(*) مهداة الي ادوار الخراط
المهندس سامي نجيب الموظف الكبير بوزارة الري المشهور في القرية بالرجل الطويل، الذي كان يظل ساعات طويلة واقفًا أمام الباب في مواجهة الحديقة دون أن يتحرك فقط الاستغراق في التدخين والنظر إلى المساحات الواسعة من الأراضي المزروعة بالسمسم والتين وأشجار الفواكهه حتى إن العمال لدى المعلم كانوا يتصورونه مخبولاً ولاسعًا ونهايته العباسية " إن شاء الله " حتى أصيب بداء لا يعرف أحد مصدره في صدره وطلب ندبه لري الفيوم كما أشار الطبيب، وانتقل إلى هناك مع الست (رندا) زوجته المتفانية حد الجنون وتعرف الخصال الدفينة الباطنية لزوجها الذي كان يحلم بأن يشتغل في الفن ويصبح مثل الفنان عبد الحليم حافظ، وانتهى به الأمر حبيس جدران البيت، يستغرق في الشرب ثم يهذي هذيان المحموم ويؤلف موسيقي شريرة تجعلها مفعمة بالشهوة وتندفع في الاستغراق في ممارسات جنسية شاذة. وعندما ترفض هذه الممارسات، كان ينزوي حتى يكاد يجف مرددًا: الجنس لذتي الوحيدة الباقية.
وعندما ماتت الست رندا وهي تلد ابنها عوض، اغتم وزاد هزاله وشروده الطويل، والسير في حدائق الفيوم وملاهيها وبحيراتها وعزف عن العمل في المصلحة، وأخذ يشرب في شراهة ويعود إلى البيت متأخرا حتى قرب الفجر...
وفي النهار يدور في الاستراحة ناظرًا إلى صورها المعلقة ذاهلاً، يخرج ويتأمل البنت عايدة البكرية، ويبكي في عنف (الشبه الخالق الناطق) ويمضي ذاهلاً. يخرج في عز البرد حتى تهتك صدره ومات في عز شبابه (قدس الله روحه وجعله مع المسيح في الأعالي).
عادت عايدة في صحبة أخيها وجدها المعلم نجيب، الى العزبة في ساعة متأخرة من الليل، وتم إنزال العفش وقام العمال بإدخاله وتخزينه في واحدة من الغرف الكثيرة في القصر وأغلق عليه بالمفتاح. المعلم نجيب دخل غرفته وبكى وحده ثم جفف الدمع وخرج إلى حديقة البرتقال واتجه إلى المنحل وجلس على الرمل والنحل يطن فوقه ويسرح على جسمه ويقرصه وهو شبه غائب يخرج أقراص العسل ويصفيها في كف يده حتى تمتلىء وتنزل لتختلط بالرمل هذا الرجل الذي ترك العمار وناس أتريس ودخل في عمق الجبل وغرس بيت وطلمبة وشجرة توت وماكينة وأخذ يروض الجبل في صبر لا يلين، وعزيمة جبارة حتى حول صخوره وهاده إلى مزرعة كبيرة يزرع فيها البرتقال، المانجو، الجوافة، الليمون. وضع فيها خلايا النحل لتدر له الشهد (كل دا تم بالجهد والعرق وسهر الليالي وبركة يسوع ابن الرب) وفي الصباح التالي كانت الفرس تلد وعندما ولدت، كانت مهرة جميلة سماها المعلم نجيب عايدة، وأطلقها تصهل في الحقول. كبرت المهرة، كبرت عايدة ونبت نهداها فخرجت تقف في الفراندا وهي تلبس فستانًا قصيرًا حتى ركبتيها وحبل قطن يلف حول كتفيها العاريين منقوش عليه زهور بنفسجية، وعيناها الوسيعتان تبرقان في وجه الشمس وشعرها الفاحم ينسدل حول كتفيها، وجسدها الريان بدأ ينمّل، وروحها الفتية تتقافز، وعندما أقبل جدها والست دميانة قبلتهما في فرح خالص.
تعالي يا بنت يا عايدة الكنيسة خلي أبونا يباركك، اشتعل اللهب في خديها وأطرقت في صمت.
* * *
خلاص يا دميانة هي حرة وسحب العباءة على كتفيه وسار وسط الحقول، وعايدة عيناها تبرقان في البراح تتبعهم حتى اختفوا.
اشتعلت الشمس وغاصت بالدم، وتسلل الهواء الرطب يطير ثوبها فدخلت إلى البيت وجاءت بالشرائط والبك أب ونزلت وسط الحقول تسمع أغنيات "أم كلثوم" فيروز، ماجدة الرومي عبد الحليم حافظ وتشم رائحة زهور الليمون الفواحة التي تدير الرأس حتى رأت المهرة عايدة تصهل فنزلت من على السلالم واقتربت منها فوجدتها مربوطة في قدم الصبي الأخرس شمندي بن عبد الله الكومي، الواد المقطوع الذي يؤويه المعلم في غرفة في آخر الجنينة والمتربي في المزرعة مذ كان صغيرًا، وكان يعمل بعلف البهائم التي يربيها المعلم...
كانت عايدة تقف فوق رأسه وهو لا يراها وشمندي عفي وعروق يديه تكاد تخرج من جلده، وعندما رفع قامته كان يبلل سترته الزيتية التي كان يلبسها على اللحم والغبار المتطاير يلتصق بلحمه وينزل مع العرق على صدره المشعر, رفع قامته رآها تقف أمامه, ترك الفأس واندفع الدم الساخن كله في وجهه الأخرس, وترك العرق ينز، وبص لوجهها الخلاسي، وسيقانها السمراء اللمعة، وعنقها الطويل والمعلق به سلسلة تنتهي بصليب مغروس بين نهديها، الولد ذهل وانفرط منه الدمع، مختلطًا بالعرق والغبار ونظر إلى السماء التي تكاد تنغلق عليهم، والشمس بدأ لهيبها الأصفر يختفي. اقتربت منه وغاص حذاؤها في التراب ومسحت دموعه بيديها الطريتين، وأخذت تمسح العرق عن رقبته ووجهه وصدره العاري.
اعتم الكون وسكن الكل في الغرف، تسللت عايدة من غرفتها، ومرقت من البهو وفتحت الباب مندفعة في اتجاه الحديقة تغوص في قلب الحشائش والقمر السائب يتبعها أينما سارت، وعندما سارت إلى شجرة المانجو تجده هناك ينتظرها في قلب العتمة تبتسم وتسترخي عضلات قلبها، وتسير جواره تاركه يديها له، يسير بها في طرقات متعرجة حتى يصل إلى الغابة فيحملها ويغوص بها في وسط الماء وتطقطق الطحالب تحت قدمه العريضة الخشنة ويدفع بيديه الأخرى الغاب المهوش، وهي مستسلمة غارقة في فرح يحتوي كل كيانها حتى اجتازا الغابة وظهرت الصحراء عارية إلا من رمل ناعم، شجر عكرش منطو، وأشجار شوكية خالية من الحياة فيخلع سترته ويفرشها لها ويجلس على ركبتيه ناظرًا إلى واحة عينيها، والقمر يقترب يفرش الرمال التي تضوي، هسيس النسيم يتسلل إلى جسده العاري. سرعا ما يتساقط مطر من عينيه يلمع في ضوء القمر كحبات لؤلؤ فتقوم عايدة وتمسح دموعه براحة بيديها وتميل عليه وتقبله في صمتٍ، تمص شفته السفلى، ويداها تمسكان شعره الهائش وتتركه يفتح بلوزتها ويمس نهديها الصغيرين في خوف ورهبة حتى يتسلل الفرح إلى جسديهما ويشتعل الدم الفوار وتطقطق عظامها أكثر من مرة وترتعش ركبتاه رعشات متقاطعة ويتساقط الندي رطبًا على الجسد العاري
وفي الصباح فرحة كانت تطارد فراشات وتقفز من مكان إلى آخر حتى بدأ يدب في حشاها شيء كدودة ثم باعدت ما بين ساقيها
- : يوه.
قالت الست دميانة بعد أن نظرت وتعجبت وهمست في أذن نجيب، وأخذت تدور في البيت تراقب عايدة في توجس وخوف، حتى حط المساء وغطى على الكون والمعلم يبتسم ويناغي عوض الحفيد وعندما كان الكل في مرقده انسلت عايدة وسارت في قلب الحدائق، وخطا المعلم على خطوها حتى رآها وقبض على المشهد بعينيه؛ فعاد في حذر يدور في أروقة السرايا ودهاليزها المعتمة حتى عادت عايدة.
كان ينتظرها وبجواره الست دميانة وشعرها الطويل هائشٌ وصدرها مفتوح والصليب يرقد ما بين نهديها. اقترب منها المعلم ومزع الصليب من رقبتها: أنت خطية يا بنت، وكمان من مسلم.
وصفعها بعنف فسقطت على الأرض ونز الدم من رأسها: خديها يا دميانة وراقبيها. سحبتها وصعدت بها السلالم وعايدة صامتة لم تكن تدرك ما جرى مرتبكة لم تع شيئًا، وكأنها مخدرة حتى وصلت إلى القبو الذي بناه المعلم في أعلي السرايا خصيصًا لأبينا كي يستريح فيه بعيدًا عن الضوضاء في أيام عيد الميلاد المجيد قبل أن تبنى كنيسة في أتريس.
صعدت الست دميانة مع عايدة حتى وصلت فوق سطح السرايا، وأخذت تفك القفل الصدىء. وعندما لم يفتح أحضرت لتر جاز وغمرت القفل فيه وعندما فتحت زيق الباب وشرخ الكون ودفعت عايدة في القبو وعادت لم تجد المعلم الذي دخل غرفة لا يدخلها إلا عندما يكون في مأزق كبير، وعندما دخلت عليه كان يصب لنفسه كأس نبيذ يصنعه على يديه، ناولها قدحًا: وبعدين يا معلم؟
الواد الأول نشوف له صرفة وبعدين تفرج. نامي، نامي أنت يا ستو. في هذه الغرفة تم رسم السيناريو الذي سيسير عليه القبط في بناء الكنيسة وبقوة المعلم فهيم والخواجة رزق بائع الذهب وكان رأيه واضحًا: إحنا معانا تصريح صحيح من الرئيس عبد الناصر لكن الحكاية عايزة شوية حذر... نعملها على مراحل خطوة، خطوة، قاعة اجتماعات، أفراح، مذبح، جرس كنيسة.
وعندما نظر إلى الحية الراقدة تنظر إليه في لا مبالاة، تذكر يوم تركها تنهش القصير اللعين الذي حاول أن يستولي على الأرض: وكان لازم أبكي عليه طول إقامة القداس آه. أومال أيه. نظر إلى الأفعى، وأمسكها من رقبتها وأخذ يمسد الشعر النابت فوق رقبتها وجسمها الأملس الناعم وعينيها الزجاجيتين الحادتين، أغمضت الحية عينيها، فمد المعلم يديه في جيب السيالة وأخرج سكينًا رفيعًا حادًّا وجز رقبتها مرة واحدة، وصفي السم في كوب صغير، وتركها تتقافز. ثم عاد إلى غرفته ونام حتى فرشت الشمس وجهها على الأرض قام ونزل إلى الحديقة وأدار الماكينة وأخذ ينظفها ويضع فيها الجاز. وقاس الزيت والفلاحون يروون الحوال البحري، كان واثقًا بأنه المنتصر وأن كل شيء سيسير وفق مشيئته: يا ما دقت على الراس طبول، حتى أصبحت هذه الرأس أصلب من الحجر، وهذا الصدر حاوي مكر وأسرار ومكائد لا تنتهي، رغم أن هذا الفخ الذي وقع فيه كان كارثيًا لن يستطع أن يفلت منه دون تشوهات، الولد ميت، ولكن البنت لم تعد بنت، ثمرة البرتقال أصابها العطب، الجوهرة انتهكت، كان يريد أن يجعلها سلاحًا حاميًا وكان يرسم على علاقة نسب تزرع الأمان داخله الفترة الباقية من عمره ولكن، السافل يجب أن يتعذب، الشرير يجب أن أرى النار تأكل فيه. وتنهشه وتمزق أحشائه.
وقرب اشتعال الشمس عاد إلى البيت وحمل سلة بها عيش وغرف من خلاياه قطفة عسل ودس فيها السم. وذهب بها إلى آخر الأرض. حتى وصل إلى كوخ الأخرس. فوجده نائمًا فنادى: يا شمندي. يا ولد يا شمندي. قام الأخرس فزعًا فأشار له المعلم. نزل الأخرس وهو متعب. أوديك للدكتور يا شمندى؟
أشار بلا، طيب تعال نلعب دور سيجة. أنا تعبان وعايز أتسلي في حاجة. ابتسم الولد شمندي وأشار بعلامة النصر... أخذا يلعبان في همة حتى هزم شمندي المعلم. فأخذ يضحك من قلبه. تعال. تعال يا ولد. إنت غلبت المرة دي. ماشي. وسحب الأرغفة والعسل وأكل. وضرب على صدره بعلامة القوة، وعندما تبعثر دم الشمس في الأفق سحب المعلم المنديل المحلاوي ووضعه في السيالة ثم حمل السلة وسار تاركًا الأخرس يدور في الحقول ناظرًا إلى القمر المخنوق وبطنه بدأت تمور... وبدأ يئن أنينًا خافتًا يتعالي شيئًا فشيئًا حتى لم يعد يحتمل فأخذ يجري باحثًا عن عايدة تحت أشجار البرتقال يخوض في الغاب والهيش ويفتش عن أثرها، يعود مرة أخرى يحاول أن يقترب من السراي ثم يعود. إلى البوابة المغلقة، قفز من على السور وجرى في المشاية، حتى أنهك وعرف بالحدس أنه ميت وعاد مرة أخرى يريد أن يرى عايدة، أن يراها ويموت، قفز على السور يبحث عن صوت. لا شيء إلا أصوات الضفادع وصرير الهوام وعندما لم يعد قادرًا على الاحتمال، جرى في الحديقة صارخا ولا مجيب سوى الفراغ. يقترب من السراي التي أطفأت أنوارها وبدت معتمة، يجري ويعوى في الفضاء عواء مرعوبًا يهز الكون وصوته يزداد وضوحًا: آيده. موت آيده. شندي موووووووووووووووت
وكانت عايدة تسمع صرخاته ونحيبه المؤلم في قلب العتمة، وهي تدور في القبو وقد ضربها الجنون فأخذت تضرب في الحائط وصوته يرن في أذنها آيده... موت آيده. تضرب في الحائط ويخرج جأرها كصوت عرسة تنبح في الفراغ مت... مت يا شمندي...
وفي الصباحات التالية كانت عايدة تلتصق بالحائط مدهوشة وشعرها الحوشي ونظراتها مفزوعة ويداها تلتصقان بركبتيها لتحميا بطنها التي تعلو شيئًا شيئًا!