لاتسعى هذه الدراسة المتقصية لأحدث دواوين الشاعر الفلسطيني الكبير إلى إماطة اللثام عن طبقات المعنى الثاوية في قصائد ديوانه الجديد فحسب، وإنما تقدم معها حفرا في أركيولوجيا العنوان، وتحليلا لبنية القصيدة في هذا الديوان، ولتنويعات الشكل وتشكلات المعنى المختلفة فيه

سُبحة لسجّلات سميح القاسم

نبيه القاسم

مدخل أول
ليس غريباً أن يجد القارئ نفسه عاجزاً عن فهم معظم قصائد ديوان سميح القاسم الجديد "سبحة للسجلات" وأن ترتسم علامة الإستفهام الكبيرة أمام عينيه منذ قراءته لإسم المجموعة. فسميح القاسم الشاعر المُبدع. المتجدد دائماً والمتطور أبداً، يأتينا مع كل ابداع جديد بقفزة. تحتاج الى الوقت والتعمق ليفهمها القارئ ويتقبلها... وابداعاته لا تشكل حلقات متقطعة وانما هي حلقات متواصلة متكاملة، تكون الواحدة ممهدة للتي تليها ومتممة للتي سبقتها.. حتى توزيع أعماله الشعرية على مجموعات توصلنا الى هذا الترابط الوثيق بين حلقات الإبداع المتواصلة المنبثقة من وضع الإنسان الفلسطيني الموزع على كل مساحات العالم القريبة والبعيدة... فالدواوين الثلاثة الأولى "مواكب الشمس، 1958 وأغاني الدروب، 1964 وسربية إرم، 1965" تصور انطلاقة الإنسان العربي بعد سنوات الخمول والإتكالية الطويلة، ورغبته في مقارعة كل الطواغيت، ومطاولة الشمس وتحقيق المستحيلات، وبناء مدينته الفاضلة "إرم" حيث تسود المحبة ويعم السلام بين جميع الناس.

وكانت الدواوين الأربعة "دمي على كفي 1967، دخان البراكين 1968، سقوط الأقنعة 1969، ويكون أن يأتي طائر الرعد 1969، سربية اسكندرون في رحلة الخارج ورحلة الداخل 1970"، استجابة للفرحة التي عمت كل نفس فلسطينية لإنطلاقة الثورة الفلسطينية بقيادة "فتح" نواة منظمة التحرير الفلسطينية وردّة قوية وواثقة للنكسة التي أصابت الجيوش العربية في حزيران 1967، وتعبيراً عن الإصرار العربي الفلسطيني على أخذ المبادرة والإنطلاق لمواجهة الأعداء واسترداد العزائم والهمم العربية التي أصابها الشلل والوجوم والإكتئاب، أمام كِبَر النكسة وذُلّ الهزيمة. أما سنوات السبعين وما رافقها من انفجار الصراع في لبنان والنكسة التي أصابت كل عربي يؤمن بانتمائه القومي، وفلسطيني يتمسك بتراب وطنه أينما كان، فقد عبّرت عنها قصائد سميح القاسم في دواوينه التي طغت على عناوينها كلمة "الموت"، إذ كان الموت الروحي والجسدي حصة الفلسطيني في أيلول الأسود في الأردن، وفي تل الزعتر والشياح وعين الرمانة في لبنان، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي الجليل والمثلث في يوم الأرض في الثلاثين من آذار 1976 وهي: قرآن الموت والياسمين 1971، الموت الكبير 1972، مراثي سميح القاسم 1973، إلهي إلهي لماذا قتلتني 1974، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم 1976، سربيه ثالث أكسيد الكربون 1976.

وصوّرت قصائد الدواوين الأخيرة: جهات الروح 1983، قرابين 1983، سربية الصحراء 1984، برسونا نون غراتا 1986، لا أستأذن أحداً 1988 صمود الفلسطينيين البطولي في الجنوب اللبناني وبيروت وطرابلس، قبل وأثناء الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وخروجهم وما رافق ذلك من حزن ويأس وإكتئاب، حيث حملت السفن اليونانية يوليسيز الفلسطيني في رحلة البحار الطويلة، ليجد له موطئ قدم، بعد أن طارده العدو وجافاه الأهل وشمت به الخصوم.

وهنا نحن نعيش مرحلة البعث الفلسطينية واقتراب تحقيق الحلم الكبير في إقامة الدولة الفلسطينية، فالانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت في التاسع من كانون الثاني عام 1988 في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما حملته هذه الانتفاضة من بذور التغيير في العقلية الفلسطينية والعربية والعالمية، إنما تمثل دور الكشف الفلسطيني واقتراب يوم الحساب الفلسطيني وتجلي قائم الزمان الفلسطيني وتجسد الإله الفلسطيني على أرض فلسطين، موطن الديانات السماوية وفردوس الله على الأرض.

هكذا نستطيع الولوج إلى "سجلات سميح القاسم" ونحن مدركون لهذا التداخل الاستطرادي الإبداعي والعمق في الرؤية والبُعد في الرؤيا، والتمسك بالطريق الملتزم الواضح، المصر على تحقيق الغاية وتجسيد الحلم.

مدخل ثان
لا بد للقارئ قبل مواجهة سجلات سميح هذه، أن يعي بعض القضايا المهمة التي يتميز بها سميح القاسم في انطلاقته الشعرية ومسيرته الغنية بالعطاء:

الأولى: أنّ الباعث الأول والقوي لهاجس الشعر عند سميح القاسم كان الحسّ القومي العربي الذي فجّرته نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948، وبعثته انطلاقة ثورة الضباط الأحرار في 22 يوليو 1952 في مصر والمشاعر القومية العربية التي فجّرها وأرساها جمال عبد الناصر في كل أرجاء الوطن العربي. وليست قصائد سميح الأولى في ديوانه الأول "مواكب الشمس" الا نشيداً قومياً متواصلاً يتغنى بالثوار في كل بقاع العالم العربي، ولم يخمد وهجُ هذه المشاعر القومية في قصائد الدواوين اللاحقة.

الثانية: إن البيئة التي ولد فيها سميح وكبر، تميزت بالانفتاح على العلم والثقافة والسّعي للمزيد منها، إضافة إلى الجو الديني المتنوّر البعيد عن التعصب والإنغلاق مما سمح له أن يطلع على مختلف المعتقدات الدينية ويُعمل فكره في المقارنة بينها وكشف المشترك المُوَحّد بين الجميع.

الثالثة: المناخ العلمي والثقافي إضافة إلى الديني المتنور دفعا سميح إلى الاهتمام بالبحث والسؤال والمعرفة، مما أوصله الى اكتشاف حقائق كان يجهلها وهي أنه يعود بانتمائه المذهبي الى طوائف دينية، كان لها الباع الطويل في دفع الفكر العربي والفلسفة العربية الإسلامية خطوات الى الأمام وفي القدرة على استيعاب الفكر والفلسفة اليونانية والهندية والفارسية وإغناء الفكر العربي الإسلامي بهما: وأنه يعود بانتمائه إلى أحد دعاة القرامطة الثوريين مما ترك بصماته على تكوين سميح النفسي والثقافي والاجتماعي والسياسي.

الرابعة: اعتناق سميح القاسم للفكر الماركسي اللينيني، واقتناعه بان العالم لا تصلح حالته الا بانتصار الفكر الاشتراكي الماركسي.

صدمة الواقع
كان الواقع الاجتماعي الاقتصادي والفكري وخاصة السياسي الذي يحيط بسميح مناقضاً ومحطماً لكل الأحلام الكبيرة التي رسمها لنفسه، فشعبه العربي الفلسطيني شرد بعيداً عن الوطن، وإخوة وأصدقاء الطفولة أبعدتهم عنه الحدود، والوطن العربي الكبير الذي كان يحلم به ويرسم خارطته، تمزّق وحدته مطامع الدول الكبرى وخيانة الزعماء العرب، فيصبح الوطن الواحد الكبير دويلات، لها حدود مقدسة، تفتتها خلافات مستمرة ومطامع ذاتية للحكام لا نهاية لها.

وظل جمال عبد الناصر طوال سنين الخمسين والستين الأولى مطمح الآمال والفارس العربي الذي ينتظر الجميع تحقيق النصر على يده... لكن الواقع العربي والعالمي كان اعتى وأظلم وأكبر مما كان بإمكان عبد الناصر أن ينتصر عليه ويغيره وجاءت الانكسارات والنكسات المتتالية مثل: انفصال الوحدة السورية المصرية وانتكاسه الثورة العراقية والردّة الرجعية في العالم العربي سنوات الستين الأولى، وعجز العالم العربي أمام جبروت إسرائيل وإصرارها على تحويل مياه نهر الأردن ـ وقد حوّلته فعلاً ـ وأخيراً نكسة حزيران 1967 لتُنسي الإنسان العربي كلَّ حلاوة الانتصارات في سنوات الخمسين ولتدفعه ليبحث له عن مُخلص جديد يبعث في كل أرجاء الوطن العربي الثورة الكاسحة.

نتيجة الصدمة
كان طبيعياً، وقد تعرَّفنا على الجوانب المختلفة لتكوين ثقافة وفكر وبعث شاعرية سميح القاسم، أن يبحث كغيره من أبناء الوطن العربي الكبير عن المنقذ المخلص من هذا الواقع الردئ، وأن تُراوده أحلام المتنبي، فيستعيد تاريخ الأجداد ويحلم بأن يكون هذا المنقذ الموحد الفادي، وأن تكون طريقه التي اختارها لتحقيق الحلم، هي طريق الكلمة الباعثة الثورة في كل إنسان وفي كل مكان فيعلن متحدياً من أول الطريق:

فاشحذ مداك على جرحي
إنني قربان كلمة(1)

ويؤكد أنه المخلص:

وأنا أومن أني باعث
في غدي الشمس التي صارت تراباً(2)

ويطلب من الجميع واثقاً من قدرته على صنع المستحيل:

الله من منفاه عاد
فلتسجدوا
لعائد يرمم البيتا(3)

الفلسطيني هو نبي العصر الحاضر
لم تكن صرخة سميح الأولى، التي يعلن فيها التزامه بقول كلمة الحق، وأنه آن أن يبعث الثائر المصطفى ليشهر الثورة والمصحف(4)، وأنه سيكون باعث الشمس الحقيقية الى شعبه وأمته، نتيجة لحظة حماس تملكّه، وإنما هي ثمرة رؤيا بعيدة ولحظة بوح نبوءة ورؤية مستقبل يُنكره الحاضر، إذ سرعان ما تناقلت وكالات الأنباء خبر انطلاقة حركة المقاومة الفلسطينية عام 1965... وتحمل الفلسطيني عبء مقارعة العدو المحتل أرضه بعيد حزيران 1967، بينما كان العربي في الوطن الممتد من الماء إلى الماء، يلعق ذل الهزيمة ويبحث عن المبررات.

زميلني يا خديجة
زمليني
فلقد أبصرت وجهي
في حراء الموت
محمولاً على رؤيا بهيجة
طفلة تخرج من أنقاض مكة
وتويج من دم ربعنا الخالي، ومصنع
وينابيع وتمثال رخام
وبساتين وحبلى تتوجع
زمليني يا خديجة
زمليني: صوت أنصاري يعلو
وجه انصاري يعلو
صدر أنصاري يعلو في الزحام
من توابيتي وأبراج الحمام
زمليني: زمليني يا خديجة(5)

وهذا النبي الجديد يموت ـ كما يعتقد الآخرون ـ موتاً عادياً، لكنه يؤكد أن موته كبير ومختلف:

سقطت كل الأسانيد التي تزعم موتي(6).

فالموت هو جواده الأبيض الصاهل في كل الجهات(7) وهو لا يموت مرة وحسب، كغيره من البشر والرسل، وإنما موته يتكرر مثل تكرار خروجه وبعثه:

قتلوني وتمردت على الموت(8)
قتلوني وتمردت على الموت
وموتي مستحيل(9)
وموتي مستحيل
فمن موت إلى بعث
إلى موت إلى موت(10).

والنبي الجديد يختلف عن الذين سبقوه، فهو يرفض ما نُسب إليهم من معجزات ويدعوها سحراً خدعوا به الناس:

ضرب البحر الصاخب بعصاه السحرية
فانشق البحر
ألقى في القوم عصاه فصارت أفعى
تتلوى وتفح وتسعى
سحر؟
لا تصمت... كذب السحر(11).

وهو لا يذهب قبل أن يكمل الرسالة:

أنذا يتقمصني روح رسول الله
وأني لأضيف إلى أسماء الله الحسنى
اسم "الثورة"
فلتأت وفود الحجاج اليّ
لتأت إليّ جموع البؤساء
ولنشهر سيف الله
نصرة رايتنا الحمراء(12)
******
يأتيني صوت الله ويأتيكم صوتي
الثورة إيمان إيمان
فاتحدوا
يا فقراء العالم
واتحدوا
يا عمال العالم
ها أنذا أكملت عليكم دينكم اليوم
وأتممت عليكم نعمة ثورتكم
فاتحدوا واتحدوا واتحدوا(13).

لكن ذهاب هذا النبي لا يعني النهاية، وإنما غيبة لحين، ويعود لينشر الحق ويعلي كلمة الرب:

مولاي "الحاكم"
كرمني الأوباش بتعذيبي من أجلك
في غرفة تحقيق الزمن القاتم
كرمني الأوباش بتجريدي من ثوب الصوف ومن جلدي الزائل
شرفني ـ لو يفقه ـ بالقتل القاتل
لكني لم أهلك
قاومت لأجلك
وبعثت لأجلك
ونطقت وبحت لهم في قبو التعذيب الغاشم
لا تغضب لا ترذلني يا مولاي الحاكم
لم آخذ "بالتقية" ونطقت،
ألست "الناطق" في كل جهات الكون بأسرار "القائم"(14)

ويجهر بحقيقته المختفية على الغير:

القرمطي في
يا فقراء الأرض
هذا زمان الرفض(15)
******
جئت من الكوفة
كي أكتب الآية
الشمس مكسوفة
من مبلغي الغاية؟(16).

ولأنه جاء يحمل الثورة ليبعثها في كل مكان تطأه قدماه، فقد تمرد على حكم الرب رغم إعزازه وحبه له:

أعترف يحبّك لا أشرك فيك
من شدة حبي أرضاني ما لا يرضيك
لم أسجد بين يدي آدم أنا نار وهو تراب
في النار عناصرك الكلية يا مولاي وأني في حل(17).

وتتبلور هوية هذا النبي الجديد لتعلو على درجة الرسل والأنبياء:

لحظات
وتقبل الأسماء
لحظات
وترحل الأسماء
فاسمعوني
ملء الزمان اسمعوني
لم تلدني أمي
ولم تبصروني
أنا ظلي
وأنتم استثناء(18)
.

فهو سليل "الحسين" وهو "الإمام السابع"... "قائم الزمان" الذي يظهر في دور الكشف ليعلي الحق ويزهق الباطل:

للحسين شهيد الرضا، ولد ضائع
قبل يومين، في سوق فاس،
شد ردني ضرير عجوز وصاح:
"مرحباً يا سلسل الحسين
مرحباً أيها السابع
للحسين، شهيد الرضا، ولد ضائع"
لم أجبه، لكن حممت(19)
.

وهو يسمو عله يصل مرتبة الإله:

من رآه؟
نصفه بشر
والإله
نصفه
مُمسكاً بيد بَدْأه
مدركاً بيد منتهاه(20).

وأخيراً... سُبحة للسجلات:

والسُّبحة أو المسبحة: كما جاء في "لسان العرب" هي الخرزات التي يعد المسبح بها تسبيحه.

والسُّبحة: تكون بمعنى الدعاء وصلاة التطوع والنافلة، وقد تكرر ذكر السبحة في حديث الرسول كثيراً فمنها: اجعلوا صلاتكم معهم سبحة أي نافلة.

وهي تتكون من الشُّرّابة والمئذنة والشاهِدَين وثلاث وثلاثين حبة خرز وقد تكتب على خرزاتها أسماء الله الحسنى.

أما السجلات، فهي إشارة إلى السجلات التي كان الخلفاء الفاطميون يصدرونها أثناء حكمهم في مصر (973 ـ 1149) ويضمنونها تعليماتهم، وكانت تُعلق ليقرأها أكبر عدد من الناس. وقد اشتهرت بشكل خاص سجلات الحاكم بأمر الله (996 ـ 1021) الذي ظهرت في زمنه الدعوة التوحيدية الدرزية وتحوّل ليصبح الإمام المقدس عند إتباع هذه الطائفة وصورة للتجسيد الإلهي على الأرض.

ويظهر في "سُبحة للسجلات" مدى استيعاب وتأثر سميح بكل المعتقدات والآراء التي تحدثت عن الروح والجسد، والتجسد الإلهي، والثنائية، والموت الذي هو بداية لحياة جديدة، والباطن والظاهر، والتي تناولتها الفلسفة الهندية والفارسية واليونانية، ووصلت شأوا عظيماً في فلسفة الأفلاطونية الحديثة (نسبة إلى أفلوطين 204 ـ 270)، مروراً بمعتقدات الحركات الباطنية في الإسلام، خاصة الحركات الإسماعيلية، وما تَشعّب عنها من حركات الإسماعيلية، وما تشعب عنها من حركات القرامطة والفاطميين والدروز.

لكن المميز عند سميح أنه لم يأخذ بهذه المعتقدات من منطلق الإيمان بها وإنما عمل على استخدامها في شعره من أجل توظيفها في خدمة قضيته التي يعمل من أجل انتصارها ـ ومن أجل تأكيد حقائق لا بد وستجلو للجميع.

وقصائد المجموعة، تكاد تنقسم إلى قسمين متمايزين ومتداخلين في الوقت نفسه:

القسم الأول: تطغي عليه الأجواء الصوفية، إذ يطرح الشاعر الآراء والمعتقدات التي تتناول الإنسان وماهيته، الجسد والروح ومآلهما، الموت والنشور، الرسل والأنبياء، الله وتجسّده، الظاهر والباطن، السابق واللاحق، الناطق والصامت، الإمام والتقية.

القسم الثاني: يوظف الشاعر المعتقدات والإشارات والرموز في خدمة الإنسان الفلسطيني والقضية الفلسطينية.

في قصائد القسم الأول، يطور الشاعر مواقفه ودوره كقائد لهذه الأمه ومخلصها وباعثها، كما تجلت في قصائد دواوينه السابقة، والتي أشرنا إلى بعضها بالاستشهاد أعلاه، ولا يكتفي بما وصله من الارتقاء إلى مصاف أنصاف الآلهة، فنراه من بداية المجموعة يحاول الانصهار بالذات الإلهية. فهو يوحد بين شرايينه وبين خيوط شرابة السبحة... فكما أن خرزات السبحة الحاملة أسماء الله الحسنى تتجمع كلها بواسطة الخيط الرابط بينها والمنتهى بالشرابة المرفرفة بخيوطها المتناثرة فوق المئذنة لتعلي كلمة الرب وتسبح للرب، هكذا شرايين جسمه تنتشر وتتجمع في انصهار كلّي بالرّب:

خيوطك، أم شرايني؟
سألتك
لا تجيبيني!

ويروي لنا قصة الرسول ـ أي الشاعر ـ الذي تركه الجميع وابتعدوا عنه. لكنه لم ييأس، وظل يجادل ويهدي ويُقاتل جيلاً بعد جيل ولا مَن يسمعه:

رسول
على جبل
غادرته القبائل
وحيداً
بعيداً

ويصور حالة الثنائية الأبدية التي لا فكاك منها، الشرق والغرب، الماء والنار، الروح والبدن... وطالما الحكم كذلك، لماذا الاستمرار؟ فليخرج البدن وليقضي الزمن:

الشرق والغرب: لا أهل ولا سكن
ضاقت بك الروح، فاخرج أيها البدن
الماء والنار: ضد الضد لازمه
ولا فكاك إذن... فليقضي الزمن

لكنه يسلم أمره للخالق ليفعل به ما يشاء في كل الأجيال:

خذ عني قمصاني البالية
تعال وغيبني ما شئت

ويعلن لخالقه عن شكه الذي يعذبه ويطرح عليه أسئلة تشغله:

متى يبدأ الروح؟
هل ينتهي في القميص الجسد؟
وكيف توزع أبناءها الأرض
في آخر الدهر؟
وكيف يكون الحراك؟
وكيف يصير السكون؟
وهل يسأل الآخرون:
متى البيت؟
كيف الولادات؟
أين اللواعج؟

ويصل إلى القناعة بحكمته تعالى، فيستسلم وينتظر بشوق:

هي رحلة من رحلة موصولة
ضجت زماناً في الزمان الساجي
وأنا المقيم (انا المقيم؟) وهذه
رايات وجدي جللت أبراجي
هيات في بيتي الحرام مناسكي
فمتى يعود من المتى حجاجي

ويعود هذا النبي ليرفض الاستسلام وينقض كل ما كان ويثور ويتمرد ويستحيل على كل أعدائه فلا الموت يقدر عليه ولا الأعداء الأقوياء فهو ينتقل من مكان إلى مكان وينشر الثورة والتمرد في كل موقع... يموت ويبعث من جديد... يتقمص في كل شيء، وحيثما يحل تكون الحياة... وموعد عودته قريب:

اصهلي يا غيوم الترقب في حمأة السخط
ههوذا يسرج الريح يمتشق الموت
فاتحةً للقضاء وخاتمة للقدر
هو الآن يطلع من وهمه
وللمحل والقحط
والجهل والنفط
يرفع
يرفع من لحمه
سماء تجيد المطر

هو نصير الفقراء، الكسحاء، المظلومين وهاديهم الى الصراط المستقيم:

اسمعوا أيها الفقراء
انهضوا أيها الكسحاء
اسمعوا وانهضو واخرجوا
في صراط دمى المستقيم
******
وهو المسيح المُحيي الأموات
يتألبون عليّ
أفواجاً من الموتى اللطاف
تخونهم سيقانهم حيناً
يقضقض عظمهم في صقعة الأكفان
يبتسمون من خزي
******
هدوءاً أيها الموتى الكرام
جهزت مائدتي لكم
من كرمتي هذا النبيذ
ومن بستاني الطعام
******
يتألبون علي أفوجاً
أعناقهم
ويكسو اللحم أفواج العظام

وهو الإمام المنتظر الذي طالت غيبته ويعود:

يا أيها الموتى!
أحبّه مولدي وظلال غيبتي الأخيرة
لن تخرجوا مني
دخلت دخلت

ويبشر الناس بعودته التي هي عودة الحياة اليهم وانتصار الفرح:

وأعلن ها أنذا أولد اليوم والآن صحراء مائرة بالجموح
اسمعوا أيها الناس
واستبصروا اليوم واعتبروا لغد

إنهم عائدون من الغيبة: العمي والبرص والمقعدون اليتامى،فليفرح الناس ويستبشروا بعودة ملك الملوك، المخلص من العذاب والظلم:

ملك الملوك يعود بعد غيابه
يا بنت فانتظري الحبيب ببابه

ولا تكون ولادته كولادة الآخرين، فهو لم يمت ليولد، وإنما غاب ويعود لأنه الإمام المجسّد على الأرض:

بساقين من ذهب البرق
منخطفاً شاهقاً
بيدين من القمح والياسمين
يمر غلام السماء الأخير
يمر
ولا يطأ الأرض
ولا يلمس الغيم
سراً ـ علانية
لا يغيب ولا يستبين
ملاك الملائكة الشهم
يأتي: فضيلته رجسه
يعود: فضيلته رجسه
جسداً كاملاً
من صلاة وطين

الإمام يتجسد على الأرض... دور الستر انتهى، وجاء دور الكشف ما من عائق ليعلن أنه الإمام المتجسد القائم:

الصلاة والسلام
ألف ألف لا أحد
والصلاة والسلام
أبد يمحو أبد
والصلاة والسلام
الورى فرد صمد
انا
مولاي الأمام

وطالما أننا في دور الكشف وتجسّد الإمام "الله" على الأرض ليبح بكل أسراره في سجله الأخير الثالث والثلاثين الذين يختتم به سجلاته للناس:

هكذا، أزل واحد للثنائية العائدة
دورة خالدة
قد يكون الأبد
هكذا
قد يصير العدد
مفرداً بين ما ينبض القلب في سره
والذي تعلن الشاهدة

وبوعي واصرار وتحدٍ، يتوسع الشاعر بالتلاعب بالرموز الإسماعيلية والتوحيدية، ويأخذ بالتجرد من كل قمصانه التي ظهر فيها في الأدوار المختلفة المتتالية، فهو لم يعد الإنسان المتمرد الفادي شعبه والهادي له. ولم يعد المبشر بالآتي، ولا النبيّ المصطفى، ولا المسيح المحيي من الموت، ولا قائم الزمان. وإنما هو الإمام بجلاله وقدسه. وهو الإله المتجسد على الأرض:
سندس طافح بالتلاوات
غادرني المقرئون
هكذا... أحداً صمداً من قرون
كم ولدت وكم يا قميصي ولدت
وكم كنت كي لا أكون
خلوتي جسد سابع
سبعة سبلي
يدخل الخارجون
ريثما يخرج الداخلون
وأنا، واحد في التلاوات
منتشر في الكيانات
متحد في الظنون
قائم في زمان الوجود
زائل في الحدود
واضح مبهم
واضح
سندساً للتلاوات
غادره المقرئون

ويؤكد أنه وحده الباقي ووحده القادر وهو المقيم هو الإمام:

لي انبهار التلاوات في لحظة الكشف
مني المراد وفيّ المريد
جسدي حكمتي السابعة
والضلال الوحيد
جسدي السابع
ما الذي ظل من ثمرات الوصال
في أقاصي الخيال
ما الذي ظل للروح كي يستزيد؟
أيها الأول التابع
المرشد الضائع
ههنا الأرق المستهام
صبوات الغرام
ههنا
ذهب المؤمنون
ذهبوا من قرون
والمقيم الإمام!!.

استخدام الرموز الإسماعيلية لخدمة الإنسان الفلسطيني وقضيته:

لم يكن استخدام سميح القاسم للرموز والإشارات الدينية أمراً جديداً وإنما الجديد في "سُبحة للسجلات" هذا التكثيف والتركيز على الإشارات والرموز الدينية التي ابتكرتها واستخدمتها مختلف الحركات الدينية الباطنية منذ بدء اعتناق الإنسان للأفكار الدينية، وخاصة الحركات الباطنية الإسلامية.

ونجده يتلاعب بهذه الرموز والإشارات، ليستخدمها في تأكيد ما عمل طوال مسيرته الشعرية على تأكيده وهو أنه ليس الشاعر فقط. إنما هو الهادي والباعث والثائر والمحذر والنبي المصطفى ونصف الإله، وأخيراً هو الإمام السابع الذي يعود في دور الكشف متجسداً الإله ومعلناً بصراحة أنه التجسيد الإلهي الكامل على الأرض.

وسميح لم يبغِ من ذلك التسلق إلى مرتبة الأنبياء والأصفياء وحتى الإله وإنما الذي دفعه، ايمانه التام بصدق قضيته وحتميته انتصار الإنسان الفلسطيني الذي فشلت كل النكبات والخيانات والمؤامرات على الغاء وجوده ومحو قضيته، بل كان في كل مرة ينطلق من جديد بعنف أكثر وإصرار أقوى وإيمان أصدق ووعي أكبر ليتابع الدرب ويتمسك بالحلم ويؤكد على النصر.

جيل الأجداد سلّم الراية لجيل الآباء وجيل الآباء سلّم الراية للأحفاد والأحفاد يحملون الحجر بيد ترميه في وجه المحتل لتدميه وتُردية أرضاً، والزهرة باليد الأخرى لتكسو أرض الوطن بأجمل حلة تمحو أثر الدماء التي ضمخته عشرات السنين.

هكذا الإنسان الفلسطيني لا تستطيع كل المحاولات إخماد صوته، ولا يعرف الموت كيف ينهي وجوده... فهو يموت ويعود في الجيل الآتي... من دور الى دور، ومن يد إلى يد، تنتقل الراية مرفرفة عالية ويعلو النشيد قوياً ويضيء الوطن بقوة ليعانق الإبن العائد بعد طول غياب.

لقد توالت أدوار المعاناة والتشريد والظلم والضياع ولحقتها أدوار التشبث بالباقي والصمود والمواجهة والتحدي والمقاومة وها هو الفلسطيني يشهد دور الكشف في عصر الانتفاضة، وطالما أننا نعيش دور الكشف فلا بد من ظهور الإمام وتجسده على الأرض وهذا ما فعله سميح القاسم في "سبحة للسجلات".

الفلسطيني يؤرخ لمسيرته حتى دور الكشف
يطرح الفلسطيني على لسان الشاعر ـ في قصائد القسم الثاني ـ ومباشرة من السجل الأول، مأساة تشرده عن وطنه ويناجي وطنه فلسطين، بتساؤل وقلق وحبّ ورغبة بالتوحد معها، خالقاً الجو الصوفيّ الطاهر، حيث يتعانق العاشق مع المعشوق ويتحدان في جسد واحد:

متى تكونين لي ضيقي ومتسعي
في ضجعة الموت؟ أم في رجعة المتع
وهل تكونين، والأكوان ذاهلة
عن غيبها لحضور الجوع والشبع
ألا تكونين؟ كوني واجمعي بدني
من المنافي حطاماً غير مجتمع
تعبت مني وممن جئت بي معهم
فهل تجيئين بي ـ كي استريح ـ معي؟

ويشرح في السجل الرابع كيف رحل الفلسطيني وكيف خيّم اليأس:

ذهبوا وأطفأت الرياح سراجي
فلمن يظل الباب دون رتاج؟
ولمن أمد يد الغريق؟ مصافحاً
غرقى بلا أيد على الأمواج

ويعلن في السجل الخامس رفض الفلسطيني لليأس وللتسليم للواقع وللقدر ورفضه للجنة الموعودة، فهو يريدها الآن وعلى الأرض وفي الوطن المعبود.

ويرسم في السجل السادس رحلة تشرد وضياع وموت الفلسطيني بعيداً عن الوطن غريباً يغرق في مياه أنهار أوروبا لا أحد يعير جثته أيّ اهتمام.

ويتمرد الفلسطيني في السجل الثامن على الضياع والتشرد والموت ويروح يتقمص من دور إلى دور ومن شكل الى شكل يملك قدره ويطارد أعداءه من شارع إلى شارع حراً طليقاً:

هو الآن يرسم سيماءه بالحجر
وينسخ أسماءه بالحجر
له المجد في جمعة الشارع العام
في مسجد الساحة العارية
وحيداً كثيراً
صغيراً كبيراً
يقضقض بالقيد أسوار سجانه العالية
وأسرار قائلة العاتية
ويسري من الموت يسري على الموت
يكتب قرآنه بالحجر
رسولاً بلا حاشية
يبشر في الغاشية
ويتلو رسالته الآتية
ويدعو الى ملكوت البشر
بآياته البيّانات
نجوماً من الدم
تسطع هي أفق... من حجر

ويستكين الى أمه معشوقته فلسطين التي يوفر لها الحرية لتختار أبناءها وتتمرد على ازواجها الذين اغتصبوها:

تلدينني ما شئت لا ما شاؤا
فيسبنا أزواجك الشرفاء

وتذكره حالته مع أمه المقيدة المغتصبة ما حدث لهاجر المطرودة وابنها اسماعيل:

يرتدّ اسماعيل عن قسماته
حذراً وهاجر ما لها سيماء
ولا يجد فرقاً ما بين الحالتين فيوحد بينهما:
ونكون أرملة تنوء بعرضها
ويتيمها تخزي به اللقطاء
فنصير في حجر يدق سماءنا
متسمياً فتحبنا الأسماء

ويكون هذا الحجر ثمن خلاصة من القيد والذل وبه ينتصر على قاتليه:

طفل يتيم
يشتري بحجر
خلاصه

وتفجر رحلة الشاعر الى مصر، التي سافر إليها وهو يحمل معه أمّه فلسطين، كل ما يحمله من حب إلى أرض الكنانة بلد جمال عبد الناصر، وتعود صورة الطفل إسماعيل المتعلق بطرف ثوب أمه هاجر العائدة إلى بلدها بعد أن طردها زوجها ابراهيم لترفد الشاعر بفيض من الإيحاءات والإشارات:

إلى أي برّ تهيمين
يا أم يتمي وخوفي وفقري
إلى أيّ بر يا أَمَةَ الله "هاجر"
وخلف الفضاء المحاصر
فضاء محاصر

رموز سميح القاسم الخاصة تكتسب القدسية
رأينا كيف استطاع سميح في القصائد التي تميزت بتأثرها البالغ بالأفكار والمعتقدات الباطنية. وخاصة الإسماعيلية أن يتلاعب بهذه الرموز والإشارات ويوظفها في التدرج بمراتب ارتقائه التي وضعها نصب عينيه من أول خُطاة في مسيرته الشعرية. حيث نجح أن يصل إلى التجسد في قائم الزمان والإمام ـ الله ـ وأن يعلن: أننا نعيش دور الكشف ويوم تقيم الحساب.

ورأينا في قصائد القسم الثاني كيف نجح في توظيف هذه الرموز والإشارات في خدمة إنسانه الفلسطيني وقضيته العادلة، وكيف نجح أن يعلي إنسانه الفلسطيني من مجرد إنسان مقهور مشرد ضائع منبوذ مهان مطارد الى إنسان متحد مقاوم مقاتل متسام يشارك الأصفياء، ويقاسم الأنبياء ويسمو الى الملائكة ومقرب من الرب أو متعال عليه ومنافسه في ملكوته.

لكن قدرة سميح على التلاعب باللفظة وشَحنها بأيحاءات عميقة وبعيدة في تداعيها، جعلت لألفاظه ورموزه الخاصة التي تميز بها في شعره نكهة وجواً سحرياً صوفيَاً، قلما نجده عند غيره من الشعراء العرب والأمثلة كثيرة ولكنني سأكتفي بإيراد نماذج من هذه الألفاظ التي شحنها بايحاءات عميقة وبعيدة مثل:

ـ خيوط شرابة السُبحة ـ فلو أخذنا الخيوط بحد ذاتها لما وجدنا فيها ما يثير أو ما يستدعي الاهتمام لكن ربطها بخرزات السبحة الحاملة أسماء الله الحسنى وبشرايين الشاعر المتدفقة بالدماء والموحدة بين جميع أعضاء الجسم جعلت هذه الخيوط تتمدد لتكون الحبال الرابطة بين المسبح بالسبحة، الذي هو الشاعر والرب القائم في السماء.

ومثل: جبل ـ فهذه الكلمة تدل على المكان العالي المشرف الصعب الخ... لكن كلمة "الجبل" في قول سميح القاسم:

رسول على جبل
غادرته القبائل
وحيداً
بعيداً
وضلت على شفتيه الصلاة
وأهوت على قدميه الرسائل

ارتبطت بالرسول وشحنت بالجو القدسي، فأصبح الجبل المكان العالي القريب من الرب البعيد عن الناس حيث يخاطب الرسول الرب ويأخذ منه الرسالة السماوية، فنتذكر جبل سيناء حيث خاطب النبي موسى ربه وجبل عرفات حيث وقف الرسول العربي وخطب في الناس وكثيراً غيره.

ومثل كلمة "الفسطاط" وهي القاهرة القديمة التي بناها عمرو بن العاص بعد فتحه لمصر في خلافة عمر بن الخطاب حيث إضافة كلمة "روحي" إليها جعلها لا تعني تلك المدينة العربية وإنما ذلك المكان المقدس الذي فيه تجسد الرب على صورة الخليفة الفاطمي "الحاكم بأمره" وهكذا تتحول الفسطاط لتكون مكان الرب المقدس وتصبح فسطاط روحي "وليس مجرد الفسطاط كما أن القاهرة تسمى عند أتباع مذهب التوحيد "الدروز" بالقاهرة الطاهرة.

ومثل: السمسمية فهي لم تعد مجرد الآلة الموسيقية الشعبية المعروفة في مصر وانما الخافقة بايقاع قلب الشاعر الموزعة فرحته على كل موقع في مصر وفي العالم العربي كله، والمعلنة حبه الكبير لبهية رمز مصر.

ومثل ذلك يفعل الشاعر باستخدامه لبعض الإشارات التاريخية والتراثية والدينية... مثل ذكره للمتنبي وما روي عن طموحه لحكم ولاية كان كافور الأخشيدي قد وعده بها فسميح يرفض أن يكون كالمتنبي ويعلن:

ما أنا بالمتنبي
اجيئك لا شهوة الملك راحلتي

ومثل اشارته للقصة التي تروي خروج عمر بن الخطب لتفقد أحوال الرعية وقصته مع المرأة التي وجدها تعلي قدر الماء وبعض الحصى على النار لأشغال أولادها عن طلب الطعام:

متى يا متى
متى تنضج القدر نار الشهادات
"طهو الحصى لا يُعلل"
ومثل إشارته الى "يوضاس" الذي وشى بالمسيح؟

وكما ذكرت، لسميح القاسم رموزه الخاصة به أكثرها دلالة وعمقاً وتكراراً وايشاراً هي: الوردة والتفاحة والحجر وقد نجد هذه الرموز في معظم دواوين شعره الأخيرة.

وهو يرمز بالوردة إلى الجمال الروحي، وبالتفاحة إلى المتعة الحسية في الحياة والوجود الحسي، وبالحجر إلى الحقيقة الثابتة:

لا أستأذن أحداً،
بهدوء ورويه
اقطف وردة حزني الجورية
وأغني
لحبيبة جسدي المسبية
لا أستأذن أحداً
بهدوء وروية
أقذف حجري
في وجه الكرة الرضية
وأغني
لعواصف سخطي في ليل البشرية(21).

وفي سجلات السبحة تتخذ هذه الرموز أبعاداً أعمق وأبعد، فالحجر هو القلم الذي يكتب به الفلسطيني قرآنه.. وهو الأفق المضيء.. وهو من أسماء الله الحسنى، وهو الهدية الثمينة الطاهرة وهو الخطوة الواثقة المضمونة للفلسطيني كي يتقدم لتحقيق الغاية وهو دلالة سخطه على ظالمه.

ويصل في السجل التاسع عشر إلى درجة تقديس هذه الرموز الثلاثة وتتحول إلى أقانيم مقدسة يُصلي لها. فهو يبتهل للوردة:

صباح السعادة يا وردة الروح
من أي حلم تجيئين عابقة بالحياة الجديدة؟
ويصلي للتفاحة:
نهار التساؤل، تفاحة الدم
في أي حلم تغيبين؟
في أي حلم أغيب؟
ويصلي للحجر شاكياً ما آل إليه/ فقد بات يخاف على مقدساته ويفقد توازن روحه، ويخسر وجوده:
مساء الكآبة يا حجر السخط
تفاحتي هرمت
ذبلت وردتي
أخذتني على غرة لوعتي
ويتوحد بأقانيمه الثلاثة:
يصلي:
لوردة
لتفاحة وحجر
(سريري إبر
وأذهب ما من أثر
لِوَرد تِتُفَا حَجَر).

وبمفارقة أليمة يزاوج الشاعر بين الوردة رمز الجمال الروحي، والكمبيوتر رمز الرقي المادي، وأعظم ما توصل إلى ابتكاره الإنسان، ويبين كيف أن الإنسان الذي كان يجد أمانه وراحته وسعادته عندما كان يقنع بعالمه الروحي، فقد راحته وأمانه وأصبح يعيش في قلق كبير بعد أن نجح في أن يخترع المئات والآلاف، كان آخرها وأعظمها وأهمها اختراعه للكمبيوتر الذي بواسطته أصبح بإمكان الإنسان أن يبحر في ذاته ويرسم قلبه وداخليته، ويراها أمامه على شاشة العرض.

هكذا
وردة الكمبيوتر
وهبتني الأمانا
لحظة من زمان توانى
ثم كانا
أنها سلبتني الأمانا

وبوعي كبير وقلق صادق وخوف على مستقبل الإنسانية يعلن الشاعر رفضه لكل هذا التطور الهائل الذي اعتقد الإنسان خطأ، أنه سيوفر له الأمن والطمأنينة والراحة، ويتمنى الحياة الهانئة الهادئة الآمنة، الحياة الروحانية السامية البريئة البعيدة عن دنس المادة وشرورها:

مرحباً، وردة الكمبيوتر
إنني خائف وسعيد
خذي
جسدي مزهرية
ويدي صولجاناً
وأمنحيني الأمانا
وردة الكمبيوتر

السجلان الثالث والثلاثون والأول
بدأ سميح القاسم سجلاته الثلاثة والثلاثين ـ عدد حبات السبحة، بالسجل الأخير على غير ما يتوقعه القارىء ثم عاد إلى السجل الأول وانتهى بالسجل الثاني والثلاثين.

ولو حاولنا تفسير ذلك لوجدنا أن الخرزة الأولى في السبحة تجاور الخرزة الأخيرة، هذا يعني أنه يحدث إلتباس، من منهما الأولى؟ ومن منهما الثلاث والثلاثين؟ هذا يتعلق من أين نبتدئ العد ولهذا فقد تكون الواحدة الثانية وبالعكس، وكلتاهما تشكلان بالتقائهما الحلقة التامة لمجموع حبات السبحة... والصلاة التامة التي يبتهلها حامل السبحة لله. وفيهما يتحقق توحيد المؤمن بالله فهما البداية والنهاية والدورة التامة للحياة وواحدهما يكون سبباً للآخر ونتيجة له.

ونقف من مراجعتنا للسجلين أنهما يرسمان لنا مسيرة الشاعر الطويلة في بنائه لشخصية الإنسان الفلسطيني، من كونها شخصية مهتزة ضعيفة مطاردة إلى تجسدها في الذات الإلهية حيث أصبح الفلسطيني هو الله المتجسد على الأرض في هذا الدور الذي قال عنه الشاعر دور الكشف.

ففي السجل الأول يتوحد الفلسطيني مع وطنه فلسطين الذي لا يعرف متى يكون ملكه في ضجعة الموت أم في رجعة المتع، ويبكي تشرده وضياعه ويرجو أن يجمع بدنه من المنافي حتى ولو كان حطاماً غير مجتمع، ويطلب بحرقة ورجاء مظهرا يأسه وتعبه ورغبته قائلاً:

تعبت مني: وممن جئت بي معهم
فهل تجيئين بي كي أستريح معي؟

ولكنه يبدو في السجل الثالث والثلاثين أنه قد عبر طرقات الآلام كلها ودرجات الارتقاء جميعها وتقمص مختلف القمصان وتدرج في جميع الأدوار ظهر وغاب. مات وبُعث، وها هو أخيراً في دور الكشف يعود على صورة الإمام المجسّد على الأرض ليعلي كلمة الحق وينشر الحق، وليؤكد أن الباقي الوحيد الذي لا يموت هو الإمام.

ذهب المؤمنون
ذهبوا من قرون
والمقيم الإمام

أخيراً
لا شك أن آراء النقاد ستختلف كثيراً في تناولها لقصائد "سبحة للسجلات" لكن الأكيد أن الجميع سيتفقون أنها تشكل خطوة متقدمة ومتطورة وجديدة في مسيرة سميح القاسم الشعرية. وقد اهتم الشاعر في مجموعته هذه أن ينوع في أسلوبه الشعري، وفي طريقة تعامله مع اللفظة الشعرية وتوزيعها، فالقصائد كتبت بأشكال مختلفة، منها على الأسلوب الشعري القديم حيث اعتمد وحدة القافية والوزن وتقسيم البيت الى شطرين، ومنها أسلوب السرد النثري مع الإيقاع الداخلي للفظة... وفي أغلبها اتبع الأسلوب الحر في الاعتماد على توزيع التفعيلة وتنويع القافية والتلاعب بالأوزان.

ويجب التأكيد أن قصائد هذه المجموعة، مع أنها تعتمد أساساً على الأفكار والمعتقدات الباطنية واستفادت منها كثيراً، ومع سيطرة الأجواء الصوفية الواضحة، إلا أنها لا تعتبر شعراً صوفياً، وإنما شعراً ثورياً تقدمياً عرف الشاعر كيف يوظف الرموز والإشارات والاصطلاحات الباطنية في خدمة إنسانه وقضيته.

باحث وناقد من فلسطين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ـ أغاني الدروب ـ 130.
(2) ـ المصدر السابق ـ 40.
(3) ـ المصدر السابق ـ 72.
(4) ـ ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ـ 192.
(5) ـ قرآن الموت والياسمين ـ 55.
(6) ـ الموت الكبير ـ 140.
(7) ـ الموت الكبير ـ 26.
(8) ـ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ـ 110.
(9) ـ المصدر السابق ـ 111
(10) ـ جهات الروح ـ 176
(11) ـ الجانب المعتم من التفاحة الجانب المضيء من القلب ـ 125/ 126
(12) ـ الحماسة ـ الجزء الثالث ـ 84
(13) ـ المصدر السابق ـ 90
(14) ـ الجانب المعتم من التفاحة الجانب المضيء من القلب ـ 89,
(15) ـ برسونا نون غراتا "شخص غير مؤغوب فيه" ـ 98
(16) ـ المصدر السابق ـ 99.
(17) ـ الجانب المعتم من التفاحة الجانب المضيء من القلب ـ 138.
(18) ـ المصدر السابق ـ 56.
(19) ـ الحماسة الجزء الثالث ـ 109.
(21) ـ لا أستأذن أحداً ـ 112 ـ 113.