يقدم الناقد والقاص المغربي قراءة للخطيبي تعتمد منهجه البالغ التفرد في التعرف عليه ومصاحبة إنجازاتها في سياقاتها الفكرية والسوسيولوجية والوطنية معا. وكأنه يقدمه في مرايا ذاته وهي تسعى للتحقق والتجاوز في آن.

التفكير في الخطيبي بواسطة الخطيبي

«Penser El Khatibi par lui meme»

محمد إشويكة

(1)

يمتزج التفكير في عبد الكبير الخطيبي لَدَيَّ بالتفكير في لقاءاتي به، تعرفت على بعض كتاباته منذ أن كنت تلميذا، وارتبطت ببعضها وأنا طالب بقسم السوسيولوجيا، وحضرت بعض لقاءاته (تحضرني واحدة بمعهد الأركيولوجيا في لقاء مفتوح مع الطلبة). وكان آخر لقاء لي به، بعد أن تكررت اللقاءات، وعرف انشغالاتي، خلال المهرجان السينمائي الدولي لمدينة مراكش في دورته السابعة (2007). فالرجل لم ينس قُرَّاءَهُ ومتتبعي كتبه وإنتاجه. دارت نقاشاتي الطويلة معه ببهو فندق المنصور بمراكش، وبالقرب من المسبح، إذ كنا نمشي ونتحدث جيئة وذهابا إلى درجة أثرنا فضول بعض المتمتعين بالمكان. كان نقاشنا حول اليابان، وقضايا الأصالة والمعاصرة، والمنهج والنظرية، والشكل والمضمون. إذ صرح لي بأنه لم يعد يميز بينهما، ولم يعد يهتم بالأمر.

إذا.. كيف نفكر في الخطيبي؟ وكيف نجعله حاضرا في مقرراتنا التي يحضر فيها بشكل محتشم إسوة بكل المفكرين المغاربة؟ هل نقول بأن الخطيبي أديب أم فيلسوف أم محلل نفساني أم لساني أم سيميائي أم لغوي أم ناقد.. أم كاتب وانتهى الأمر؟ لم يمارس الخطيبي السوسيولوجيا بمعناها الإحصائي الصارم والكمي، بل مارس السوسيولوجيا النظرية، السوسيولوجيا التأملية. ومارسها كيساري لم يهادن اليسار نقدا، وكأن السوسيولوجيا هي منهج ونهج اليسار في الدول المتخلفة، فأدخلها كفلسفة للتفكير في قضايا وحقول معرفية وفنية لم يَعْهَدْهَا البحث العلمي العربي خلال أزمنة معينة، فتأمل بحس فلسفي وسوسيولوجي الأدب (الرواية) والفن (التشكيل والخط والوشم والوشم) واللسانيات (اللغة، والازدواجية اللغوية). وأبدع في الرواية والشعر والمسرح. كما أن تحليلاته للوشم لا تخلو من رؤية الملم بالعلوم الإنسانية والفلسفة سيما التحليل النفسي والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا. 

(2)

مارس الخطيبي النقد كفعل فلسفي، بل كان كتابه/ منهجه النقدي التفكيكي المزدوج مدخلا مهما للتفكير في الإرث الفكري المغربي، والإرث الاستعماري، والفكر/ الاسم العربي الجريح. فانتقد السوسيولوجيا الكولونيالية، وانتقد الفكر الغربي. ولعل ما يتبادر إلى ذهني مقالته الشهيرة في "قراءة/ نقد/ لوم" جان بول سارتر التي منحها عنوانا جنائزيا دَالاًّ: "دموع سارتر" (Les larmes de Jean Paul Sartre). كما انتقد الصهيونية في كتاب مهم جدا أحب أن أترجمه كما يلي: "الحمى البيضاء: الصهيونية والوعي الشقي" (Vomito Blanco: Le sionisme et la conscience malheureuse)، مع العلم أنه حاور اليهود.. فكان بالفعل فيلسوف السوسيولوجيا، والسوسيولوجي الفيلسوف، وفيلسوف الموقف والحوار والانفتاح.. الناقد المفكر.

قدم الخطيبي نموذجا منيرا ضد كل الفاصلين للعلوم الإنسانية عن الفلسفة، وللفلسفة عن الأدب.. فهو لم يتوان قيد أنملة في استعمال منهجه المزدوج تارة، والمتعدد تارة أخرى، ليدخل في لعبة صراعية فكرية حية ضد قيم المجتمعات المغاربية والعربية التقليدية. 

(3)

كتب المغرب، وانطلق من المغرب، وفكر في المغرب بالمفرد وبالجمع، وقرأ الإنتاج العالمي من أجل التفكير في المغرب.. عشق اللغات وجعل من الازدواجية حبا دون أن يسقط في أية نزعة لغوية فجة أو أن يكتب للغرب ما يريد، كانت لديه اللغة أداة مهمة للتفكير في قضايا الذات المغربية بلغة الآخر، وأظن أن ذلك ما جعله يعيش في الفكر وحده غير طامع في الحظوة، فلم يكن إلا داخل ميادين البحث والعلم، ولم يكن في طابور الباحثين عن جوائز البهرجة والنجومية ـ رغم حصوله على بعضها ـ ممن يكتبون بلغات أجنبية.

كأي أديب أدرك هشاشة العلاقة بين الأدب والفلسفة، وكأي فيلسوف فطن إلى أن مجال الاشتغال على الحقيقة (كيفما كانت) يمر من اللغة ويتبلور عبرها، حطَّم الخطيبي المتاريس الفاصلة بين الأدب والفلسفة. فكان يكتب الشعر والرواية والسرد والمقالة والحوار ـ كتابه الحواري الشهير الموسوم بـ: (نفس الكتاب) "Le même livre" مع جاك حسُّون ـ بحس الأديب الفيلسوف، وبتأمل الفيلسوف الأديب: اشتغل على المفارقة في أعمق تجلياتها، وحاول تقديم أعماق الكائن عبر دلائل اللغة. فمارس الكتابة كمتعة بعيدا عن أي تسييج أو تضييق، يكتب وكأنه يقرأ، ونقرأه فندرك معنى ارتباط القراءة بالكتابة. ولعل أثر الخطيبي "القارئ/ الكاتب" و "الكاتب/ القارئ"، قد امتد إلى الكثير إلى "كتابات/ قراءات" العديد من النقاد والباحثين المغاربة إن على مستوى البحث أو التفكير أو الكتابة.

يكتب عن قضايا كبيرة، نحسها قضاياه، فيزول وَهْمُ فصل الذات عن الموضوع. مارس النظرية دون أن يجعلنا ندرك التطبيق القطعي السطحي لها، ومارس التطبيق دون أن يجعلنا نعي ثقل النظرية: علمنا بأن النظرية والتطبيق وجهان لعملة واحدة، لا يمكن للمتأمل أن يفصل ما هو نظري عما هو ممارساتي، ولا ما هو تطبيقي عما هو تأملي، لقد كتب الرجل بعيدا عن منطق الدُّوغْمَا... أظن أن الممارس يصعب عليه إدراك متى يبدأ التنظير، ومتى ينتهي التطبيق، والعكس بالعكس؟ لأن النظرية ببساطة ليست مجرد تطبيقات. وقد كان الخطيبي منظرا كبيرا للوجود والمعرفة والاستيتيقا.

إنه واحد من المثقفين المغاربة القلائل الذين أدركوا قيمة الفن والجمال في الحياة، وفي تبليغ الهموم الوجودية والإنسانية للكائن. كان يقرأ الأفلام بحس مختلف تماما عن أولئك التائهين في دوَّامَات ما يجوز وما لا يجوز، مسيِّجِينَ السينما في حدود لا أفق لها.. وكأن الحياة خالية من السينما.. إن السينما في الحياة!. 

(4)

فهل مات منتقد سارتر وفي نفسه غصة وجودية؟

لا يهم، المهم أنه علمنا كيف نفكر في الوجود وننتقده بطريقة فردية ومتعددة وبلغات أخرى، حاور المنظومات الفكرية، فأدرك معنى الثتاقف (Acculturation)، وأدرك قيمة ذلك في بناء الوعي.. فهم أن الهوية لا تُفْهَمُ إلا من خلال وضعها في المحك مع الغير...

لقد علَّم قارئه أن النقد سر الوجود، وأن فقدان الحس النقدي يعني فقدان الإحساس بالوجود ذاته.. وفي ذلك يتلخص موقفه من الوجود، ويكون قد بلغ المعنى الأنطولوجي للذات باعتبار فكره قد فتح أفقا مشرعا على المستقبل.

مات دون أن يقول إني فيلسوف.. وكأنه لم يتجرأ على ثقل الكلمة بالأمس واليوم، ترك الحكمة موشومة في "ذاكرته/ ذاكراتنا" وفي نضاله الطبقي الطاوي، وانصرف كما ينصرف الحكماء. سكت وهو الذي أُقْفِلَ معهد السوسيولوجيا في وجهه زمن رصاص السنين، فمارسها بحثا وكتابة! وانتصر للحكمة بعد أن تيقن بأن داء السوسيولوجيا قد استفحل واستشرى، وهي لا تحتاج إلى مؤسسة لأنهما على طرفي النقيض. 

قاص وناقد
www.chouika.com