ولد الروائي الإسباني كارلوس رويث زافون، الذي أسس قارة عالمية تجاوز عدد سكانها الخمسين مليون قارئ، في 25 سبتمبر/أيلول 1964 في برشلونة، وتوفي مؤخراً في 19 يونيو/حزيران 2020 في لوس أنجليس في كاليفورنيا، جراء معاناة قاسية مع مرض السرطان الذي سرق منه ومن قرائه عمراً مليئاً بالقصص والحكايات المدهشة. عاش في عائلة بسيطة مكونة من أب عامل في الضمان الاجتماعي، وأم سيدة بيت، بلا وظيفة إلا وظيفة الأمومة النبيلة. قضى طفولته كلها عند الجزويتيين، حيث بدأ تجلي موهبته وسط عالم، بقدر ما هو ساحر بالنسبة لعين الطفل فهو مخيف لأنه مليء بالأسرار والدهشة. خرج بسرعة من دائرة الديني حينما التحق بوكالة الإعلانات الذي اختبره عن قرب وعرف آلياته المختلفة، الأمر الذي سيساعده لاحقاً على توصيل رواياته إلى قرائه. ترك بعدها هذه المهنة التي استنزفته، وتفرغ نهائياً للكتابة للشباب، التي كان يشعر أنها هي طريقه الأسمى. فكتب «أمير الضباب» (1993)، وهي رواية موجهة للشباب، عالمه الأثير الذي راهن عليه في بداية حياته الإبداعية، ورواية «قصر منتصف الليل»، متوجهاً إلى الفئة العمرية نفسها، قبل أن يتركها، دون أن يتخلى عن عوالمه الطفولية الساحرة، وينتقل نحو الكتابة للكبار، من خلال روايته البيست سيلر التي عبدت طريقه بصلابة «ظل الريح» (2001) التي حازت جائزة بلانيتا في 2004 لأفضل رواية أجنبية. اعتبرت هذه الرواية الجزء الأول من سلسلة مقبرة الكتب المنسية، وتلتها «لعبة الملاك»، لتكتمل الثلاثية، ثم الرباعية، برواية «متاهة الأرواح». عرفت رواياته انتشاراً عالمياً كبيراً، فترجمت إلى لغات عالمية كثيرة تجاوزت الخمسين لغة ومنها اللغة العربية، مما جعله يحتل في التصنيف العالمي للإبداع مرتبة عالية. أقام منذ 1993 حتى وفاته في مدينة لوس أنجليس، متفرغاً لرواياته وللسينما. فماذا عن هذه الرباعية الغريبة والمدهشة التي شكلت البنية الأساسية لمشروع كارولس رويث زافون الروائي. في «ظل الريح» يسترجع الكاتب برشلونة في فترة ما بعد الحرب الأهلية التي دمرت المدينة ودمرت أيضاً تضاريس الروح الداخلية، ولم تخلف إلا الضغائن والأحقاد. ذات صباح من صباحات 1945، يخرج أب دانييل سييمبري، الذي يعمل كبائع للكتب المستعملة برفقة ابنه، في اتجاه مقبرة الكتب المنسية التي تقع في الحي القوطي. الطفل الذي ظل مشدوداً في كل أحلامه إلى أمه التي ماتت بشكل غامض، يأخذه الأب نحو الطقس العائلي في مقبرة الكتب المنسية، فيطلب منه أن يتبنى كتاباً من بين آلاف الكتب. ويلتقي بالكتاب الذي سيغير حياته كلياً ويقوده نحو سلسلة من مغامرات لا تنتهي، ويدخله ذلك في المتاهات والأسرار التي دفنت في روح المدينة.
هذه الرواية نبهت النقاد إلى تمايز تجربة زافون التي انطلقت منذ تلك اللحظة؟ الجزء الثاني: رواية «لعبة الملاك». نحن في سنة 1920. ديفيد مارتين وهو صحافي شاب، يكتب مسلسلاً تحت اسم مستعار ينتهي به ذلك إلى شهرة كبيرة، لكنه يستعبد بهذا المسلسل ويستنزف، فيصمم بعد سنوات أن يتوقف عن الكتابة لتدوين سيرته. يمنحه ناشروه تسعة أشهر لكتابة روايته الخاصة، لكنه للأسف، تحت الحصار النقدي يخفق في كتابه. صديقه بائع الكتب القديمة سيمبيري، يختار تلك اللحظة ليقوده إلى مقبرة الكتب المنسية كما فعل معه والده، وهناك يضع مارتن ديفيد كتابه. فجأة يأتيه مقترح لطيف وغير محسوب من ناشر باريسي كبير اسمه كوريلي يطلب منه أن يؤلف كتاباً تأسيسياً شبيهاً للكتاب المقدس، حيث يستعرض فيه قدرة البشر على العيش والقتل والتدمير الذاتي. في اللحظة التي يوقع فيها عقد الكتابة، يبدأ تتالي الجرائم الغامضة، والقتل، والرعب، فتحاصر هذه الآلية السرية ديفيد الذي يكون قد باع نفسه للشيطان ببيع حريته. يبدأ ديفيد تقصي حقيقة الناشر الغامض الذي يملك قوة غريبة عابرة للزمن والمكان.
الجزء الثالث هو «سجين السماء». في سنة 1957، في عز احتفالات أعياد الميلاد، شخص غريب يشتري من مكتبة دانييل سيمبيري نسخة من كتاب الكونت دي مونت كريستو، ويهديه لصديق صاحب المكتبة، فيرمان، التي اشترى الكتاب منها، مرفقاً بإهداء فيه شيء من التهديد. من يكون هذا الغريب الذي حل فجأة بمكان ليشتري كتاباً لا يقرأه؟ وعندما سال دانييل سيمبيري صديقه فيرمان، عن سر هذا الرجل، يعلن له عما أخفاه عنه دائماً. فيقص عليه قصة سجن مونتجويك في 1939، الذي كان فيه مجموعة من السجناء حكم عليهم بالموت بهدوء، من بينهم فيرمان وديفيد مارتان، كاتب مدينة الملعونين. وبعد محاولات، يهربون من المعتقل، حاملين في أثرهم شيئاً قاموا بسرقته. تتبعهم لعنة ما، لعنة المكان، لعنة التاريخ الفردي والجماعي، التي تأسرهم وتتبعهم أينما حلوا. ويتحول كل شيء إلى مرآة كاشفة عن دواخل البشر من ضغائن وأحقاد.
في الجزء الرابع: «متاهة الأرواح»، يعود الكاتب إلى التركيز على مدينة برشلونة في سنوات الرصاص، في فترة فرانكو. ودون سابق إنذار، يغيب أحد وزراء فرانكو. لم تفض عملية البحث عنه إلى أي نتيجة، فتبدأ آلة الجريمة الفرانكوية تشتغل من خلال الترعيب والتخويف والاغتيالات والقاتل المجاني. لكن الشابة آليسيا غريس، التي كبرت داخل دهاليز النظام الفاشي، تقوم بعملية التحري والبحث عن الوزير المختطف؟ إلى أن تقودها أبحاثها.. إلى المكتبي دانييل سيمبيري. لم يعد دانييل ذلك الطفل الذي غير كتابُ المقبرة المنسية مصيره، ولكنه كبر وكبرت معه أسئلته الوجودية. فقد أصبح شاباً تخترقه الحيرة والحزن والغضب. الموت الذي أخذ والدته فتح في قلبه متاهات خطيرة لم يكن قادراً على تخطيها، ولم تستطع لا زوجته بيا، ولا ابنه الصغير خوليان، ولا صديقه الوفي فيرمان، إخراجه من وضعه الصعب والميؤوس منه، إلى أن تصل المحققة أليسيا غري، إلى عين المكان وتضعهم وجهاً لوجه مع تاريخهم العائلي الفردي والجماعي، وتجبرهم على مجابهة أقدارهم وأسرارهم التي ظلوا يهربون منها.
هذه الرباعية، وربما الخماسية لو امتد العمر بزافون قليلاً، منحته الشهرة وحب القراء له، لدرجة أنها شكلت له عقدة مع الزمن، إذ أصبح سجين مقبرة الكتب ولم يخرج عنها إلا قليلاً. قراؤه ينتظرون منه بعد كل إعلان عن إصدار جديد، يفكك أسرار هذه المقبرة الغريبة.
جريدة القدس العربي