كافحت الجزائر كثيرا ضد المحتل الفرنسي، وضحت بالكثير من أبنائها للحصول علي حريتها واستقلالها، حتي حصلت عليه في 1962. ونتيجة المعاناة النفسية لطول الفترة التي امتدت نحو مائة وثلاثين عاما. انفجر الشعب الجزائري في مظاهرات عارمة في العام 1988 اعتراضا علي الحياة المعيشة، كان نتيجتها مئات القتلى، لتستفحل الأزمة، ويرفض الإسلاميون إلا أن ينتزعوا الحكم لأنفسهم، وهو ما يأباه الجيش، لتقوم المعارك التي تأخذ في طريقها مئات جديدة من الجزائريين. وما كانت الرواية الجزائرية لتغيب عن المشهد، وكتابها يعيشون بين رُحاها. وكانت "أحلام مستغانمي" واحدة من الذين عانوا ويلاتها، فأنتجت ثلاثيتها الشهيرة حول هموم البلاد، ولتتبعها بأحدث أعمالها "الأسود يليق بك" منسوجة بخيوط الحرير، رغم ما تحمله من وبر وأشواك، وكأنها تري في ذلك المشهد المأساوي طوال هذه السنوات، أقرب ما يكون بالحداد – لكثرة الموتى – فألبست بطلتها السواد.
فارتداء الأسود، الذي اعتادت على ارتدائه "هالة الوافي" بطلتها، برمزيته التي توجه الرؤيا إلي الحزن، وإلي الموت، وكأنه الجلد لها، التي تحاول أن تخرج منه، لا بخلعه، فهي غير قادرة علي خلعه، فهو تراثها، وهو بيئتها التي لا تستطيع مفارقتها، فلم يكن لديها إلا المقاومة، مقاومة الاجتياح الملتف حولها، يحمل كابوس الموت، ومن الموت، تستقي أسلوب مقاومتها، مات والدها المغني بفعل الإرهاب، كما مات أخوها بعده بذات اليد الفارضة سوادها، الإرهاب. وفي ذكري وفاة والدها، أراد الصحاب أن يحييوها بغناء بعض أغانيه، ولم تكن تعلم أنها يمكن أن تغني، حين صعدت للمسرح تغني أحب أغنياته إلي قلبه، بعد أن قر في أعماقها، أن الحزن عليه فقط، هو انتصار لمن قتلوه، فأرادت مقاومتهم، بنفس سلاحه، بالغناء، لتكون البداية لها في صعود السلم، وصولا للغناء مع الكبار في حفل عالمي، لم تكن به تنتصر علي قتلة أبيها وأخيها، بالسلاح، فقط، وإنما تنتصر كذلك علي ذات الإرهاب، وإن استخدم سلاحا آخر، سلاح المال، في محاولة لقتل الغناء في حنجرتها، لقتل الحياة فيها.
ففي ثمانينيات القرن الفائت، وكما في الكثير من البلدان العربية، استطاعت الجماعات الإسلامية، ممثلة في حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، إعتلاء كراسي الانتخابات البلدية والتشريعة، وهو مالا يُرضي بالطبع، جيش البلاد، فتدخل، لتعم البلاد حالة من الصراعات والقتل، بين تلك الجماعات والقوات المسلحة، راح ضحيتها عشرات المئات من الجزائريين، وكأن لم يكن ما ضحت به الجزائر في حرب التحرير من بشر، كان كافيا، حتي سُميت بلد المليون شهيد، ومن لم يمت من القوات المسلحة، مات علي أيدي الإرهابيين، وكلاهما، ليس لديه حل ثالث، السلطة أو الموت. وهو ما عبرت عنه " أحلام مستغامني" في روايتها البديعة " الأسود يليق بك"[1] {كان الموت إياه ينتظرها في سيناريو آخر. هذه المرة ليس الجيش الذي يقتل الأبرياء بشبهة إسلامهم، بل الإرهابيون يقتلون الناس بذريعة أنهم أقل إسلاما مما ينبغي!}ص194. ولتؤكد الرؤية في إجابتها عن سؤال في حلقة التليفزيون التي كانت الشرارة التي أشعلت الرغبة في رجل الأعمال، الملياردير "طلال هاشم"، حين أجابت عن سؤال: إلي متي ستظلين ترتدين الحداد {الحدداد ليس في ما نرتديه بل فيما نراه.إنه يكمن في نظرتنا للأشياء}ص16.
الإرهاب الديني
وضعت أحلام مستغانمي الكثير من السُم في الكثير من العسل. فعبر قصة حب مفعمة بالمشاعر والأحاسيس المتدفقة، تدفق إسلوبها ولغتها، سربت إلينا الكثير من القضايا، التي طرحتها وتطرحها في الكثير من أعمالها، الأمر الذي يجعل من تلك القضايا، هي المتن، وقصص الحب هي الهامش، أو الحامل لتلك القضايا، وكأنها تقاوم الموت بالحب، الذي هو أساس الحياة. غامسة قلمها في آلام الجزائر، وكأنها تعبر في ذات الوقت عن آلام الوطن العربي كله، فما يحدث بالجزائر، هو ما يحدث في كل البلاد العربية، إلا ما رحم ربي، حتي وإن اختلفت بعض التفاصيل الصغيرة، بحكم أن الثقافة واحدة، نابعة من توقف فكر الجماعات المتأسلمة بالزمن عند قرون مضت، وتأبي أن تسير معه، وفي ذات الآن، تأبي إلا ان تقيم دولتها. {لقد غير تهديد الأقارب سلم مخاوفي. إن امرأة لا تخشي القتلة، تخاف مجتمعا يتحكم حماة الشرف في رقابه. ثمة إرهاب معنوي يفوق جرائم الإرهابيين}ص16.
فالفكر المتطرف هو ما يحكم المجتمع، بتستر الجهات المسئولة عليه، لأسباب تكاد تكون معروفة. ففكر المجتمع هو ما يجعل من كلمة يعبر بها شاب عن (حبه لفتاته) ما يجعل منها جريمة يحاسب صاحبها، ويتعرض لأشد العقاب، كأن يكتب تلميذ في الثانية عشرة من عمره كلمة (أحبك) ووضعها أمام تلميذة، ثار المدرس وأعلن حالة النفور، وأصر علي أن يكتب كل التلاميذ كلمة (أحبك) ومنها تعرف علي كاتب الكلمة، فكان عقابه وكان الضرب، وأعلن مدير المدرسة فصل التلميذ لسوء سلوكه، فقال أحدهم: { مِنْ صفِ ذلك الأستاذ سيتخرج فوج من القتلة. إن اليد التي تُعاقب لأنها كتبت كلمة أحبك هي يد أُعدت لإطلاق الرصاص}ص36. وكما أن السلطات هي التي تصنع الإرهاب، بالخضوع لتلك الأفكار، ف {كان يمكن أن تكون الكارثة أكبر، فيحدث أن تقوم قوات الأمن بمداهمة الحدائق والتحقيق مع كل اثنين يجلسان متجاورين.
في نوبة من نوبات العفة، تم إلقاء القبض ذات مرة في العاصمة علي أربعين شابا وصبية معظمهم من الجامعيين، وأودعوا السجن فيما كان الإرهابيون يغادرونه بالمئات مستفيدين من قانون العفو! كان زمنا من الأسلم فيه أن تكون قاتلا علي أن تكون عاشقا}ص26.
وتقدم لنا الكاتبة نموذج من مئات الحالات التي تحدث في كل البلدان العربية، من واقع بيئة الرواية، حيث كان علاء، ابن خالة المطربة "هالة"، وسيما، وأصر علي مواصلة دراسة الطب بجامعة قسنطينة، المشحونة بالجماعات الإسلامية، مما اضطره بعد إلي هجرها ومحاولة استكمالها في العاصمة الجزائرية، أيام الرئيس بوضياف، غير أنه، ولم يكن يفصله سوي شهرين عن الامتحانات { لكن القدر كان أسرع منه، ما مر أسبوع حتي حضر إلي الجامعة رجال الأمن، واقتادوه مع اثنين آخرين . من يومها أخذت حياته مجري مأساة إغريقية، تتناوب فيها الآلهة علي مصارعة إنسان اقترف ذنب حب الحياة، وحب فتاة ما كان يدري أن أحد الملتحين يشاركه حيها. ولأنه لم يحظ بها، وشي به زورا حتي لا يخلو لهما الجو أثناء إعتقاله}ص69.
وفي تسعينيات القرن العشرين، دخل الصراع في الجزائر أشده، وأصبح القتل والموت في الشوارع، ليضيع دم البشر بين طلقات الرصاص الآتية من اللا جهة، لتعبر عنه الكاتبة في {خرجت للغناء لكسر القيود التي يكبل بها الرجل العربي المرأة، لا لتتحدي القتلة. ثم ماذا لو كان الجيش هو الذي يقتل الأبرياء.. ثم يقدم نفسه كطوق نجاة فيُفضل الناس الطاعون علي الكوليرا؟!}ص78.
وتزداد الأمور إختلاطا، وإلتباسا، فتصرخ الكاتبة، بما يقترب من المباشرة والتوهان، كمن فقد صبره، وفقد تعقله، وما أعتبره بؤرة الرواية ورسالتها {بدأت مشاكلها حين راحت تصرخ للصحافة الحرة، بأن ثمة جزائر للقلوب وأخري للجيوب، وإرهابا سافرا وآخر ملثما، وأن كبار اللصوص هم من أنجبوا للوطن القتلة، فالذين حملوا السلاح ما كانوا يطالبون بالديمقراطية بل بديمقراطية الاختلاس وبحقهم في النهب، مادام لا سارق اقتيد إلي السجن... "كن صامتا.. أو ميتا" كل حكم يصنع وحوشه، ويربي كلابه السمينة التي تطارد الفريسة نيابة عنه.. وتخرس الحقيقة باغتيال الحق}ص79.
وهو ما ادي إلي ما تخبرنا به الرواية، إلي ارتفاع نسية الجنون في الجزائر إلي 10% { إيه والله.. الرقم من مصادر طبية. ماالذي يُخرج المرء عن صوابه غير أن يري لصوصا فوق المحاسبة.. ينهبون ولا يشبعون، ويضعون يدهم في جيبك، ويخطفون اللقمة من فمك، ولا يستحون! إنه القهر والظلم و""الحقرة"" ما أوصل الناس للجنون. إذا فقد الجزائري كرامته فقد صوابه، لأنه ليس مبرمجا جينيا للتأقلم مع الإهانة، كيف تريدين أن أتزوج وأنجب أولادا في عالم مختل كهذا؟}ص27.
تنقلت "هالة" بين البلدان العربية، حيث أضطرت للاستجابة لرغبة أمها الملحة، بعد قطف الأرهاب أعز ما لديها، بالعودة إلي سوريا من الجزائر، إلي جانب زياراتها للبنان. وتحت رغبات "هاشم" تنقلت بين كل من باريس، التي كانت بها اللقاء، وفيينا، التي تم بها الفراق، بعد جولات سياحية داخل كل منها. فكان حتما أن تقوم المقارنة بين هنا وهناك. وحيث كان لفاء هاشم في باريس، فكان عالما مختلفا {لم تلتق من قبل مع رجل في مدينة تتنفس الحرية، ولا كانت يوما حُرة، لعلها فرصتها لكسر قيودها، واكتشاف العالم. عادت وصححت نفسها: اكتشاف العالم لا الانكشاف به}ص54.
وفي باريس، كان أول حفل لها بفرنسا، كان بصحبتها جمال ابن عمها، مرتديا البدلة والجل في الشعر، فقالت له {تصور في كل بلدان العالم يقصد المطربون الحفل مع فريق من المصورين والمزينين. أما عندنا، فيدخل المغني القاعة بفرقة من المصارعين. وبرغم هذا، أنت لا تضمن حياتك.. لو أرادوا رأسك لجاؤوا به حتي لو حضرت برفقة "بروس لي" بطل الفنون القتالية شخصيا}ص74.
و تشير إلي الموت المتربص في كل مكان من حراس الفضيلة المزعومون{ والله أغار من الذين يعزفون في الميترو في باريس. كل يغني علي مزاجه. قد يمر أحدهم ويضع له في قبعته يورو، وقد لا يضع شيئا. لكن علي الأقل لا يضع له رصاصة في راسه} ص74.
وكأنه محكوم علي الإنسان العربي أن يعيش بين نيران الخوف، الآتية من كل إتجاه، من الأسرة والمجتمع، بتقاليده البالية، ومن الدولة، باستبدادها، ومن الإرهاب، بغبائه وجموده، فتعددت جهات الإرهاب، وأحاطت بها من كل جانب { ما هربت من إرهاب ، إلا ووقعت في إرهاب مقنع آخر.. تصدت لإرهاب القتلة، ولإرهاب الدولة، ولإرهاب العائلة.. وها هي أمام الاستبداد العاطفي}ص207. وتتسع دائرة الرؤية لتشمل كل العرب، بالغضب، متصاعدة من الهم الخاص للهم العام، واصفة حالتها الأنثوية إلي حالتها العربية، حين حاولت كثيرا أن تتأقلم مع حياتها بدونه، تتناساه، غير أنها اكتشفت أنها لا زالت تحبه { إنها في النهاية كالشعوب العربية، حتي وهي تطمح للحرية، تحن لجلاديها. مثلها، تتآمر علي نفسها، تخلق أصنامها، تقبل يد خانقها، تغفر لقاتلها. تواصل تلميع التماثيل بعد سقوطها، تغسلها بالدموع من دم جرائمها}ص308.
الهجرة
ومثلما تشابهت الظروف المعيشية، وسطوة الإرهاب، وعدم الجدية الحازمة، للوقوف في وجه الإرهاب المسلح، لم تنجو أيضا من كونها أصبحت بلدا طاردا لأبنائه، الذين لم يكن الغرب ليفتح لهم أبوابه، فلم يكن أمامهم غير الهجرة غير الشرعية، والتي يعانون فيها – ربما – اشد مما يعانونه داخل بلادهم، مثلما تناولتها أكثر من كاتبة –أيضا –في أكثر من قطر عربي. ومن بين الإشارات المتعدد التي تسوقها أحلام مستغانمي، لجوء الكثير من شبابها إلي تلك الهجرة التي غالبا ما تؤدي للموت، وكأن الجزائري، والعربي عموما، يهرب من الموت، إلي الموت.
التقي "علاء" شقيق المغنية "هالة" بشقيق محبوبته، بعد عودته من الجبل، وعلم أن الإرهابيين قتلوا أباه المغني، وقبل أن يرسلوا من يقوم بتصفيته هو الآخر، ليسأل صديقه "ندير" المتخرج من سنتين، ولم يعمل بعد حتي أصابه الإحباط { - واش ناوي أدير؟
ناوي علي الهربة.. ما يسلكني غير البحر، كاين بزاف راحوا وراهم في أسبانيا لابأس عليهم. لا مجال لمناقشته. إنه لا يرتاب في البحر. يثق فيه أكثر من الوطن الذي سيتركه خلفه. سيبحر ويعود بشباك فارغة الأحلام!}ص 94.
ومات "الندير" صديق علاء وشقيق "هدي" التي انتقلت للعمل بقناة الجزيرة مع اجتياح أمريكا للعراق. ليس كل من أبحر نجا، لهول مصابهم نسي الناس النزعات الإجرامية للبحر، صدقوا أنه رفيق درب، سيأخذ بأيديهم إلي الضفة الأخري، فألقوا بأنفسهم إليه. لكن، ليس للبحر يد ليمدها لمن جاؤوا علي قوارب الموت، ولم يعرف عنه يوما مصادقة المفلسين. عندما نزل خبر موت الندير نزول الصاعقة.. ذاع الخبر بين الناس بسبب شهرة أخته.. {خوها مات مع الحراقة ، هاج عليهم البحر مساكين.. ما نجاو منهم غير زوج .. وهكذا قبل "الموت حرقا وصلت موضة "الموت غرقا"إلي الجزائر ، بعد أن تفشت في كل بلاد المغرب العربي. راح اليأس يُفصّل لأتباعه أكفانا عصرية، من قماش الأوهام الجميلة، لماذا انتظار العالم الآخر لدخول الجنة التي يَعِدُ بهم الإرهابيون، إن كان بإمكانهم بلوغها في بضع ساعات علي ظهر مركب؟}ص233.
{فالدولة التي تدلل الإرهابي لأنه عاد بعد ضلالة، تُجَرِم من هو جاهز للانتحار، لأنها وحدها تمكلك حق قتله بالتقسيط}ص234.
الانتصار للنسوية
إذا كان البعض قد إعتبر أحلام مستغانمي هي ملكة الحب في الرواية النسائية العربية، فإني أعتبرها سفيرة النسوية العربية، التي استطاعت أن تنفذ إلي أعماق المرأة العربية، لتستخرج منها وضع المجتمع العربي، ومعاناته، مع موروثه المُكبل، ليس للأنثي فقط، وإنما للمجتمع كله. فنستطيع أن نلحظ وجود الذات الأنثوية بكل تجلياتها، كما وجود الأنثي الفاعلة، بدون الجسد، فعلي الرغم من استغراق الرواية ( وكل أعمال أحلام مستغانمي عموم) في الحب المكتوب من جانب الأنثي، إلا أننا سنلحظ أن هذا الجسد، لم يكن هو سلاحها، وإنما المنطق والثقافة التي تجعلت في الحوارت الراقية التي إمتدت عبر الرواية، مستخدمة العقل، أكثر من استخدامها للجسد.
وفي مجال النسوية، يكفي أن نتتبع مراحل الحب الذي إلتهب بين "هالة" و "هاشم" لنستخرج أعماق المرأة، وكيف استطاعت أن تصور الحب (العربي) علي أنه صراع، وليس توافق، الأمر الذي يؤدي به إلي الفشل في كثير الحالات، إذا ما تناولنا الشخصيتين علي مستواهما الفردي، وجردناهما من البعد الرمزي. وقد سربت الكاتبة عبر الصفحات، ما يكشف عن أعماق الأنثي، بخبرة وعفوية أيضا، نابعة من صميم الموقف مثل {أنّي تمر يداه تُزهر أنوثتها، لكنها ترفض أن يقطفها. ما يُعطي بسهولة يُفقد بسهولة}ص219. فرغم فوران الداخل، وإحتياجها، تقف التقاليد، ويقف المجتمع حاجزا أمام تحقيق ذاتها، فتأتي المقاومة أيضا من الداخل الذي يضطرب بين نعم ولا، فتتحول إلي شخصية مأزومة، ويفقد المجتمع إتزانه. وهو ما يؤكده قولها {في سلم الأولويات..الحب هو الأول في حياة المرأة .. ويلي أشياء أهم في حياة الرجل}ص133، فإذا كان الحب محرما، ويواجهه المجتمع علي النحو الذي بيناه سابقا، ألا يحق بالفعل قولها { كان زمنا من الأسلم فيه أن تكون قاتلا علي أن تكون عاشقا}.
كما نثرت الكاتبة مراحل الصراع ، الحب، بطول الرواية، وهو كما قلنا سابقا، ما احتفظ للرواية بحيويتها. فبعد أن تعرفنا علي محاولاته إثارة الشغف بداخلها، حتي إذا ما أتاها، تكون كالثمرة التي طابت وطلبت آكلها، ثم يزورها، أول زيارة دون أن يتخلي عن إثارة الشغف، داهمها بالزيارة المفاجئة في حجرتها بالفندق في بيروت، توقعت كثيرا، غير أنه لم يجلس طويلا، وطلب المغادرة، وعند الوداع وقع معها أول عقد رسمي لتلك العلاقة، قبلة وحيدة علي شفتيها لتنضح أنوثتها، وإنسانيتها، وحرمانها: {في أسطورتها هي، يقع عليها السحر مذ يضع ذلك الرجل العابر شفتيه علي شفتيها. شفتان ألقتا القبض علي قدرها، وتركتاها في غيبوبة النشوة، تحت تأثير الخدر العشقي، كما في نوم لذيذ. ظلت ساندة ظهرها إلي الجدار، عاجزة عن التفكير أو الحركة، لا تريد أن تستيقظ من سحرها. هو لم يهبها قبلة.. وهبها شفتيها، فما كان لهما قبله من شفتين}ص 142 .
وكما كل إمرأة، في لحظة حب، تتصور أنها ملكت الكون، وأنه لها وحدها، الأمر الذي يشعل المواجهة، ويضاعف من قوة الصدمة، فعلي قدر الحلم، والأمل، تكون الصدمة. فبعد تلك الزيارة، تحاول إقناع نفسها بأنها الوحيدة لديه، فما من رجل يفعل كل ما فعله ويفعله لآخر إلا كان وراءه حب كبير. وهو الأمر الذي يُضاعف منقسوة المفارقة والمواجهة، بينهما حين يصدمها، وبينها وذاتها حين تقاوم الانهيار أمامه، لحظة المواجهة، وهو ما يعبر عن قوة الإرادة، وقوة الشخصية، وقوة المعاناة. كما تكشف عن الجانب الآخر في شخصيتها، الجانب الأضعف فيها، وهي التي وقفت طويلا أمامه بمظهر القوة، فضلا عن العنصر الرجالي فيها، كما أشار هو إليه {ما الذي جعله لحظتها ألذ من قطعة الشيكولا التي تذوب في فمها؟ هو "سيد الشهوات" و "إله الموائد" و "سلطان النشوة" و "الملك" علي قاعة بأكملها لا مستمع فيها سواه. أأسرها بقوة شخصيته؟ أم بكل ما فعله لبلوغ تلك اللحظة؟ أم أيضا بسبب طيف المرأة "الصديقة" التي تعمد أن يتركه كما دون قصد؟ ما توقعت أن رجلا مهووسا بها إلي ذلك الحد يمكن أن يكون في حياته امرأة سواها}ص126.
غير أن ضميرها المتحرك، وناقوس اليقظة "نجلاء"، تحاول أن تقتنع هي الأخري، او تحذرها مما هي مقبلة عليه، فتتحدث، كما لو كانت تتحدث مع نفسها، كاشفة عن أعماق شخصيته، علي الرغم من أنها لم تره، إلا أن خبرتها هي من ينير لها الأمور، وهي التي مرت بتجربة الطلاق {ربما كان يحبها، لكنها، جولة بعد أخري، سيرغمها علي قطع مراحل في العبودية. مدا وجزرا سيؤدبها... حبها أصبح يؤذيه أكثر مما يسعده، لذا كلما ازداد تعلقا بها تمرد عليها. وكلما ازداد إعجابا بها، اجتاحته رغبة في اهانتها}ص290.
إلا أن "هالة" التي بلعت الطُعم الذي مده إليها، واستسلمت للعاطفة، تستنكر علي نجلاء ما قالته، فنراها تحاول أن تقنع نفسها، قبل ان تقنع "نجلاء" {كيف لامرأة أن تنسي رجلا آسرا ومدمرا إلي هذا الحد، برقته وشراسته، غموضه وشفافيته، لطفه وعنفه، حقيقته وتعدد أقنعته؟ كل امرأة تملك منه نسخة فريدة من كتاب الحب. هي القارئة والبطلة فيه، ولا أحد سيصدق يوما ما سترويه.لا أحد}ص223. حيث تستخدم آحلام مستغانمي ذلك للكشف عن المزيد من شخصيته، غير المفهومة، أو المضطربة، وغير السوية.
غير أن بذرة الخوف - الكاشفة عن إنسانية الشخوص - تنبت في الصدور، حين يواصل محاولاته في منعها من الغناء، الأمر الذي سعي إليه بطول العلاقة، وتكلف في سبيله الكثير من ماله الذي هو مصدر قوته، حيث {لم يمتدح صوتها يوما، ولا أبدي إعجابه بفنها. بل في كل ما يقوله أو يسكت عنه، يكاد يشككها في نفسها. أتراه يحجم النجمة ليتمكن من الأنثي كما تقول نجلاء؟}ص261.
وفي النهاية، وبعد المواجهة التي لم تكن تتوقعها، فكما الضربة المفاجئة، تتساءل: { من أين له هذه القدرة التدميرية؟ لكأنه يحمي نفسه من الحب بأذية من يحب}ص302.
إلا أنها لم تستسلم للهزيمة، فقررت أن ينطلق صوتها، الذي سعي حثيثا لحبسه، بالاشتراك في الحفل الدولي، بل وتخلع الأسود، الذي كان اللون الذي يفضله عليها، وترتدي ثوبها اللازوردي ، وكأنها تعلن رفضها للموت، وترحيبها بالحياة. ولتنتهي رحلة الحب الفردي الإنساني في حياتها، كانتزاع الشوك من القطن.
بناء الشخصية
في تصوري الشخصي، ان القدرة علي بناء الشخصية الروائية، هي أهم العناصر التي تقوم عليها الرواية. حيث أن بناء الشخصية المتطورة، المتفاعلة مع الموقف، هي التي تمنح القارئ الحميمية، والمعايشة، والصدق الواقعي، فضلا عن الصدق الفني.
وقد أجادت الكاتبة في صنع شخصيات منحوتة، بتؤدة، من أرض الواقع، لتعبر عن الواقع الملموس، فضلا عن تمثيلها الاستعاري، التي تنطلق بها من التمثيل الفردي المحدود، إلي التمثيل الكلي الجمعي، الذي يوسع دائرة النظر إلي رسالة الرواية، وذلك عن طريق تنامي الشخصيتان، الرئيسيتان "هالة الوافي" و"طلال هاشم" علي طول الرواية، فلم تصنع من أي منهما نموذا، أو ملاكا، وإنما رأينا كل منهما في حالته البشرية. في لحظات إنكسار، كما في حالات الانتصار. فكان أن تعرفنا علي تفاصيل كل شخصية منهما، علي مدار الرواية، الأمر الذي احتفظ لها بحيوية القراءة والمتابعة، مستخرجة عناصر الشخصية، من داخل المواقف بينهما، فجاءت إضافة نابعة من الداخل. حيث هما العمودان الرئيسيان حاملي بنيان الرواية، التي أحكمت تصميمها، وإبداعها. حتي وإن اقتصرت الشخصيات الثانوية، المحدودة جدا مثل "نجلاء" التي أعتبرت الكشاف المُضئ لأعماق كل من الشخصيتين، حين تقول لهالة ناصحة، وبما يكشف عن أعماق الأنثي التي أجادت أحلام مستغانمي في الإفصاح عنها، وما يمنح كتابتها عموما صفة الأنثوية، سواء في هذه الرواية أو في ثلاثيتها السابقة "ذاكرة الجسد"، "فوضي الحواس" و "عابر سرير". فقبل سفر هالة إلي فيينا، بناء علي استعجال من "هاشم" الذي يهاتفها بعد إنقطاع شهرين دون أن يرد علي تليفوناتها، وهو ما عانت منه كثيرا تنصحها "نجلاء" قبل سفرها بعد استدعائها لفيينا خلال ساعات معدودة { لا تخبريه بما حل بك أثناء قطيعتكما أو تبكي، الرجل لا يتعلق بإمرأة يُبكيها بل بمن تُبكيه، إن عرفتِ الفرق بين الإثنين في هذه الحالة بالذات، ستكسبين الجولات كلها.
- لكنني لست ذاهبة إلي معركة!
- كل لقاء مع رجل هو حرب غير معلنة.. وكل حبيب يمكن أن يغدو مشروع عدوٍ في أية لحظة!}ص244.
وفي ذات الإطار، وباستخدام الموقف الشخصي (الفردي) تخرج الشخصية من إطارها المحدود، إلي الدائرة الأوسع، لتتمثل فيها كل النساء، منزلقة في ذلك التحول بنعومة، وشاعرية {ينهار صمودها. تهاتفه. لا يرد. تبكي.. يضحك الحب. سيظل يخطئ في حقها ثم يمن عليها بالغفران، عن ذنب لن تعرف أبداً ما هو، لكنها تطلب أن يسامحها عليه. هكذا هنَ النساء إن عشقن!}ص230.
كما تنضح الأحاسيس الأنثوية التي تجيدها الكاتبة في{ وَضعَ قبلة علي عنقها، كما لو كان يلفها بشال من القبل، أو كمن يقبل عنق فراشة دون المساس يجناحيها. كانت فصاحة رجولته تكمن في دقة انتقائه لمواضع القبل التي يُرصع بها أنوثتها، بخبرة جواهرجي} ص247.
فضلا عن تلك الرؤية التي تصل بها إلي كنه المرأة، وصانع لغزها، الذي تحير الكثيرون أمامه، وما كان أحد الروابط القوية التي التفت حول هاشم، ولم يستطع الإفلات منها، إلا بألم الفراق، حتي لو لم يظهره، لطبيعة في شخصيته، بعد أن وقع الفراق وتم تحطيمها، وعادت إلي بيروت بدونه {هي الآن حرة، لكن كلما تحررت منه، سعدت وحزنت في آن، وكلما شُفيت من عبوديتها، عانت من وعكة حريتها، إنها تتصرف بيتم فتاة عليها بعد الآن أن تقرر وحدها قدرها}ص303.
فإذا كان "طلال هاشم" قد أحاطها في بداية العلاقة بالكثير من الغموض، والإثارة، بما دأب عليه من إرسال نوع من الورد، محددا، دون أن يفصح عن شخصيته، وإلي الحد الذي إتفق فيه مع جهة خيرية بإقامة حفل غنائي تكون هي مطربته الوحيدة، واشتري كل تذاكر الحفل، حيث يكون هو الحاضر الوحيد فيها، الأمر الذي إحتل معه كثيرا من إهتمامها، وترددها. كما في الاتفاق معها علي اللقاء في المطار، دون أن تتعرف عليه، وينسحب دون أن يُظهر نفسه لها، الأمر الذي أشعل الفضول في نفسها، وبدأت تتعلق به، إلي أن التقيا، ليفاجئها بعد ذلك بزيارتها في حجرتها بالفندق، وبعدها يبيت في جناح، لا يفصله عن جناحها، سوي باب منحها حق فتحه إن شاءت، غير أنها لم تشأ، رغم رغبتها المدفونة، حيث يتجلي الموروث الثقافة، إفعل ولا تفعل، وحيث تتجلي قوته، ويصل الأمر إلي أن يبيتا علي سرير واحد، دون أن ينالها، رغم تهيؤها الداخلي، وتوقعها، وقد يري البعض أن في هذا مبالغة، إلا ان دراسة الموقف بدقة، سيري أنه أثقل في الشرب ليلتها، ونام. إلي جانب أنها الليلة التي إعترف أمامها بنقطة ضعه، وهذا الشور الذي حافظ عليه طويلا، وتحاشي أن يعترف به أمام غيره، كان عاملا نفسيا يحول بينه وبين الفعل. فالخروج عن المنطقي هنا مبرر، فلم يكن عن قوتهما، وإنما عن قوة الظرف.
وقد ساهم في تكوين شخصية "هالة ، ما علمناه من نشأتها بحض الجبل (جبال الأوراس – المعروفة بحدة الفوارق فيها بين الصيف والشتاء، وبين الليل والنهار)، والذي كانت تصعد إليه في طفولتها بصحبة جدها، ودوره في حرب التحرير، وتجارب جدها معه، وما تقول عنه الراوية { فمن الأوراس انطلقت شرارة التحرير. ما كان يمكن للثورة أن تولد إلا في تلك الجبال"الشاهقات الشامخات". جغرافيتهم هي التي أنجبت التاريخ}ص62. فإذا علمنا مدي تحكم العادات والتقاليد والعرف فيها، الأمر الذي أكسبها منذ الصغر صلابة، وتمسك، وتحدي، وقدسية الشرف، كما تكونت شخصية "هالة" مُستَمدة من شخصية جدها صاحب الصوت الجميل والكرم الجميل وارتباطه بدوره ب"مرواة" تلك البلدة المزهوة بنفسها وكأنها بلاد . ومن شموخها -"مروانة"- وشموخ جدها، ومن تعدد زياراتها مع جدها للجبل، أصبحت تنظر للعالم من الأعالي، حيث {لا تقبل أن يطل عليها أحد من فوق.. هكذا تحكم جبل الأوراس في قدرها}ص66.
كذلك ما مرت به من تحديات وصعاب، بقتل إثنين من أقرب الناس إليها، والتهديد بقتل آخرين، هو ما أوصلها لروح التحدي، حتي تغني في ذكري والدها، وهي تعلم أن الموت يمكن أن يطالها، من ذات اليد الكارهة للحياة، والعاشقة للموت، وللدماء. هو ما جعلها {يوم رآها لأول مرة في ذلك البرنامج، هشة وقوية، متمنعة وشهية، امرأة بأخلاق رجالية، تتحدي القتلة.. وتأبي الجلوس إلي طاولة اللصوص}ص280. فكانت هي الأنثي، وكان بها من صفات الرجولة، ما جعل كل تصرفاتها معه مقنعة ومنطقية.
كما كان هو أيضا "هاشم"، ذلك الرجل الذي يرمي شباكه بالغموض، الذي يتصور أن ماله يضعه فوق الجميع، حد أنه لا يعتذر، بل علي الجميع أن يعتذر. هذا الجبروت الظاهري، كان يحمل بداخله نقاط ضعف، تقترب به كثيرا من الشخص الطبيعي، وتجعل تصرفاته منطقية، إذا ما علمنا أن لديه شعور متسلط، بأن كل من حوله، يقتربون منه من أجل ماله، لا من أجل شخصه، وهو ما يعترف به لها، كاشفا عن تلك النقطة، وما ندم عليه كثيرا، فما أراد يوما أن يبدو أمامها ضعيفا، إلا أن الزجاجة لعبت برأسه، فكان الاعتراف في جلسة شجن، تسأله عما ينقصه ليكون سعيدا، فيجيبها، علي غير ما توقعت: الشجاعة {نحن كلما نزداد ثراء، نزداد جبنا، خوفا علي مكاسبنا.. وأيضا علي طمأنينتك.. أنت تثقين في الجميع.. أنا لا أثق بأحد. تدرين شقاء إنسان قدره ألا يصدق أحدا، لأن لا أحد يحبه لنفسه}ص275.
فهو يبحث عن من يريده لشخصه، وربما كان ذلك هو مبرر تلك المحاولات بالتخفي معها، كنوع من الاختبار، في الوقت الذي يفرض وجوده علي الأخرين باستخدام ماله. كما أن حلم حياته أن يكون لديه ولد يرث كل هذه الثروة اللامحدودة، فلم تكن ذريته سوي ابنتان، غير انه عاجز عن الإتيان به، كما أنه مر بتجربة حب لم تتم، بعد أن أجبرته الحالة المعيشية للسفر إلي البرازيل، لم تنتظره من كان يحبها، وهو بالتأكيد ما زرع بأعماقه الشكوك في كل علاقة، إلي جانب الرغبة في التشفي أو الانتقام. فكان كما عبرت عنه متحدثة الأعماق، وكاشفة أبعاد الشخصيات "نجلاء". فحين أخبرته بما تعاقدت عليه من حفلات في بيروت، حاول منعها، رأت انها في حاجة لهذه الحفلات، تعمد ألا يرد علي تليفوناتها، مقاطعا، فبررت "نجلاء" هذا، كاشفة عن الأبعاد النفسية له، بأنها {حيلة يضمن بها استعادتها من خلال منعها من العمل..إذ يتملكه إحساس بأن شهرتها تسرقها منه. هي محاولة للاستيلاء علي روح تتمرد عليه لأنها حرة}ص230.
و تتلبس لبوس الطبيب النفسي، الكاشف عن مبررات السلوك {في الواقع هو يعاني من كآبة من تتعذر عليه السعادة}ص268.
وفي لحظة تصور هاشم أنه تملكها، أنها قد اصبحت ملكا خالصا له. في فيينا، وبعد أن بدأت في محاولاتها لمجاراته ، ماليا، وهو ما أرهقها، إلا أن شعورا داخليا يرفض الاستسلام لماله. اشترت هدايا ثمينة له، وفي محاولة لمفاجأته، خبأت ما اشترته. ليسألها، في تسوقك ألم تشتر شيئا، وتصور أنها في احتياج لماله، عرض عليها رزمة من المال، غير أنها رفضت بشدة، الأمر الذي أثار ثورته، وكشف عن مكنون نفسه، فانهال عليها إهانة، بأنها من تكون حتي ترفض ماله {كيف تسني لها أن تخاطبه هكذا. في إهانتها لماله إهانة متعمدة له. حتي الذين ينصبون عليه يغفر لهم. لكنه لا يغفر لمن يباهي باستغنائه عنه}ص289.
وهنا تبلغ الرواية ذروتها، المواجهة الكبيرة، نقطة ضعفه، ونقطة قوتها. ظل يُهنُها، بينما لم تدمع عيناها. ليأتي الموقف منطقيا، فربما لم تتعمد عدم البكاء، فقد تكون المفاجأة ما أخرسها، إلا أنها أيضا لم تدافع عن نفسها، لم تخبره بما اشترته له، لم تخبره بأنها اشترت شيئا، بينما جاء انفعاله، لإحساسه بانهيار قوته المزعومة، إهانة ماله. لتنسحب هي دون دموع، ودون دفاع، ودون أن تعلم إلي أين ستتجه، ولم يكن معها المال الكافي. غير أن تصميما، ولو ظاهريا، هو حكم العقل، وإن كان القلب يحكم بغير ذلك، لتجسد مستغانمي الصراع الداخي بين العقل والقلب، وتجسد قوة الإرادة التي تتمتع بها، فقال العقل أنهما قد وصلا للنهاية، وألا تلاقي بينهما، لتنطقها الكاتبة بتلك العبارة البليغة، القوية، والناعمة، والمعبرة، وكأنها تجسد القصة كاملة، في واحدة من رؤاها العديدة {أنا امرأة من أنغام وأنت رجل من أرقام، وليس بإمكان لون أن يجمعنا}ص298.
وبهذا، تصبح الشخصيات منبثقة من الموقف، ومتفاعلة معه، وبه، فجاءت شخصيات حية نابضة، نجحت الروائية في تصويرها، وأن تقنعنا.
شاعرية الإسلوب
اشتهرت أحلام مستغانمي في الوطن العربي بلغتها الشاعرة الجاذبة، التي تأسر يها القارئ، وبقدرتها علي تشكيل الصور. فلم تكتف باتباع الصيغة الموسيقية في تقسيم الرواية، لتستبدلها، من الفصول إلي الحركات، متخذة من صياغة الموسيقي صياغة السرد، فعلي سبيل المثال، في الحركة الرابعة – حركة السريع المتتابع، موسيقيا- تتعالي الدقات تمهيدا للنهاية، نري أن هذه الحركة عندها، تبدو أكثر سرعة وتدفقا، كذلك الحوار الذي يُنذر بالنهاية، حين جلوسهما معا في الليلة الأخيرة، وحين يسألها نتي موعد السفر، لتجيبه بعد يومين، فيدور الحوار، فيلعن المشاغل التي شغلته عنها:
- لا أفهم أن تكون مشغولا دائما
- عليَّ أن أتعب لينعم الآخرون برخاء أكبر بعدي
- أرجوك لا تُصبني بالرعب
- القلقون يغادرون أولا. هكذا الحياة}ص269.
حيث تفوح من الحوار رائحة الوداع، كما يشعر المرء أحيانا بانقباض من حديث معين، يشتم منه رائحة النذي.
ثم تتجلي الشفافية في قول هالة {ها هو ذا الحزن في توزيع أوركسترالي يليق بفيينا .. فلماذا الدانوب ما عاد أزرقا؟ لماذا تحولت زرقته إلي كلمات زرقاء علقت بروحها كاكدمات. }ص295.
كذلك حولت الكاتبة الإنسان نفسه إلي آلة موسيقية، وأصبح كل يعزف لحنه، ليتشكل في النهاية الهارموني الإنساني، الذي به تتآلف الحياة، أو كأنما هكذا يجب أن تكون الحياة، مثلما كانت مع الخطيب المقترح لها من قبل العائلة {أكان سيفهما لو قالت له وهو الموسيقي، إن لقادر إيقاعا خاطئا. لم يكن سئ الصوت، كان سئ الإيقاع، وهذا أكثر إزعاجا. كان نشازا مع الموسيقي الداخلية، تلك التي ما كان يملك "أذنا" لسماعها. سدي حاولت أن توفق بين إيقاعهما. كانا آلتين لا تصلحان لعزف سيمفونية مشتركة. فكيف لروحيهما أو جسديهما أن يتناغما؟ كان قادر مزمارا تتعذر دوزنته مع قيثارتها. أثناء انشغالها بضبط الإيقاع، كان هو مشغولا بضبط النفس. منهمكا في سد كل ثقوب المزمار بمخاوفه، وتردده، وخجله} ص22 .
وكم كان ممتعا، تجسيد وتكثيف العلاقة بينها وبين "هاشم"، والذي فيه أصبحت هي ذاتها آلة موسيقية، واستحالة اللقاء بينهما، أو التزاوج بينهما: {ثمة امرأة بسيطة كناي، قريبة ككمنجة، أنيقة في سوادها كبيانو، حميمية كعود. هي كل الآلات الموسيقية في امرأة. إنها أوركسترا فيلارمونية للرغبة، برغم ذلك لن يتسني لك العزف علي أية آلة فيها. تلك هي لحنك المستحيل}ص312.
كما أن الفعل الثقافي المُتَضَمن في الرواية، لم يخرج هو الآخر عن نطاق الشعر والموسيقي، في إشارة إلي التناقض الواقع بين "مروانة" اسم البلد التي قُتل فيها الضحايا من أهلها، وبين عنف الإرهاب ودمويته.
فحين يأتي ذكر الشجن المصاحب للبشر في الجزائر، مصحوبا بالناي الآتي من شجرة كانت خضراء، وتدلف منها إلي ما فعلته الجماعات الإسلامية في إشارة، قد تبدو عابرة: {في ذلك الزمن الجميل، لم يحدث أن أفتي أحد بتحريم صوت إمرأة، كيف ومروانة اسم أنثوي كدندنة، تخاله أغنية} في زمن كان الرجال فيه يبتهلون إلي الله بدعاء لن تجده عند غير الجزائريين في ذلك الزمان {يا ربي نقص لي في القوت .. وزد لي في الصوت}ص65.
بعض الإنصاف
إذا كانت بعض الانتقادات التي وُجهت للرواية، وللروائية، أنها لم تأت بجديد في روايتها، حيث لا يختلف كثيرا عما سردته من قبل في ثلاثيتها، خاصة "عابر سرير". إلا اننا نري أن ذلك يُحسب لصالح الروائية، حيث لا يشير إلي (إفلاس) الكاتبة، بقدر ما يشير إلي أن لديها مشروع تعمل عليه وتأبي أن تفارقه، إلي ان تصبح الجزائر كما يتمناها الجزائريون، كما تري الدول المستقرة التي تعايشها في سَفْرَاتها، وكأنها تتخفي خلف بطلتها "هالة الوافي". وهو ما يجعلها واحدة من الكاتبات العربيات اللائي حملن هموم وطنهن علي ظهورهن، اينما حلوا، وعلي أي وجهة كانوا.
كما عاب بعض دعاة (دفن الرؤوس في الرمال) علي الكاتبة أنها عرت المجتمع بما لا يجب. إلا أن الرد عليهم يأتي من داخل الرواية التي تأبي أن يُتهم الشعب الجزائري بشئ يشينه، فيكفي قولها { إذا فقد الجزائري كرامته فقد صوابه، لأنه ليس مبرمجا جينيا للتأقلم مع الإهانة}. ثم، أليس في كشف المفاسد طريق العلاج والتجاوز؟.
Em:shyehia48@gmail.com
[1] - أحلام مستغانمي – الأسود يليق بك – رواية - منورات نوفل- بيروت – ط1 2012.