يكشف هذا المقال عن أن لدى الخطيبي منهجية ذات عمق استراتيجي، تقطع الحدود، وتتجول في دروب الجرح والأمل، لا من أجل التوصل إلى وصفة سحرية وعجائبية للشفاء والاطمئنان على صحة الحاضر، بل من أجل بحث أركيولوجي في أعماق الجروح وخباياها، تلك التي لا تستطيع الوصفات الكبرى والفخورة بإعجازها المزعوم أن تقدم لها دواء حقيقيا، إلا من حيث تحجب مواطن المرض، وتتجاهل علاماته ورموزه، وتزج به في سراديب المطلق اللاتاريخي.

مفهوم النقد عند الخطيبي

فريد لمريني

"يريد الآخرون أن يؤطروني في خانة ما، والحال أني ممتهن لقياس المساحات". هذا ما قاله عبد الكبير الخطيبي بالتحديد، حين سئل ذات يوم، عن طبيعة التزامه النظري، وعلاقته ككاتب بالمجتمع، وفي معنى الالتزام بالنسبة إليه، استطرد موضحا "الالتزام بالنسبة لي (ولنحافظ لهذه الكلمة على معناها السارتري)، هو تحويل ما أحسه، وما أفكر به إلى شكل أدبي وإلى شكل كتابة".

هل هناك فعلا كتابة عربية أو غير عربية، عصية على التصنيف والتأطير؟ ألا يمكن القول إن كل كتابة، سواء أكانت فكرية أم إبداعية، تنخرط بالضرورة في إطار عام أو مرجعية شمولية، بمعنى أنها تنتمي حتما ولزوما إلى أصل أو نموذج، أو فضاء إيبستيمي ودلالي معين؟ بعبارة أخرى، هل يمكن لكاتب ما أو كتابة ما أن يكونا "امتهانا لقياس المساحات"؟

يجيبنا الخطيبي في مكان آخر، وفي سياق مغاير وغير مباشر، حين يقول إن المثقف "سواء أكان مناصرا للعقل المطلق أو للحكمة في خدمة الإنسان، أو كان مناصرا لقضية أو مثل أعلى، فهو مطالب بأن يتكيف باستمرار مع المبادئ والقيم التي يدافع عنها، وبالتالي فهو مرغم على سلوك موجه لذاته، لأن عمله هو تحريك الفكر وتحليل المجتمع لا إدارته".

ما معنى اليوم أن يستطيع الفكر التوجه لذاته، وما معنى أن يستطيع ممتهن التفكير أن يفلت من غواية الإدارة بمفهومها الشامل والمؤسساتي، ما هي المسافة الفاصلة بين الفكر كفعالية نقدية، وكنشاط ثقافي حر أي " موجها لذاته"، وبين الإدارة، كسلطة اجتماعية وسياسية واقتصادية، أي كنسق لعلاقات وسلوكات وأنماط من التفكير والقول غير حرة على الإطلاق؟ وبعبارة واحدة، ما معنى أن يتخلص الفكر، كنقد وحرية، كذات لذاتها، أو "كقياس للمساحات" القريبة والبعيدة، من نفوذ الرقابة، وسلطة الإدارة على الكتابة بالتحديد؟

هذه الأسئلة الكثيرة، استبدت بذهني، حين استعرضت المسار الفكري والإبداعي لعبد الكبير الخطيبي، كمثقف وكاتب، وبدت لي تجربته الغنية في الكتابة والحياة، شهادة أصيلة اليوم، على الوضع القلق "لمثقف في المدينة"، أراد أن يكون شاهدا على عصره، بإعلان تجاوزه، فكانت هذه التجربة علامة بارزة على مفارقة ممتعة ومؤلمة في الوقت نفسه، وهي حتمية تجاوز الفكر لعصره من جهة، وحتمية تكيفه معه، من جهة أخرى، إذ إن "المراس والتكيف وإرغام النفس هي مهام المثقف، مهامه في المدينة، حتى لو كان متجاوزا لعصره".

بين عناد الكتابة كتدخل عنيف في أحوال المجتمع، وإكراهات الحياة التي تفرض التكيف والمرونة، تسكن نصوص الخطيبي بالضبط، وتعلن عن نوع من الاستقلالية الاستثنائية، ولكنها تعلن أيضا عن نوع من غرابة الكتابة، واغترابها عن عصرها، من حيث التزامها المستميت والعنيد بقضاياه وهمومه وأسئلته! يقول الخطيبي: "إني أحافظ على التزامي باستكشاف قضايا وثقافات أخرى غير ثقافتنا، فأنا باحث يستكشف منظورات متعددة ومواقع نظر إلى موضوعات وقضايا وأشياء تضعني في موطن مخاطرة".

تمنحنا تجربة الخطيبي في الكتابة والحياة مشهدا عميقا لكينونة الفكر في علاقته بالواقع، فالفكر بهذا المعنى، يرفض بعناد وصايته على المجتمع والتاريخ، على الماضي والحاضر، ومن ثمة بالذات فرادة هذه التجربة وتميزها، ولكن أيضا وضعها المأساوي كقول يعيش وينمو خارج النسق، أعني في الهامش. إن تصور الخطيبي لمهامه ومسؤولياته كمثقف في المدينة L'intellectuel dans la cité أي كشاهد على عصره، يطابق تصوره لمفهوم الكتابة نفسها، إذ من حيث يرفض الأنساق والإيديولوجيات الكبرى، ويمارس عليها نقدا عنيفا وجريئا، يرفض كذلك كل هوس بعرض مشروع فكري يبين فيه طريق الخلاص لهذا البلد أو لهذا المجتمع، ويقدم فيه للحاضر مفاتيح الألغاز التاريخية التي تجعله يتقدم نحو المستقبل. بعبارة واحدة، فإن الخطيبي، من حيث يستبعد من فضاء الكتابة كفعل ثقافي مهام الإدارة وطقوسها، يستبعد أيضا طقوس النبوءة ومهام النبوة. إنه يرسم فقط شهادة، بالمعنى الأنطولوجي والاستطيقي، لا الأخلاقي أو القانوني، فالشهادة ليست عنصرا من عناصر النسق إلا من حيث مطالبتها بقول الحقيقة.

إن الشهادة فعلا، أحد العناصر المكونة للنسق، لكنها في الصيغة التي تخيلها ومارسها الخطيبي، ترفض الحقيقة بالمعنى النسقي والمؤسساتي، لأن غايتها هي فقط تعقب آثار الحقيقة وبصماتها في الحاضر. إن الحقيقة بهذا المعنى، استعارة بالمدلول الذي تصوره فلسفة نيتشه. إنها علامة أو رمز، لا تأخذ حيِزها الأصيل داخل النسق إلا بالعمل على تفجيره.

الخطيبي، هذا العاشق المتيم بالعلامات والرموز، بالحروف والصور والأشكال، هذا الباحث المولع برصد جروح هذا المجتمع وانكسارات هذا الحاضر البئيس، قدم شهادته من حيث هي فريضة من فرائض الفكر الحر الطليق، وجعل من النقد بالذات فريضة متعلقة بمصير هذا الحاضر، لهذا تخيلها وطبقها كاستراتيجية شاملة وجذرية، لا من أجل قول الحقيقة أو البحث عنها، بل من أجل تعقب آثارها المبعثرة في الأفق، أعني تعقب خطوات حراسها وضحاياها في الوقت نفسه.

في هذا السياق بالتحديد، تحول النقد إلى تصور عام للعالم، إلى منهجية ذات عمق استراتيجي، تقطع الحدود، وتتجول في دروب الجرح والأمل، لا من أجل التوصل إلى وصفة سحرية وعجائبية للشفاء والاطمئنان على صحة الحاضر، بل من أجل بحث أركيولوجي في أعماق الجروح وخباياها، تلك التي لا تستطيع الوصفات الكبرى والفخورة بإعجازها المزعوم أن تقدم لها دواء حقيقيا، إلا من حيث تحجب مواطن المرض، وتتجاهل علاماته ورموزه، وتزج به في سراديب المطلق اللاتاريخي.

باحث مغربي