت أكف من يعرفه وراحت تلوح له، واجتذبه صياحهم عليه، من أتون خيالاته، فأخذ طريقا متعرجا لم يتعود عليه، رافعا يده ردا على تلويحهم له.
(18)
في الأشهر التي تلت ذلك أكل الربيع خريفها، وذاب ثلج القمم، وأزهرت أشجار المنطقة، وراحت السناجب تخرج من ثقوبها في الجذوع الضخمة لأشجار البلوط العالية، كانت تبحث بين الأشجار نابشة في الأرض لتخرج ما طمرته سيول الأمطار من ثمر البلوط، والأناناس، والجوز، لتقتات عليه حتى موسم نضوج أثمار الأشجار في الصيف، وكان لون فرائها الشبيه بلحاء الأشجار، وورق الخريف المتساقط يمنحها مزيدا من التمويه، وراحة البال، وهي تبحث عن أكلها مطمئنة بين الأشجار، ووسط فسائلها الصغيرة، وزادت وفرة المياه في العيون الباردة، وابتكر الجنود طريقة لحفر العيون، وتقريب المياه من مواضعهم في سفوح الجبال التي لها انحدار قريب لأن يكون عموديا، فراحوا يحفرون جحرا طويلا في سفح أعلى قمة مرتفع قربهم، ودفعوا فيها ثلاثة أرباع الأنبوب الذي يعبأ فيه صاروخ الراجمة أثناء إستيراده، ثم حشوا ما بين الأنبوب والصخور بالتراب وسدوه بالطين، وتركوه ليوم، ليجدوا المياه الجوفية لبطن المرتفع تتجمع، لتسيل منه نقاطا كخرير المطر، ثم لا تلبث أن تزداد تجمعا لتكون عين ينبوع يجري دوما، مياها باردة حتى في الصيف!، ولجأت مجاميع أخرى تنظف آبار أهالي القرى الذين هُجّروا عنوة، أو هَجّرَهم القصف العشوائي، وكان الجنود معجبين بطريقة حفر الآبار التي لا تشبه الآبار التي تحفر في وسط العراق وجنوبه، فالأهالي في المناطق الشمالية، كما راقبهم برهان العسافي يحفرون دائرة في الأرض ثم يبنون داخلها بقطع الصخور شكلا مخروطيا، واسعاً من قاعدته، وضيّقاً ليسع مقدار دخول دلو الماء من أعلاه، ثم يردمون ما حوله، فتترشح المياه له من بين صخور جدرانه، وتتجمع داخله باردة في الصيف، دافئة في الشتاء، أما خبز الأهالي كما وجد برهان بعضا منه، فكان رقائق مثل الورق، يستطيع أي إنسان أن يحمل منها رزمة مكونة من مئة رغيف على صدره، دون أن يبدو لمن يشاهده أنه يحمل خبزا بهذا العدد، وجعل هذا الأمر برهان العسافي يفكر فيه طويلا، لكنه لما قارن معيشة أهالي قرى الشمال بمعيشة أهالي المدينة، وجد أن الأهالي في القرى يعيشون إسلوبا شبيها لأن يكون بدائيا، فالطرق الوعرة بين القرى من جهة، وبينها وبين المدينة من جهة أخرى، جعلت وسيلة النقل للمدن تقتصر على البغال، وتنعدم في القرى الكهرباء، ويقتصر تواصلهم مع عالم المدينة، بما يحمله لهم راديو الترانزستور الصغير من أخبار موجزة إن توافرت له البطاريات لإدامة خشخشة الصوت فيه، وطريقة عمل الخبز في هذا الشكل يجعل تخزينه جافا لمدة طويلة ولا يخسرون شيئا على تخزينه ولا منه، ولاحظ أنه بمجرد نثر الماء على صفحة رقائق الخبز تعود لينة، رقيقة، كأن أيدي ربات البيوت صنعتها قبل بضع ساعات!، وحتى بيوت القرى بدت خربة، وغرفها متداخلة مع بعضها، كأنها الجحور، ليلوذوا فيها من نتف الثلج المتساقط، والأمطار الغزيرة، وبرد الريح القارص طيلة الشتاء، وإلى الخلف من الموضع انساب فرع من نهر الزاب، فائرا بمياه الثلج الذائب من قمم الجبال، التي تتحول بمجرد أن تمطر السماء في أي رقعة حول النهر، إلى مياه صفراء تحمل غرين السفوح أكثر منها وتنساب متلاطمة على ضفتي النهر، فتبدو مثل حليب البقرة الأصفر أول ولادتها لرضيعها، وإن ارتطمت أمواجه مع الصخور في قاعه لا تشكل من رذاذها قوس قزح، ما دام لون المياه مصفرا، رائبا، وتجرف المياه أسماك النهر الصغيرة، فيما تلوذ الأسماك الكبيرة إلى الجرف متحدية التيار السريع، فتبدو منهكة تعب الماء الخابط كثيرا، مثل لاعب ساحة وميدان يلهث محمر الوجه بعد انتهاء شوطه، ويغدو الصيد وفيرا للجنود التاركين واجباتهم، ولمن أخذ غفوة وصحا على صياح أفراد حظيرة محتفلين بصيدهم لسمكة كبيرة، ووسط هذه المنافع كلها تبقى المجازفة في النزول للنهر مخاطرة كبيرة، قد تودي بمن تنزلق رجله دون أن يدري لأن يفقد حياته، ولن يخاطر أحد رفاقه في انتشاله من لجة النهر، وعادة ما يعثر على الغريق ممزق الجسد وعظام أطرافه مهشمة عند عواميد أحد جسور المشاة، أو بين صخرتين كبيرتين تعترضان مجرى النهر، فتكون نهايته ملفوفة بكيس نايلون، بعد أن انتفخت بطنه بالغرين الرائب.
(19)
كان هدوء قاطع عمليات الفيلق الأول يسمح لبعض أفراد الوحدات أن يستكشفوا ويراقبوا كيف تعيش الناس في القرى النائية عن المدن، هناك خلف الجبال، وانكب برهان العسافي بحكم عمله كمعين على نبش ما توفره الخرائط العسكرية من معلومات، تجعله ملما بتضاريس الأرض، ومواقع الجبال، والقرى الكردية حوله، وكان يعرف أن ثمة أفراداً عراقيين من وسط وجنوب وغرب وشرق العراق أفلتوا من قبضة القمع الفكري عامي 1978و1979 وإلتجئوا لجبل يَسْمَع عن أن اسمه جبل قنديل، ومنه شكلوا فصائل سميت عندهم فصائل الأنصار للكفاح المسلح، فيما تؤشر مواقعهم على الخرائط العسكرية على أنها مواقع للمخربين، وحار برهان في الرؤية المتخبطة لبعضهم بين شعارات تتغنى بحب الناس والوطن، فيما بندقية المنشد لها توجه على صدر الجندي الذي سيق للخدمة الالزامية عنوة، لكنه في المقابل كان يراهم مجبرين على حمل السلاح، ومقاتلة السلطة التي تحالفت معهم في جبهة وطنية، كانت سببا لأن تكشف فيها تنظيمهم، وتجعله علنيا قبل أن تباشر في قمعهم والتنكيل بالآلاف منهم، ثم لتفك ارتباطها معهم، وتنعتهم بصفة الخونة، التي يفترض أن تكون صفة لها هي!، وعادة ما كان يسرح بمخيلته ويرسم صورة للحياة البدائية التي يعيشونها، وكثيرا ما تخيلهم وقد أضحوا مثل الذئاب الشرسة، بعد أن إنقطعوا عن حياة المدينة وصخبها الذي كانوا دون شرائح المجتمع الأخرى منغمسين فيه، ويعيشون أيامه بكل دقائقها، وكان يراهم في أحلام ليالي الشتاء الطويلة، يتسللون أنساقا محنية الظهر، تتوكأ بنادقهم على أكتافهم، فيراوحون فيها بين الكتفين، وأرجلهم حتى ركبهم يبتلعها الثلج المتراكم في الطرقات، وكثيرا ما كان يحن لأن يشاركهم تلك الحياة، لكنه كان في داخله يشعر بنقيضين، فهو أما أن ينفذ بجلده ويلتحق معهم ويترك المعاناة على عائلته لتتحمل بطش السلطة، وبين أن يحافظ على سلام عائلته، ويعيش مهادنة الإلتحاق في جيش يحاربهم، وكانت في داخله رؤيا أنه لو إلتحق بهم فسيكون جيفارا ثانٍ، يصحح أخطاء ثوار يتخبطون في جرم جريرة أجبرتهم الظروف لأن يرتكبوها، لكنه دائما ما يخلد للنوم وقد تناسى كل اختلافه معهم، ليتوسد أحلاما يكونون هم فيها الأبطال الثوريين، ويكون هو من عامة الناس، يسير خلفهم على طريق يكونون فيه هم المرشد والدليل للخلاص، وهو الأعمى الذي يبحث عن منقذه!، وأصبح برهان العسافي يقضي ساعات طوال قرابة العام ينساق مجبرا مع أحلام يقظته، ليسيطر على ساعات النهار الطويلة وليبتعد عن ثرثرة الجنود المملة، فتارة يحلم وقد أصبح متنكبا بندقيته وتخوض رجلاه وسط الثلوج، على الجبال مع الأنصار في الافق الممتد أمامه، وتارة يحلم شابكا يد ندى بيده وهما يجولان بين مصايف السليمانية، وأربيل، ودهوك، ومما أنقذه من خيالاته، أنه أُخْتيرَ من بين المعينين ليرافق حظيرتين وينفصل نهائيا عن وحدته، لتبقى هي في دربندخان ويلتحق هو مع حظيرتي راجمتين في قضاء جوارته التابع لمحافظة السليمانية أيضا، دون أن يكون تحت أمرة ضابط، ويرتبط مباشرة بمقر مدفعية الفيلق ليسند (اللواء 70)، وهو اللواء الذي كان يطلق عليه تسمية (لواء الذئب)، لصرامة آمره، وشراسة جنوده، وكان لا يترك راقما جبليا حرره لراقم جبلي آخر يريد أن يحرره إلاّ أن يثبت على الأرض أوتادا فيها قطع خشبية مستطيلة الشكل، تدون عليها عبارة(من هنا مر الذئب)، وفي مقر مدفعية الفيلق الأول أوجزه أمر اللواء بضع كلمات، قبل أن يستلم برهان العسافي الخرائط العسكرية الخاصة بمهمة فصيله:
- الراجمات، انتبهوا...عندما أطلب النار، لبّوا طلبي بسرعة.
حدق فيه برهان طويلا فبدا له مفرطا في لون سمار سحنته، وإذا تكلم أو ابتسم يبدو بياض صف أسنانه، كأنه وميض البرق وسط ليل وجهه المظلم، لكن ضابطا برتبة صغيره أسَرَّ لبرهان بصوت هامس، منتحيا فيه على جانب:
- لواء الذئب عادة ما يكون هجومه على الإيرانيين بعد منتصف الليل، وعندما تسمع السيد اللواء يخرج عن سياق شفرة الجهاز، ويسمي الأشياء بأسمائها، ويبدأ بالشتم..عليك أن تعرف أنه بحالة سكر شديد!.
ولم يصدق برهان ما أسَرَّ له فيه الضابط ذو الرتبة الصغيرة، لكن الأيام اللاحقة كانت حبلى بحزمة شتائم أُكيلَتْ له، لم يتصور أن إنسانا في الكون يحمل لها معجما كما يحمل لها آمر لواء الذئب هذا!.
كان اتصال فصيل الراجمات بمقر المدفعية يتم بوسيلتين، الأولى أن برهان العسافي يستلم أوامر الرمي وإحداثيات الأهداف عن طرق الجهاز اللاسلكي، والثانية كانت تخص إداريات الفصيل، وشكواهم أن وجدت، وهذه تتم بذهاب برهان في السيارة العسكرية التي خصصتها له بطريته قبل أن ينفصل عنها، وكانت تلك فرصة لأن يقترب من سائقها محمد حويجه، وتتعمق العلاقة بينهما، ولأن البطرية زودته بدفتر نماذج لعدم التعرض[13]، واشترط آمر البطرية على برهان أن تستعمل النماذج حصرا للحالات الطارئة، فقد أباح لنفسه أن يمنح السائق محمد حويجه كل نهاية أسبوع نموذجا لعدم التعرض، ليتسنى له الذهاب إلى أهله، في قضاء الحويجة التابع لمحافظة كركوك.
(20)
جاء شهر رمضان في نهاية الصيف، وكان الصائمون فيه قلة إذا قيس عددهم بالموجود من أفراد الحظيرتين، وكانوا فئتين في إفطارهم، فئة تفطر عند مغيب الشمس مباشرة، وفئة تتأخر عن الأولى قليلا من باب الاحتياط، لكن الاحترام بين الفئتين لطقوس بعضهما يسري سلوكا بينهما، ولا يعير الطرفان بالاً للفوارق المذهبية، وفيهم من يجعلها حالة تندر، تخفف تعب النهار وشدة صوم ظهيرة الصيف.
فرغ طرف الإفطار مع مغيب الشمس من صلاته وأكله، وانسل بعضهم خلف الرابية، في حين مدّ طرف الافطار بعد مغيب الشمس سجادة الصلاة، وراحوا يتناوبون على الصلاة فوقها، وإنشغل من أدى صلاته أولاً في تجهيز مائدة الإفطار، فكُشِفَتْ أغطية مواعين الأكل وتطايرت أبخرة رائحة البصل، ممزوجة برائحة الطماطم المقلاة بالسمَّن النباتي، وانتحى برهان جانبا يقشر بطيخة عند عين ماء قريبة، وتهدج صوت المخابر رزاق يتلو:
- سبحان الله والحمد لله والله أكبر.
كان يسبح بحمد ربه وأصابع يده اليمنى تترك حبة مسبحة تنفرط من كفه، كلما انتهى من تسبيح، ثم يتلو غيره ويفرط حبة أخرى، وعيناه تتلصصان على جانبيه، مثل عيني ذئب تبرقان ليلا، فيشمل جانبيه بنظرات الشك، ويفرض نوعا من الخشية عند المتواجدين حوله، وهو عادة ما يكون أول المبتدئين بالصلاة، وآخر المنتهين منها، وله سجادته الخاصة، وكثيرا ما يلومه الجنود على تأخره وينغزوه:
- يكفي..لو كنت إماماً لكنت خلصت صلاتك من زمان!.
ولم يك يتضايق من تحرشهم فيه، لكن عينيه كعادتهما كانتا تبرقان من خلف حاجبيه، ويقول ترنيمته المعتادة:
- افطروا... منعتكم أن تفطروا!.
التأم الجمع على مائدة الإفطار بعد أن انتهى رزاق من صلاته، وامتدت الأيدي تأخذ لقمها الأولى، فيما راحت الألسن تدعو:
- ابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله.
في الجانب الآخر قرفص محمد حويجه قرب كومة أخشاب، أعدت وراء تل صغير يقع في جهة مغيب الشمس، وأشعل النار فيها، فطقطقت كسر الأخشاب الجافة تحت لهيب النار، وتوهجت شعلتها، تتماوج مع نسمات الهواء الملتفة خلف التل، فألقمها مزيدا من الخشب ونهض صائحا بأعلى صوته:
- إنتبهوا يا جماعه...الشمس لم تغب بعد.
سرى همس بين الصائمين ونهض رزاق واقفا على طوله، وأحس محمد أن حيلته انطلت عليهم، فضرب كفا بكف وراح يقهقه قبل أن يولي هاربا خلف التل، فابتسم رزاق وتناول حجرا من بين رجليه، وهدد فيه دون أن يرميه وراءه، وردد الوادي صدى ضحكات الطرفين على ما فعله محمد حويجه.
(21)
افتقد برهان لأكثر من التحاق أن يرى أحمد بين موجودات المحطة وتراثها، وكان كلما نزل مجازا لأهله يفتقده أكثر، ويصمم ليلا أن يسال عنه في اليوم الآتي، لكن عناصر جذب وتغيير على نمط حياته كانت تمسخه عن عالم حياة الجيش، وصحبته التي تفرضها قسوة الحياة فيه، ولم ينف أن فيه خيوط علاقات تنشأها تلك الظروف تكون أكثر متانة من الإخوة ودمها، الذي يدعو لأن يناصر الأخ أخاه ظالما أو مظلوما، فان تنقطع عن الحياة المدنية طيلة شهر، ولا تتذكر منها غير أمنيات موؤدة، وأحلاماً تترسب في قاع النفس دون تحقيق، لَهْوَ العذاب بعينه!، يوازيها شخص أخر يقابلك طلية شهر كامل، يأكل، وينام، ويحلم، ويتمنى، ويغضب، ويفرح، ثم يصيب ويخطأ في سلوكه أمامك، فتتحول لمعالج نفسي له ولمشاكله، مثلما هو يتحول لمعالج نفسي لك ولمشاكلك، يجعلكما هذا الظرف الإجباري كما يراه برهان تمارسان الحياة أكثر مما تمارساها مع عائلتيكما، فما بالكما إن استمر الأمر لسنوات، يبدو ما بعدها من العمر كأنه توقف عند هذه المحطة، وما عاد يرغب في مفارقتها مرغما بعد أن يأس من تخطيها، وتأقلم على ظرف آخر مارسه سابقا لكن الذاكرة طوته، وما عادت تستسيغه ولا تألفه!.
لكن برهان رغم إدراكه كل ذلك فقد أجبرته ظروفٌ أخرى جعلته يتناسى ولو لحين قناعات يعرف حَفْرُها داخل نفسه، وفعل الأخاديد في بطن واديه، وكان بزوغ فجر ندى في حياته، مثل عتق العبد من رقه، وأصبح جدب رمال البصرة يوم كانت وحدته فيها ربيعا دائما يعيش ليله الموحش، كأنه في أحلى منتجعات العالم، يحلم أن تطوي الأقدار ساعات الليل والنهار ليرى ندى ويحلما سوية، وكان يطرز الثلاثين يوما بنزول وقتي من وحدته، يقضيه متسكعا معها في شارع الجمهورية مرة، وأخرى في( العشار)[14]، وثالثة اصطحبها كما وعد نفسه سابقا عند نصب السياب، وكان حمله لنموذج النزول الوقتي مع البدلة العسكرية التي يلبسها، كافيين لأن يكونا جوازي مرور لا يسمحا لأحد أن يزعجهما، أو يقعا تحت طائلة الأسئلة الفضولية، وهما يتسكعان في أزقة البصرة، وشوارعها، وأسواقها.
وخلال فترات التسكع ألَمَّ بتفاصيل حياتها وعرف أنها وحيدة أمها وأبيها من البنات، ويشاركها من الأولاد أخ واحد خريج كلية الهندسة قسم ري وبزل، وهو عسكري في معمل دبابات الديوانية، أما والدها، فهو مدرس في الإعدادية المركزية في الحلة، ووالدتها ربة بيت، واستشفَّ من ذلك أنها مدللة أبويها، ولا يرد لها طلباً، حتى انها من فيض حب وحبور فيه أسرت له أن باستطاعتها أن تساعده ماديا، وأخرجت له محفظة نقودها تستعرض أمام عينيه أوراقها النقدية، بين التباهي مرة، وبين طفولة ترى أن ما في المحفظة أكثر مما تحتاج إليه، لكنه شكرها بإباء وأنفة، رغم أنه أحب نكران الذات عندها، وعدّ ما في حوزتها كأنه ملكٌ شخصيٌ له.
وسط هذي اللّجة وانشغاله بحدث علاقته مع ندى، قرر أن يزور صديقه أحمد في داره في أول إجازة له بعد أن انتقل للشمال، ويسأل عما جرى له وأين أصبحت وحدته! وكان فيض العواطف لأن يراه ويدردش معه كما كانا يفعلان سابقا، يدفعه لأن يهم الخطى ليؤجر سيارة الآن وليس بعد ساعة.
طرق باب الدار فأتاه عبر شقوق الخشب فيه، صوتٌ واهٍ ضعيفٌ لامرأة عرف منه أنها أم أحمد:
- هذا أنت أحمد..
وأحس بدبيب لخطوات تزحف على الأرض، تحمل جسدا متهالكا لعجوز لا تقوى على السير، وسمع ضربات عكازها على بلاط الممشى فقال:
- أنا برهان...أسال عن أحمد.
فتحت قسماً من الباب، وانهمرت الدموع من عينيها قبل أن تقول:
- يا ولدي..صديقك أحمد مسجون، غلبوه.. لا أدري كيف فاتت عليه..لا أعرف كيف غلبوه!.
فقال برهان يواسيها، لكنه في داخله كان يعلم نتيجة هروب أحمد لمدة طويلة، وسط قرارات تعدّ غياب الجندي لثلاثة أيام فقط في أثناء دخول وحدته بالمعركة هروبا، ويُعاقب عليه مرتكبه بالا عدام رميا بالرصاص:
- سأسأل عنه.....وأرجع.
ولو تريث برهان قليلا وسأل نفسه عن فحوى استفساره عن أحمد، لكان جوابه أنه سيسأل عن موعد تنفيذ حكم الإعدام فيه، وموقع التنفيذ!، وبرهان يعرف جيدا مثل هذه الإعدامات التي يشرف عليها الجهاز الحزبي، وكلها تقريبا تجري في الملاعب الرياضية، ويُجْلَبُ لمشاهدتها طلبة المدارس المتوسطة والثانوية، وسبق له أن أجْبِرَ مع طلاب قسمه وطالباته في مرحلته الثانية في المعهد على الحضور لمشاهدة إعدام خمسة جنود، قيل عنهم في وقتها أنهم كانوا هاربين من تأدية خدمة العلم ويقومون بالسرقة، وأمسكوا متلبسين في جرمهم، فصدر في حقهم الإعدام رميا بالرصاص،وحادثة سيطرة سعد لمّا أعدم الجنود الثلاثة هي الأخرى وكيف أُجْبِرَ على حضورها!.
لم يلتفت برهان إلى أم احمد وهي تودعه، وكان فيه إحساس لأن يحث الخطى حتى يتحاشى نظراتها الخابية وراءه، لكنه يتخيلها مثل السياط على ظهره.
(22)
كانت سيارة الفرقة الحزبية تجوب مركز مدينة الحلة، معلنة عبر مكبرات الصوت دعوة المواطنين لملعب الإدارة المحلية، لحضور إعدام من أسماهم المتحدث (المتخاذلين الجبناء،الذين إرتضوا لأنفسهم أن يتركوا وحداتهم تقاتل عدوا يريد إن يدنس أرض الماجدات العراقيات) وسمع برهان المتحدث وهو يدعو إدارات المدارس الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، لأن تُسير طلابها بالنسق العسكري، ليحضروا أمر إعدام الجنود، ولم يك جزافا حضور طلبة المدارس، بل لأن الفرق الحزبية كانت تعلم بعد أن طالت الحرب أن طلبة المدارس هم أدوات الحرب، وواجبهم الحزبي يدعوهم أن يبثوا الرعب في قلوب الصغار، حتى لا يفعلوها وهم بعد سنوات سيكونون جنودا في المعركة!.
ودوافع حضور الإعدامات هذه لم تك في واقع أمرها محصورة على إجبار المواطنين من قبل رجال الحزب والسلطة، بل كان في الناس من يدفعه حب الفضول ليرى ما يجري، وآخرون يرون أن الاعدامات كانت تجري باستحقاق، لأنها لو لم تكن عادلة لطالت أولادهم الذين يقاتلون في السواتر الأولى، ومنطقهم يرفض أن يتساوى من يهرب مع من هم في الجبهة هناك، وآخرون تدفعهم الرغبة لأن يروا بأم أعينهم درجة الظلم التي يتحمل كاهل المواطن وزرها، والإستهتار في العدالة التي تُفتَرَض في السلطة القضائية وحصر معاقبة الهارب في يدها، كما يحلو لهم أن يتهامسوا فيما بينهم، وبمن يثقون به، لكن كل الأطراف لم تستطع يوما أن تصرح علناً بما تضمر في أنفسها وتفكر فيه بأدمغتها، لأن الرعب من العقوبة، وتصريح قمة رأس الهرم أن القانون جرة قلم في يده، يشطب قانونا ويستحدث قانونا آخر غيره، وسريان إشاعة أن ولدا سمع أباه يهمس لزوجته في حلم يقتل فيه القائد، ويكون هو على سدة الحكم، جعلت رجال الأمن يعتقلوه ويضيع خبره!، وتضافرت تلك الأحداث لتجعل من الناس قطيع أغنام يساق للذبح دون أن يبدو عليهم أي اعتراض على مصيرهم!.
تقاطرت الناس على ملعب الإدارة المحلية، ووقف رجال الشرطة ببنادق مُهِرَ عليها رقما أبيض فوق أخمسها، وأزلام السلطة بملابسهم الزيتونية يغطون رؤوسهم ويلفونها بالكوفية العربية التي طرزت خيوطا حمراء متعرجة، وفيهم من يتدلى مسدسه من وسطه، وآخر يبدو في درجة حزبية لا تسمح له في حمل المسدس، فراح يتملق هذا ويطبطب على كتف ذاك، إعجابا منه فيما وصل له الآخر، وإلهاء لنفسه بتمني أن يكون كحامل المسدس لو أرضى عنه المحيطين في وقته الحالي، وكان ثمة رجال أمن هنا وهناك يندسون خلسة بين الناس، ويتقربون من كل اثنين يهمسان لبعضهما، وبدا ملعب الإدارة المحلية لبرهان كأنه في هذه الصورة مثل سجن كبير، إن دخله أحدهم بات أمر الخروج منه لا يتم إن لم تنته حفلة التحقيق فيه، لكنه سجن واسع تتحرك فيه الأقدام دون قيد، والمعتقلون داخله من حقهم التدخين، وشراء علب البسكويت، وزجاجات المشروبات الغازية، وشاهد برهان أحد الباعة المتجولين يمشي بين مقاعد الملعب، وارتفع من فوق كتفه خيط علقت فيه كومة بالونات ملونة، جعلت المشهد يبدو لبرهان أن وسط الموت تبزغ لعب الطفولة وبراءتها!. وتراءت لعينيه بائعة المحطة تنسل بين الجالسين على المقاعد، لتجلس منطوية على نفسها، ترمقه بين حين وآخر، وتعجب من أمر معرفتها له، لكنه أحال أمر تعرفها عليه لصاحبه أحمد الذي ربما سيكون أحد المعدومين بعد دقائق!، وخيل له أنها كانت محمرة العينين، وغابت عن ملامح وجهها أصباغ الزينة وضلالها تحت جفنيها، وكانت قسماتها متوترة، وأصاب شفتيها سواد، وراحت تفتح عينيها وتزوي مابين حاجبيها مثل إمرأة أغيظت كثيرا من أحدهم، لكنها تحس بالضعف، وليس لها القدرة على التنفيس عن غضبها أمامه، ووسط كل ما يعتمل في نفسها كانت في بعض اللحظات ترنو لبرهان بنظرة حنان، وتشمله بفيض عطف يوشح وجهها لثوان، ثم يتلبسها غيظها المكتوم ثانية، لتطقطق أصابع يديها مرة، ولتنكس رأسها على حجرها مرة أخرى، ساهية عما يجري حولها.
كان يتوسط الملعب ساترٌ ترابيٌ لم تكن قربه حفرة تدلل أن ترابه أخذ منها، وكان إمتداد ذيل التراب الذي كوم بخط مستقيم على العشب المصفر للملعب، يشي أن عربات بأحواض كبيرة هي من جلبت التراب لوسط الملعب المقابل للبوابة الرئيسة له وقلبته هناك، أمام برهان وبائعة محطة القطار.
دخلت لساحة الملعب سيارة إسعاف، وأخرى لنقل الركاب، وأعقبتهما سيارة مُلأت برجال أمن مدنيين يحملون أسلحة، ترجلوا منها حال دخول السيارة إلى وسط الملعب، وتراكضوا منتشرين حول المحيط ووجوههم تقدح شررا على الجالسين فوق المقاعد، وركن سائق الإسعاف سيارته على الجانب، ووقف قرب بابها وبجانبه طبيبٌ تتدلى من رقبته السماعة الطبية لجس نبض المرضى.
فُتِحَتْ أبواب سيارة نقل الركاب وسُحِبَ منها ستة شباب، كانوا يديرون رؤوسهم على المتفرجين، مذعورين، يجرون خطاهم بتكاسل، وبدا بعضهم يتوكأ على أكتاف جنود كانوا برفقتهم، وكان جلهم يبدون لبرهان في عمر الخامسة والعشرون، وحانت إلتفاتة رفع فيها أحد الشباب رأسه، كأنه يتحدى الموجودين، فإنعكست شمس ما قبل الظهيرة على قسمات وجهه المصفر، ولاحت قسمات السخرية واضحة عليه، وبدا متماسكا، لكن كتفيه انحنيا للأمام وتقوس ظهره، كأنه يشبه صديقه أحمد، ودقق والفجيعة راحت تأكل داخله بصمت ليتأكد أنه أحمد.
رُبِطَ كل واحد منهم على نصف جذع مبقور، وراحوا يتململون في أماكنهم كأن خشب الجذع يؤلم ظهورهم، أو هم مسلوبو الإرادة في آخر لحظاتهم، ولا زالوا يعشقون ما تبقى من أنفاسهم، وسرى همس لمعارضة سلبية بين الناس على إعدامهم أُطِرتْ بأسئلة تبدو بسيطة، ومن يقولها على نياته، لكنها لمن عاش وتربى وسط خليط هذا المجتمع وعانى ذلا، ومهانة، وكبتا مثله، يفهم منها ضمنيا أنها رفضا لما يجري داخل الملعب، أو هكذا خيل لبرهان واستشفه من الهمس، ولوحظت طالبات متوسطة بنات بُلِّغَتْ إدارة المدرسة لإحضارهن، وقد أغمي على بعضهن بمجرد أن ربط الشباب على الجذوع، وتجمعت بضع طالبات يرفلن بزي مدارس البنات، على المغمى عليهن، يرششن المياه على وجوههن، وأخريات حضنهن، وإحْمَرّتْ وجوه الطرفين تأثرا في الذي يجري أمامهن، وارتفعت قامات بعض الرجال، وراحت أياديهم تشير على الطالبات، وسرى لغط بين الحضور، قطعه صوت خرج من مكبر في يد أحد الرفاق الحزبيين، يتحدث عن خيانة كبرى قام بها مجموعة الخونة الضالين هؤلاء، وإنبثق بعده صوت أغنية يُعيّرُ الشمس أن الشاعر الذي كتب الأغنية وجماعته هم مَنْ منحوا تلك الشمس رفعتها، تلتها إنشودة تتغنى ببارود المعركة، وتعدّه كأنه رائحة هال، وفي زحمة أصوات الأغاني انهمر فيض الرصاص على أجساد المربوطين لجذوع النخيل، فتذكر برهان الجنود الثلاثة اللذين أعدموا أمامه في سيطرة سعد قبل أشهر من لحظته هذه، ولم يختلف أمر الإعدام بين المشهدين، غير أن الطبيب الذي كان يقف قرب سيارة الإسعاف تقدم فاحصا المعدومين، بعد أن أطلق ضابط فرقة الإعدامات طلقة الرحمة على رأس كل واحد منهم.
لمح برهان سريعا بطرف عينه كأن البائعة تكفكف دمعها، وشاهد كيف أن الغصَّة تخنقها مع كل طلقة تسمعها، وعاش هو لحظات الإعدام كأن سيل الرصاص يوجه على جسده، ورعشة الأطراف عندهم كانت تسري فيه، والتوَت قدمه تحت الكرسي الذي أمامه مثل ممثل يعيش دور شخصية، ويتقمص كل ما يجري لها، ونزعت نفسه لإعادة تمثيل ما جرى أمامه، ليخلص صدره من إختناقه، وأصابته رغبة بالتقيؤ عندما فكوا الوثاق عن أيديهم المربوطة للخلف، وإنكبت الأجساد مكورة على أرض الملعب، قبل أن يلفوها ببطانيات عسكرية مخططة باللونين الأخضر والأبيض، ويخرجوا في من لُفّ مثل سارقٍ غَنَمَ شيئا، ويخاف ظله وهو يسير جنب حائط البيت الذي سرقه!، وإختفى كل الموجودين منهم، خشية ثأرٍ مستعجلٍ، قد يطال أحدهم من ذوي المعدومين، رغم أن التصريح في خوف كهذا لم يعن لأحد منهم أبدا، فهم ينافقون لبعضهم أن كل قرارات الحزب والثورة عادلة دوما، وما يعدم شخص دون ذنب، لكنهم في الوقت ذاته لا يستطيعون أن يحسبوا ردة فعل أهل ضحايا العدالة تلك، وإجتاحت برهان رغبة ملحة لأن يفارق ملعب الإدارة المحلية، وهو يفكر في الشعور الذي ينتاب رجال السلطة، وكل من وقف جانب قرار الإعدام.
(23)
كثيرا مافكر برهان بعد حادثة إعدام صديقه أحمد، بالهرب من الجيش، وعدّ استمراره في لعبة الخوف من مجهول ما يخبأه له ساتر المعركة من موت، أو تعويق، أو أسر، وفي الجانب الآخر ما تخبئه له لعبة القط والفأر، بين جيله ومطاحن الموت التي ما برحت قيادة البلد تزج فيها مواطنيها، مثل حلقة مفرغة تدور فيها حيواتهم، وثمة وتد في الدائرة تمسكه السلطة لتدير الحلقة الى إتجاهين لا ثالث لهما، أما إتجاه أن تزجهم في المعركة فيموتون، أو إتجاه تلقي فيه القبض عليهم هاربين ويكون مصيرهم الموت معدومين رميا بالرصاص، كما أعدم أحمد والخمسة الآخرين، وكان أجمل فعل عند السلطة تلصقه للهارب أنها توصفه ب(الهارب الخائن، الذي يريد تمكين العدو الفارسي المتغطرس، من تدنيس أرض العراق، والنيل من شرف العراقيات الماجدات).
لكن أن يكون لمن يدخل مجبورا لعبثية تلك الحرب، والدٌ ضريرٌ، وأربع أخوات ليس لهن أخ غير برهان العسافي، جعله يركن أمر عدم الإلتحاق للجيش جانباً، ويدخل تلك الدائرة المفرغة، راضيا أن يوضع بين جدران سجن كبير، على أن ينجو بنفسه، تاركا وراءه أبا ضريرا، وأمّا أحنى العمر ظهرها، وأربع فتيات أكبرهن أنهت مراهقتها حديثا.
وغير تلك الأسباب كان يراود برهان سببٌ آخر، وهو أن المحيط العربي كانت جُلّ جغرافيته مؤيدة لتلك الحرب، وتعدّ العراق حارس (البوابة الشرقية)!، والإلتجاء لإيران في تلك الظروف كان يعني لبرهان إختيار وضعٍ يُراقَبُ فيه، فالصراع على الحدود بين البلدين قد يوضع بسببه تحت الإقامة الجبرية، أو يعامل كأسير، لحين انتهاء الحرب، أو يُزج في جبهات المعركة مرة أخرى، لكن هذه المرة مع معارضة عراقية، ترى أن السبيل الوحيد لإزاحة رأس السلطة في البلد هو الاشترك فيها.
(24)
مرّت سريعا ذكرى امتلائها بالوجد لبرهان، وفيضان الحنين منها إليه، وألح عليها انقباض النفس لأن ترى برهان بعد أن اتصلت على هاتف أهله الأرضي، وجاءها الرد من والدته، لتخبرها أن برهان مصاب وهو يرقد في المستشفى حالياً، وكم ألحت على أمه لتعرف نوع الإصابة، لكنها أعلمت ندى أنها حائرة في أي مستشفى يرقد ولدها، فقد نقل جنود لها خبرا أنهم زاروا صديقا لهم يرقد بأحد مستشفيات بغداد العسكريه، وطلب منهم برهان أن يعلموها بأمر إصابته، وأنه قدم طلبا لنقل معالجته أما لمستشفى الديوانية العسكري، أو إذا سمحوا له سيعالج في أحد مستشفيات الحله، وأوصاهم أن لا تترك والده الضرير وتبحث عنه، فهو بمجرد وصوله للمستشفى سيتصل بها، ثم طلبت من ندى التوقف في الديوانية عسى أن يكون قد وصل لمستشفاها هناك!.
وانقلبت صورته في خيالها، وتمثلَّت لها يده تحتضن كفها، فأصبح الكف في تلك اللحظات القصيرة مثل عصفور هزت عشه ريح مغبرة صفراء، فتحول العصفور كأنه هو العش، والعش اعتلى ريش العصفور وضغط على جناحيه من الجانب، بعد أن طوحت شدة الريح لتجعل جذر الشجرة منتصبا بميلان على الجانب، وتعريشة الأوراق متكئاً للجذع.
تمتم رجل أمامها بخوف:
- قل هو الله أحد، الله الصمد...
وتضرعت إمرأة عجوز قربها:
- استرها يارب..من لأولادي من بعدي!.
وصاح رجل ثلاثيني يجلس قرب السائق:
- اللهم صل على محمد وآل محمد.
وصرخ طفلٌ في حضن أمه، عندما ارتطم وجهه الصغير بخلفية المقعد المقابل له، وثارت زوبعة تراب حجبت الرؤية عن أعين الجالسين خلف زجاج السيارة، وأحست ندى أن قطع الحصى، تضرب وجهها بقسوة، مع كل زعيق للفرامل، وضاع مقود السيارة من يدي السائق، فصرخ راكب متوجعا، وأنَّ صوت امرأة بخفوت، وانخلعت قلوب الركاب برهة، فعمّ الصمت خلف الزجاج لحظات.
كانت السيارة تطير إلى الأعلى، وأحس الركاب مثل احساس ندى، كأنها تطاول السماء بارتفاعها، ولم يعلم أحدٌ منهم كم طال وقتها في الأعلى، تلتف حول نفسها، مثل نول الحائك، لكن ندى شعرت بهول صدمة المقعد المقابل لها على صدرها، وطقطقت أجزاء من ضلوعها قرب قلبها، لكن طقطقة الأضلع اختلطت مع تكسر أخشاب هيكل المقعد تحتها، والتواءه على وركيها، وعاجلتها ضربة من سقف السيارة على رأسها، أفقدتها السيطرة على أطرافها، فرمت أطراف ساقيها على جانبيها، لتصبح كالذبيحة في المجزرة، وفقدت القدرة على تحريك يديها إلى الأعلى لتجر ثوبها الذي انحسر معريا ساقيها، قبل أن تخمد جثة دون حراك، وشريط آخر لقاء ببرهان على كورنيش السياب قبل أن ينقل للشمال ويصاب هناك، يغفو تحت جفنيها، قبل أن تستكمل استعراضه في مخيلتها.
كانت السيارة مغروسة من مقدمتها، في حفرة كبيرة وسط الشارع على أثر سقوط قذيفة مدفعية إيرانية، أصابت السائق في جنبه، وأفقدته القدرة للسيطرة على مقود السيارة، التي انعجن معدنها بقطع لحم الركاب داخلها، وراح دمهم يجري من الشقوق مختلطاً مع بعضه، وبدت السيارة، كأنها بالدماء التي تسيل من جانبيها، تبكي زمن طحن الإنسان في مفرمة الحرب وتشظيه لقطع لحم تُهرسُ دون حساب.
السُلَّمَةُ رقم 28
كان اخْضِرار أشجار المزرعة يبدو غير متجانس مع لون رمال الصحراء الأصفر، وتهادت العربات العسكرية تسير بطيئا وهي تدور على جوانب بناياتها، فيما الجنود يتقافزون من أحواض العربات عند حضائر الأغنام، والماعز، والبط، والدجاج، وبعضهم تسلق سلالم أبراج الحمام، وعمت فوضى النهب، فواحد يمسك شاة تغرز أظلافها في الأرض حرنة أن تتحرك، وآخر يمسك معزة تحاول أن تقفز من بين يديه هاربة كلما توقف قليلا ليستريح، ورابع يحاول أن يخنق رقبة دجاجة راحت تقوقء على فراخ تركتهم مجبورة خلفها في القن، وإثنان يتساعدان لحمل فرشة أرضٍ كاشانية كبيرة، وثمة جندي خلع بابا خط في وسطها (بلادنا الكويت) ليستعملها سريرا لنومه، وضابط يأمر جنديين أن يحملا له كيسين أبيضين مملؤين ومشدودين بإحكام على حاجيات، عبأهما من داخل المضافة ولا يعرف أحدٌ ما في داخلهما، وفي الكراج راح بضعة جنود يحاولون أن يديروا محرك سيارة حديثة سوداء كانت جاثمة هناك، وكسر بضعة جنود شجرة يابسة لأغراض الطبخ وحملوها في حوض عربة تقف بالقرب منهم، ووقف جندي تحت أحد الشرفات يقلب البوم صور خرج به من أحد الأبواب خلفه، ونزع بعض الجنود ملابسهم نازلين لحوض سباحة يترقرق الماء فيه مثل لون السماء الصافية، ومن لم يشارك إنزوى خلف الآليات يشاغل يديه قربها، خوف أن يراه أحد الضباط وتُأشّر إضبارته عند التوجيه السياسي، وضابط الإستخبارت أن له رأياً مخالفاً في رجوع الفرع للأصل.
السُلَّمَةُ رقم 27
كان الصغير بلفته تلك، كأنه دمية قديمة لعب فيها طفل برجليه وخسفت جوانبها، فما عادت تشبه شكلها الذي اشتراها فيه، لولا بروز عظام وجهه المُصْفّر وقد بان عليه الهزال، وثمة ذباب يتعارك على عينيه الغائرتين، وثقبان في أنف لا يرى منه إلاّ أرنبة احْمّرَ طرفها.
كوّرت الأم جذعها منحنية على الطفل، تلقمه ثديا ضامرا فيه تجاعيد على جلده، مثل خيوط مُعلقة بسرير تتدلى منها ملهاة طفل تركته أمه وانصرفت لشؤون مطبخها، حشرت حلمة الثدي بين فكيه عنوة، وعصرت جَذْرَهُ الملتصق بصدرها بمشط عظام أصابع يدها، كأنه ضرع بقرتهم الناشف، قالت متوسلة رجلا كان يفترش الأرض قرب السرير:
- على بختك ، ابني راح يموت !.
همَّ الرجل بالرد غير أنه أحجم بعد أن دخل ممرض للردهة وراح يجس نبض الطفل، ثم قال:
- يا أخي أكثر من مرة قلت لك اشتر حليب لابنك من الصيدلية، نوعية حليب ابنك لا تتوفر في المستشفى !.
كان ثمة لغط وضجيج بات يسمع من باب الردهة، وتزاحم أشخاص بزي رسمي ، وبعضهم يضع على كتفه عدسة تصوير تلفزيونية، واخترق صفوف المزدحمين رجل تجاوز العقد الرابع من عمره، له سحنة وجه صارمة، تهدلت أطراف شاربيه على زاويتي شفتيه ، ولو استقطعت صورة أمامية لفمه وشاربيه من مجمل صورة وجهه، لصار كأنه فم سمكة قرش تهيئ فكيها للإنقضاض على فريستها ، انحنى على المرأة وطفلها الملفوف وقال هامسا:
- إذا سألك الزائر أو الصحفيون عما تحتاجينه صفقي وقولي: بالروح بالدم... نفديك يا عراق.
ثم انتحى جانبا بزوجها وأسَرَّ محذرا:
- انتبه.. سنوزع وجبة إضافية للحصة التموينية هذا الشهر...احذر أن تضيع عليك.
تدافعت الأرجل في الممر الخارجي ، وارتطم جراب مسدس في باب الردهة، وأنيرت أضواء ذات وميض يعشو الأبصار، فدخل الزائر، رجل عريض المنكبين، ضخم الجثة، يلبس بذلة عسكرية، ويغطي شعر رأسه بقبعة سوداء يلمع فيها نسر معدني من فوق منتصف جبهته ، ويتدلى مسدسه من وسطه، كأنه ساطور قصاب.
ضجّت الردهة بهتاف( بالروح بالدم..نفديك يا عراق)، وفتح الزائر كف يده العريضة، وأفرد أصابعها ثم رفعها ممدودة للأمام ، تحيي الهاتفين، دائرا بجسمه نصف دورة، ومثبتا يده الأخرى في نطاق بذلته، فيما البسمة تعلو شفتيه، وراح يتمتم أمام عدسات التصوير مخاطبا المصفقين:
- (عفيه....عفيه)...حي الله الرجال.
تدافع الصحفيون من أمامه وانكبوا يتزاحمون على سريرالمرأة وطفلها، بلاقطات صوت خطت عليها حروف أجنبية، وبقيت لاقطات صوت أخرى خطت عليها حروف عربية، تصور الزائر والهتافات التي تغطي على نواح المرأة الباكية بحرقة على موت وليدها، وأخرى لزوجها الذي سحبته أيادٍ خشنةٍ من خلفها، ولم تسمع منه غير نبرة صوت تعرفها:
- إبني مات إتركوني يا ناس....والله ظلم.
وصوت الأقدام يسير برتابة في الممر خارج الردهة... مبتعدا فيه.
السُلَّمَةُ رقم 26
كلما زاد تحويم الطائرات، وانخفض تحليقها على الطريق الواصل بين مدينة الجهراء الكويتية، وبين مدينة سفوان العراقية، تَجمَّعتْ العربات العسكرية المتناثرة على جانبي الطريق، حتى ضاع لون إسفلت الشارع الأسود، وتحول حصاه إلى شريط عربات مكومة على بعضها تَدِبُّ مثل النمل على طرقاته، وسكنت الحركة وتباطأ السير في مقاطع من الشارع بسبب عطب إحدى العجلات، أو نفاد الوقود من أخرى، فتململ الحشد الراكب فيه، وبعضهم ركن العربة جانبا وسار على الرصيف بإتجاه البصرة، ومع تعامد شمس الظهيرة على الرأس، سَرَتْ الغيرة بين الجنود فترجل الكثير منهم وهام على وجهه في الصحراء، وأصبح الطريق كأنه جذع شجرة طويل، وأسراب خيوط الجنود الهاربة كأنها أغصان ذلك الجذع.
قصفت طائرات التحالف مقدمة سير العربات على الطريق السريع رقم 80 الذي يربط مدينة الكويت بمنفذ العبدلي الحدودي، فدَبَّ الذعر في قلوب الجنود وإبتدأت المسيرة الراجلة لآلاف البذلات الخاكية، وحام سِرْبُ طائرات منخفضا ليُرْعِب الآخرين ويشجعهم على الترجل، ثم أمطرت السماء جحيمها من مئات القنابل تحرق آلة عسكرية، جُوِّعَ بسبب تكوينها وإدامتها ملايين الناس لعقود كثيرة، وضاع الجهد ياولدي في ساعات قليلة عند حلم المحافظة التاسعة عشر،على الطريق الذي أصْطُلِحَ عليه إسم طريق الموت.
السُلَّمَةُ رقم 25
بدت ساحة سعد في البصرة مكتضة بآلاف الجنود، وغابت سلطة الدولة وهيبة قانونها، فارتفع الهمس الناقم بين الحشود، ومع اشتداد التعب، والجوع، وإحساس الذل، والإهانة التي تعاني منها الحشود، أصبح الكلام الممنوع سابقا يخرج على شكل نكات ساخرة، تحولت لسب وشتيمة صُبَّتْ على رأس السلطة الحاكمة، ومع خيوط المساء الأولى افترش الجنود أرض الساحة متوسدين (بساطيلهم)، وتوعدت ألسنٌ جريئة منهم كائنات لم تصرح بماهيتها ولا بمسمياتها قائلين:
- الصباح رباح.
استيقظت ثلَّة جنود متأخرة، ونهض أحدهم مدققا النظر في جدارية لإحدى صور رأس السلطة، وقال كأنه يخاطب شخصها المرسوم:
- كل البلاء منك.
لكزه صاحبٌ له يدعك عينيه من أثر النوم، وكان جالسا عند قدمي الجندي المُعاتِب، فصاح المُعاتِب برما:
- اتركني..ألم تشبع ذلا وموتا.
انحنى على بندقيته، وسحبها من تحت (بسطاله)، ولعلع شريط رصاصها فوق رؤوس الحشود يخترق صبح مدينة البصرة، ثم أمطر الجدارية بوابل رصاص ركزه على عيني صاحب الصورة وصدره، وضاع صوته يهتف بكلمات تبعثرت وسط هرج الجنود وضوضائهم:
- يسقط.... يسقط...
انتاب الآخرين احساس بأن فجرا آخر سيبزغ لو شاركوه صيحة صوته ورصاصه، فسرى التجاسر شيئا فشيئا، وعلا أزيز الرصاص في ساحة سعد، يجاوبه آخر من أطراف البصرة، وانكشفت جوانب الحشود عن بضعة أيدٍ تخط على الحيطان شعارا بحروف كبيرة تقول:
- (ماكو ولي إلّا علي، ونريد حاكم جعفري)[15].
السُلَّمَةُ رقم24
تمايلت أشجار الكالبتوس في معسكر مدفعية المحاويل، وتناثرت أوراق يابسة طَيَّرها الهواء منها، على رؤوس عُصِّبَتْ أعيُن أصحابها، متناثرين في نهار آذار، وثمة واحد منهم يلوب على جنبيه، كأنه يجود بآخر أنفاسه، وتمدد ثلاثة فُقِأتْ أعينهم وراحت تتدلى فصوصها من محاجرها، كأنها كرات معلقة بخيوط يلهو فيها الهواء مثل أيدي أطفال صغار تلعب فيها، وجاء رجل أمن يجر شخصا من عقاله العربي يطوق رقبته فيه مثل قيد، كان الشخص يرتدي(دشداشة)بيضاء فضفاضة، فيها بقع دم تلصقها على ظهره، وقرب جذع شجرة تمدد شاب صغير كسرت ساقيه من وسطيهما، وإلتوت خلف ركبتيه، ونخاع عظميهما تدوفه ركب الشاب ملطخا بالدماء ومعجونا بالتراب أسفله.
ثارت زوبعة تراب غطتهم تحت الأشجار، أعقبها توقف عربة حوضية، ترجل رجال أمن منها راحوا يرفعون الأشخاص المعصبين ويرموهم في الحوض، كأنهم يرمون أكياس مليئة بأشياء لايُخْشى كسرها.
تكدست الجثث في حوض العربة فوق بعضها، وعلا صراخ كل المعصبين ألما وقهرا، فإنهال أربعة رجال أمن عليهم بالضرب، كانوا يمسكون عُصِيّا غليظة، ويقف كل واحد منهم في زاوية من الحوض، وكان الأنين والصراخ يعلو، والعصي المتحركة على الرؤوس، والأظهر، والسيقان تزداد قسوة، كلما أرتج حوض العربة المسرعة فيهم وتَوجَّعتْ آلامهم.
تعامد طريق السيارة مع طريق الحلة وطريق بغداد، وعبرت طريقاً زراعياً متعرجاً على حافة أحد البزول، ثم إنحدرت جانبا نحو فضاء واسع ينعدم فيه وجود قرية ريفية، وأُطْفِأ محركها هناك، فسكنت آلام المعصبين داخلها وراودهم شعور بالسكينة، مشوب بحذر خائف من مجهول سيجلبه لهم الرجل الذي ترجل من قرب السائق في مقصورته، وصفق الباب خلفه بفوضى وإستهتار.
تحركت العربة ثانية فاستيقظت الآلام مع أول ارتجاج لحوضها، وأحس مَنْ في داخلها كأنها تدور منحرفة، ثم أرجعها سائقها للخلف وأوقفها، فجأر محركها صائحا قبل أن يرتفع حوضها كأن جهته المرتفعة تطاول السماء، وتدعوها لتنهي مهمتها سريعا.
كانت الأجساد تتراص متكومة وهي تنزاح على بعضها، كلما شهق حوض العربة عاليا، وحال أن تدحرج أول معصوب عينين صارخا، تكومت الأجساد الباقية تباعا فوقه، فانطمر بهياكلها قبل أن تضيع صرخاتهم تحت سِكِّينَة جرف (البلدوزر) الذي راح يهيل التراب فوقهم، ويسوي أرض قبرهم الجماعي بسرفته، حتى ليبدو لمن سيسير على الأرض مستقبلا أن ما من أحلام وأمنيات ترقد تحت قدميه.َ وعلى القرب من الراقدين أُدْخِلَ باص براكبيه في حفرة عميقة وراح (البلدوزر) يزيح كتل التراب عليه، فشاهد رجال الأمن في آخر جزء من الباص يُطْمَر، أن إمرأة احتضنت وليدها على صدرها، وطوت جذعها عليه، وبدا وجهها شاحبا، وتهدلت عصابة راسها قبل أن يُغَيّبُ التراب زجاج النافذة التي قرفصت خلفها المرأة وطفلها.
السُلَّمَةُ رقم 23
في الجانب الآخر.. هناك للخلف، كانت ثمة خيمة نصبت وسط عراء الصحراء، أطلقوا عليها تسمية(خيمة صفوان)[16] مظلعة جوانبها، ولها باب موارب بقطعة راحت تتدلى منها، ولا يعرف ما يجري داخلها في بداية الأمر، لكن ضبّاط برتب عالية ترجلوا قربها بعد أن أوقفوا سيارات القيادة التي أقلتهم لها من جهة الشمال، وبدا ثمة رتب عسكرية أمريكية تقف عند باب الخيمة بإنتظار ضيوف سيترجلون، حاملين لورقة بيضاء عليها توقيع رأس السلطة، سلموها للجانب الآخر بعد أن جلسوا بضع دقائق، خلف طاولة أُعِدَّتْ لغرض تسليم الورقة داخل الخيمة فقط، وخرجوا تلف موكبهم غبرة رمال الصحراء وجفافها، كلما ابتعدوا بسياراتهم عن الخيمة بإتجاه الشمال.
السُلَّمَةُ رقم 22
أحاط الرجال بأحراش القصب والبردي، وامتدوا متناثرين حول محيط الجرف مثل كماشة، وتطوع بعضهم لجلب علب إسطوانية معبأة بمواد حارقة، وراحو يسكبون ما بداخلها على ما تطوله ايديهم الممدودة من نباتات القصب والبردي، وعبق الهواء حولهم برائحة نفاذة، تَعبَّأت منها صدورهم.
امتدّت أيدي أكثرهم لجيوبها تبحث عن علبة كبريت تشعل فيها النار، ومن أشعل منهم تراجع للوراء من أثر سنا النار ووهجها، فإمتدَّ خيط النار يلتهم الأعواد، وتفجرت حجرات سيقان القصب بفعل تمدد الهواء داخلها، فتطايرت شرارات من داخل الأحراش المحترقة أبعدت الرجال للخلف.
تزاحم جمع الرجال، وشكلوا حلقة حول رجل منهم أخرج ورقة راح ينشد فيها قصيدة تتوعد الخائن لوطنه بالعذاب، وإنتهى في وصفه لأن يسحل ذاك الخائن، الذي لم يسميه، مثل جيف الفطائس، بعد أن توعد الفطيسة أنها لن تموت موتا طبيعيا، بل سيرديها رصاص بندقيته ورفاقه، وختم يدبك هازجا:
- (وين يروح المطلوب إلنا).
ومع مجيء عربة بحوض امتدّ لهيب النار يأكل عمق الهور، ويفتح الأفق المحجوب بأعواد البردي والقصب، المتشابكة أمام رؤية من يقف خلفها سابقا.
توقفت العربة قرب جرف الهور، وأنْزَلَ الرجال منها جثث رجال آخرين مقتولين رميا بالرصاص، وموثقة أيديهم خلف ظهورهم، وفك الرجال قيود المعدومين ونثروهم على جرف الهور، فيما جلب آخرون من حوض العربة كومة أسلحة متنوعة، نثرت قرب الجثث المرمية على الجرف، فبدا مشهد المعدومين كأنهم أعداء خونة كما وصفهم الشاعر، خرجوا من بين أحراش القصب والبردي في الهور، وقُتِلوا أثناء هجوم شنوه لاحتلال الأرض اليابسة.
على البُعْد شوهد رتل سيارات حديثة، حالما وصل للجرف ترجل منها جمع من صحفيين ومصورين لوكالات أنباء عالمية، راحوا يلتقطون صورا فوتغرافية، ومشاهد مصورة لجثث أصحاب (الهوية المزورة)[17]، الذين أرادوا أن يدنسوا أرض الوطن.
السُلَّمَةُ رقم 21
ارتفعت أعلام العشائر وتشابك بعضها، وعلا صوت الهازجين بحب الوطن، وإنتخى آخرون بأصحاب الغيرة الذين قصوا الأصابع المعوجة في أياديهم وتخلصوا من تشويهها، فنقر المسؤول الحزبي لاقطة الصوت ليختبر عملها، فيما شُغِلتْ كراسي الصفوف الأولى بأصحاب البذلات الزيتونية لرجال الحزب ومسؤولي الدولة، وتدرجت مقامات الجلوس خلفهم حَسْبَ ولائها لقيادة الحزب والثورة، وحَسْبَ خلو أيدي عشائرها من الأصابع المعوجة بين أبنائها.
تنحنح المسؤول الحزبي وتلا عبر لاقط الصوت قائلا:
- يا أبناء الرافدين الأشاوس، أيها الغيارى، في الوقت الذي نقف صفا واحدا، نحن شعب العراق، خلف قيادتنا الحكيمة، لنقارع أكبر هجمة أمريكية في القرن العشرين، وفي الوقت الذي تفرض الولايات المتحدة الأمريكية حصارها الجائر، وتستمر في غيها المبيت لتجويع شعبنا، وقتل أطفاله الرضع، حتى لا يظهر في المستقبل جيلٌ منهم يحمل البندقية، ليحرر أرض القدس الشريف من دنس الصهيونية ولقيطتها إسرائيل، لا زال بيننا من يتطاول على باني مجد الأمة، ومنجزات الثورة، والحزب بالتحريض، وشق الصف الوطني ضد صمودنا الرائع بوجه الإمبريالية، الذي أبهر العدو قبل الصديق.
تتشابك أعلام العشائر مرة أخرى، وتغرد الحناجر بأهازيج المدح، وتعلو في السماء غبرة من تحت دبكات الأقدام، وثمة أصوات تعلو بهتاف(بالروح بالدم..نفديك يا...)، لكن تكملتها تضيع وسط موجة دبكةِ أقدامِ، وقفلة أهزوجة شعبية تثير الحماس فيمن يدورون حول أعلام عشائرهم.
تنحنح المسؤول الحزبي ثانية وأكمل قرائته:
- يا جماهير شعبنا الأبي، اليوم سَيُنَفِّذ فوج (فدائيو صدام)[18] في محافظتنا العزيزة، قرار القيادة الحكيم، بقطع رؤوس اثنين من الخونة، وقطع صيوان الإذن اليمنى لثلاثة هاربين من تأدية خدمة العلم الإلزامية، وقطع لسان شاعر لقنه الأعداء كلاما يمس فيه منجزات الثورة، وحزبها القائد.
تظهر كراديس من فوج فدائيي صدام، تمتليء فيهم ساحة الأهازيج، ويلطخ صورة السواد فيها ستة أشخاص، بملابس مدنية متعددة الأشكال والألوان، تسحبهم أيدي الفدائيين نحو رصيف شارع جانبي، وضعت باستقامته كتل كونكريتية مستطيلة، يعلو سطحها نصف متر عن الرصيف، لتتلطخ الكتل بعد دقائق على امتدادها أمام حشد العشائر بالدماء، فيركن أفراد العشائر للصمت الخائف، وتُحْتَل ساحة الأهازيج برجال السواد، الملثمين، الذين لا ترى الناس الواقفة أمامهم غير ثقبين لعيني كل عنصر منهم، يلتفون حول اثنين يرفعان من الشعر رأسي شابين مقطوعتين من جسديمها، والدماء تسيل حمراء قانية من أوداجهما، وترى السيوف التي قطعت الرؤوس تتشابك، مثل تشابك أعلام العشائر قبل بدء تنفيذ العقوبات.
السُلَّمَةُ رقم 20
طوى برهان العسافي الوسادة تحت كتفه متمددا، ليريح وجع ساقه اليمنى، وخلد للسكينة مقطوع الأنفاس، وبقي ولده ملازما له، قبل موعد مجيء ضيفيهما، لكن الكهل أشار للشاب أن يطل على أهل الدار قائلا:
- قد يحتاجون شيئا من السوق.
نهض الشاب منصرفا، وحوّم النعاس سريعا على عيني الرجل، فدفع رجليه إلى الأمام وغطى وجهه بجزء من وسادته، بعد أن سحبها من تحت كتفه، لكن رجوع ولده أعاده ليقظته، وأزاح خمول النعاس عن جفنيه، وعاجل ولده قائلا:
- حفلات نحر الرقاب، وقص صيوان الأذن اليمنى، وقطع اللسان إستمرت بعد ذلك اليوم وتكررت كثيرا، لكن لو أردت تأريخا للنحر العلني فرده لتلك القرارات...كان الدم يسيل خلف الكواليس بسرية تامة قبل تلك الحفلات، لكنه بعدها صار ممارسة علنية شاهدتها الناس مرارا، وتَعَوَّدَتْ على مشاهد الدم فيها، بعد أن نستها الذاكرة يوم نحرت الرقاب بما سمي وقتها (بثورة الشواف)[19]، لكن أنا أحكي عن زمن تطوع فيه الناس علانية، وبموافقة الجهات الرسمية في حوادث لاحقة وشاركوا في حمل الرؤوس محتفلين بقطعها...كأن يوم الطف يا ولدي يخرج من كربلاء زائرا كل المدن العراقية، وما هدأت نافورة دم زكريا إلاّ وكل الناس خرافا...
قاطعه الشاب معترضا:
- لكني قرأت أن القمع أوغل بأهل الوسط والجنوب.
فرد الرجل الكبير مؤكدا ومضيفا باستفاضة:
- نعم، وماقرأته كان صحيحا، لكن لك أن تعرف معلومة أخرى أن الرجل كان عادلا.
ابتسم الشاب وفرد كف يده أمام وجهه يستفسر بصمت مذهول، فقال الرجل الكبير كأنه يُكمل حديثا إنقطع:
- ومن عدله أنه وقف ذات يوم بين أهل محافظته، وجعل أخوة يعدمون بأيديهم أخاهم المربوط لجذع النخلة، ثم أجبر الحاضرين وتوسطهم ليدبكوا دبكة فرح عرس، في مأتم أهل المعدوم..لا لا..تلك خصلة ميزته عَمَّنْ سبقوه في الحكم..يشهد الله كان عادلا في ظلمه، لكن لو ذكرت عهد الظلم في حقبته كلها، ثم وصفت ماجرى في الوسط والجنوب بالأعلى غلوا والأشد إيغالا في القمع، والقهر،والتجويع، والتغييب لأهل تلك المناطق لأ قْتَربْتَ كثيرا من الحقيقة.
فقال الشاب متحيرا:
- إنْ كان عادلا في ظلمه كما تقول، فَلِمَ يجري فينا هذا الذي يجري؟!.
استعاد جلسته وأحنى ظهره، كأنه يَسِرُّ أمرا للشاب:
- ألمْ أقل لك في البدء ألّا تستعجل، ودع الصور تكتمل!، فأنت سترى على كل سُلَّمَةٍ تنزلها معي مئات الصور، غير التي أحكيها لك، اختر منها ما شئت، وإحشو فيها نَقْصُ المشهد عندك.
السُلَّمَةُ رقم 19
تَجَمَّعتْ آليات شق الطرق وتعديلها قرب سيارات دولية خُطَّ على أبوابها حرفي(UN)، ترفرف على مقدماتها أعلام زرقاء، رسمت وسطها دائرة فيها قارات الكرة الأرضية بلون أبيض رفيع.
تقرَّب (الشفل) رافعا حوض مجرفته إلى أقصاها، وأمال سائقة أسنان السكين إلى الأسفل، ثم طوى عموده وأناخه بثقله على أبدان كومة من صواريخ الصمود في منشأة المعتصم، فتناثرت أجزاء منظومة تشغيل الصواريخ الداخلية من خلفها، تبعثرها أسنان السكين، مثل برميل ديناميت يبعثر أنابيب بئر نفط كويتي، وارتفعت سحابة تراب حول المكان بفعل ثقل هيكل الحوض، كغيمة احتراق نفط سوداء غطت سماء مدينة الوفرة، وميناء الأحمدي.
ضمّ عضو (لجنة الأنموفيك)[20] الأمريكي أصابع يده اليمنى وترك إبهامها ممدودا بتشنج، ومد ذراعه إلى فوق غطاء الرأس التكساسي، استحسانا لسائق الشفل.
السُلَّمَةُ رقم 18
جلست الزوجة تضمّ لحضنها أطفالا كانت أجسادهم هياكل عظمية، لا يغطيها غير جلْدُ لحمٍ مُسْمَر، وراحت كأنها تُخيط آخر قطعة في غطاء أبيض من أكياس (الجنفاص) فيما كان المشتري يستعجل زوجها على معاونته لخلع شباك الغرفة الذي اشتراه منهم.
السُلَّمَةُ رقم 17
كانت شدة الغبار ذلك العصر في مطار صدام الدولي تجعل الشمس وهي تنحدر إلى غروبها، مثل وهج جمرة خافت، وسط كومة رماد تغطيها، وبدت هياكل المدرعات، والدبابات الأمريكية جاثمة على البعد من الفصيلين في الجانب الآخر، مثل أشباح خرافية تائهة وسط الصحراء، فحجاب الغبار الذي يمتزج ويلاعبه الهواء في الطرقات، جعل الآليات العسكرية تنعدم الرؤية لعناصرها الذين يقاتلون فيها، حتى أصبحت منشآت المطار كأن لا وجود لها، وغدت مسالكها مجهول لا يعرف ماذا يُخَبّأ وراءه، لكن وميض تفجير هنا وتفجير هناك، يرد الطمأنينة لنفس المهاجمين، وقبل أن يبتسم المطمئن قليلا يعاجله سكون الصمت، ورهبة ظلام الغبار، فيكفهر وجهه شاحبا، تائها، خائفا مرة أخرى، ومع حلول الظلام الدامس، وتلاشي الإطلاقات النارية التي كان المتحاربون يسمعونها متبادلة بينهما، أوجز أحد المتطوعين الفلسطينيين، الذين كانوا يختبئون تحت أحد جسور المطار قائلا:
- نحن ها هنا، خمسة عشر مقاتلا، خمسة من فدائيي صدام، وعشرة منا نحن المجاهدون العرب..
لفّهم الصمت قليلا، ورجع الفلسطيني يكمل كلامه:
- شاهدت عصرا قبل مجيئي إليكم جنودا كثر من الجيش العراقي يتركون أرض الجهاد، ويفرون من معركتها، وقد أسَرَّ لي بعضهم أن القوات الصليبية قامت بإنزال بعض مدرعاتها، وسط دار السلام، وأرى أن هذه الليلة خاتمة قتالنا، وأنا عن نفسي أريد أن أنال الشهادة لألتحق بركب أهل الجنة، فمن أراد أن ينالها معي من أخوتي العرب فليقل ذلك، حتى أكمل شرح ما أزمعت على فعله بهذه الليلة المباركة..
احسّ المتطوعون العرب أن صمت صاحبهم الفلسطيني، يريد منهم جوابا، فجاءه جوابهم متفرقين من بعضهم وسوية من بعضهم الآخر.
فقال فدائيٌّ من الخمسة قربهم:
- ونحن معكم.
فسُمِعَ الفلسطيني يقول شارحا:
- أما وقد توحدت كلمتنا، فأنا أقترح أن يمكث أخوتنا الفدائيون ها هنا يشاغلوهم، بعد مدةٍ من انصرافنا، ونحن نلتف من خلفهم، وسأشرح لكم أخوتي المجاهدين العرب ونحن سائرون لمهمتنا عن نوعيتها وكيف ننفذها.
وسط ظلام ذلك المساء انسلَّت الأشباح العشرة للمتطوعين العرب، متجهين بانحراف مائل لخلف هياكل مدرعات ودبابات أمريكية، لمحوها عصرا قبل مغيب الشمس.
لما بزغت شمس اليوم التالي حامت طائرات الهلكوبتر حول تلك الآليات، وراح ضباط قياديون في الجيش الأمريكي يدققون بجثث جنودهم، المقطوعة الرؤوس، ودماء الأجساد المنثورة على أرض المطار.
السُلَّمَةُ رقم 16
عند الساعة التاسعة والنصف صباحا خرج من بيته المُؤَجَّر له، في مشاتل شارع فلسطين، ومرَّ على صديقين له، فيما أفواج الناس تتقاطر بإتجاه المقار والدوائر الحكومية، للمشاركة في حفلة النهب والسلب ذلك اليوم.
تراءت له منقلته الحديدية، وأسياخ لحم(التكة والكباب) تشوى عليها كل صباح، وهو يسعى فيها لأصحاب الدكاكين، والباعة المتجولين، والمارة في شارع الباب الشرقي ليكسب رزق يومه لعائلته، وفرصة السلب والنهب ستعدل وضعه الإقتصادي، وقد تجعله من أصحاب الأموال مستقبلا لو فعلها الآن، لكن أبو تحسين تحرك مع الموجة البشرية يدفعه فضول فوضى الأرجل المتسارعة، بإتجاه مقر اللجنة الأولمبية العراقية.
كانت الزحمة لنهب الأثاث داخل البنايات على أشدها، وثمة عيون لبعض رجال الدولة لا زالت تبرق تلصصا على الداخلين والخارجين، دون أن تجرؤ على فعل شي.
عدّل أبو تحسين نظارته على أرنبة أنفه جيدا، وصَعَدَ بعينيه في اتجاه أعلى البوابة الحديدية لمبنى اللجنة الاولمبية، ثم تقرب منها، لكن عمره الكبير، وترهل جسمه بفعل الشيخوخة منعه أن يتسلقها، وكان الرجل يطل عليه من فوق نهاية البوابة بغطاء رأسٍ عسكري أسود، ونظارات شمسية كبيرة مؤَطَّر زجاجها بشريط أبيض، ويُظْهِر إلتقاط الصورة أن وقتها كان صيفا، فخلفية الصورة تُظْهِر السماء صافية، وصاحب الصورة يرتدي بذلة عسكرية يبرز منها قميصٌ أخضرُ غامقٌ، وزيادة في إبداء الإحترام والتقدير له، علق أحدهم على يسار إطار الصورة العلوي طبقا مصنوع من سعف النخيل، ثُبِّتِت في وسطه زهرة وردية اللون، لها أغصان صغيرة على جنبيها بأوراق خضراء، ويحتمل أن يكون وَضْعُ أحد نتاجات صناعة الحرف اليدوية في العراق، كأن من وضعها يريد أن يقدم لصاحب الصورة باقة الورد على طبق الأكل، وغطاء إناء العجين، الذي يرمز لأدام الخير واللقمة الهنية، في حين أن الأصل من وضع الطبق هو لتثبيت الصورة، التي طبعت على مادة الفلكس اللينة، ومن الممكن أن تطويها الرياح وتقلبها على خلفيتها، وذلك ما لا يصح مع صور زعيم الأمة وباني مجدها!.
تلفّت أبو تحسين يمينا وشمالا عسى أن يساعده أحد في تسلقه للبوابة ووصوله لمكان صورة الرجل، لكن الفوضى في استعلامات اللجنة الأولمبية كانت على أشدها، فهذا شاب حضن كومة مطافي للسكائر وخرج يركض فيها، وآخر يحمل تمثالا برونزيا للاعب كرة قدم يثبت قدما في الارض، وأخرى يطويها متحفزا لضرب كرة وضعت أمامه على قاعدة التمثال، وشابان خرجا يحملان كنبة وثيرة ينوآن بحملها، وتقابل ولدان على ثلاجة كهربائية، وبدا رجل كهل تملأه السعادة وهو يحمل جهاز تلفاز كبير بين أحضانه، فيما حاول سائق سيارة بيك أب حوضية الدخول عبر البوابة، وثمة صبي أمام السيارة يفسح لها طريقا بين الداخلين والخارجين، لكن السائق تراجع بسيارته للخلف بعد أن اعترضه شاب يحمل على ظهره دولابا حديديا صغيرا، وكان جَمْعُ صبية حفاة يتقافزون ضاحكين بين الأرجل، وكلما عُصِرَتْ أجسادهم النحيلة بين أكتاف الرجال، انسلوا يخرجون لاهثين على محيط الجموع، وتقرب صبي مراهق من أبي تحسين، فناداه أن يساعده في إنزال الصورة من أعلى البوابة.
تسوّر الصبي كتفي أبي تحسين سريعا وخلع الصورة من مكانها، فانزاحت على القضبان لتتلقفها يدي الرجل سريعا.
قفل أبو تحسين راجعاً للخلف وبين يديه لقياه، وإنحرف جانبا ليتوسط الشارع الرئيسي، ثم خلع فردة نعاله اليمنى ومسكها بيده، دار بعينيه على جهة الفرحين بنهبهم، وبمواجهة كامرة يحملها صحفي أجنبي ويبث فيها عبر الاقمار الصناعية صاح أبو تحسين دون أن يدري بصوت موجوع،ملتاع:
- (يا ناس لو تعرفون هذا اشسوه بالعالم!، اشسوه بالعراق!، سوه ما سوه بالعراق، هذا كتلنه، كتل شبابنه، كتل الملايين من عدنه..)[21]
كان أبو تحسين يتلفت على جانبيه مستصرخا الناس على البعد في محيط وقفته، ماسكاً نعاله، كأنه يقاضي رجلا يقف بجسده الحقيقي أمامه:
- (يا ناس.. يا ناس هاي الحريه، عبروا عن مشاعركم،هاي الحرية،هاي المكبوتين منها)[22].
كان صوته يخرج ممطوطا، فيه يأس ممن لا يلتفت لشكواه، وخرجت حروف كلمة العراق، كأنها موالٌ حزين مجرور يشدو فيه صياد يقذف شباك صيده، في فسحة بين نباتات القصب والبردي وسط (هور الجبايش).
كان أبو تحسين وهو يكرر كلمة(يا ناس يا ناس) فيه إحساس يختزل كل مآسيه، وأوجاعه، وينادي فيها تلك الناس، لأن يبكيهم فرحا، مثلما هو يبكي فرحه، لكن الخلق في تلك الساعة كانت تبكي فرحتها بما غنمت وحملت أيديهم.
يأس من تجاوبهم مع ندائه، فانهال يضرب زجاج نظارة الرجل في الصورة، مر رجل قربه يلبس عقالا ويمسك طرف ثوبه الأبيض إلى ما فوق ركبته، كانت مشيته متهادية بطيئة، كأنه يرسل رسالة مفادها أن لا شأن له بما يفعله هذا الرجل المتهستر، فيما لا زال أبو تحسين يضرب بعنف على وجه الصورة، ويصرخ بغيظ:
- (لك لك هذا، هذا ظالمنه، حزبك هذا، لك هذا قتل شبابنه، لك قتل أولادنه)[23].
في ذات الوقت أبرق الصحفي لقناته الفضائية:
- رجل عراقي كبير في السن، يذيع بيان رقم واحد، ويعلن فيه سقوط نظام الحكم في بغداد.
وفي ذات اليوم شوهد رأس السلطة في مدينة الأعظمية وسط بغداد، وجمع من مؤيديه يهتف له:
- بالروح بالدم، نفديك يا...
لكن اسم من يفتدوه يضيع وسط لعلعة الرصاص من كل جانب، وهدير أصوات الدبابات.
وبعد عشرة ساعات من فعلة أبي تحسين أمام باب اللجنة الأولمبية العراقية، أزالت رافعة عملاقة للجيش الأمريكي نصب صدام من قاعدته في ساحة الفردوس.
السُلَّمَةُ رقم 15
أخرج البرد رأسه ينفث صليلا ترتعد له أوصال كل دابة على الأرض ، واشتد صفير الريح علوا، والتوت منه نسمة هواء باردة، كانت تحز وجه الشاة في الحظيرة مثل مقص الصوف. سال لعاب الشاة مخلوطا بمخاط ، راح يخرج خيوطا غليظة من منخريها، لاذت قرب الحمار، فنهق وأدار رقبته عليها، يحاول أن يُعَوِّقُها عن مكمنه، خارت قواها وارتجف صوفها، وراحت تعبّ الهواء مثل شاة ترعى في وادٍ، وعاجلها سيل جارف فعَلِقَ صوفها بجذع شجرة، والأمواج تتلاطم على جنبيها، وليس من مُتسعِ وقت لها حتى تأخذ شهيقا كافيا، قبل أن يغطس رأسها ثانية، في الأمواج المتلاطمة.
صفرت الريح ثانية واشتد أوارها، فتركها الحمار ولاذ في زاوية الحظيرة، محتميا بحائطها عن جلد سياط الريح على ظهره، أقْعَتْ على قائمتيها الخلفيتين، وتدلت من خلفها الرجلان الأماميتان تحميان رأس حمل صغير من تحت أليتها، انتابتها نوبات المخاض سريعة فنهضت واقفة، وخرج ثغاؤها كالنحيب، وأدارت رأسها نحو وليدها ثم نغمت ثغاءها ثانية وخرج هذه المرة مثل أنين الموجوع، كأنها تشكو عجزها عن مساعدة صغيرها، واتجهت صوب الحمار محمومة، تمشي متمايلة، تكاد قوائمها أن تلتوي جانبا، وثقل بطنها يسحبها للخلف. انتابها الدفء وخفت الريح وما عادت تحس بها تدفع جسمها للجانب.
انزلق الصغير من بين قائمتيها الخلفيتان، وراح يرفس تحت رجليها، فيما تلطخ رأسه الصغير، بكومة قش شققت بعض أعوادها جلد المشيمة، واندلق سائلها يرطب مساحة الأرض تحت رأس الحمل.
زفرت الشاة هواءً أخرج كومة مخاط غطى شفتيها، فهزت رأسها وارتعشت شفتها السفلى ناثرة المخاط باردا، أصاب رشق منه عين الحمار الذي نهق مستفزا، وقفز على قوائمه الأربعة رافسا الشاة برجليه الخلفيتين في رأسها.
طوحت رفسة الحمار الشاة مكورة على بعضها، مقلوبة على جنب ترفس برجليها، وشخير أنفاسها يرفع قائمتها الأمامية مستقيمة مع كل شهيق، ويخفضها ملمومة من مفصلها على كتفها مع كل زفير.
أزاح الصغير برجليه بقايا كيس المشيمة عن هيكله الضعيف، وانفرجت قوائمه على سعتها، وبدت أظلاف أطرافه مثل نقاط ألتقاء أضلاع المربع. لملم الحمل أطرافه بعد عدة محاولات متزحلقة، واتكأ على جنبه، فيما زاغت عيناه الصغيرتان ترمقان أمه ممددة، غير بعيدة عنه. ثنى ركبتيه ووقف على قائمتيه الخلفيتين باستقامة، ثم أناخ راسه للأمام، واستقام واقفا يرتجف.
اندفع غريزيا صوب أمه، ودس رأسه في الصوف عند ظهرها يبحث عن ضرعها، وراح نازلا بمنخريه كأن الجوع يناديه لطعم الحليب...ثم اهتدى للضرع يمتص رحيقه، ويهز أليته الصغيرة، كأنها ذيل جرو صغير، فيما بقيت الشاة جثة هامدة، لا حراك فيها.
السُلَّمَةُ رقم 14
تسلق الصخرة بسرعة، ووقف يحك شعرات أنفه، وترك أطرافها تتشابك، كأنها أفاعي تتناسل، ورفع طرف رجله الأمامية، فتهدلت الشعرات، مثل جرذ يسحب ذيله على الأرض، بعد أن خرج توا من معركة خاسرة، على كسرة خبز يابسة، مع جرذ أكبر منه حجما.
استشعرها تدب تحت الصخرة، متكاسلة، تمد أرجلها وتنقلها ببُطءٍ، وتستغرق وقتها في الدوران حول العوارض، والحفر الصغيرة خوف أن تقع فيها، حرك أطرافه مثلها ببُطء، لكنه احسّ لو أنَّ الأمر استمر هكذا فستبدو حياته مملة، وقد تأتيه دفقة مياه من المجاري حيث جحره، فتدفعه بعيدا عنه، وسيستغرق اليوم بطوله حتى يرجع لجحره، لو أراد أن يمشي مثلها!، وشكر الأقدار أنها خلقته بمثل هذه الخفة، في لمِّ الأطراف، وثنيها بهذه السرعة، وتأكد أنه أصبح ذو تجربة كبيرة في تلافي المعوقات، وتجاوز الصعاب، وتذكر أول خروجه من محفظة الحوريات، وكيف أخافه النور الشحيح للبئر المظلم، وقبل أن تتشبث أطرافه في جدران الجحر الرطبة، دفعه فصّ طين سقط على رجله، ورغم أن حجم الفص كان صغيرا كما يبدو له الآن، لكن حجم جسمه كان أصغر منه، وأصبح الفصّ في لحظتها كأنه جبل كبير، انزاح من مكانه ليقف بكل ثقله على رجله الواهنة الطرية، وفي وقتها قضى زمنا طويلا يسحب رجله ليخلصها من مأزق فصّ الطين، لكن كثرة المحاولات الفاشلة للتخلص منه، مع رغبة غريزية فيه راودته لأن يشم قطرة غائط كانت قريبة منه، لو كانت رجله محررة، واحساسه أنه لو قضمها بفكيه لكانت فيه كل القوة، جعله كل ذلك يستكين منهك القوى، ونام يائسا من خلاص رجله، لكن قطرة ماء سقطت من سقف الجحر، وغطت فص الطين وكل جسمه، وبدت كأنها بحجم بركة الماء التي يلتقطها استشعار قرنيه تتماوج هناك، في أسفل الجب الذي جحره في جداره، لوت القطرة ظهره على جانبه، وأفقدته احساس قرنيه للحظةٍ، وتفتت الفصّ مخلوطا بقطرة الماء، ليلصق جناحيه على جسمه، وتدحرج للقاع سابحا، فأحس لأول مرة منذ أن رفس القشر اليابس لمحفظة الحوريات بأرجله الصغيرة، أن أطرافه تتحرك كلها دفعة واحدة، وشيئا من لزوجة فيها رائحة نتنة محببة له، أراد أن يبقى ناقعا فيها مادام يتنفس، فطحن بفكيه الأماميتين فتاتا يطفو قربها، ودفع ما استطاع تفتيته بفكيه الخلفيتين إلى أسفل حنجرته، وأصدر صريراً قبل أن ينتبه للطين ينزاح عن جسمه، وبات باستطاعته أن يرفرف بجناحيه، ويرفع صدره، ليجعل السائل خلفه مُتكِئاً على أطرافه الخلفية، ويطير شاهقا في فضاء قعر الجب، مصطدما بخفق جناحين كبيرين، أرادا أن يحتويا جسمه كله.
وبوجوده على الصخرة تلك، قارن الصرصار ما وصل إليه الآن بنشأته الأولى، فأحسّ بالزهو على سير الخنفساء البطيء، وحركة أرجلها المتوانية، كما يستشعره بقرنيه.
أطلق صريرا فرحا، وأدار عنقه على جانبيه، فارشا جناحيه يريد أن يحتوي ما حوله، ورفع درع شفته عاليا، واشرأبت شوارب قرنيه مفتولة فوق رأسه، والتوت أرجله الأمامية تاركة مسندها على الصخرة، فانزاح جسمه جانبا، وأصدر صريرا طويلا مثل نواح الموجوع، ثم انزلقت أطرافه الخلفية متدحرجة ليستوي جسمه مقلوبا على ظهره، أسفل الصخرة، يرفرف بجناحيه كي ينقلب، وأطرافه تحاول أن تتشبث في الهواء الذي بينها، فيما مرت الخنفساء تدب ببطء من جانبه، دون أن تلتفت لصراعه من أجل أن ينقلب ثانية على رجليه، ويستوي ماشيا مثل بقية الحشرات.
السُلَّمَةُ رقم13
هدَّه التعب وخارت قواه فتوقف يستظل تحت لافتة كتب في أعلاها:
(انتخبوا مرشحكم السيد.......) فرتل منغما كلمات اللافتة، مقدما كلمة ومؤخرا لكلمة أخرى(مرشحكم السيد انتخبوه) و(السيد مرشحكم انتخبوه).
ثم استطالت الحروف بعدها وتداخلت، فما عاد يميز بين حرف السين وحرف الشين فترك التطلع للافتة، واتجه صوب المقهى المقابل لناصية الشارع الذي يقف على بلاطه، كانت تنازعه رغبة ملحة لينفض تعبه على أريكة، مع رشفة شاي تذهب عنه نحس يومه، غير أنَّ شرطيا تمهله الانتظار قليلا، ريثما ينتهي (كشف الدلالة).
بادر يسأل الشرطي:
- يا عم..ما كشف الدلالة هذا؟.
رد الشرطي بتبرم:
- يا عم هؤلاء مجموعة سرقوا المصرف وقبضنا عليهم، وبالتحقيق اكتشفنا أنهم التقوا في اليوم الثاني بهذا المقهى، حتى يتفقوا على مكان آخر يتقاسمون فيه سرقتهم، وبأمر القاضي جلبناهم لنفس المكان وهذا معناه كشف الدلالة.
قوَّس ما بين حاجبيه وانفرجت شفتاه بابتسامة بلهاء، وبان صف أسنانه الصفراء في فكيه، بعضها محفور بأخاديد سوداء كأنها مغارة في سفح جبل، ثم لوى عنقه جانبا وهز يده ساخرا، فشكر الشرطي وسأله بحياء:
- أتساعدني؟...عندك ربع؟.
دس الشرطي يده بجيبه وأخرج ورقة نقدية، تناولها الشحاذ بسرعة منه ، ودار على عقبيه، هائما في شوارع المدينة، يشحذ ممن يراه ويقبل بأية عطية، لكنه يعنف كل من لا يهبه شيئا قائلا:
- أيهما الأحسن...أشحذ أم أسرق؟
السُلَّمَةُ رقم 12
- اشتر يا ولد... لفات طيبة وحاااااا
مادت الأرض بجسمه فأصبح مثل بالون هواءٍ بيد طفل، عبّئهُ ملء صدره ثم أفلت منه دون أن يدري، واهتزت عجلات العربة الخشبية قرب قدميه، وتجمدت كلمة (حارة) في حنجرته، فمددت حتى أضحت كأنها أنينٌ لبكاء شاب هاجت عليه أسنانه ألما، وأحس كان الأرض وبناياتها ارتجتْ، كرجفة جسم مَنْ يعطس، ويعاني نزلة برد حادة. واختلط البيض المسلوق مع قطع الباذنجان المقلية بزيت امتزج بقطع الخيار، وشرائح الطماطم، وحمل عصف الريح شيئا ارتطم بزجاجاتٍ فيها مطيبات.
انتبه على حاله مرميا على الأرض، وأحسّ بيده منقوعة بلزوجة حارة، وبعض غشاوةٍ تصيب عينيه، فتحامل على نفسه، ونهض عن بلاط الشارع الذي توسده، متكئا بكوعيه ليرفع هيكله العظمي، واتجه صوب أشلاء التلاميذ المتناثرة، حول حفرة التفجير التي بدت بحوافها الداخلية ذات اللون المبيض ومحيطها الأسود، كأنها حوت يفغر فمه ليبتلع سرب سمك يهاجر للتزاوج بسواحل رملية فيها شعب مرجانية ولها دفء لذيذ، بعيدا عن تلاطم أمواج البحر وصخبها.
اعترضه رجل أمن وصل موقع الحادث:
- ممنوع الاقتراب.. إرجع، سيارة الاسعاف هناك، خارج موقع التفجير.
مسك خاصرته اليمنى وأشار بيده الأخرى ناحية الأشلاء وقال:
-هم بحاجة للنقل، وأنا جئت للمساعدة.
فرد عليه رجل الأمن متعجبا، وهو ينظر للدماء تسيل من خاصرته:
- أمُتأكدٌ أنت مما تقول يا رجل؟!
فقال، يكاد الدمع يطفر من عينيه:
- كيف لا أكون متأكدا وأنا من مصروفهم أعيل زوجتي وبناتي؟!.
سحب نفسا عميقا، وصمت قليلا ثم أضاف:
- أنظرْ!..أنا صاحب تلك العربة.
تجشأ سائلا أحمرا، واندلق لزجا على ثوب صدره، أحسّ بدفءٍ كبخار الماء، ثم تهالك على الأرض ، قرب رجل الأمن، مغشيا عليه.
السُلَّمَةُ رقم 11
صاح الديك بيد ولده، فخنق رقبته الطويلة، وخرج صوته مبحوحا، وفيه حشرجة موت، فنهرت الزوجة ولدها وأزاحت يده عن رقبة الديك، ودعكت كيس الحلوى، وفيها رغبة لنثره على رأس زوجها، قبل أن ينهي اتصاله الهاتفي.
حشر الزوج أصبع يده في أذنه الأخرى ليسمع صوت الآخر عبر هاتفه المحمول، بعد أن عجز عن اسكات فرحة العائلة، التي انتظرت على أحرّ من الجمر منذ يومين لاتصال سيرده من مجلس القضاء الأعلى، يبشره أن اسمه قُبِلَ ضمن قائمة الخمس عشرة درجة وظيفية، التي أعلن عنها في الموقع الألكتروني للمجلس ، وقد قضت العائلة يوميها المنصرمين، وهي على يقين أن رب أسرتهم سيكون اسمه ضمن المقبولين، ولا سيما أنه تقدم لشغل أحد الدرجات المعلن عنها وكل الشروط متوفرة فيه، فهو حاصل على درجة الدبلوم في تخصص علم المحاسبة، وله ثمانية أفواه يطعمها، والقانون يجيز لعمره أن يمارس العمل ضمن دوائر الدولة، والتخصص المطلوب كان لشغل وظيفة كاتب حسابات، وهو ما يوافق نوع تخصصه حصرا، فخرجت العائلة في نهاية الأمر بقرار مفاده، (مادامت احدى الدرجات من نصيب رب الأسرة، فيكون لزاما أن يبدأ الاحتفال بالمناسبة، قبل وصول الخبر )، فزينت جدران البيت بالبالونات الملونة، وأضيف لها لاحقا مصابيح وشموع ملونة ، لكن كل أفراد العائلة تعاهدوا أن يحصروا الأمر داخل جدران البيت، ولا يسمح لفرد أن يبث الخبر خارجه، وزيادة في الاحتياط لتلافي شرور عيون الحساد، من الجيران والأقرباء فقد اقترحت الزوجة أن يضحوا برقبة ديك رومي، يُذبَحْ تحت أقدام رب الأسرة، حالما يُبَلَّغُ بالخبر الأكيد.
رن الهاتف وازداد لغط الأسرة ضجيجا حول الوالد، وكتمت الأم رغبة في تهليل زغردة، امتلأ الصدر بها فرحا، غير أن وجوم الأب، والاكتفاء بتقطيب حاجبيه والهمهمة، التي ما فهمت منها العائلة غير ترديده كلمة( نعم...نعم)، جعلت البسمة تخبو، وتترك الوجوه من بعدها شاحبة، وكستها أخاديد أراض يبست طويلا، وراحت أجسامهم تفك الطوق الذي أُحْكِمَ حول رب الأسرة ، وتباعدت بعض أقدام للوراء ، وانكمشت أخرى منثنية في الزوايا القريبة، وما عاد تحفز الرقاب الممدودة باتجاه الأب، يتطاول لمتابعة سيره رواحا ومجيئا، داخل مساحة الغرفة قلقا مستفزا، وثمة احمرار بات يوشح قسمات وجهه، وتقوس أحنى الظهر فيه انكسارا، وتأسف على نقودٍ بذرها هو، قبل أن تبذرها عائلة يضحك كبيرها قبل أن يرقص صغيرها، فرحة وشحها حزن لا يعرف كيف يزف خبره لمن يحوم حوله، وكأنهم أجنحة طيور صغيره، ترفرف في عشها مناغية منقار أب يحمل زادا لها، ففي مساء اليوم السابق تعجب لحزمة المشاريع والأحلام، التي كان مطمورة في داخل كل فرد من أفراد العائلة، وانبثقت كأنها فوهة بركان يغلي، وصبت حمم ثقلها المادي على راتب لا يعلم مقداره، لوظيفة وعد أن تكون أحد درجاتها من نصيبه!.
اتجه صوب الكومبيوتر دون أن ينبس بكلمة، مشيحا بعينيه جانبا، كيلا تواجه نظرات الاستفسار والترقب، التي يُخال أنها كالسهام، تنغز الرأس، والكتفين، والظهر، والصدر فيه، وقد بات يرشح دما، لجسم أفضل أمنياته أن يتهالك على الكرسي، ويتناسى غيظه بملاعبة مفاتيح الكومبيوتر، ليس رغبة في تأكيد ما وصله عبر الهاتف، بقدر ما يريد أن يتحاشى موعد وئد مشاريع العائلة، وأحلامها لاقتناء عجلة هوائية، وكرة قدم مرة، وثوب نوم مرة أخرى، تسمرت عليه عينا زوجته في السوق، وفيها رغبة تغنج أن يضمها لصدره، وهي ترتدي الثوب، على سرير نوم مكسور الجانب، وعندها وعد منه أن يصلحه عند النجار، مع أول انتعاش اقتصادي يصيب جيبه الفارغ.
لم يفاجئه أن أسمه غير مدون، على صفحة موقع المجلس، فتلك معلومة أخبره إياها الطرف الآخر على هاتفه النقال، كانت فيه رغبة لأن يعرف البنت التي أُخْبرَ أنها بنت أحد المسؤولين، وأملت الظروف القهرية، على أن تكون بديلة له في شغل الدرجة الوظيفية تلك، وكم كانت دهشته كبيرة وهو يقرأ في حقل الأسباب الموجبة للموافقة على أسمها، بديلا لاسمه (دبلوم ادارة مكتب)!. ولتسويغ هذه المعلومة عن اختلاف تخصصها عن تخصص (دبلوم المحاسبة) المطلوب لشغل الدرجة الوظيفية، فقد كُتِبَ في حقل الملاحظات (بعض المواد التي درستها تتطرق لعلم المحاسبة)!.
السُلَّمَةُ رقم 10
اتخذت فرقة الحماية الرئاسية مزيدا من اجراءات الحيطة والحذر، وانتشر عناصرها عند بنايات المنطقة الخضراء، وتكثف الوجود في البوابة الرئيسة، فيما راحت طائرات الأباتشي الأمريكية تحوم على محيط بغداد خوفا من سلاح الهاون الذي قد يستهدف المنطقة المعنية في هذا اليوم الاستثنائي، وغدا الدخول صعبا على الساكنين قرب المنطقة الذين يدخلون من ذات البوابة، وتضايقت النسوة العجائز والكلاب البوليسية تشم أطراف أثوابهن، وبعض الكلاب تدفع أنفها وراء عباءاتهن، وضيق الدخول على العربات بكافة أنواعها، فيما تدخل بعض قيادات الجيش العراقي في التعهد ببعض الأشخاص وعرباتهم، واغتاظ الشباب وتبرموا ساخطين، ناقمين، فيما احْمَرَّت خدود بعضهم وفار الدم في عروقهم.
وكان جمعٌ من الصحفيين مع كاميراتهم، يمسكون بأيديهم لاقطات صوت لقنوات بث فضائية، يقفون على جنب البوابة الرئيسية، وراح رجل أمريكي بلباس عسكري، يحمل جهاز فحص عن الأسلحة، يدقق بأجسام الصحفيين، وآلات التصوير، والبث الفضائي التي بحوزتهم، وبدا على الصحفيين أنهم اعتادوا على نمط التفتيش واستساغوه، فكانو هادئين يقفون بانتظام ولا يتزاحمون على التفتيش، وبعضهم وهو يقف بالإنتظار بدا غير مكترث لطريقة التفتيش والاجراءات المتبعة معهم، فها هو قد أشاح النظر جانبا يركز على طريقة تعامل الجنود الأمريكان مع بعض الشباب عند البوابة من الخارج، فيما راح مراسل صحفي يضحك ملأ شدقيه على رعب امرأة شابة راح الكلب البوليسي يشم ثيابها دائرا حولها، وارتفعت رؤوس بعضهم للأعلى يتابعون بأعينهم طائرة أباتشي خطفت سريعا فوقهم، وران صمت مطبق على شوارع المنطقة الخضراء، وقت أن طُلِبَ من الصحفيين السير باتجاه احدى البنايات.
فُتِّشَ الصحفيون للمرة الأخيرة قبل دخولهم لقاعة المؤتمر الصحفي، وثار لغط بينهم تشوبه الضوضاء التي لا تفهم الكلمات من خلالها، وتململ منتظر الزيدي مراسل قناة البغدادية العراقية في مكانه قلقا، وغزت وجنتيه حُمْرَة اضطراب الهواجس داخل نفسه، بين الانزعاج من إدخال أحد عناصر الأمن الرئاسي الأمريكي لرجله بين قدميه، والوقوف خلفه وهو يرفع يديه متشابكة على رأسه ليفتشه، وبين استلامه كارت أبيض مرسوم عليه البيت الأبيض وفيه عبارة باللغة الإنكليزية تقول( المركز الصحفي للبيت الأبيض) استفزت منتظر، وأحسّ أن الصحفيين دعوا لمؤتمر صحفي يخص أمريكا، فرمى الكارت أرضا، الذي سرعان ما رفعه صحفيٌ كان بقربه.
كانت قاعة المؤتمر الصحفي عبارة عن صفوف منتظمة من المقاعد على الجانبين، وفي وسطها ممر يسع لشخصين بالمرور من خلاله، ويقابل الجالسين على المقاعد طاولة صاجية مرتفعة لمنتصف الشخص، لو وقف خلفها، وقد وضعت على جانبيها لا قطتا صوت طويلتان لالتقاط صوت المتحدث من خلالهما.
شارف المؤتمر على الانتهاء بعد أن أعلن فيه الرئيس الامريكي أن قواته حققت النصر، وأرست قواعد أسس الديمقراطية، وستغادر مقراتها خارج العراق حالما سيوقع المعاهدة الاستراتيجية، مع رئيس الوزراء العراقي عقب المؤتمر الصحفي، وسيتناول وجبة عشاء معه هذا المساء.
خلع منتظر فردتي حذائه، وطوى نهايتيهما تحت كعبيه، لكنّ احساساً بالضعف والخوف راوده للحظات، أعقبه احساس بأنه سوف لن يعذر جبنه، لو انتهى المؤتمر الصحفي ولم يقدم على ما أزمع فعله، وفي لحظة ما كان الرئيس يصافح رئيس الوزراء، بعد أن شكر الصحفيين قائلا بنطق عربي خاطيء:
- شكرا زيرو (كأنه يريد أن يقول بالعربية: شكرا جزيلا).
ردد منتظر الزيدي في نفسه قائلا:
- أشهد أن لا الله الّا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.
كان يجلس في المقعد القريب لممر القاعة في الوسط، فأحنى جذعه سريعا واعتدل واقفا، ثم كأنه رياضيٌ يرمي قرصا حديديا، ليطول فيه أبعد مسافة تساعده عضلات ساعده الأيمن عليها، راحت فردة حذائه تلتف حول حجمها الصغير في الهواء، في بث مباشر عبر القنوات الفضائية العالمية، وربما بينها ذات الكامرة التي صورت قبل خمس سنوات فردة نعال أبي تحسين يضرب الصورة، وينادي الناس بصوت مجرور كأنه صوت ناي موجوع، وقبل أن ينحني الرئيس الأمريكي على جانبه الأيسر، ليتقي ضربة الحذاء التي راحت للخلف منه، لتصيب الجدار عند يمين سارية العلم الامريكي، قال منتظر الزيدي بغيظ:
- (هذه قبلة الوداع من الشعب العراقي يا كلب)[24].
ثم انحنى بسرعة انحنائته الأولى، وطوح بفردة حذائه الثانية، قائلا بغيظ أكثر حدة من سابقه:
- (وهذه من الأرامل والأيتام والأشخاص الذين قتلتهم في العراق)[25].
إتقاها الرئيس بجسد بدا رياضيا، خفيف الحركة، رشيقا، فأصابت هذه المرة علم الولايات المتحدة الأمريكية خلفه.
وشاهد الناس عبر قنوات البث الفضائي المباشر، وبالصورة والصوت، كيف طرح الأمن الرئاسي منتظر الزيدي، واقتادوه صارخا، متوجعا، خارج قاعة المؤتمر الصحفي.
السُلَّمَةُ رقم 9
إتكأ برهان العسافي على الحائط ليستريح، قبل أن يُكْمِل تصليح حنفية بيته المكسورة، وأحس بالراحة قليلا من آلام ساقه المعطوبة منذ أيام حرب الثمانية سنوات، وهدأ قليلا وخز الأعصاب في فخذه، فاستل علبة سكائره، وقبل أن يشعل لفافة منها رنّ هاتفه النقال، فدقق النظر برهة في رقم جهة الإتصال غير المعرَّف، وجده غريبا على ما تعارف عليه، من أرقام لمعارفه ولم يدون أسماء أصحابها في جهازه.
فَتح الإتصال فجاءه الصوت من بعيد، كأن صاحبه يحكي من وراء حاجز معه قائلا:
- مرحبا يابه ... شلونك برهان.
كان حرف الباء المُفخّم في نهاية كلمة (يابه)، ونبرة النطق المحببة فيها، وخيط الصوت القادم كأنه من ماض سحيق، كفيل لأن يجعل برهان يسهو ليتذكر صاحب الإتصال، قبل أن يقول:
- هلا ومرحبا...من معي؟.
تقطع الصوت القادم عبر الجهاز، وفهم برهان صاحبه يسأل:
- أنت برهان العسافي؟.
أعادَ نطقها صاحب الصوت أكثر من مرة، فرد برهان قائلا:
- نعم..معك برهان العسافي...
وقبل أن يسمع الآخر يرد سَأله:
- لكن من أنت ؟!.
فقال الآخر بإختصار:
- أنا محمد....أما عرفتني؟
كان سؤال صاحب الصوت فيه شذى معرفة قديمة ببرهان، فزوى ما بين حاجبيه، وهرش فروة رأسه المبيض، وقال عاجزا:
- آسف إذا ما تذكرتك، لكن من محمد؟
وبان له أن الآخر يحاول أن يجعل كلامه مثل الطلسم، أما لرغبة عنده في تضييع فراغ يعاني منه، أو هو فعلا صديق حميم له ولا يتذكره، لكن الصوت أزاح له طلسم الأمر عندما أضاف صاحبه قائلا:
- (عجل يابه)...كيف لا تذكر محمد حويجة؟!.
شده برهان وأصابه شيء من العجب، رغم أنه تذكر الاسم وصاحبه:
- محمد حويجة ... محمد حويجة نفسه!.
فقال محمد ضاحكا بفرح:
- أي نعم .... محمد حويجة بشحمه ولحمه.
رد برهان مسرعا:
- طيب ... فهمني مِنْ أين حصلت على رقمي؟.
تطلسم الكلام على برهان ثانية وهو يسمع محمد يُجيب شارحا:
- كنت أتصفح قوائم الأسماء وصار اسم العسافي أمامي، والأولاد صاحو ابن عمك عندي، وأخذت رقمك منه .. هذه ليست صعبة على محمد حويجة!... أليس كذلك؟.
وتذكر برهان أن أحد أبناء أعمامه الكثيرين سبق وأن تطوع على صفوف الحرس الوطني، ومادام محمد حويجه قد تصفح قوائم الأسماء، وهنالك أولاد يعملون تحت إمرته، ومستعدون أن يجلبوا ابن عمه ليمثل أمامه، فهو قطعا ذو مركز قيادي، وله سطوة على الذين حوله!، لكنه لم يشأ أن يسأل محمد عن المركز الذي يشغله.
أضاف محمد مذكّرا:
- قبل أكثر من خمسٍ وعشرين سنة كنت مع ولد نائب عريف بالجيش، اسمه برهان العسافي..له فضل عليَّ ... كنا فصيل راجمات بجوارته، وكان برهان العسافي هذا يعطيني كل خميس، من كل أسبوع، نموذج عدم تعرض ... فاذا أنت ناسٍ، أنا لن أنسى فضله ذاك!.
أحسّ برهان بالعتب يترشح ممزوجا بالعرفان، من بين كلمات محمد حويجه، وانتابته مشاعر الحنين لأيام، رغم أنه أصيب فيها بشظية جعلته يعرج طول العمر، لكن تلك الأيام ذاب فيها أي اصطفاف طائفي بين الناس، واستذكر كيف أن آلام مغص معوي، وتشنج أصاب معدته اضطره لأن يترجل من الحافلة، التي تقله فجرا لبغداد، عند أكمة قصب في ناحية اللطيفية ليقضي حاجته خلفها، تحت جنح الظلام دون خوف ووجل!، وقارن أمان ذلك الوقت بما أصبحت عليه اللطيفية اليوم، من ذبح على الهوية، وبات موقعها الجغرافي ينحصر ضمن منطقة يطلق عليها (مثلث الموت)[26]، لكثرة من قتل فيها بسبب انتمائه الطائفي!.
قال برهان عبر الهاتف النقال، وفيه توجس أن ينقطع الإتصال بمحمد حويجة:
- إذا كان الأمر هكذا، فبقربك أمانة.
وفهم محمد كلام صاحبه، بحدس رجل الأمن الذي يعمل بين أعدائه، أن برهان يريد أن يوصيه بابن عمه:
- اطمئن .. سأعدَّهُ مِثل أولادي.
السُلَّمَةُ رقم 8
زمجرت السلسلة بطقطقات متمهلة، وراح محرك العربة المرفوع فيها ينزل ببطء، فأرجع ساقيه المفتوحتين للخلف، مفسحا المجال حتى لا يقع على رجليه، وقبل أن يصل الأرض أفلت إحدى يديه، ليسحب تختا خشبيا مسودا من كثرة الدهن المحروق، وأبقى يده الأخرى متشبثة بالمحرك، لينزله على التخت بالشكل الذي يجعله أكثر استقرارا وأمنا له، وقبل أن يستوي جاثما في مكانه على التخت، رن هاتفه النقال في جيب بذلته الزرقاء، فترك المحرك يتأرجح بسلسلته، ومسح باطن وظاهر يديه بالتعاقب في صفحتي بذلته من جانبيه، ثم أخرج الهاتف من جيبه وقال:
- أهلا ابني أحمد...صحيح الأخبار التي نَسمعُها عن سقوط الموصل..
فعاجله أحمد على الطرف الآخر، وثمة أزيز لصوت رصاص يسمع عبر الهاتف وقال:
- صحيح ، وأنا بهذا الوقت باقٍ...
لكن الصوت تقطع ، وأحسّ أبو أحمد في ما يسمعه كأن طفلا يدعك جريدة، مبعثرة أوراقها أمامه، وثمة أعواد كبريت يشعلها أطفال آخرين قربه بالتعاقب، فيشتد الصوت ليصبح ريحا هوجاء، تحرك كومة خشب تضرب في طريقها عمود نور، فيشطرها لنصفين وكل نصف له وقع وصوت على الأرض، يختلف عن النصف الآخر:
فقال الرجل متكئا على حائط محل عمله ، بعد أن أحس خوارا في قواه:
- ابني انتبه ، وحافظ على عتادك ، واقتصد به..
ولما أراد أن يضيف شيئا آخر لنصائحه عاجله انقطاع الخط ، فانزلق ظهره محتكا بالحائط، وجلس مقرفصا على الأرض، وقد أشاح بنظره نحو بركة دهن، خالها من بين دموعه كأن فيها إحمرارا مشوبا بسواد، يلمع تحت أشعة شمس ظهيرة شهر حزيران، الذي يصطلي بلهيب هوائه الحارق، ثم انتحب باكيا بلوعة ويأس، بعد أن تأكد من نهاية ولده ، وازداد احساسه يقينا لما يعرفه من عناد أحمد، وأنفته التي قد تدفعه للتهور وابداء شجاعة في غير أوانها، ربما يدفع حياته ثمنا لها، ثم تمتم شاهقا بدموعه، وقد احمرت عيناه بفعل أوساخ، وبقايا زيت علقت فيهما وهو يمسحهما بكم بذلته:
-راح أحمد..راح.
نهض من مجلسه وأغلق محل عمله على عجل، ولما مشى خطواتٍ للأمام راوده شك أن يكون قد نسي قفل المحل فتريث هنيهة، ثم لوى عنقه وهز يده وأستمر بسيره، لكن مكبرات صوت لجوامع بعيدة كانت تخترق سمعه، تعلو مرة وتخبو مرة أخرى، حتى تكاد لا تسمع:
- ( إنا لله وإنا إليه راجعون.....تزف مدينتكم غدا الساعة الثامنة صباحا الشهيد البطل.......في.....دفاعا عن...وستبقى أرض الأنبار........ إنا لله وإنا إليه راجعون).
صفق يدا بيد وقال يكلم نفسه:
- راحت الشباب..راحت.
كان ساهماً، مشتّت الفكر ، كشجرة تعصف فيها الريح فتطوح بأغصانها يمينا وشمالا ، عبر الشارع دون أن يلتفت لحركة العربات من حوله على غير عادته، ومرت من جنبه عربة ركاب، زعق فيه سائقها مادا يده خارج نافذتها وهو يصرخ فيه:
- يا أخي انتبه.
حاول أن يتصل بولده لكن الهاتف رن قبل أن يكمل الاتصال، فقال ملهوجا بسرعة:
- ابني أين أنت الآن ؟.
جاءه صوت أحمد من الطرف الآخر للهاتف، واضحا هذه المرة رغم صوت الرصاص، وهدير العجلات الثقيلة قربه ، وكان فيه صدى لأغنية غاب اسمها عن ذهنه، غير أنها كانت تحكي عن ولد يعد أمه أنه سيبقي عصابتها مشدودة على رأسها، ويدعوها أن لا تخاف عليه وأن تنام ملء جفونها:
- إسمعني أبو أحمد.. أنا الآن بالموصل، بقي عندي تسع طلقات... لن أترك مكاني أبداً...ثمان طلقات برؤوسهم والتاسعة برأسي، ولن أسلم روحي بهوان لهم.
زم الرجل هاتفه في يده بقوة، وأراد أن يثني على قول ولده لكنه تذكر عناده، فخاف أن يشجعه على تهور لا يُحْسَبُ شجاعة في أخر الأمر ، غير أن انقطاع الصوت مرة أخرى حسم الأمر، فدس الرجل هاتفه داخل جيب بذلته الزرقاء، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة خفيفة، ثم خفق قلبه سريعا، وأحس برعشة تنتابه، وراح ينشج باكيا.
السُلَّمَةُ رقم 7
وجد على الباب الجانبي المُغلق لهذه السلمة تحذير يقول:
(تقرر غلق باب هذه السلمة بالنظر لارتفاع الضغط الجوي في أعماقها، والذي قد يصيب الزائر لها بنزيف العينين، والأنف، والأذنين، مما يجعل الرؤية عنده مشوشة، وقد تنعدم نهائيا).
السُلَّمَة رقم 6
ليلة سقوط الموصل كنت أتقلب يا ولدي على فراشي طيلة الليل، مثل سمكة جرفها تيار قوي نحو الشاطيء، وانحسرت المياه عنها سريعا، لكن خيالي كان مع مدينة الموصل مثل عاشق شاب يرى في أحلام يقظته أن حبيبته في وضع خطر، ولا يوجد منقذ لها في محيطها إلّا هو، فيهب لتخليصها، حتى يرسم الابتسامة على شفتيه قبل أن ترتسم على شفتي حبيبته لأجل أن ينام ملء جفنيه، ولأجل أن أرسم الابتسامة على شفتيَّ قبل أن أرسمها على وجه مدينة الموصل، راودني حلم اليقظة هذا في ليلة سقوطها:
طُرِقَ باب الغرفة ودخل رجل يلبس سروالا فضفاضا أسود اللون، وعليه قميص كلونه ينزل على ركبتيه، له فتحتان عند حافته من الجانبين، كأنها رقم ثمانية لو فَتحَ الرجل ساقيه وهو يخطو، كان كث اللحية يكاد شَعرُها يتشابك مع ذؤابات خصلات رأسه المعصب:
- عُذرا يا أمير.
اهتزّت كتلة لحم غطست بكرسي، وراء مكتب خشبي وثير لرجل ثان، متشح بسواد كالذي طرق الباب، وكان على جلوسه وراء المكتب يبدو قصير الهيئة، فيه سمنة جسم، وثمة كرش لبطنه مدور، يحاول لملمة تكوره بشبك يديه من حوله.
- أين كنت بالله عليك!..أتعرف منذ متى أرسلت بطلبك؟
لهوج الرجل الذي طرق الباب وقال كمن يعتذر:
- لم يكن التأخير بسببي، أمير التموين يجهز مجاهدين جدد لتعقب القناص..و..
فرد الرجل من وراء مكتبه ، كأنه تذكر شيئا غاب عن فكره:
- أوووه لقد شل حركتنا ، والله يا أخ الاسلام أنا اليوم جئت لمجلسي هذا بعد صلاة الفجر، خائفا في خطوة أن يعاجلني بأجلي...الملعون يقال عنه: لا يخطيء هدفه أبدا!!
ابتسم الرجل الآخر متخيلا كيف أن الحاكم الشرعي جاء لمكتبه يمشي ملتصقا بالجدران، وسالكا لدروب ضيقة، مرتجفا ومرعوبا، من صورة أن تصرعه طلقة القناص وسط الشارع، كأنه سارق يحاول أن يتخفي من ظل جسمه الذي يطارده وقال:
- أبعد الله شر الأعداء عن كل مجاهد..لا تخف يا أمير ، بعون الله سيأتيك مقيدا، لتقبض روحه بحكم عادل.
فعدّل الرجل القميء من وضع جسمه وراء مكتبه، بعد أن ذكَّره الآخر بمنصب الحاكم الشرعي وقال متوعدا:
- ليس القناص وحده من سأقيم عليه الحد!
وصمت هنيهة وهو يشير إلى شاب، يجلس مقرفصا قرب الزاوية ، يلبس ثوبا أكبر من حجم جسمه الذي يبدو عليه الهزال، كان معصوب العينين، موثوق اليدين للخلف، وأردف قائلا:
- هذا الفاسق.. يدخن لفائف التبغ عيانا جهارا أمام عباد ألله ، وفوقها يتحدانا بأسواق المدينة!
فسأل الرجل الآخر وقد بدت علي محياه إمارات الجد والاصغاء:
- وما حكمك عليه يا أمير؟
رد الأمير كأنه يبرر حكمه قبل أن ينطقه:
- في المرة السابقة جلدته بيدك ثمانين جلدة ، ولأنه أعادها ولم يمض عليه شهران..أأمرك بأن تقيم عليه حد السيف ؟.
وفتح كف يده ضاربا فيها المكتب، وهو ينظر للشاب بتحد وقال:
- حتى يكون عبرة لغيره... خذه لسوق المدينة واقطع عنقه.
فرد السياف:
- سمعا وطاعة أميري.
كانت سوق المدينة تبدو فارغةً، وبقاليها ينزوون متناثرين ما بين أزقة البيوت القريبة من السوق، وثمة همس بين الناس عن إشاعة روجها المسلحون، قبل عدة أيام، مفادها (أن القناص لن يستثني أحدا ، وعلى الناس الاخبار عن مكمنه وعن أية معلومة ترشد للمصدر الذي موله بسلاح القناصة وكاتمها، ومن لم يفعل فسيناله عقاب الحاكم الشرعي، وتعتبر جنايته كجناية القناص). ولأن الناس لم يحدث عندهم أن شيعوا، مِنْ موتاهم، مَنْ قُتِلَ بيد القناص ! ، الذي كان يستهدف المسلحين منذ أن ذاع صيت رعبه، فسرى الهمس فيما بينهم!.
توسط السياف ساحة المدينة مع مسلح آخر يحمل بندقية، ويتلفت متفرسا في وجوه الناس بريبة وشك، وكان الشاب بارك على ركبتيه وسط الساحة ، والعصابة لا زالت مشدودة على عينيه. رفع رأسه ملتفتا لصوت السياف الذي أنهى لتوه تلاوة الحكم عليه وقال:
- ألا تسألني عن أمنيتي الأخيرة يا رجل؟
رد السياف برما وهو يستعجله:
- أمنية أخيرة ! (وأضاف مقهقها بسخرية).. هات ما عندك؟
فقال الشاب بصوت بلغ مسمع الذين تجمهروا حولهم:
- فكّ عصابة عيني، وقيدني من أمام، وأعطني لفافة تبغ لأدخنها..ثم افعل ما شئت؟
سرت همهمة وحدث لغط بين المتجمهرين، فتقدم المسلح وانهال على رأس الشاب بعقب بندقيته، فشجه من هامته، ونز الدم منها، وارتج جسم الشاب كشجيرة هُزتْ جذورها بسيل جارف، لكن السياف تدخل ونحى المسلح جانبا، ثم عقب بهدوء، كمن يريد أن يبعث رسالة (أنا الأمر الناهي هنا) ، وأشارَ بيده للناس مهدئا ، ثم انحنى على الشاب، فأزاح عصابة عينيه، وحل رباط يديه من الخلف ووثقه من أمام، وقال بصوت أراد له أن يُسمع:
- العصابة والوثاق حققتها لك ، أما أمنيتك بلفافة تبغ فتلك من أوصلتك لهذا الحال!، وأنا لا أملكها يا فاسق.
رد الشاب فيما تعلو شفتيه ابتسامة صفراء، بعد أن تأكد من دنو أجله:
- اللفافة وعلبة كبريتها في جيب ثوبي، وما عليك إلَّا أن تخرجها لي.
فأُخِذَ السياف على أمره، وأحس أن تنصله من أمر تنفيذ طلبة الميت ستحسب عليه، فأخرج العلبة من جيب الثوب مغلوبا على أمره، سيما وهو أمام حشد من البشر افتقدته ساحة سوق المدينة، منذ أول طلقة للقناص قبل عدة أيام، فأجاز الأمر كمحظور أباحته الضرورة، وغالبه شعور بالأمان أن يقف مع الناس في العراء، وتحت مرمى بندقية لا يسمع لها صوتا، تخطف الأرواح، كأن عزرائيل يسكن فوهتها، ويجوب الأزقة والدروب على هيئة طلقة، ما استقرت بجسد إلّا وأفسحت روحه مكانا لها.
نفث الشاب حزمة دخان بحرقة، وامتص شهيقا قضى على نصف لفافة التبغ ، فاستكان نبض قلبه، وتراخت أهداب عينيه، وسرى خدر لذيذ بأعصابه، لم يستفق منه إلا على أزيزٌ في الهواء، اهتز له شعر رأسه، كأنه حفيف أفعى في كومة قش، تكوم على أثره السياف جثة قبالة عينيه، يرفس برجليه، ونافورة دم تفور من رأسه، ويفح من منخريه رغاء بعير، فوثب المسلح يستنقذه، وأطلق رشق رصاص في الهواء، أحدث هرجاً بين المتجمهرين، لكن طلقة ثانية لم يسمع لها صوت، كومته غير بعيد عن بركة دم رأس السياف، فنهض الشاب مطمئنا ووقف يرقب الجثتين، ثم سحب نفسا عميقا من لفافته، ورمى عقبها على الجثتين وراح يفك وثاق يديه، مختلطا بين من تأخر من أهل مدينته.
السُلَّمَةُ رقم 5
إتكأ برهان العسافي على جنبه، ومد رجله قليلا ليرتاح عطبها من آلامه، فجاءه ولده يركض بجهازه النقال:
- محمد حويجة يتصل.
تلقف الهاتف من يد ولده، وفتح الاتصال سريعا وقال:
- مرحبا محمد...أين انت؟
رد عليه الطرف الآخر بصوت بدا له بعيداً جدا ومشوشاً:
- بعد دخول داعش للموصل ومن ضمنها قضاء الحويجة، تخفيت..وهم يريدون رأسي الآن.
أصابت الاتصال خرخشة سريعة وأكمل محمد:
- هذا لا يهم الآن... اسمع.. عندك أمانة بمستشفى مدينتك ومعها صديق أصدر التنظيم حكم الإعدام بحقهما.. أنا أرسلتهما.
رد برهان العسافي قائلا:
- اطمئن مثلما قلتها لي أنت ... سأعدَّهم مثل أولادي.
السُلَّمَةُ رقم 4
بعد أن اكتسب بسام الجميلي درجة الشفاء التام، استضافه برهان مع ولده في بيته بصحبة صديقه نشوان الصحن، وسبق لبرهان أن زار بسام ونشوان عدة مرات، واطمئن لمسكنهم مع ابن عمه، لكنه اليوم دعاهم لغداء في داره.
قال برهان ورنين ملاعق أقداح الشاي تضرب لحنا متناسقا فيما بينها، كأنه يكمل حديثا انقطع بسبب الغداء:
- لكن ما الذي حدث عندكم بعد احتلال الموصل؟.
مسح نشوان على شاربيه الطويلين بيده اليمنى، ولمعت حبات العرق تترقرق على سمار سحنة وجهه وقال:
- ياعم...حكاية اعدام بسام طويلة..أسمع حكايتي أولا.
التفت برهان على الناحية التي يجلس فيها نشوان ورد قائلا:
- شرط أن تحكي لي كل شيء بالتفصيل.
فقال نشوان مبتسما، بعد أن تعود على تدقيق برهان العسافي، ماسحا مثل كل مرة على شاربيه الطويلين:
- لك ذلك.
صمت دقائق فيما تشاغلت الأيدي تمزج أكواب الشاي مرة ثانية، برنينها المتجانس نفسه:
- دخلت دورة للضباط في الحرس الوطني، وتدرجت خلال عشر سنوات حتى رقيت لدرجة نقيب في الجيش العراقي، كان تحت أمرتي فصيل من جنود الحرس الوطني، وكنت أتعقب الارهابيين أينما أسمع بوجودهم، فضاق أمر الارهابيين من نشاطي، ولأني ابن تلك المنطقة وتدعى (سديرة)[27]، فقد كنت أعرف كل دروبها، وزواياها..كنت أعرف ياعم أنهم يريدون أن يوقعوا فيَّ بأية طريقة..اعتبروني عقبة في طريقهم، وكنت أنا من جانبي لا أطيق نهجهم...لأنني ببساطة ياعم أرى أن رؤيتهم لا تنفع البلد، ومن غير الممكن أن يحكموا بلدا فيه كل هذا التنوع...الله ياعم ما أوجد أنبياءه ورسله، ليجعل فئة تقتل أخرى، الله ما خلقنا لنقمع، ونسبي، ونهجر، ونغتصب، ونقتل بعضنا، الله ما قال إرجعوا فعل الجاهلية وأوئدوا نسائكم بطمرهن في البيوت... ياعم ما تركوا جمالا في الحياة إلّا وشوهوه!..حتى مناهج الدراسة الجامعية ألغوا فيها موادا علمية، وأوجدوا أخرى غيرها..أتعرف ما يُدَرِّسونَ أطفالنا الآن هناك؟..تصور ليعلموهم مادة الحساب يطبعون في منهج كتابها:
(مفخخة + مفخخة = مفخختان)!..أيرضيك هذا الذي يحصل بأهلنا الآن هناك؟...أيرضيك ياعم أن أخبار أهلنا تأتينا اليوم من هناك لتقول أن سعر كيلو السكر وصل لما يعادل السعر الرسمي لكيس السكر كاملا !، أيرضيك ياعم أن النساء اليوم يخبزن على التنانير وثمة نساء يقفن حول من تخبز ليحمينها من مهاجمة الكلاب والقطط الجائعة!..لا نامت عيوننا مطمئنة هنيئة إن لم نخرجهم من ديارنا.
صمت نشوان قليلا ثم تماسك على عينين بدتا تلمعان بسائل يترقرق داخلهما وأكمل قائلا:
- دبروا لي مكيدة وقتلوا أحد الأشخاص، ثم رموه قرب داري، واتهموني بقتله، وأنا يشهد الله ما تقربت من هذا الرجل، ولا عرفت بمقتله، لكن أحد السياسيين أجبرني عشائريا على دفع دية لأهل القتيل، قيمتها خمسون مليون دينار...ساعتها طوحت بالرتبة العسكرية جانبا، وقررت الهجرة خارج العراق، لكن الامور تسارعت وسقطت الموصل بأيديهم...بعدها أصبحت مطلوبا لهم، ونسفوا داري ببراميل المتفجرات، وما تركوها إلّا وسقف البيت يفترش أرضيته، جعلوا زوجتي وأولادي يسكونون العراء، قبل أن تدبر زوجتي أمرها وأمر أطفالي، بمساعدة مَنْ بقي يحمل شيئا مِنْ الغيرة...لكن الله كريم...تلك حكايتي وستسمع قريبا ماذا سيفعل نشوان الصحن بهم.
السُلَّمَةُ رقم 3
- أما حكايتي ياعم فلك أن تطلق عليها أسم البئر.
عدل برهان العسافي من جلسته متكئا على كتف ولده وقال بأسى:
- ليست حكايتك يا بسام لوحدها اسمها البئر..نحن كلنا..كأن أمهاتنا ما ولدتنا إلا لنعيش في البئر، سبحان الله كل سكان المعمورة يتسلقون سلماتهم، إلاّ نحن، ما استخدمنا سلما صاعدا في هذه الحياة أبدا، دائما ما كان ينزل فينا السلم لبئر عميق، حتى رَكَبَنا منطق أن العالم السفلي وجد لنكون ساكنيه، أتعرف ماذا فعل فيَّ سُلَّم البئر وأنا شاب يافع؟..هاك انظر.. في الوقت الذي كنت أرقد في المستشفى، بعد إصابتي بشظية صاروخ في الحرب الأولى، كانت هناك بنت أحببتها مثلما لا يحبّ رجل امرأة في هذا الكون مثل حبّي لندى...هكذا كان اسمها...
هزَّ برهان العسافي رأسه وضحك بمرارة، رامقا ولده بعينيه، ليرى أثر حكاية حبه الأول ووقعها عليه، ولما إطمئن لهدوء ولده وترقبه لتكملة الحكاية قال:
- كان يفترض في ذلك اليوم أن تزورني ندى في المستشفى الجمهوري في الحلة، بعد أن طلبت نقل تكملة علاج اصابتي في ساقي اليمنى لها، لتَسْهل زيارتي على والدي الضرير، وأخواتي الأربعة، ووالدتي التي أحنى العمر، وتعب الحياة ظهرها، وجعلها تشيخ قبل الأوان.
اتصلت ندى ذلك اليوم لتخبر أهلي أنها ستصل الحلة اليوم عصرا، وستمر على المستشفى قبل أن تذهب لأهلها، لتطمئن على حالتي، وكانت هي حينها طالبة في المرحلة الثانية بالمعهد الطبي في البصرة... كانت تدرس علم الصيدلة هناك...لكن البئر أخذها، غرقت في البئر قبل أن أراها لآخر مرة، يومها تشظت لقطع صغيرة بفعل قنبلة عجنت عظامها ولحمها بمعدن الباص الذي تستقله....آخ لو يسعني الوقت وأحكي لكم مقدار صور قاع البئر تلك!، وكم ارتقينا نزولا لها!، كما حكيت بعضها قبل أيام لولدي هذا الذي يجلس قربنا..إحكِ، إحكِ ياعم، فقد تلهمني وأنت تحكي قاع بئرك أن أتذكر حكاية كنت شاهدا على عصرها، ونسيت أن أحكيها لولدي...إحكِ، فلكل منا بئره الذي يرتقيه نزولا لقاعه!
السُلَّمَةُ رقم2
أنهى بسام صلاته جالسا بسبب آثار إصابته، وعدل ضمادة رأسه، ثم بادر برهان العسافي قبل أن يسأله:
- كنت ياعم ابن قرية (شميط) في ناحية الزاب التابعة لقضاء الحويجة،وفي العام 2005، ربما في نهايته، تطوعت لأخدم في أحد صنوف الحرس الوطني المهمة، في الدعم اللوجستي كما يصطلح لذلك، ونحن مثلكم تفاجأنا أن تسقط الموصل بتلك السرعة، ولأن التنظيم أحكم سيطرته سريعا على الحدود الإدارية للموصل، وراح يتمدد خارجها، فما أصبح علينا صبح إلّا والتنظيم قد سيطر على قضاء الحويجة، وأصدر بياناً في الأيام التالية، يطلب فيه من كل المتطوعين منا، إن كنا نريد الخلاص فلنا طريق واحد لذلك..نكتب براءة من الجيش ونسلم أسلحتنا التي بحوزة كل منا...
رفع برهان العسافي يده مقاطعا وقال:
- أمتاكد أنهم طلبوا البراءة منكم؟
تفاجأ بسام من عدم تصديق برهان العسافي له، وكبر عليه أن مضيفهم يشكك في صدقه:
- ماهذا؟...أتكذبني ياعم!..نعم أنا متأكد، وذاك الأمر هو ما طلب منا.
عض العسافي على شفتيه أسفا، ورد مبررا:
- لا لا..أنا أريد التأكد فقط، لأن هذا الإسلوب في تأريخ العراق يفهمه الباحثون، أنه اسْتُخدِمَ في الحقبة ما بعد العام 1963 ضد المعارضين الفكريين لنظام حكم السلطة آنذاك..
التفت برهان باتجاه ولده وأشار مذكرا له:
- أرأيت حكاية مستنقع البئر هذه كيف يعاد صياغتها؟!...أعرف أنك لم تسمعني أحكي لك عنها، اصبر وسأشرح بدايتها لك لاحقا.
أكمل بسام قائلا بعد تبدد شكوكه بما قاطعه فيه العسافي:
- كتبت البراءة مثل كثيرين غيري، وسلمت سلاحي في أحد مقارهم داخل ناحية الزاب..
مسح نشوان الصحن على شاربيه الطويلين سريعا وقاطعه مازحا:
- أنا لست منهم (انفرجت شفتاه أكثر سعة، ولعبت كفه اليسرى على شاربه) ربما أنا من القلائل ممن لم يوقعوا على ورقة البراءة تلك.
فرد عليه بسام برما:
- لو كنت موجودا داخل الحويجة في ذلك الوقت، فلربما يجبرك ظرفك لأن تفعلها قبلنا.
ربت نشوان على كتف بسام وقال مواسيا:
- ما بك؟...إهدأ نحن نمزح معك، لنخفف وطأة الحدث الذي وجدت نفسك فيه....أكمل.
لعبت أصابع بسام في طرف الفراش الذي يجلس عليه وقال:
- بعد تسليم السلاح، راحوا يصطادوننا واحدا تلو الآخر..فواحد يفجرون بيته على من فيه ليلا، ويضيع الفاعل نهارا، وثان يرمون وسط داره قنلبة يدوية ويولي عناصرهم هاربين، وثالث يقتل على الطرقات في ظروف غامضة..وعندما ازداد الاستهداف، واستعر حقد التصفية علوا ضدنا، قررت الخروج من قريتي، والناحية، والقضاء، وكان وقتها من الصعب على أحدنا الاتجاه نحو بغداد، فاستقر رأيي على الهروب إلى تركيا، لملمت حاجياتي وأوراقي الرسمية ومعها جواز سفري، وفي آخر نقطة سيطرة لهم باتجاه كركوك، أنزلوني هناك، ثم احتجزوني في نقطة التفتيش ساعات، وعُصِّبت بعدها عينيَّ، وأوثقوا يدي للخلف، ثم اقتادوني لجهة مجهولة، فقضيت نهاري ذاك وليله معلقا للسقف، ويجري معي التحقيق المكثف..كانوا يدققون الأسماء التي بحوزتهم، وهل أعرف فلاناً أين يوجد الآن؟، وما طبيعة عملي؟، وما المهمات التي كلفت بها، وأنا أخدم في صفوف الحرس الوطني؟..أوووه...كثيرة الأسئلة ياعم، حتى تخدر جلد جسمي من سياطهم، وماعدت أتألم، إلّا من الجامعة الحديدية التي علقوا يدي فيها للسقف، واستمر التحقيق لثلاثة أيام بلياليها، فهمت خلالها أني معتقل في قضاء الشرقاط، وفي مساء اليوم الرابع أخرجوني لغرفة أخرى، وسمعت أحدهم وهو يقلب الأوراق يؤكد لمن جاء بي، على ضرورة تقديمي للقاضي، ثم أوصاه أن يأخذ معه عنصراً آخر، لكن وأنا أسْحَب من كتفي ليخرجوني من هناك، سمعت العنصر الذي أدخلوني عليه يوصي من يقودني( إذا وصلتم للقاضي ادفعوه بقوة عنده) شغلتني هذه التوصية باحثا عن تحليلها!، وعن شكل هذا القاضي الذي أوصوا أن أدْفَعُ بقوة عنده؟، ثم أين يجلس؟، وما شكل غرفته وعمقها؟، لكني انتبهت للسيارة التي أقلوني فيها تنحرف على طريق ترابي متعرج، وكنت أسمع تقافز الحصا عند عجلاتها المسرعة فينا، وكانت مطبات الطريق ترفعنا من فوق مقاعدنا ليرتطم رأسي في سقفها، ويرتد جسمي لأجلس بعنف على المقعد أسفلي، لكنها توقفت فجأة، وأنزلوني منها، ثم أجلسوني على حافة ملساء بعلو ساقي، وعندما أشعلوا النور في مصابيح هواتفهم، تبين لي أن العصابة الملفوفة حول رأسي ارتفعت قليلا عن عيني، وشاهدت على بصيص ضوء إنارة هاتفيهما، أنهما أجلساني على حافة بئر دائري، فترابطت كلمات من أرسلني معهم، وفهمت حينها أن قاع البئر هو القاضي، الذي أوصاهم صاحبهم أن يدفعوني إليه بقوة! وأيقنت أن لحظة الاعدام باتت وشيكة، فرحت أردد الشهادتين بصوت مسموع لهما، مستسلما لقدري، وسمعت أحد العنصرين يتصل على هاتفه قائلا:
- السلام عليكم .... نحن الآن أوصلناه عند القاضي.. نعم.. نعم.
صمت قليلا متشاغلا بغلق هاتفه ربما...
وبعد هنيهة بدت لي كأنها دهرا بطولها، حادث صاحبه قائلا:
- صدر أمر التنفيذ.
ألقما مسدسيهما العتاد، ومرت لحظات كادت أن تطفر فيها روحي من جسدي، قبل أن أسمع انفجارا هائلا يضرب رأسي، كأنه صفق بابٌ على إطاره، وأنت تجلس قرب الحائط فيك خدر النعاس، وأحسست لثانية من الوقت أن قنبرة هاون ربما انفجرت خلف أذني، وبللتني لزوجة دافئة، وأنا أهوي على ظهري إلى قاع البئر.
كنت واعيا وأنا أسمع طلقات مسدسيهما تلاحقني في القاع، وفي اللحظة التي استقر فيها ظهري على أرض القاع، أحسست كان فراشا وثيرا ترقرق منخفضا ومرتفعا تحت أضلعي، ثم غزت أنفاسي رائحة نتنة تلف البئر، وتتشابك مع عطونة مقيتة، ورطوبة تخنق صدري وتعصره، وسمعتهما يعلنان لبعضيهما، أن التنفيذ اكتمل، وأن المهمة التي أوْكِلَتْ لهما قد إنتهت، لكن كتلا من الحجارة الكبيرة ألقِيَتْ فوقي بالتعاقب، وما دريت وأنا تغشوني إغماضة إغماء سريعة، أن رأسي تدفنه بعض تلك الكتل، واللزوجة التي كان تسيل منه قد أغلقتها الحجارة، ومن حسن حظي أن الجامعة التي كانت تكبلني، انفتحت حلقتها من حول أحد معصمي، وحالما سمعت محرك سيارتهما يدار ويبتعد صوته عني، فززت من مكاني كأن شيئا لم يصبني، وتسلقت درجات البئر سريعا لأخرج منه، ولم أفكر لحظتها في جروح إصاباتي، ولا عن أماكن الاصابات تلك..كان همي أن لا أنسى رقم الهاتف الجوال لوالدي، بعد أن سلبوني كل ما بحوزتي، لحظة أمسكوا بي واحتجزوني.
وقفت على حافة البئر تسيل اللزوجة من جسمي، مثل ثقوب (منخل) تصفية طحين الخبز قبل عجنه، وبدت دشداشتي البيضاء تلتصق على جسمي بمادة كأنها الصمغ على الورق، وكان الوقت صيفا، وهبت نسمة هواء أبردت جسدي، وأحسست أني بدأت أرتجف منها، كان ينتابني شعوران، ففي الوقت الذي كنت فيه يائسا من الحياة، وأخاف أن يغشاني الموت نتيجة نزفي الحاد، كانت بي رغبة لأن أحتضن ظلام الليل، وأقبّل المجهول الذي يلفني، وانا غير مصدق أني لا زال فيَّ رمقٌ للحياة!، وتحيرت أي الطرق أسلك في هذا الليل الدامس؟، فرفعت رأسي للسماء أدعو ربي لينقذني من محنتي، ويرشدني لطريق لا يوصلني لأيدي عناصر التنظيم ثانية.
أبرقت فكرة في خيالي وأنا رافع راسي أدعو، وتذكرت حكايات جدتي لنا ونحن أطفال صغار نلتف حولها، فقد كانت جدتي تشير إلى السماء مؤشرة بيدها نحو(درب التبانة)، ترسمه لنا بنجوم ذيله الطويل قائلة:
- إنظروا يا أحفادي... ذاك درب التبانة، لو سرتم على امتداده، لأوصلكم لقضاء (مخمور)[28].
وكنت أعرف وأنا مصاب أن مخمور كانت خارج سيطرة التنظيم، ولأني كنت مثل غريق، فقد أمسكت قشة حكاية جدتي، وسرت على اتجاه امتداد درب التبانة، وكلما امتد بي الطريق كان ثوبي يثقل على جسمي، وكلما أزحت طبقة دماء تخثرت على عيني، سال غيرها وتخثر ثانية، وبدأت قدماي تنزلقان فوق سائل يبلل نعالي، مما اضطرني لخلعه والسير حافيا، ومع ظهور قرص القمر اختلط لونه الأحمر مع لون ثوبي.
لا أدري كم سرت، وكم مضى من الوقت عليَّ بعد خروجي من البئر، لكني سمعت بعد ساعات نباح كلاب إحدى القرى، فاتجهت صوب أقرب بيت لي، وصحت:
- يا أهل الدار...يا أهل الرحم.
خرج لي رجل كبير، أضاء بوجهي مصباحا يدويا، سرعان ما أطفأه وقال:
- نعم..ماذا تريد؟.
فقلت وقد أيقنت أنه رجل مسالم لكنه خائف:
- أنا جندي في الحرس الوطني، وقد نفذ التنظيم حكم الاعدام بحقي، لكني نجوت، وأريدك أن تدلني على مخمور.
ورغم الظلام أحسست أنه مرعوب من كمية الدماء التي تغطيني، بسبب تلعثمه، وضياع سلسلة أفكاره:
- مخمور..لا أدري...هي..هي هناك.
فقلت متوسلا فيه وعيني تزوغ على جهة سيارة بيضاء ركنت قريبا منا:
- ياعم..أوصلني بسيارتك تلك البيضاء، ثم اطلب ما شئت، وسيصلك ما طلبته غدا صباح..ياعم..
فقال والخوف يلح عليه، مع كل كلمة ينطق فيها:
- لا لا..السيارة عاطلة، إذهب لحال سبيلك واتركني.
سألته بيأس:
- طيب..أعرني حمارا أركبه؟
فرد نافيا بحزم:
- لا أملك حمارا.
وشاءت الأقدار أن يتزامن كلامه مع نهيق حماره، فانسل لبيته سريعا، وجاءني بكومة قطن ورباط طبي لأسعف حالي، لكن رفضه لمساعدتي جعل كبريائي تأبى علي قبول عطيته فقلت بأنفة، وانا أدير ظهري له، ماشيا:
- احتفظ بالقطن والرباط لجراحك..قد يصلك التنظيم ويعدمك، ولعلك تنجُو فتحتاج لهن.
سرت ثانية والرعب يلفني خائفا أن يبزغ الفجر علي قبل وصولي لقضاء مخمور، وتشاغلت عن مخاوفي، وآلام جراحي التي بدأت تستيقظ في جسمي، ورحت أردد أرقام هاتف والدي، وساعدني بصيص نور القمر بعد أن ارتفع عاليا، فزدت من خطوات سيري، مصابا بلهاث يجرح بلعومي، وجفاف أصاب لساني بسبب كمية الدماء التي تنزفها ثقوب جسمي.
كان لساني داخل فمي يابسا مثل الحجارة التي رموها فوقي في البئر، واجتاحني هم آخر اسمه الرغبة لشرب الماء، فوق هم الخوف من الموت نازفا، والرعب أن يبزغ علي الفجر وأقَعُ ثانية بيد عناصر التنظيم، لكن نباحا آخر سمعته على البعد من كلاب إحدى القرى، منحني دفقة أمل جعلتني أغذّ السير باتجاهه، وصحت ثانية على أقرب بيت لطريقي:
- يا أهل الدار...يا أهل الرحم.
فخرج لي هذه المرة شاب ريفي، أشعل بوجهي نور هاتفه، وارتاع هامسا لي:
- يا ألله...تعال لهذه الزاوية...الله يرضى عليك لا ترعب أطفالي.
أجلسني بزاوية خلف البيت وهرع سريعا لداخله، ثم مرت لحظات قليلة، جاءني بعدها بدلو مملوء بالماء، وراح يصب منه على رأسي، ويغسل شعري ووجهي من الدماء، حينها علمت منه أن طلقة اخترقت رأسي من الأعلى، وخرجت من خلف اذني لتمزق صيوانها، مخلفة حفرتين، الصغيرة فوق رأسي والكبيرة خلف أذني، ثم مزق ثوبي ورماه جانبا، وهرع ثانية للبيت، وجاءني هذه المرة بثوبين من ملابسه، مزق أحدهما وضمد جراحي، فعلمت منه ساعتها أني أصبت بخمس إطلاقات، واحدة أخترقت جمجمتي وخرجت من خلف اذني، والثانية أصابت خاصرتي من الخلف وخرجت من امامها، والثالثة اخترقت زندي وما كسرت عظمه، والرابعة اخترقت لحم فخذي، والخامسة خدشت اصبع قدمي بجرح بسيط.
أنهى تضميد كل جراحي، وألبسني الثوب الثاني، ثم أراد أن يسقيني شربة ماء فرفضت لعلمي أن الجريح لا يجوز له شرب الماء ما دام ينزفُ، فقد يموت بسبب قلة الدماء في جسده، ثم أعلمني أني أبعد عن قضاء مخمور مسيرة ربع ساعة سيرا على الأقدام، عندها طَمِعْت أكثر بغيرته وكرمه، وطلبت منه أن يُعيرُني هاتفه النقال لأتصل بوالدي وأعلمه نجاتي، لكنه رفض خائفا أن يكتشف التنظيم ذلك ويقتله، ولا أحد من بعده لأطفاله، لكني طمئنته أني سأضحي بحياتي دون البوح باسمه، وأكَّدتُ له أني سأطلب من والدي مسح رقمه الخاص حال انتهاء الاتصال فيه، فوافق واتصلت بوالدي.
لم يصدق والدي عندما سمع صوتي، وقال أن التنظيم أخبره قبل يومين أني أعدمت ونلت جزائي العادل، ثم اتفقت معه أن يكتم الأمر ويمسح رقم الهاتف النقال هذا، وسأتصل فيه حال وصولي عند القوات الكردية.
شكرت الشاب الريفي وأوصيته باحراق ملابسي، خوف أن تُكْتَشَف عنده وتُهدد حياته وحياة عائلته، ونهضت مسرعا لأصل مخمور منهوك القوى، وبالكاد آخذ شهيقي، ومع بزوغ الضياء الأول لذلك الفجر راودني الاحساس بالموت وأصابتني إغماءة.
ما حدث بعد ذلك أني أسْعِفت ونُقِلت لمستشفى في أربيل، وبعد أيام، اتصلت بأهلي واطمئنوا على نجاتي، وأرسلوا لي صورا ألكترونية عبر الانترنيت لوثائقي الرسمية، واتصلت بمحمد رحمه الله....
فقاطعه برهان العسافي معتدلا بجلسته وصاح بصوت عالٍ:
- ماذا...يرحمه الله..محمد حويجة مات..كيف؟.
فداخلهم نشوان شارحا، ليعطي بسام فرصة أن يسترد أنفاسه، ويمسك زمام نفسه، بعد أن رآه يمتلأ بفيض مزيج من مشاعر الغضب، والحقد، والرغبة بالبكاء:
- خرج بشاحنة كبيرة لنقل الطماطم، بعد أن أخفاه السائق داخل صندوق، أعده على حجم جسده ممددا، تغطيه صناديق الطماطم من كل الجهات، لكن محمد قتل في كركوك بظروف غامضة بعد وصوله بأيام، وأنا أحتمل أن وراء مقتله يقف التنظيم، إذا عرفنا أن محمداً كان مطلوبا كصيد ثمين لهم.
فقال برهان العسافي بحزن:
- انا لله وإنا إليه راجعون..رحم الله محمداً.
واستطرد بسام قائلا:
- أتعرف ياعم...بعد وصولي لمستشفى أربيل بثلاثة أيام، اتصلت فيه، وهو من نصحني أن أغادر لبغداد على متن طائرة، ثم أسافر منها لمدينة الحلة وأسأل فيها عن بيوت العسافيين، وتحديدا كان ينصحني أن أجيء إليك أنت، لكني فضلت الاستقرار عند ابن عمك، لأنه كان زميلي في الحرس الوطني، ولأن عمره مقاربا لعمري، والتقيت نشوان ولأننا من ديرة واحدة، ولنا معرفة سابقة ببعض، ترافقنا سوية وجئناكم.
ثم دون سابق إنذار فاضت جفون عينيه بدموع، راحت تجري على خديه، وما قُطعت إلا ونشوان يقول:
- أتعرف ياعم؟..وسط كل هذا الحزن ثمة خبر مفرح لنا..
صمت قليلا وأضاف جازما:
- قررنا أنا وبسام أن نتطوع مع مَنْ يقاتلون التنظيم هناك...سنشارك في تحرير أرض أهالينا، وأنت سمعت كيف أن حكاية من جدة بسام، كانت قد أنقذته...سنقاتل التنظيم لتعود الجدّات تحكي لأحفادها ثانية عن درب التبانة.
السُلَّمَةُ رقم1
دخل الشاب على والده برهان العسافي، وأعطاه علبة الدخان التي ابتاعها له من الدكان على ناصية الشارع، قرب الدار، وقال بحماس بادٍ على ملامحه:
- وعدتني أن تحكي لي سراً تعرفه، بعد أن أشتري لك علبة الدخان!
فقال برهان العسافي ضاحكا:
- ألا زال يشغل بالك وما نسيته؟
رد الابن مذكرا:
- علمتني أن وعد الحر دين برقبته، وأنا أعلم أن لي أبا عاش حرا.
ابتسم برهان هذه المرة بمرارة، بعد أن أسْقِطَتْ حجة تهربه من إجابة ولده وقال:
- إذن إجلس واعلم( صمت قليلا وراح يفكر) يجب أن تعلم أن لك إسلوبا في التدوين، وتدوين ماحكيته لك، أبهرني!..حتى أني رأيتك في تصوير بعض المشاهد، كأنك كنت تجول في خاطري وأنت تدونها..من أين جاءتك هذه المقدرة في فن الرسم بالكلمات؟
فقال الشاب متعجبا:
- لكن من أعلمك أني أدون حكاياتك!؟.
دافع برهان أمام ولده محرجا:
- قبل أيام وأنت في الجامعة، احتجت شاحن هاتفك النقال، ووجدت أوراقا مكومة بالعشرات على طاولة الكتابة في غرفتك ... قل لي الآن: من أين اتقنت صنعة االتدوين الجميلة هذه؟
فقال الشاب بحياء:
- المكتبة، وملح الأرض الذي يقطر من حكاياتك.
ربت برهان العسافي على كتف ولده، وقال مشجعا له:
- أكمل ما بدأته، وإن انتهيت منه أعلمني، لأحكي لك عن زمن الحرب الأولى، الزمن الذي تشظت فيه القيم قبل أن يتشظى فيه الإنسان.
فسأله الشاب، بعد ان اطمئن لتشجيع والده على مساعدته:
- لكنك لم تقل لي ما كان قصدك بحكاية الشاة والحمار؟.
فابتسم الشيخ قليلا وقال متفكرا:
- يا ولدي ... (صمت طويلا وأضاف) كان خلاصنا مثل عفطة عنز، وركلة حمار.. كأننا ..كأننا وجدنا تلك اللحظة مثل وليد الشاة، هكذا كما خلقنا الله أول مرة..عراة، وحيدين، وما من كائن يرعانا غير غريزتنا، وغريزتنا رغم أنها قادتنا لطبيعتنا الفطرية، إلّا أنها ستهلكنا يوما، ورمز البرد الذي أخرج رأسه في تلك الحكاية، هو الذي سيجلد عظامنا ونموت بردا..طبعا أن بقينا نكابر هكذا دون معين.
فضحك الولد كثيرا، كأنه طفل اكتشف لغزا كان غائبا عنه وقال:
- ها...هذه فهمتها!....لكن ما مغزى الخنفساء والصرصار؟.
فرفع الشيخ أصبعه محذرا الولد وقال:
- عندما تكبر ويكون لك ولد مثلك، يملأه الفضول لمعرفة كل شيء، ويصادف أن يسألك في زمن الفوضى، عن زمن الفوضى هذا، ستتذكر حكايتي عن الخنفساء والصرصار... ربما ستحكيها كما هي، وقد تلهمك الحياة في وقتها حكاية أخرى، ويجوز أن لا يكون بطلاها خنفساء وصرصار مثل حكايتي!، ولا تسألني عن بقية الحكايات، فكل واحدة منها إرجعها للزمن الذي حدثت فيه، فقد حكيتها لك لتؤرخ زمنها وترمز لوتيرة الأحداث التي جرت فيه.
(سُلَّمَةُ حافة البئر من الأعلى)
حوم النعاس على جفني برهان العسافي، وسرى الخدر لذيذا في أطرافه، وطار خياله بين اليقظة والحلم، فاقتربت منه ندى لكنها ضاعت وسط حشود من الطلاب، وحث شرطي المرور سائقي السيارات على أن يَغِذّوا سير مركباتهم سريعا، كان يقف في وسط الشارع يرفع يده التي تحمل مضرب المنضدة، ليوقف سير جهة فيما كانت يده الأخرى تلوح للجانب المعاكس بالمرور، وقد اشرأب على أطراف قدميه، يرقب الجهة الأمامية لوقفته تلك، فبانت رؤوس بشر تزحف نحوه، كأنها أسراب دود تناسقت على درب دليل منها، وجد غنيمة حبوب كثيرة ، فترك لها أثرا من رائحة على دربها، لتسلكه نحو هدفها مطمئنة.
اقتربت جموع الناس منه، فتزاحمت الأرجل تركل الأرض مهرولة، وتقوست الجذوع تبحث عن توازنها مع حركة تدافع الأكتاف، لتشق طريقا أعْتُرِضَ من حلقة شباب، التفت لترفع قامة بالكاد يظهر الرأس منها، فعادة من يتبرع بالرفع هم أصحاب الكروش الذين يمنعهم ثقل أجسامهم من تحقيق أمنية أن يكونوا هم المعنيين لشحذ الهمم، فيستعيضوا عنها بتحمل بهلوانية الشباب فوق أكتافهم.
كانت الأرجل تتزاحم كلما تدانت من المقدمة، وتتبعثر في جوانبها لتجرجر الخطى في نهايتها، غير أنه استطاع أن يلمحها بين مجموعة الطالبات معصبة رأسها بالعلم، وكلمة (الله أكبر) تتوسط جبهتها، ولما تلاقت نظراتهما خطفا وسط غبار عجاج الشارع، تركت توسطها لمجموعة الفتيات، وتدانى هو الآخر منها جانبيا، ليحتك كتفه بكتفها، مثل قطبي مغناطيس تجاذبا لبعض، ودون أن يخططا تشابكت أصابع أيديهما من جهة كتفيهما المتلاصقين، وارتفعت يداهما الأخريتان مضمومتا الأطراف، تنثني مرة وتمتد نحو الأمام مرة أخرى متناغمة مع الهتافات.
تَضَيَّقَ الحشد السائر عندما وصل نهاية شارع الجمهورية ، واجتاز حديقة الأمة، فسحبها برفق نحو رصيف الشارع، الذي تكدست عليه أكوام علب الكارتون للباعة المتجولين ، وانحرفا مع انحناءة الشارع باتجاه ساحة التحرير، كأنهما عصفوران يلتفان على غصن شجرة ملتوٍ لجانب، وانسلا مرة أخرى مختلطين مع حشود المتظاهرين، وفيما كانت الأرجل في الشارع والساحة تزيح كل علب الكارتون، وتنحيها جانبا نحو حواجز كونكريتية تطوق منطقة رئاسية، تنتشر على محيط جدارها أبراج حراسة، فوهات بنادق حراسها موجهة خارج أسوارها، كانت الحناجر تهتف:
- خبز.. حرية.. دولة مدنية.
وعبر شق بين الكتل الكونكريتية إلى الداخل كان يبدو واضحاً، مشهد رجل دين يجلس على كرسي، وثمة خيمة خلفه كتب على ستار بابها (خيمة الاعتصام).
ثم اختلطت الصور بذهن برهان، وتشابكت أصابع يديهما مرة أخرى، لكنهما الآن وقفا على رابية عالية يرقبان نشوان الصحن يتقدم الحشود، وأصوات وراءه تحذره قبل أن يصل أطلال داره، ليثبت سارية علم بلاده وسط شق في سطح الدار، الذي فرشه على الأرض نسف براميل التفجير له، ووسط ذاك الخراب رأى برهان العسافي وندى ثمة عجوز تجلس تحت ظل شجرة وارفة الظلال، وحولها يلتفّ جمع من الاطفال، ملامحهم خالية من أيَ تعبير، ينصتون لها بلهفة مبهورين، وعيونهم مشدوهة ترنو لسبابة يدها التي تشير بها نحو السماء.
آذار/ 2017
[1] - التايلبر: قضيب معدني مسطح، يستعمله مصلح العجلات الهوائية لفتح الإطارات، وهو عادة ما يصنع من مادة الإستيل ليكون مطاوعا، وينحني مع اتجاه ضغط ساعد المصلح.
[2]- كان اسمه قصر الرحاب نسبة إلى قرية الرحاب في مدينة الحجاز مقر سكن العائلة الملكية في العراق، وقد تحول إلى مستشفى للأمراض العقلية في العهد الجمهوي،ثم دارا للتعذيب بعد العام 1963 تشرف عليه دائرة المخابرات العراقية،ومن يدخله كان يغيب جسدا وذكرا عن ذويه، واختلفت الآراء حول أصل تسميته بقصر النهاية، فرأي يقول هو نهاية كل تحقيق، وآخر يقول نهاية حياة الانسان الذي يدخله، وثالث يرجعه لنهاية العائلة الملكية التي سكنت فيه، يقع غربي محافظة بغداد، مقابل منطقة الحارثية ضمن حي المنصور، ما بين معرض بغداد الدولي وبناية الدفاع المدني، على نهر الخر، حيث كانت المنطقة عبارة عن مساحات فارغة، بل إنها آخر حدود بغداد آنذاك. وهي الآن آخر حدود منطقة الكرخ.
[3] - وسيلة تغييب كانت تستخدم مع المعارضين السياسيين العراقيين، يصار فيها الى إذابة جسد المعتقل في حوض مليء بحامض الأسيد وهو خليط من حامض النتريك والكبريتيك بنسب ثابتة، إنْ عجزوا عن انتزاع الإعتراف منه، وذكرت الدراسات التوثيقية لتلك الفترة، أن هذه الطريقة للموت أستخدمت في معتقل قصر النهاية وفي مديرية الأمن العامة للفترة الممتدة من شباط عام 1963 لغاية نهاية فترة السبعينيات.
[4]- عادة ما يكون قرصان التأريخ هو الذي يرفض أن يُصاغ التأريخ عكس ما يريده.
[5] - عقوبة قطع اللسان: عقوبة كانت القيادات الحزبية العراقية في الثمانينيات, تلوح فيها لكل من يتطاول في نقد الشخصيات الحزبية والسياسية العراقية, وكل من يسخر في الكلام ولو همسا ويصل لمسامع رجالاتها, وقد تم تطبيق هذه العقوبة ما بعد العام 1990 من قبل الجهاز القمعي لفدائيي صدام, لتطال مئات الناس التي بدأت تمتعض مما يجري في البلد, وممن جعلتهم تبعات الحصار، والجوع، والحاجة ينفسون عن غيظهم بالتهجم العلني، ونقد السياسة الداخلية، والخارجية للبلد، من خلال صناعة النكتة السياسية الساخرة وتداولها.
[6] - تسمية أطلقت على الجندي العراقي عام 1948 بعد مشاركة الجيش العراقي وصموده بمدينة الخليل في فلسطين.
[7] - دعاء باللهجة العراقية على من يحدث مفاجأة غير سارة، تجعل الداعي يفزع ويتمنى له عزاء مصيبة تصيبه.
[8] - فرقة الإعدامات: فرقة من بضعة أشخاص, درج الجيش العراقي وضعها خلف آخر خط عسكري يفصل الجيش عن المدن, ولا يسمح لغير العسكريين بتجاوزه للأمام, مهمتها إعدام كل عسكري تراه خائنا أو متخاذلا إثناء المعارك, وتكون قرارات الإعدام فيها فورية, دون محاكمة, وحسب مزاج آمرها.
[9] - جهاز عسكري مشفر لا يعتمد أسلوب التردد الرقمي، ويعدّ في ذلك الوقت من الأجهزة المأمون استخدامها لنقل الأسرار العسكرية, ويتميز بعدم قدرة أجهزة الاستمكان في تحديد موقع الجهة التي تستخدمه.
[10] - المعين: أحد صنوف سلاح المدفعية العراقية, وهو الشخص الفني الذي له القدرة على رصد أهداف العدو, واستخراج إحداثياتها على الأرض, وله القدرة على استخراج المعلومات من الإحداثيات, والتي يمكن تطبيقها على الفوهات النارية, وعادة ما يساق لصنفه الخريجون من الكليات والمعاهد العراقية.
[11] - القداح: أحد صنوف المدفعية العراقية, وهو كل عسكري يعمل داخل حظيرة الفوهة النارية, ويكون أحد أعدادها, ولا يشترط فيه إلا أن يكون ملما في القراءة والكتابة.
[12] - عبارة فارسية تعني في اللغة العربية: أرفع يدك.
[13] - نموذج عدم التعرض: نموذج ورقي لمنح النزول الوقتي للمراتب والجنود، يُعْلَّم من يدقق فيه أن حامله فلان مسموح له النزول ليوم واحد فقط، ويدوَّن تأريخ ذلك اليوم فيه.
[14] - العشار: منطقة تجارية تعدّ مركز مدينة البصرة, سميت بالعشار نسبة إلى المنطقة التي يتم فيها أخذ العشر من ثمن البضاعة التي تُوردْ, أو تصدر منها كضريبة, أو كرسوم كمركية, أو لاستعمال مينائها في عهد الدولة العثمانية, وفيها نهر العشار الذي يقسمها لنصفين.
[15] - الشعار الذي رفعه غالبية الثائرين على نظام الحكم عام 1991، وشوهد مخطوطا على جدران البنايات العالية، والسياجات الخارجية لمدارس المناطق الوسطى والجنوبية من العراق.
[16] - خيمة نصبتها قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات الامتحدة الامريكية في صحراء مدينة صفوان، التقى فيها وفد التحاف الدولي بقيادة الجنرال شوارتسكوف، مع وفد الحكومة العراقية بقيادة الفريق الركن سطان هاشم الدوري، ليقر الوفد العراقي من خلالها بخسارته في حرب الخليج الثانية، موقعا على إتفاقية سميت بإتفاقية خيمة صفوان، بقي الغموض يلف بعض بنودها حتى بعد العام 2003.
[17] - إصطلاح أشاعته السلطة على كل المشتركين في إنتفاضة آذار، وسميت أيضا الانتفاضة الشعبانية، عام 1991، والاصطلاح شاع بعد خطاب لصدام حسين أبان الأحداث، يتهم فيه كل من إشترك في الثورة عليه بصاحب هوية مزورة، وهو ترميز لعناصر المعارضة الذين تدعمهم إيران، والذين إتهموا في حينها بقيادة المنتفضين.
[18] - جهاز قمعي، إستحدث نهاية العام 1994 وقد شاع عنه الاسلوب الوحشي في تعامله مع المطلوبين السياسيين للدولة، يرتدي منتسبوه البدلات والاقنعة السوداء، وعلى أيدي عناصره جرى نحر الرؤوس، وقطع الالسن وصيوان الأذن لأول مرة في تأريخ العراق وبموافقة الدولة، والتباهي بالأمر بشكل علني، وبدعوة يجبر عليها أهالي المدينة التي تطبق فيها العقوبات على أبناءها، ويرأس الجهاز عدي صدام حسين،نجل الرئيس العراقي، وقيل أن عدي هو من أنشأه.
[19] - حركة قامت بالعراق في مدينتي الموصل وكركوك ضد حكم عبد الكريم قاسم، بقيادة العقيد عبد الوهاب الشواف في شهر آذار من عام 1959م، وإستمرت ليوم واحد، وهي حركة قومية رأت أن ثورة 14 تموز عام 1958 أخذت العراق من حاضنته العربية وأبعدته عن حلم الوحدة العربية الناشئة حديثاً بين مصر وسوريا، وذكرت الدراسات أنها قامت بتأييد ودعم من الرئيس جمال عبد الناصر، الذي لم يقدم لها دعم المغاوير، وسلاح الطيران كما وعد قادتها بذلك، وإكتفى مراقبا للاحداث،ثم وصفها بالفاشلة بعد أن قمعتها المقاومة الشعبية بقيادة عبد الكريم قاسم، وخمسة الاف من حشود الأيزيديين، وقبائل البرزاني الكردية، والفلاحين الآراميين الذين قدموا من تلكيف والأرياف الى مدينة الموصل.
[20] - لجنة أنشأتها الأمم المتحدة للرصد والتحقق والتفتيش، لتجريد العراق مما لديه من أسلحة الدمار الشامل (الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والقذائف التي يتجاوز مداها 150 كيلومترا) بموجب قرار مجلس الأمن 1284 المؤرخ في 17 كانون الأول/ديسمبر 1999.
[21] - صيحات أبي تحسين قرب مقر اللجنة الأولمبية العراقية، كما تناقلت نصها بالصوت والصورة، غالبية القنوات الفضائية العالمية الساعة التاسعة والنصف صباح يوم 9/4/2003، قبل عشرة ساعات من ازاحة الدبابة الأمريكية لتمثال صدام حسين المنصوب في ساحة الفردوس.
[22] - المصدر نفسه.
[23] - المصدر نفسه.
[24] - نص كلام الصحفي منتظر الزيدي وهو يرمي فردة حذائه الأولى، أثناء المؤتمر الصحفي في يوم 14 ديسمبر عام 2008، بين رئيس وزراء العراق نوري المالكي، والرئيس الأمريكي جوج بوش الابن، بمناسبة توقيع العراق للمعاهدة الستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
[25] - المصدر نفسه(أثناء رمي فردة الحذاء الثانية).
[26] - مثلث الموت: ظهر هذا الاصطلاح أبان فترة العنف الطائفي في العراق بين عامي 2005/2007 وأطلقت التسمية على المنطقة المحصورة بين جنوب العاصمة بغداد وشمال مدينة الحلة مركز محافظة بابل, والتي كان يختطف ويذبح ويغيب فيها الانسان المدني, على دلالة الاسم, والبعض الآخر يذبح على الدلالة الجغرافية لمسقط راسه, وكان تنظيم القاعدة في العراق بقيادة المدعو أبو مصعب الزرقاوي يتبنى عمليات الخطف, والذبح تلك, ويتباهى بفعلها، ليؤجج العنف الطائفي بين شيعة العراق وسنته.
[27] - قرية سديرة: قرية عراقية تابعة لقضاء الشرقاط في محافظة الموصل.
[28] - أحد أقضية محافظة نينوى، جنوب محافظة أربيل، يمرّ من خلاله خط أنابيب نفط حقول كركوك، كان بيد القوات الكردية أثناء سيطرة تنظيم داعش على محافظة نينوى.