الموسيقى والضوء يخلقان عالما مسرحيا ساحرا (مشهد من مسرحية "قمرة دم" لمعز مرابط)
المسرح ليس ممثلا ونصا وخشبة وجمهورا فحسب، هناك عناصر أخرى تعتبر من ركائز العمل المسرحي، مثل الإضاءة والموسيقى، ولكن التعامل مع هاتين الركيزتين عربيا ما زال منقوصا وثانويا أو كلاسيكيا، رغم ما لهما من تأثير كبير على المسار الدرامي والمكان المسرحي والأحداث والتلقي، خاصة مع التطور التكنولوجي الكبير الذي صار لزاما على المسرح العربي مواكبته.
(الشارقة) في إطار عملها على رفد المسرح العربي بالدراسات النقدية والنصوص الإبداعية والبحوث العلمية، تقدم الهيئة العربية للمسرح مؤلفين مسرحيين جديدين يتطرقان إلى عنصرين مسرحيين في غاية الأهمية هما الإضاءة والموسيقى. وأصدرت الهيئة كتابي “الإضاءة المسرحية البديلة.. التقنية الرقمية” تأليف المسرحي العراقي عماد هادي الخفاجي، و”الموسيقى والمكان.. آلية تصوير المكان المفترض في موسيقى العرض المسرحي” للناقد العراقي قيس عودة قاسم.
التقنية الرقمية تساهم في بناء وتشكيل الفضاء الدرامي
الإضاءة والدراما
يحمل كتاب “الإضاءة المسرحية البديلة.. التقنية الرقمية” لعماد هادي الخفاجي تسلسل “دراسات 80” ويقع في 203 صفحة من القطع المتوسط، مشتملا على مقدمة وأربعة فصول. ويقول عماد هادي الخفاجي في مقدمة الكتاب إنه “في الإطار الجمالي في فن المسرح لعبت التقنية الرقمية دورها الأبرز في خلق واقع جديد للتجربة الجمالية، من خلال لا نهائية الإمكانات المتاحة في المعالجة الفنية للقيم الدرامية، وبما ألبس العرض المسرحي بكامل أطره لبوس قدرة التأثير الفائق في إعادة تشكيل الوعي البشري من خلال الفعالية الفائقة لوسائط التعبير، ومن تلك الوسائط كانت الإضاءة المسرحية التي انتقلت من مفاهيمها التقليدية في المعالجة ومحدودية إمكانياتها إلى التجسيد الفائق والحضورية بمديات شاسعة لنقل القيم الدرامية وتصميمها في فضاء العرض المسرحي عبر خلق التركيبات المعقدة في الإنشاء البصري المحكم في التنفيذ والتجسيد لتلك القيم”.
ويضيف الباحث “لم تعد مهمام الكشف والإظهار والتكوين والطابع السيكولوجي وتعيين مستويات الحضور هي الاشتغال المحوري والوحيد لمصمم الإضاءة، فمع معطيات التقنية الرقمية أصبحت هنالك إمكانيات هائلة في بناء وتشكيل الفضاء الدرامي حسيا عبر التصميم المحكم للضوء الذي هو سحر المسرح ودونه ينطفئ المكان وتتلاشى قواه وأثره في إزاحة العالم الواقعي باتجاه تجربة عيش طقسي ينتظم عبرها فهم الذات لذاتيتها وموقعها من عالمها ومصيرها ومبدأها ومنتهاها، فلا مسرح بلا ضوء والضوء في معطيات التقنية الرقمية أصبح منبعا سحريا لا متناهي الإمكانات فتطرح الإضاءة المسرحية البديلة مغايرة ثورية لتراث المعالجة الفنية واحتواء خطابات الدراما في بنية بصرية حضورية فائقة التحقق.
يتناول الكاتب بداية مسألة التأسيس التقني للإضاءة المسرحية، والتي تعدّ من أهم عناصر العرض، ويتطرق إثر ذلك إلى عناصر التصميم الفني في التقنية الرقمية، موزعا مبحثه على ثلاثة أجزاء هي التقنية الرقمية وعملية الرقمنة، والرقمنة والمتغير الحضاري، والمجتمع الرقمي.
وخصص الخفاجي الفصل الثالث من الكتاب ليفكك خصائص المعالجة بتقنية الإضاءة المسرحية البديلة، وعدد أبرز عناصرها بداية بالكمبيوتر، خاصة لغة الكمبيوتر ونظام العدد الثنائي، ليبرز طرق الإضاءة المسرحية وتوزعها بين الضوء واللون والضوء بصريا ومبينا صفات الضوء وخصائصه من الضوء البصري إلى الألوان الرقمية والأنظمة اللونية الضوئية ونظام الألوان الطباعي، وغيرها من خصائص الإضاءة.
ويختتم الباحث العراقي كتابه بفصل خصصه لقراءات ومقاربات في تجارب التقنية الرقمية في الإضاءة المسرحية البديلة.
ونذكر أن عماد هادي الخفاجي حصل على براءة اختراع خاصة بمشروعه “الإضاءة المسرحية البديلة” عن تطوير جهاز عرض البيانات كبديل ضوئي في العرض المسرحي، وقد جاءت براءة الاختراع من خلال التقييم العالي من قبل ثلاثة مقيمين لبراءة الاختراع المرقمة (5218) والاختراع له أهمية عالية في إحداث تغييرات مهمة على مستوى التوجه الفكري لمصممي الإضاءة المسرحية بهدف إعادة تشكيل الإنتاج وتوظيف التقنية الرقمية في الفن المسرحي المعاصر، والبراءة هذه كما قال الخفاجي هي بداية لمشروع قادم ومهم بتصنيع جهاز الإضاءة الرقمي الجديد.
المكان والموسيقى
أما الكتاب الثاني الصادر عن منشورات الهيئة العربية للمسرح بعنوان “الموسيقى والمكان.. آلية تصوير المكان المفترض في موسيقى العرض المسرحي” لقيس عودة قاسم، فيحمل رقم 79، ويقع في 180 صفحة من القطع المتوسط.
رافقت الموسيقى أحداث المسرح تاريخيا، يقول مؤلف الكتاب في المقدمة، ولم يقتصر دور الموسيقى على مصاحبة الحوار وملء الفراغات، بل أخذت مساحة واسعة في محاكاة الأحداث الدرامية وتصوير الفضاء المسرحي، إذ يمكن أن تأخذ الموسيقى وظيفة درامية تلعب دورا إبلاغيا بمكان الحدث، وتمنحه أبعادا افتراضية ذات دلالات وشفرات غير موجودة للعيان تنتجها صورة الموسيقى بشكل افتراضي، والتي تشكل نوعا من التأثيث السمعي.
دور الموسيقى في التكوين الافتراضي لصورة المكان الدرامي
ويرى قاسم أن صورة الألحان تمتلك نظاما من العلاقات المتجانسة والدلالات المتناغمة التي تكون صورة متخيلة (افتراضية) للمكان في العرض المسرحي، وهنا المكان، ليس ذلك المكان المجسد للعيان. بل هو المكان الذي نسمعه، مكان متخيل افتراضي غير عياني يتجسد بأصوات ومؤثرات الموسيقى وإيقاعاتها التي ترافق الصورة الدرامية للعرض المسرحي.
ويتناول الكتاب موضوع المكان المسرحي بوصفه أحد العناصر المهمة، فهو الذي يحوي الأحداث الدرامية، فمن غير الممكن أن تكون هناك أي أحداث ما لم يكن هناك ثمة مكان. إنه ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، ولطالما كانت مثار جدل في تحقيق العمل الفني ولاسيما المسرح. على مستوى الكتابة والعرض المسرحي، باعتبار أن لكل عرض مسرحي حدوده المكانية الافتراضية.
تشتمل محتويات الكتاب على مقدمة بقلم المؤلف وستة فصول وخلاصة وقائمة بالمصادر. حيث بدأ قاسم مبحثه من تحديد مفهوم المكان، عن طريق قراءة في الفكر الفلسفي، متناولا ثيمة المكان في فكر الفلاسفة المحدثين، ومقدما صورة له بين الواقع والخيال.
ومن ثم يبين الباحث دور الموسيقى في التكوين الافتراضي لصورة المكان الدرامي، ليرسم صورة للمكان بين مفهوم المؤلف الموسيقي ورؤى الإخراج المسرحي، ويختتم قاسم مبحثه بتحليل بعض النماذج المسرحية.
ونذكر أن الدكتور قيس عودة قاسم نشر بالإضافة إلى “الموسيقى والمكان.. آلية تصوير المكان المفترض في موسيقى العرض المسرحي” عدة كتب أخرى، في مواضيع غير بعيدة عن مضمون هذا الكتاب. نذكر من بينها “دور الموسيقى في دعم الصراع الدرامي” و”التأليف الموسيقي في العرض المسرحي” و”الموسيقى التصويرية / مدخل في فلسفة وجماليات الموسيقى المسرحية”.