يكتب القاص العراقي المرموق عن تلك التلميحات أوالتعليقات العابرة التي قد يقولها الإنسان أو تقال أمامه دون أن ينتبه لهان فتفضي به إلى الوقوع في فخ والتورط في حكاية لم يتوقعها، وتدفعه إلى إعادة التفكير فيما ظنه شيئا عابرا

بيانو السيدة هايكه

عائد خصباك

لم يكن الأمر يحتاج إلي وقت طويل لأعرف أن الرئيس، كما يطيب لجميع من في المعمل تسميته، له جانب آخر من شخصيته، فسريعا ما يبرز ذلك لي عند أول خطوة يقوم بها خارج باب المعمل، أثناء الاستراحات التي تتخلل ساعات عملنا اليومي. قبل شهرين عندما التحقت بالعمل هنا، وجدت أن كلمة الرئيس التي سمعتها هنا وهناك قد تتناقض مع بنيته النحيلة التي توحي بعدم قدرته الإشراف على تشغيل ثلاث عشرة ماكنة نجارة حديثة متنوعة ومراقبة عمل ثلاثين عاملا وزعهم هو بطريقته، كل واحدة منها تنفذ عملها بدقة، لكني سريعا ما اعتقدت مثلهم أن السيد نورمان فابر، هذا الرجل النحيل، بنظارته الطبية التي ترتكز على وسط أنفه متى تطلب الأمر منه ذلك، يستحق أن تطلق عليه تلك الصفة المميزة، ما إن ينطق بكلمة أو يدون أرقاما على لوح من الخشب، أو علي ورقة إلا وتنفذ من الآخرين بدقة لأن العمل لا يحتمل الخطأ ولا الاجتهاد في ابتكار شيء ما، عرفت مشرفين قبله، منهم من كان يميز بين أنواع الخشب من اللون وبعضهم يعرف ذلك من نظرة متفحصة إلي مقطعه العرضي، لكن أن يعرف أحد نوع الخشب باللمس أو اعتمادا علي حاسة الشم أو النقر بإصبعه عليه فهذا نادرا ما يحصل، هذا هو السيد نورمان فابر، علما أن ليس من واجبي ولا من عملي تقييم الشخص الذي أعمل تحت إشرافه.

لم أره يوما ينفعل مع أي من العمال لأنه قد أخطأ، مهما كانت درجة ذلك الخطأ، ففي نظره أن لكل شيء حلا، لهذا كله، وجدت نفسي مثل غيري أحسد نفسي لأن الظروف شاءت أن أعمل تحت إشراف شخص مثله، لا يفخر بنفسه و إنما يترك أعماله تقول ما تشاء نيابة عنه، عندما تأتي بعض الشاحنات إلي المعمل وتفرغ حمولتها من جذوع الأشجار المقطوعة طوليا إلي نصفين، أشياء لا حياة فيها، مليئة بالعقد والانحناءات، ولكن تحت إشرافه تمر هذه الجذوع بمراحل، إلي أن تخرج من المعمل على شكل غرف للنوم من النوع الراقي أو مناضد أو كراسي، دواليب في أحجام مختلفة وأشكال عدة، أبواب للقاعات الكبيرة ولغرف المنازل، هو الذي يعطي المقاييس الدقيقة أن تقطع الخشب بهذا الطول أو العرض أو السمك، هو الذي يدرس علي الورق الأشكال والأحجام وأماكن القطع ونوع الحفر، هو الذي يعمل الأنموذج الأول ليعملوا على المنوال نفسه فيما بعد، يكفيه أن ينظر فقط ليعرف إن كان الخشب قد غدا ناعما سلسا أو لا، يكفيه أن يسمع صوت الماكنة ليعرف إن كنت أنت أو غيرك من يقف إزاءها. كنت متأكدا أنه عندما يدخل إلي مكتبه المتواضع بواجهته الزجاجية المشرفة على قاعة العمل ليخطط علي الورق أو ليدرس بعض التشكيلات في كتاب تكنيكي فإنه كان يرى العمل أمامه كاملا قبل أن تجمع قطع الخشب إلي بعضها وتوضع الأرفف والأبواب والأقفال وما إلي ذلك، لقد خلق لهذا العمل، الرجل الموجود في المكان الدقيق لاختصاصه. تراه أثناء فترات الاستراحة، وبعد مغادرة الجميع قاعة العمل للتدخين أو لتبادل الأحاديث شخصية أخرى وسط من اتخذوا من الأرائك الموزعة قرب باب الدخول مكانا لجلوسهم، قد يسمع المرء آنذاك جدلا يدور بينه وبين شخص آخر حول موضوع من المحتمل أنه يعرف تفاصيله، لكن هذا لا يقلل من مكانته عندما ينتهي وقت الاستراحة ويدخل مع الآخرين القاعة مجددا، قد يخطأ في معلومة، فهذا لا يثير أي حساسية لديه، قد يسمعه المرء يسأل بعضهم عن أشياء موجودة في البلاد التي قدموا منها، فالكثيرون هنا قدموا من خارج ألمانيا، مرة سألني عن نوع خشب جذوع أشجار النخيل علي اعتبار أن الكثير منها يزرع في البلد الذي قدمت منه،

قال لي: يا تبغ السيجار إلى أي نوع من الخشب تنتمي جذوع أشجار النخيل عندكم؟

فوجئت بتبغ السيجار هذه التي دعاني بها، فأنا لا أدخن السيجار ولا غيره، ربما كان يريد أن يثني علي لأن تبغ السيجار مشهور بنكهته التي لا يضارعها التبغ العادي، على كل حال استوعبت ذلك و أبعدت فكرة أن لها علاقة باللون أو شيء من هذا القبيل، لكن ما ضايقني هو الابتسامات التي ارتسمت على وجوه بعضهم، علما إني سمعته من قبل قد أطلق تسمية الدب القطبي علي أحدهم، وعلي آخر نجمة الشمال وآخر رقبة البجعة، إلي آخر ذلك لكن لم تظهر مثل تلك الابتسامة، فالدب القطبي قدم قبل سنتين من سيبيريا وعائلته مازالت تعيش هناك، وكان ضخم الجثة. أما رقبة البجعة فهو من كازاخستان، رقبته الطويلة هي علامته المميزة التي لا تخطئها عين من يراه لأول مرة. كان الرئيس يجد في ذلك ليس نوعا من الدعابة فقط و إنما هي أسهل له كثيرا من ذكر اسم الشخص نفسه،

قلت:
معذرة قد لا أنفعك في معلومات بهذا الشأن.
قال: شكرا. ولم يضف أكثر من ذلك.

في اليوم الثاني قال لي: هل أحرجتك يوم أمس؟ قلت: ليست هناك مشكلة، يسعدني أن أفيدك في موضوع خشب النخيل لكن للأسف.

بعد هذا بيوم واحد، وأثناء فترة استراحة الحادية عشرة، دخلت امرأة إلى الممر المكشوف المؤدي إلي حيث نجلس قريبا من باب القاعة يصحبها شاب كان قد جمع شعر رأسه المسترسل إلى أسفل عنقه على شكل ذيل حصان، قام الرئيس من مكانه مرحبا بها قائلا: السيدة "هايكه" حضرت عندنا! وبدورها قدٌمت له وبشيء من الفخر الشاب بأنه زوج ابنتها وأنه قدم معها واضعا نفسه وسيارته في خدمتها، فقال له الرئيس: لقد وقعت في الفخ، بلعت الطعم قبل أي شخص آخر! ثم وجه لها سؤالا: لك يد في هذا الموضوع، أليس كذلك؟

كانت المرأة في خريف العمر، وقد صبغت شعرها باللون الأحمر. قلت حاشرا نفسي بينهم من دون أن يكون هناك أي سبب: لك بنت ومتزوجة من هذا الشاب! أنت أصغر من ذلك بكثير، لست أنت من يكون عندها بنت متزوجة ! بعد سماع الرئيس صوتي، راح يقدم لهما بعضا ممن كانوا قريبين منه، نجمة الصباح، صخرة الجبل، وأنا ورق السيجار. قالت لي: هل أنت من كوبا ؟ قلت: لست من كوبا. والتفتت إلى الرئيس: لماذا ورق السيجار إذن، أليست كوبا بلد السيجار، كما كواتيمالا بلد الموز! وبدلا من أن تسمع جوابا على سؤالها صحبهما إلي مكتبه. وجدتها محقة بالفعل، فالدب القطبي لا يمكن أن تجده إلا في سيبريا والمناطق القطبية الأخرى، أما بالنسبة لرقبة البجعة فالتشبه بها مطابق للطول. لم يدم الاجتماع في المكتب أكثر من خمس دقائق، وأثناء المغادرة اكتفى بمرافقتهما عدة خطوات خارج القاعة. سمعت فيما بعد كلاما عن سبب هذه الزيارة، و أن تلك المرأة كانت بصدد إقناعه في إصلاح بعض التقرحات في هيكل بيانو يعود لها، وقد يحتاج أيضا إلي دهان مناسب ليعود لونه بعد ذلك إلى سابق عهده.

فاجأني في الأيام التي تلت بأشياء قالها دون أن أتوقع منه قولها، سألته مرة بعد أن قال لنا، نحن الذين معه في الاستراحة، إنه ينتظر مجيء ذلك الشاب الذي جاء سابقا بصحبة والدة زوجته. سألت: هل سيأتي بصحبتها كما في المرة السابقة؟ قال: آمل أن لا يكون ذلك. ومال باتجاهي ليهمس في أذني: اعرف أنها أعجبتك. لكنه استدرك قائلا إنه كان يمزح معي. جاء الشاب بالفعل ولم تأت معه السيدة "هايكه.

في تلك الليلة قطعت نومي أفكار شتى، لكن في الأيام التي تلت تعلمت ألا أدهش لمثل تلك التلميحات والتعليقات الصادرة عنه، وأن أبتسم قدر المستطاع عندما أرد بشيء. مع ذلك قلت عندما سمعته يقول عن سائق شاحنة أوصل إلى المعمل كمية كبيرة من الخشب، كان ذلك السائق في طريقه إلي صعود الشاحنة بعد أن أفرغت الحمولة، قال: انظروا إلي مشيته، هل عند أحدكم شك في أنه ينتمي إلى عائلة البطريق؟ لكني لم أبتسم.

مرة قال لي أن إجازته ستبدأ بعد أسبوعين، وإنه خطط ليقضيها في رحلة إلي الجبال في الجنوب، ولذلك سيكون منزله في ـ فالد دورف ـ وهي قرية لا تبعد كثيرا عن مدينة كولن، خاليا من ساكنيه، و سيكون بإمكاني أن أمضي فيه عطلة نهاية الأسبوع حرٌا بين أحضان الطبيعة، وقد لامني قائلا: متى يتسنى لك مشاهدة ريفنا الجميل؟ فاجأني بعرضه هذا، لأني بالفعل لم أر الريف إلا من وراء زجاج القطارات السريعة، ومع ذلك لم أجبه بشيء محدٌد.

لم آخذ كلامه علي محمل الجد ذلك اليوم، لكن عرضه غدا يسيطر علي أفكاري أكثر فأكثر، ولم تعد تشغلني إلا فكرة قضاء ليلتين في الريف وبشكل خاص في ـ فالد دورف.

ولعدة أيام مرت بعد ذلك لم أستطع إثارة هذا الموضوع مجددا، خشيت أن يكون الاقتراح الذي قدمه لي مجرد نزوة وليدة وقتها، لذلك، ربما الآن، صرف النظر عنها، أفكر في ذلك رغم قناعتي أنه ليس من نوع الرجال الذين يتراجعون عن كلامهم أو يتناقضون مع أنفسهم، وما علي الآن إلا أن أحدد اللحظة الأكثر مناسبة لأطرح عليه موافقتي ورغبتي فيما طرحه سابقا. المهم في الموضوع ألا أفاتحه وهو منشغل في أمر ما، وجدت في استراحة الساعة الثالثة بعد الظهر وقتا مناسبا جدا، وكان توقيتي صائبا عندما ذكرته بموضوع العرض الذي قدمه لي، ابتسم ابتسامة عريضة وهو يقول:البيت لك طيلة غيابي.

بعد ذلك حدٌد لي عصر يوم الجمعة القادم موعدا لوصولي إلي المنزل. وبالفعل جهزت نفسي لهذه الرحلة. ففي عصر يوم الجمعة توجهت إلي فالد دورف، ومسافة الثلاثين ميلا، التي هي مسافة الطريق، لم تأخذ مني غير أربعين دقيقة، وهناك اهتديت إلي المنزل، فالوصول إلي رقم "17" في شارع حجر النار لا يحتاج إلا إلي وقت قصير يقضيه المرء في الوصول إلي الشارع ومتابعة أرقام المنازل. عندما أوقفت السيارة، رأيت حقلا واسعا يمتد وراء المنزل، مزروعا ببنجر السكر وعلي جانب منه يستريح قطيع الخراف و يجتر طعامه في كسل. فتحت باب الحديقة وسرت قاطعا ممراتها المكسوة بالحصباء، سمعت صوت طائر يصعد فجأة ثم يتهاوى، وعندما دخلت المنزل سارعت لعمل خطة تفيدني في قضاء وقت لا أريد أن أفقد منه دقيقة في الجلوس أمام التليفزيون أو الاسترخاء في الصالة، تبدأ الخطة بأخذ حمام يعيد لي نشاطي، ثم ارتداء ملابس مناسبة للذهاب سيرا علي الأقدام علي الطريق الموصل للخراف، وبعد ذلك مواصلة السير إلى منحدر للنهر، كان الرئيس أوصاني بالوصول إليه وعبوره باتجاه الأشجار العملاقة والأحراش الكثيفة التي تقع هناك، لم أكن قد بدأت بدخول الحمام عندما فاجأني جرس الباب يضرب مرتين، أخفضت صوت الموسيقي العالية الصادرة من جهاز التليفزيون وفتحت الباب، دهشت لمرأى السيدة "هايكه" واقفة حاملة باقة من الورد، ولم تنتظر دعوتي لها بالدخول عندما أزاحتني جانبا ودخلت، وفي الصالة وضعت الباقة في مزهرية مناسبة وجلست مضطربة وهي تدعوني إلى الجلوس، فانتقلت عدوى اضطرابها إلي، قلت لها لقد ترك السيد نورمان فابر المنزل لي أقضي فيه ليلتي. ولم استطع أن استخلص من تمتمتها المشوشة سوى أنها تتمنى أن لا تثقل علي بهذه الزيارة. قلت: تعرفين إذن بوجودي هنا. قالت: وأعرف أيضا الوقت الذي تصل فيه، لكن اعلم أن السيد نورمان فابر لا علاقة له بهذا الموضوع، وأرجوك اترك مثل هذه الأسئلة التي لا تفيدك بشيء.

وعلي الفور راحت تتحدث عن بعض المشاكل التي صادفتها في الطريق، وعن توقعاتها فيما سيحدث لها لو قضت بعض الوقت في الريف، أصبحت تعبيراتها تدريجيا أكثر استرخاء، أثناء ذلك قامت إلى المطبخ عدة مرات، لجلب الماء والعصائر وبعض الفواكه والمناديل الورقية وأشياء أخرى، و أخفضت صوت التليفزيون أكثر، وغيرت القناة لأنها لم تعجبها، واعتزمت ألا أمثل لهذا الوضع الذي فرض علي، قلت: يا سيدة "هايكه" وماذا بعد ذلك كله؟

قالت: أن أتكلم معك.

ـ ليس عندي ما يمكن أن أنفعك به.
ـ ربما أنا عندي ما ينفعك.

قلت: اسمحي لي، عندي خطة وهي محددة بالوقت، لا تضيعيها أرجوك.

قالت: لنبدأ الخطة بالخروج معا إلي الحقول، دعنا نتفق، استطيع أن أحكي لك كل شيء عن ذلك الذي رافقني إلى المعمل عندما كنت هناك.

كان استعدادها للمضي في الكلام واضحا فقلت:

أرجوك، لم أتفق معك علي شيء، حتى أني لم أرك إلا مرة واحدة.

ـ المشكلة أنها كانت مرة واحدة! دعني أشرح لك هذه النقطة من فضلك.
ـ سيدة "هايكه ماذا تفعلين؟ لا يحتاج الأمر إلى شد ذراعي هكذا.
ـ اسمعني من فضلك، أعرف أن ليس من حقي أن أدخل عليك هكذا، اغفر لي.
ـ سيدة هايكه دعينا ننتهي من هذا كله.
ـ أعرف أني أفعل شيئا ربما لا تحبه، أعرف أني أقحم بنفسي عليك، ربما هو شنيع، لكن ماذا أفعل كي التقي بك، لا تلمني عندما تصدر مني مثل هذه الأفعال.
ـ أرجوك، الوقت يمر، وقريبا يحل الغروب، دعيني استفيد من هذه اللحظات.

كنت أحاول التملص منها، ليس لها حق عندي، لذلك أبديت لها عدم راحتي، وقد توقعت أن تأخذ بعضها وتذهب، وبالفعل سمعتها يائسة:

ـ ليس إنصافا أن تحكم عليٌ دون أن تسمعني، أريد أن أوضح لك كيف تغير نمط حياتي، صحيح أن لقائي بك كان عابرا، لكنه بالنسبة لي شيء مختلف، انظر إلي هذه المرأة البائسة الواقفة أمامك، وخذ فكرة عن معاناتها.

ـ لم آت هنا كي أقضي الوقت بالتحدث، لم أفكر في مثل هذا الأمر.

قبضت علي معصمي من جديد، متشبثة بي وقد علا الغضب وجهها، تحررت من قبضتها فقالت: لن تجد امرأة عندها بيانو مثلي، سأعطيه لك لو شئت.

ـ لا أعزف بيانو، ثم إن المكان الذي أسكنه لا يكاد يكفيني لصغره.
ـ لكن لا يوجد مثيل له هذه الأيام، ما عادوا يصنعون أشياء تضاهي عظمته.

من وراء النافذة سمعت صوت الطائر مرة أخرى يصعد فجأة ثم يتهاوى كما سمعته من قبل، ورحت أنظر لعلي أعثر عليه، فصاحت محبطة: لا تتجاهلني.

ارتفع صراخها بشكل فظ وراحت تتوعد.

ـ انهضي من فضلك، ليس بيننا ما يستدعي ذلك.

نظرت إليٌ من خلال دموعها، كانت تتمعن بحثا عن إشارة للرحمة، بعد ذلك جثمت على السجادة، فصرخت فيها: انهضي، فقدت عقلك بالتأكيد. أخذت في جد تزحف في محاولة للوصول إليٌ وهي تردد: لا تكرهني، لا تكرهني.

لم أستطع تحمل ذلك فاندفعت ممسكا بكتفها لأرفعها فجلست علي الركبتين وهي تقول: تتظاهر أنك لا تعرف ما بي، تتظاهر أنك تستمع لصوت ذلك الطائر.

أخذتها من ذراعها فوقفت، كنت أطمئنها بأنه سيستمع لشكواها أحد ذات يوم، عليها أن تعذرني لأني وضعت خطة وأريد أن التزم بتنفيذها وإلا كيف سأصل لمجرى النهر، ومتى تتاح لي فرصة دخول الأحراش، كنت أحدثها بذلك وهي تردد:

الكذٌاب، الجبان، يتظاهر بأنه يستمع لصوت الطائر، يتظاهر بأنه لا يحب البيانو.

وصلت معها إلى باب المنزل ففتحته، ثم سرنا معا إلي باب سيارتها لأطمئن إلى جلوسها وراء المقود وربطها لحزام الأمان، وكنت أهزٌ لها يدي مودعا وأنا أراقب انطلاقتها مبتعدة عن الرقم "17" في شارع (حجر النار). لم أخرج إلى الأحراش ولا إلى مجرى النهر كما خططت، فتحت التلفزيون ومكثت في البيت أقلب في ما تبثه المحطات لعلي أعثر على ما أريد، بعد ذلك فكرت بالسيدة هايكه تراها دخلت إلى منزلها وهل توجهت فورا إلي الحمام تغسل وجهها بالماء البارد, وهل نظر ت في المرآة إلي شيء ما كان يؤلم عينها اليسرى، وهل أصلحت من وضع شعرها وهيئتها قبل أن تخرج من الحمام إلى الصالة وهل جلست عند البيانو حائرة لمدة دقيقة، بعدها هل ضربت علي بعض المفاتيح لتنتزع منها نغمات شتى. هل كانت تفكر والنغمات تتصاعد أن بيانو مثل هذا لم يعد له مثيل هذه الأيام.

كاتب من العراق يقيم في ألمانيا