يقدم الباحث هنا كيف كشفت الهرولة للتطبيع مع العدو عن دور المثقف في تمكين الأنظمة من تحقيق هيمنتها، بصرف النظر عن شرعيتها أو مشروعيتها، وانخراط أغلب المثقفين العرب في إحكام هيمنة نظم التسلط العربية، فتخلوا عن دورهم الأساسي في خلق وعي نقدي قادر على مجابهة الوعي الزائف والمهيمن.

عن السقوط النهائيّ لمثقّفي الهيمنة

سعيـد محمد

 

هستيريا تطبيع الأنظمة العربية مع الكيان العبريّ أسقطت آخر أوراق التوت عن الدور الاستسلامي الخطير الذي تلعبه فئة مثقفي الهيمنة التقليديين والتكنوقراط والعضويين البرجوازيين المنخرطين في مشاريع الحكم ما بعد الكولونيالي كمروّجين ومبشّرين بأجندات سياسيّة ثقافيّة واجتماعيّة تكرّس التبعيّة للغرب الرأسمالي، وللسلالات القروسطيّة وكيلة الإمبرياليّة الجديدة، ومحتلين للفضاء العام. مهمتهم إقصاء أيّ حسّ نقدي تجاه الخيارات السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية التي تتخذها تلك السلالات ولو كانت كارثيّة التأثير على الأكثريّة المغيّبة. أمر يجعل من مهمّة كسر احتكار تلك النخبة لوظائف المثقّف وتعويم مفهوم المثقف العضوي المعادي للهيمنة على أوسع نطاق ممكن بين الطبقات المستضعفة، مهمّةً ملحةً أكثر من أيّ وقت مضى، ولا سيّما من خلال تعظيم الانتفاع من نافذة التواصل العريض مع المجتمعات والسهولة النسبيّة للوصول إلى المعارف التي يوفرها الإنترنت وأدوات الإعلام الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي.

لا يمكن الحديث عن المثقف ودوره في المجتمعات عموماً من دون ضبط بعض المفاهيم والمصطلحات الأساسيّة، ولا سيّما أنّ الترجمة العربيّة للتسمية المبتدعة أصلاً في الثقافة الغربيّة البرجوازيّة (Intellectual) تبتعد بنا من حيّز توظيف العقل في إطار التقسيم المتزايد للعمل إلى مساحة أقرب إلى الإلمام بالثقافة السائدة في مجتمع ما، لتعكس ربّما حدود اللغة والخبرة المعاشة في المجتمعات العربيّة التي عاشت على هامش الحداثة، وحيث الشاعر والعرّاف والنسّابة هم طليعة المجتمع وقوّته الدافعة الفكريّة. وتبدو إشارة ماركس وأنجلز في «الأيديولوجيا الألمانيّة» رائدة لناحية تحديد دور للمثقفين كجزء من سياق المجتمع الرأسمالي «حيث الطبقة التي تمتلك وسائل الإنتاج الماديّ بتصرفها (بما فيها رأس المال بالطبع)، تسيطر في ذات الوقت على وسائل الإنتاج الفكري»، وأن مهمة الإنتاج الفكري «توكلها الطبقة المسيطرة لمفكري الطبقة المنتجين لأيديولوجيتها». لعل الصورة التي كانت في ذهن ماركس حينها مرتبطة بتلاميذ الفيلسوف الألماني هيغل الذين انقسموا بعد وفاة أستاذهم في عام 1831 إلى جناحين متناحرين وخاضوا معارك فكريّة هائلة «حتى لتبدووالوصف لماركس وإنجلز دائماً – معها الثورة الفرنسيّة بالمقارنة أقرب إلى لعب الأطفال». لكن ماركس عاب على هؤلاء انفصام نشاطهم الأيديولوجيالألماني – عن واقعهم – الألماني – وامتناعهم عن نقد الظروف الماديّة لمجتمعهم، معيداً الرّبط بين الفلسفة وقيادة التغيير الاجتماعي، حيث «الفلاسفة – أقرأ المثقّفين - دائماً اكتفوا بتفسير العالم، فيما المهمّة هي تغييره».
لكن أدقّ توصيف للمثقف ودوره في المجتمعات ما زلنا ندين به للمفكر الشيوعي (الإيطالي) أنطونيو غرامشي، الذي ترك ضمن دفاتر سجنه قبل مئة عام تقريباً نصوصاً مؤسسة في تعريف المثقفين وأدوارهم في إطار أنموذج الهيمنة (بمعنى سيطرة طبقة حاكمة على مجتمع ما عبر الأيديولوجيا لا بمحض أدوات العنف الرسميّ) لا تزال إلى اليوم نقطة انطلاق أي بحث معاصر في هذا الشأن. ويُفهم من مجموع النصوص الغرامشيّة بأن المثقفين يندرجون تحت ثلاث فئات: مثقفون تقليديون (رجال الدين الرسمي، موظفو الدّولة والصحافيون المحترفون مثلاً) وهم حكماً من بقايا نظام اقتصادي وسياسي اندثر منذ بعض الوقت وليست لديهم أيّ قيمة فعليّة، لكن الطبقة المهيمنة تجدهم مفيدين في إعادة انتاج أيديولوجيا الخضوع والحفاظ على الوضع القائم. وهناك مثقفون تكنوقراط (الخبراء المتخصصون في الإدارة والماليّة والأكاديميا الذين يعملون في فضاء مؤسسات الإنتاج الاقتصادي والمالي وتأهيل البيروقراطيّة بشكلها المعاصر) وهؤلاء يتجنبون عادة الخوض في المسائل السياسيّة مباشرة ويعملون بدقة ضمن قواعد وخطوط غير مكتوبة لكن متوافق عليها. وأخيراً، هناك المثقفون العضويّون وهم أولئك الذين لا يرتبط نشاطهم الفكري حصراً بوظائفهم بقدر ما يتجاوزها نحو التأثير الأوسع بالمجتمع، وتقديم نوع من قيادة أخلاقيّة ثقافيّة وفكريّة نقديّة الطابع لتوجهاته السياسيّة والاجتماعيّة في نطاق ظروفه الماديّة البنيوية. ويُقرأ من غرامشي بأن المثقفين العضويين يمكن في النهاية أن يكونوا على طرفَي نقيض من الهيمنة، أكانت من إمبريالية أجنبيّة مباشرة أو من طبقة محليّة حاكمة: مثقفو الهيمنة، وهم حكماً من الطبقة البرجوازيّة أو من المتوهمين بإمكان الالتحاق بأجوائها ينخرطون بالكليّة في مشاريع الحكم القائمة ويروجون لخياراتها السياسيّة والثقافية والأخلاقيّة، ويحتلّون الفضاء العام لإقصاء أيّ حسّ نقدي تجاه الخيارات السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية التي تتخذها تلك النخب الحاكمة، في مقابل مثقفين معادين للهيمنة قد يكونون برجوازيين أصلاً (كما ماركس مثلاً) انتصروا على وعيهم الطبقي الزائف، وتجاوزوا سقوف أيديولوجية البرجوازيّة سايكولوجيّاً وسياسياً، وتلك قلّة نادرة دائماً، أو منحدرين من الطبقة العاملة. يراهن غرامشي دائماً على دور ثوري وطليعيّ لفئة المثقف العضوي المعادي للهيمنة نتاج الطبقة العاملة ـــ بمعناها العريض من دون الاقتصار على مفهوم بروليتاريا العصر الصناعي الضيّق ـــ بوصفه الأقدر على تحدي الأوضاع القائمة وكشف تهافت أيديولوجيا النخبة المهيمنة ونقد السياق الاجتماعيّ والثقافيّ للمجتمع، وبالتالي صياغة نوع من توجه محدد نحو التغيير وقيادته لتأسيس الحالة الثوريّة.

وعلى الرغم من صلاحيّة المنهج الغرامشي في وصف صور المثّقف ـــ باستعارة تعبير إدوارد سعيد من نصّ محاضرته الشهيرة حول الموضوع ـــ فإن ثمّة تراجعاً ملموساً في قدرة المثقفين العضويين بموقفيهم المتناقضين من الهيمنة على التأثير بمجتمعاتهم، أقلّه مقارنة بدورهم خلال النّصف الأول من القرن العشرين لمصلحة صعود سيطرة الأجهزة الاستخباراتيّة والأمنية (نموذج المخابرات المركزيّة الأميركيّة) بعد الحرب العالميّة الثانية، وتحكّمها المطلق في صياغة الخطاب الثقافي والأيديولوجي للمجتمعات. حتى يمكننا القول – كما ذهب البريطانيّ برتراند رسل – إلى أنّ المثقف العضوي المعاصر قد يؤثر على أحاديث الناس العاديين، لكن حتماً ليس على سلوكياتهم، وأن تصور المثقفين عن أهميّة آرائهم موهوم ونرجسيّ ولا يمت للحقيقة بكبير صلة، بدلالة أن الدّفق الاجتماعي الغالب يدفع باتجاه مناهض للمصالح الاستراتيجيّة للمجتمعات وللبشريّة عموماً.

تبدو تجربة مختلف المجتمعات العربيّة منذ بداية القرن العشرين وإلى اليوم كأنها في صيغة انتقالها من ظلام قرون الاستعمار العثمانيّ إلى عصر الاستعمار التقليدي وانتهاءً بعصر التبعيّة للإمبرياليّة الغربيّة الجديدة. تشترك معاً في الدّور المخيّب للآمال الذي لعبته النخبة المثقّفة في كل منها سواء لناحية انخراطها الكليّ في تكريس هيمنة الاحتلال الأجنبي بداية ولاحقاً سلطة السلالات القروسطيّة (ملكيّات ومشيخات وجمهوريّات معسكرة) التي وليت وكالة إدارة الكيانات الوظيفيّة تركة الاستعمار التقليدي لمصلحة الإمبرياليّة الجديدة، أو لدورها في الترويج لأجندات سياسيّة ثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة تكرّس التبعيّة للغرب الرأسمالي وللنظام النيوليبرالي، وسلوكها الخيانيّ في إغلاق الفضاء العام لمجتمعاتها وإقصاء أيّ حسّ نقدي تجاه الخيارات السياسيّة والاستراتيجيّة التي تتخذها السلالات الحاكمة، ولو كانت تلك الخيارات كارثيّة التأثير على الأكثريّة المغيّبة ومناهضة لمصالح (الدّولة) ذاتها، والإقليم العربيّ على المدى المتوسط والطويل. وإذا كانت هناك استثناءات فرديّة صارخة لهذا التوجه العام (نموذج ناجي العلي، غسّان كنفاني، حسن حمدان، أم كلثوم، أمل دنقل، إدوارد سعيد، وديع حدّاد، ناصر السعيد، عبد الرّحمن منيف، الصادق النهيوم وعبد الخالق محجوب وغيرهم)، فإنها كانت دائماً حالات فرديّة نادرة وعبقريّات معزولة تجاوزت سياقها الطبقيّ والمحليّ، وغالباً ما دفعت أثماناً باهظة من دمها، وأكدت القاعدة ولا تنفيها.

ولعل مراجعة نقديّة لدور هذه النخبة في المفاصل الحاسمة من تاريخنا المعاصر (سواء في مسار القضيّة الفلسطينية انتهاء إلى دولة رام الله وإمارة غزّة، أو في هزيمة الـ 1967، أو في حرب أيلول 1970 في الأردن، أو في حرب تشرين 1973، أو في حرب لبنان الأهليّة، أو في سقوط مصر في مربّع كامب ديفيد، أو ردّة عسكر الجزائر إلى حضن الأميركي، أو حربَي الخليج وسقوط بغداد 2003 إلى ويلات ربيع العرب الأميركي والهجمة الغربيّة على سوريا وليبيا، وكسر ثورة البحرين، والعدوان على اليمن، واستهداف المقاومة في لبنان)، لتكشف عن نسق روتيني من انحياز يكاد يكون رثاً ولا عقلانياً مع الإمبرياليّة ضد الأوطان، ومع السلالات الحاكمة ضد المواطنين، ومع مصالح النخبة المهيمنة ضد الطبقات الأقل حظاً. بل انخرط كثيرون يصعب حصرهم في خدمات استخباريّة وتجسسيّة مباشرة كـ «مخبرين محليين» وطلائع للجيوش الغازية ودعاة تطبيع علني، ناهيك بالطبع عن أكوام الكتّاب والصحافيين المهاجرين إلى مصانع البروباغندا السعوديّة والقطريّة مدّاحين ومتزلفين وأبواقاً مشرعة ضدّ أعداء الهيمنة. ومنهم كثيرون – كما وجد إدوارد سعيد - انطلقوا من جوار اليسار والقوميين العرب لينتهوا محللين (وفق المفهوم الشرعي) لأسوأ تطرفات اليمين الرجعيّ المتخلّف.
لكّن هستيريا تطبيع الأنظمة العربيّة (العلني حصراً - تأكيداً على عمق الاتصالات السريّة وعراقتها)، وتسارعها الانهياريّ الطابع تجاه تأسيس علاقات رسمية ونخبوية مع الكيان العبري (تحت الرّعاية الأميركيّة المباشرة) كشفت عن سقوط نهائيّ لا رجعة عنه لفئة مثقفي الهيمنة البرجوازيين، ليس التقليديين منهم والتكنوقراط فحسب، بل والأخطر: المثقفون العضويون. تسابق هؤلاء، متطوعين أو مضطرين لا فرق، للتّرحيب الحار – حد التّهريج أحياناً - بالاختراق العبراني السافر لبلادهم، وقرارات السلالات الحاكمة بكسر كل غلافات السريّة التي طالما أحاطت بها علاقاتها الحميمة العتيقة بالكيان الاستيطاني، كلٌّ بحسب موقعه ومساحة تأثيره.

دمقرطة مفهوم المثقّف العضوي المعادي للهيمنة وتوسيعه بالإفادة من معطيات التكنولوجيا المعاصرة. هذا السّقوط المدوي والنهائي لفئة مثقفي الطبقة البرجوازيّة العربيّة – على أنواعها - يدفع بقيتنا من بقيّة الطبقات (العاملة والوسطى كلتيهما) والمعنيين باستمرارية المواجهة مع الإمبراطوريّة وذراعها العبريّة لإعادة التفكير مليّاً في طرائق استرداد مساحات التأثير من مثقفي الهيمنة، ليس لناحية مقاطعة منتجاتهم الثقافيّة والإعلاميّة فقط، وبل التضامن لبناء مساحات وفضاءات بديلة عنها تسمح بتصعيد مثقفين عضويين معادين للهيمنة من أبناء الطبقة العاملة، وأيضاً من أبناء الطبقة البرجوازية والطبقة الوسطى الذين لديهم الحد الأدنى من القدرة على تحدي الذّات ومساءلة الأيديولوجيا الغالبة على مجتمعاتهم.

وفي الحقيقة، فإن الفضاءات التقليديّة للمواجهة الثقافيّة في العالم العربي من خلال الأحزاب اليساريّة (والشيوعيّة!) والصحافة – بمفهومهما الكلاسيكيّ – والجامعات واتحادات العمّال قد خضعت بالكامل للأنظمة الحاكمة وأجهزتها الأمنيّة والاستخباريّة، فأُخرجت تماماً من الخدمة الفعليّة ولم تعد بذات صلة بأي جهود تغييريّة، أو انتهت بالكليّة، أو تحوّلت إلى روابط مشجعين للسلطات السياسيّة في كل مبادراتها من منح نساء الطبقة البرجوازية الحق في قيادة السيّارات وصولاً إلى التطبيع العلني وما بينهما. لذا، لا مفرّ أمامنا اليوم من نقل ساحة المواجهة الثقافيّة – للسواد الغالب من المتعلمين من أبناء الطبقتين الوسطى والعاملة الذين يتعذر عليهم بالطبع الانخراط في العمل العسكريّ المباشر للمقاومة لسبب أو لآخر - إلى فضاء الميديا الإلكترونيّة وتأسيس وجود هناك يمنع بداية احتكار تلك المساحة من قبل مثقفي الهيمنة وتحويلها من قبلهم إلى مساحة إضافيّة للبهلوانيّات الأيديولوجيّة. وتالياً فرض مناخ نقدي للنقاشات العامّة يسمح بتقييم المواقف الاستراتيجيّة الطابع للأنظمة الحاكمة وسادتها الإمبرياليين من وجهات نظر بديلة، وتقديم تصورات وأفكار ونظريّات تتحدى الأنساق الرجعية المحافظة والليبراليّة المتوحشة - التي تحبها الأنظمة وترضاها – وتعريها على العلن، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الأدب أو السينما أو الفنون. وربّما نكون محظوظين أكثر من غيرنا في الأجيال السابقة لناحية ما تنتجه التكنولوجيا الحديثة اليوم من أدوات قريبة تمكّن تعظيم الانتفاع من نافذة التواصل العريض مع المجتمعات، وتسمح بالوصول اللحظيّ غير المسبوق إلى المعارف التي يوفرها الإنترنت، كما إمكانات التنوير عبر أدوات الإعلام الإلكتروني (صحف افتراضيّة ومدونات ومواقع متخصصة وغرف نقاش عام وبودكستات ومواقع تواصل اجتماعي، رغم هيمنة الشركات الأميركيّة على تلك الأخيرة). وهي أدوات زهيدة التكلفة بمجملها، واسعة الانتشار بما لا يقارن مع أدوات الإعلام التقليديّ (أيّ مذيعة حسنة الطلعة في تلفزيون عربيّ متخلّف لديها عادة متابعون افتراضيّون أضعاف ما تملكه جريدة «الشرق الأوسط» السعوديّة الأكثر بذخاً بكل تواجدها الورقي والإلكتروني معاً)، وتكسر نموذج العمل الهيكليّ للمؤسسات في النظام الرأسمالي وأبراج الأكاديميين المرتزقة العاجيّة لمصلحة نماذج جديدة من التعاون التطوعيّ الموسّع والتضامن الطبقي العريض، وأقرب بما لا يقارن بأيّ من وسائل الجدل الثقافي الأخرى لمفهوم ديمقراطيّة العمّال المثقفين والبراكسيس (النظريّة المتعانقة مع الممارسة) وتكوين شبكات التثقيف الذاتيّ والتنظيم حول القضايا والمطالب (العابرة للجغرافيا ومؤسسات التلقين الأيديولوجي في الجامعات والمدارس والمعابد والإعلام الرسميّ معاً)، وربّما بلورة كتلة تاريخيّة منحازة إلى ناسها وأوطانها في مواجهة التفلّت والعبث والانحناء للعدوّ.
على أنّه ينبغي التنويه دائماً إلى أن التواجد المكثّف للمثقفين العضويين المعادين للهيمنة – بحسب الإطار اللانخبوي الأوسع كما أعلاه - في فضاء الميديا الإلكترونيّة ليس كافياً ولا بديلاً عن النشاط السياسيّ الفاعل على الأرض بأشكاله المدنيّة والعسكريّة. ويجب التعاطي معه دائماً بوصفه ساحة نضال ومواجهة وتثقيف وتنوير أخرى موازية للساحات الأخرى ليس إلا، ومرفقاً عاماً يمكننا إلى الآن على الأقل تحدي سيطرة مثقفي الهيمنة عليه.

إن موجة التطبيع العلني التي أقدمت عليها بقيّة الأنظمة العربيّة التي تأخرت عن مصر والأردن والسلطة الفلسطينية (بجناحيها) هي دلالة على الأزمة الخانقة التي تعيشها السلالات الحاكمة وانسداد آفاقها ومحدودية خياراتها في صياغة استجابات استراتيجيّة للتحديات الوجوديّة التي تواجه مجتمعاتها، وتعرية لضعفها البنيوي والأخلاقي، وواقع اعتمادها في صراع البقاء حصراً على دعم الإمبرياليات الأجنبيّة الطامعة وهزالة نخبها البرجوازيّة وانحطاطها. ولذا، فإن دمقرطة مفهوم المثقّف العضوي المعادي للهيمنة وتوسيعه بالإفادة من معطيات التكنولوجيا المعاصرة ليست ترفاً اليوم بقدر ما هي مهمّة عاجلة وفرصة تاريخيّة قد لا تتكرر.

 

عن (الأخبار)