يقدم الباحث المصري هنا كتابه المهم الذي صدر مؤخرا باللغة الانجليزية، ويكشف لنا فيه عن طبيعة عدد من إشكاليات الشريعة والقانون قبل نشوء الدولة الوطنية، ودور السلطنة العثمانية في إخضاع الشريعة لسلطتها واستخدامها في تعزيزها. وهو الأمر الذي واصله فقهاء السلاطين في الدولة الوطنية بعد انتهائها.

الفقه والسلطان

إشكالية الشريعة والقانون قبل نشوء الدولة الوطنية

سامي أيـوب

 

مقدمة:
من الإشكالات الرئيسة التي تواجه الباحثين في دراسة الدولة العثمانية، هي أن كثيرًا من الدراسات التاريخية في العالم العربي اليوم تُبرز السلطنة العثمانية من خلال سَرديَّة قوميَّة تتبنَّى حتميَّة تاريخية قائمةً بالضرورة على التضاد، ونفي أي دور للسلطنة العثمانية في إدارة المجتمع والسياسة والفقه وتطويرهم. ويؤطَّر التاريخ الممتدُّ للدولة العثمانية في تلك السرديات من خلال توصيفها بصفة «المُحتل» التركي المختلف عرقيًّا ولغويًّا عن «العرب». أما الوجود الأوروبي منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فهو «حملات» عسكرية فقط انتهت باحتلالٍ مقيت؛ لكن كان له فوائدُ جَمَّة على التمدُّن والتقدُّم في تلك البلدان. والظاهر أن الموقف المبدئي في تلك السرديات هو تأسيسُ علاقةٍ عكسيةٍ بين حُكم العثمانيين والدخولِ في الحداثة الأوروبية، التي لا يمكن الفكاك منها إلَّا بنفي شرعية السلطنة العثمانية، ورفض إدارتها التاريخية للولايات العربية على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي.

فتقديم العثمانيين تاريخيًّا في تلك السرديات بوصفهم قوةَ احتلالٍ مثلًا، هي فكرة استعمارية من الأساس قائمة على نفي أي شرعيةٍ سياسيةٍ لنماذج الحكم – بكل ما لها وما عليها – التي أنتجها التاريخ السياسي الإسلامي. ومن ثَمَّ، يجب فهم هذه السرديات في إطار الصراعات الأيديولوجية التي تفضِّل إعادة صياغة الخرافات، ولَوم الخصوم السياسيين، على حساب المعرفة التاريخية المُفْضية إلى التعلُّم من دروس الماضي، وتقديم فهمٍ منضبطٍ للصراعات الأيديولوجية – خاصةً القومية منها – التي استلمت السلطة بعد انهيار السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وإلغاء الخلافة العثمانية فيما بعد.

وأودُّ في السطور التالية أن أقدِّم للقارئ باللغة العربية ملَّخصًا لأهم المقاربات التي يتبنَّاها كتابي الذي صدر حديثًا (الطبعة الأولى، يناير ٢٠٢٠) عن مطبعة جامعة أكسفورد بعنوان: «الفقه والإمبراطورية والسلطان: حجيَّة الأوامر السلطانية العثمانية ومذهب متأخري الحنفية». ويركِّز هذا الكتاب على العلاقة بين الفقه والسلطان بعد سيطرة العثمانيين على الولايات العربية في عام ١٥١٧م وحتى عام ١٨٨٠م. وفيه أناقش التحوُّلات الفقهية الداخلية في مذهب السادة الحنفية المتأخرين، ومسألة حُجيَّة القوانين الشاهانية والفرمانات والأوامر السلطانية العثمانية، وموقف الحنفية المتأخرين منها في مسائل التشريع الفقهي. ويقع الكتاب في أربعة فصول: الفصل الأول بعنوان: «زين الدين ابن نجيم: هل كان أبا الحنفية المتأخرين؟». أما الفصل الثاني فعنوانه: «قال السلطان: حُجيَّة الأوامر السلطانية العثمانية في مذهب الحنفية المتأخرين». والفصل الثالث بعنوان: «لو كان أبو حنيفة ههنا: حُجيَّة مذهب الحنفية المتأخرين واستمراريته وتصحيحه». وأما الفصل الرابع والأخير فعنوانه: «مجلَّة الأحكام العَدليَّة: العثمانيون ومنطق التقنين».

نبذة عن فصول الكتاب:
في الفصل الأول من الكتاب: «زين الدين ابن نجيم: هل كان ابن نُجيم أبا الحنفية المتأخرين؟»، تشير الدراسة إلى أنه منذ ظهور ابن نجيم الحنفي في القرن السادس عشر الميلادي وقد اتخذت كتاباته ورسائله وفتاواه موقعًا مركزيًّا من أي شروحاتٍ أو تعليقاتٍ لاحقة له في المذهب، والتي امتدَّت إلى ابنِ عابدين (علاء الدين). والذي يتراءى لنا أن ابن نجيم كان من الجيل الأول من الحنفية العثمانيين، وقد عاش في كَنَف السلطنة في مصر، بعد أن ضَمَّها السلطان سليم الأول (ت: ١٥٢٠م) مع باقي الولايات العربية في عام ١٥١٧م.

وأما الفصل الثاني: «قال السلطان: حُجيَّة الأوامر السلطانية العثمانية في مذهب الحنفية المتأخرين»، فيناقش مسألة قبول الفرمانات والأوامر السلطانية بشكل مطَّرد في المتون والشروح الفقهية من القرن السابع عشر حتى نهايات القرن التاسع عشر. ويركِّز هذا الفصل على كتابات العلَّامة حسن بن عَمَّار الشرنبلالي (ت: ١٦٥٩م)، وعبد الرحمن بن محمد شيخي زاده (ت: ١٦٦٧م)، وعلاء الدين الحصكفي (ت: ١٦٧٧م)، وحامد بن علي العمادي (ت: ١٧٥٧م). وتبيِّن الدراسة أن كل هؤلاء الفقهاء قد أدرجوا في كتاباتهم أوامر ونواهي سلطانيةً التزموا بها في آرائهم الفقهية.

وأما الفصل الثالث: «لو كان أبو حنيفة ههنا: حُجيَّة مذهب الحنفية المتأخرين واستمراريته وتصحيحه»، فيركِّز بشكل أساسيٍّ على العلَّامة محمد أمين عابدين وكتاباته الفقهية التي تُعَدُّ أهمَّ ما دُوِّن في المذهب في القرن التاسع عشر. وفي هذا الفصل، يستثير الكتاب مسائلَ نوقشت في الفصول السابقة، منها: مسألة المتأخرين في المذهب، وحُجيَّة الأوامر السلطانية، ومسألة اعتبار العُرف الحادث، وأخيرًا أهمية المذهب والتقليد الفقهي كمنهجيَّة أساسيَّة في أي اجتهادٍ فقهيٍّ متأخِّر.

وأما الفصل الرابع والأخير: «مجلة الأحكام العَدليَّة: العثمانيون ومنطق التقنين»، ففيه أربط بين هذا الدور التشريعي للسلطنة العثمانية في الفقه الحنفي منذ القرن السادس عشر انتهاءً بالإشراف على تقنين مشروع مجلة الأحكام العدلية، الذي اكتمل في عام ١٨٧٦م. ومن خلال استبيان مواد المجلة في معظم أبوابها، أبيِّن أن معظم الآراء التي تبنَّتها المجلة مأخوذةٌ من المتون والشروح والفتاوى المتأخرة للمذهب، ومن التصحيحات والترجيحات التي ضَمَّنها المتأخرون في كتاباتهم الفقهية. وقد شارك في هذا المشروع ابنُ ابن عابدين (لمدة ثلاث سنواتٍ من عُمر المشروع، الذي امتد َّلثماني سنواتٍ كاملة)، وبعض فقهاء الروم، وبعض شيوخ الإسلام والمتشرعيين داخل السلطنة. وعلى العموم، فإن مجلة الأحكام العدلية قد استهدفت القضاء الشرعي خاصةً، من أجل تركيز دور السلطنة في تسيير العدالة. فقد رأت السلطنة العثمانية أن تقنين فقه الحنفية سوف يساعد في تبسيط إجراءات التقاضي أمام القضاة العموميين، وخاصةً في المحاكم النظامية الناشئة. فلم تكن المجلة إحلالًا لمنطق المذهب أو الفقه أو الفقهاء، بل كانت ثمرةً لجهودٍ كانت الغاية منها هي فرض نظامٍ عثمانيٍّ قضائيٍّ شاملٍ من أجل مجابهة القوانين الأوروبية التي اخترقت ولايات السلطنة، خاصةً في قضايا التجارة. هذا، وقد استمرت الكتابات والشروحات والفتاوى في مذهب الحنفية بعد المجلة حتى بدايات القرن العشرين.

المنهجية والحجج الأساسية:
يبدأ الكتاب بالتأكيد على ضرورة تحرير مفهوم «متأخري الحنفية» من خلال تتبُّع النقاشات الفقهية الداخلية للحنفية حول طبقات المجتهدين والمُرجِّحين والمُقلِّدين في المذهب. ولذلك يعطي الكتاب مساحةً مهمةً لتقديم التاريخ المتأخِّر للمذهب من وجهة نظر فقهاء الحنفية أنفسهم. وعلى العموم، فإني أشير إلی أن مفهوم «متأخري الحنفية» قد ظهر في القرن الحادي عشر الميلادي، وتطوَّر بشكلٍ كبيرٍ في العصر المملوكي وبداية الدولة العثمانية. وليس مدلول هذا المفهوم مقتصرًا على وصف تاريخ المذهب المتأخر فحسب، بل أيضًا يجسِّد تراكمًا معرفيًّا داخل المذهب بعد استقراره، متمثلًا في منهجية المتأخرين ومتونهم وشروحهم وفتاواهم. فالمذهب المتأخر للحنفية ليس إعادة تدويرٍ لمذهب المتقدِّمين، بل هو تأسيس متأخِّر للمذهب، وفَرْزٌ لمواقفه والتزاماته في هذا الظرف الزمني تحديدًا. ويشير الكتاب إلى العلاقة الجدليَّة بين الالتزام المذهبي ومسألة التجديد داخل إطار التقليد الفقهي الإسلامي. وأوضِّح كيف أن مسألة الالتزام المذهبي عند المتأخرين كانت لا تعني بالضرورة الوقوفَ الجامد على آراء المتقدِّمين بعيدًا عن مناسبة هذه الآراء في زمن الدولة العثمانية. فلم يتبع مذهب متأخري الحنفية في مسائل فقهيةٍ أساسيةٍ مذهبَ المتقدِّمين، بمن فيهم أبو حنيفة. ومن ثَمَّ، فإن استمرار المذهب الحنفي في تلك الفترة المتأخرة اعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على استبطان منهجية المؤسِّس الأول للمذهب، ومحاولة المتأخرين استلهام أصولها في بناء مواقفهم الجديدة، ومن ثمَّ التماهي عن فقه المتقدِّمين.

وبنظرة سريعة على كتب متأخِّري الحنفية، يستطيع القارئ أن يرى إرهاصات هذا التشكُّل المتأخِّر للمذهب من خلال العبارات والإشارات المستخدمة في هذا السياق للدلالة على آراء فقهاء الحنفية المتأخرين. فعلى سبيل المثال، نجد عباراتٍ كثيرةً مبثوثةً في كتب المتأخرين مثل: أجمع المتأخرون، كثير من مشايخنا المتأخرين، اختيار المتأخرين، عامَّة المتأخرين، شواذ بعض المتأخرين، جماعة من المتأخرين، أكثر المتأخرين، في زمننا، في زمنهم، وهكذا. وقد تزامن هذا مع ظهور تراجم وفتاوى تختصُّ بالنظر في الإنتاج الفقهي لمتأخري الحنفية. فعلى سبيل المثال، نجد أن الشيخ جمال الدين الحانوتي (ت: ١٦٠١م) قد ألَّف كتابًا سمَّاه «إجابة السائلين بفتوى المتأخرين»، الذي جمعه ورتَّبه الشيخ عبد الله بن حسن الكازروني (توفي بعد ١٦٩٠م)، ونجد أيضًا أن شمس الدين محمد بن علي بن أحمد بن طولون الصالحي الدمشقي (ت: ١٥٤٦م) قد ألَّف ذيلًا على طبقات الحنفية للعلامة محيي الدين عبد القادر القرشي (ت: ١٣٧٣م) سمَّاه «الغُرف العَليَّة في تراجم متأخري الحنفية». وتشير هذه التراجم إلى ظهور تيار فقهيٍّ متأخِّر داخل مذهب الحنفية له ارتباطاتٌ والتزاماتٌ ومواقفُ مختلفة عن المتقدِّمين. فنجد مثلًا أن زين الدين ابن نجيم المصري الحنفي (ت: ١٥٦٣م) يقول في رسائله عن المتقدِّمين: «لو اطلع المتقدِّمون على ما رآه المتأخِّرون؛ لأجمعوا على قول المتأخِّرين»، ونجد محمد أمين عابدين (ت: ١٨٣٦م) يقول في رسائله: «اعلم أن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في كتب المذهب في المسائل السابقة لم يخالفوه إلَّا لتغيُّر الزمان والعُرف وعِلمهم أن صاحب المذهب لو كان في زمنهم لقال بما قالوه». ومن ثَمَّ، فالمسألة لدى الحنفية المتأخرين ليست مجرَّد الخروج على المذهب المتقدِّم أو التعصُّب له أو ضده، بل هي متعلِّقة أساسًا بكيفية تنزيل المذهب تاريخيًّا، وتنمية آرائه من خلال التشابك مع القضايا والمسائل الرئيسة التي وُضعت أمام الفقهاء في تلك الفترة.

ويُبسط الكتاب الإشكالاتِ الفقهيةَ والقضائية الرئيسة التي واجهت فقهاء الحنفية المتأخرين، وفي القلب منها حُجيَّة القوانين والفرمانات والأوامر السلطانية العثمانية، ودورها في التشكُّل المتأخِّر للمذهب. وأجادل في الكتاب بأن تحولاتٍ فقهيةً جوهريةً داخل المذهب المتأخِّر للحنفية قد أسفرت عن قبولِ دور تشريعيٍّ للسلطنة العثمانية داخل منظومة الفقه الإسلامي. وأنبِّه أن هذا الطرح يتجاوز مسألة السياسة الشرعية التي قبِلها الفقه الإسلامي منذ الدولة العباسية؛ ولذا تشير الدراسة إلى أن تطوُّر مفهومَي السلطة والقانون عند العثمانيين أدى بدوره إلى تطوُّر مقابلٍ داخل الفقه، استوعِبت من خلاله أدوار تشريعية للسلطان تخرج عن الإطار التاريخي للسياسة الشرعية. وأدلِّل على تبلور هذا الموقف من خلال استقراء متون كبار متأخري الحنفية وشروحهم وفتاواهم ورسائلهم.

وعلى العموم، فإن الكتاب يجادل أن متأخري الحنفية منذ زين الدين ابن نجيم إلى ابنِ ابن عابدين قد ضَمَّنوا كتاباتهم الفقهية فرماناتٍ وأوامرَ ونواهيَ سلطانيةً عثمانيةً التزم بها الفقهاء في آرائهم، حتى وإن كانت مخالفةً لرأي متقدِّم أو متأخِّر في المذهب. وبشكل موازٍ، بدأ أيضًا الاعتماد على معروضات أبي السعود أفندي في متون متأخري الحنفية وشروحهم وفتاواهم في الديار الرومية والولايات العربية على السواء. وهذه المعروضات لا تجدها إلَّا منثورةً في كتابات المتأخرين التي كُتبت باللغة العربية، وهي مترجمة عن التركية، وقد اشتكى ابن عابدين من أنها ترجماتٌ ركيكة. والمعروضات هي الفتاوى التي عرضها شيخ الإسلام أبو السعود أفندي على السلطان سليمان خان، فأمر بالعمل بها. فحُجيَّة هذه المعروضات تأتي من جهة الأمر السلطاني المُلزم للفقهاء والقضاة.

وأخيرًا، يظهر الدور الفقهي للسلطان في قدرته على حسمِ بعض الخلافات الفقهية بين فقهاء المذهب، ليختار رأيًا فيه مصلحة العامَّة، ويُلزم به القضاة في حكمهم. فعلى سبيل المثال، استقرَّ رأي متأخري الحنفية على أن اختيار السلطان بالنَّظَر في مسألة المفقود وتحديد مدَّة زمنيَّة بعدها يُعَدُّ المفقود ميتًا، أفضلُ من تبنِّي الآراء الفقهية المتعدِّدة في المذهب، التي أدي معظمها إلى إشكالاتٍ اجتماعية لطول المدَّة الزمنيَّة التي تبنَّاها الحنفية في مذهبهم. وهناك مسائلُ كثيرة تبنَّى فيها الحنفيةُ الأمر السلطاني الذي ورد، بغضِّ النظر عن المواقف التي تبنَّاها المتقدِّمون في المذهب، مثل: التقادم في الدعوى، وبيع عبيد السباهية، وتزويج الصغيرات، ووقف النقود والمريض، وعقوبة سب الرسول، وغيرها.

وغاية الأمر هنا أن هذا الموقف من السلطنة العثمانية عند متأخري الحنفية هو موقف مبدئيٌّ في كتاباتهم بدأ من القرن السادس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر. فالمسألة تتعدى كونها ردَّ فعلٍ مؤقتًا؛ نتيجةَ ضغوطٍ سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ولهذا تجد صدى هذا الموقف من السلطنة العثمانية في كتابات الحنفية في الولايات العربية، كما تجدها في كتابات فقهاء الروم من الحنفية. ولذا تبدو المسألة موقفًا كليًّا اتفق فيه متأخرو الحنفية على قبول دور تشريعيٍّ للسلطان العثماني داخل منظومة الفقه. ويشدِّد الكتاب على أن هذه الأوامر السلطانية التي تبنَّاها الفقه الحنفي المتأخِّر لم تكن بالضرورة تُرى على أنها «اختراق للفقه» غير مرغوبٍ فيه من جانب السلطة السياسية، بل إن متأخري الحنفية أنفسهم نَظَّروا لهذه السلطة، وقبلوا أدوارًا لها في الفقه؛ بسبب استيعابهم لتطوُّر مفهوم السلطة والحكم عند العثمانيين.

ومن ثَمَّ أدعو في هذا الكتاب إلى إعادة النظر في السرديَّة المتعلِّقة بالعداء الدائم والمنافسة المستحكمة بين السلطة السياسية والفقهاء تاريخيًّا. إذ تعوق هذه السرديةُ الباحثين والقراء جميعًا عن فهمٍ أعمقَ لمسألة الحكم عمومًا في السلطنة العثمانية وتعقيدات المجتمع والسياسة والقانون والعلاقة الجدلية بينهم. بل إن هذه السرديَّة تحجب تاريخًا قد قام بالفعل على علاقةٍ تفاوضيةٍ بين تلك الأطراف. فالمسألة إذن ليست محصورةً في قبول دور تشريعيٍّ للسلطان داخل الفقه دون احتياطاتٍ شرعية، بل نجد أيضًا أن متأخري الحنفية لم يألوا جهدًا في التصدي لسياساتٍ عثمانية في متونهم وشروحهم وفتاواهم، قد اتفق معظمهم على أنها تخالف العدل، وتنشر الظلم والفساد. ويشير الكتاب إلى بعض هذه القضايا التي تدور حول مسائل مثل بيع الوقف، وتوسيع سلطة القضاء، والتضييق على المزارعين وتحديد سفرهم، وقبول إكراه السلطان كإكراه ملجئ، ونقد المظالم التي قام بها عمَّال السلطان، ونقد السعاية إلى السلطان والسعاية بالناس بتضمين الساعي وتعزيره.

وقد أضافت الدراسات التاريخية المتعلِّقة بالمحاكم الشرعية داخل السلطنة العثمانية ودورها في استتباب الحكم السياسي والاستقرار الاجتماعي، أضافت الكثير من التفاصيل المهمَّة عن الحياة الاجتماعية داخل السلطنة وحقيقة تداخل هذه المؤسسات. لكن هذه الدراسات لم تُعن بشكل كافٍ بمسألة تطوُّر المذهب المتأخِّر للحنفية، وركَّزت بشكلٍ كبيرٍ على التاريخ الاجتماعي والمؤسسي والسياسي. ويبدو أن تركيز بعض هذه الجهود الأكاديمية كان منصبًّا على بناء سردية تاريخية عامَّة عن شكل الحكم أو المجتمع في تلك الفترة. والذي يظهر أن كثيرًا من هذه الدراسات متأثِّر بشكلٍ أو بآخر بما يُسمَّى بالهوَّة بين «التطبيق» و«التنظير» الفقهي، وخاصةً في الدراسات الاستشراقية.

فالمحاكم الشرعية تُقَدَّم في تلك الأبحاث على أنها التطبيق العمليُّ للشريعة، وأن كتب الفقه من الشروح والمتون والفتاوى هي فقط للتنظير. ومردُّ هذه النظرة للتقليد الفقهي اليومَ إلى عدم القدرة على استيعاب الصناعة الفقهية داخل المذهب وعملية تنزيله تاريخيًّا وأساليبه، وكيف كانت عملية إدماجه في مؤسسات السلطنة العثمانية أو في المجتمع عامَّة. فأصبحت تلك الدراسات التاريخية الفقهية تحاول فكَّ طلاسم هذه العلائق بين المذهب والسلطة والمجتمع. ويرى المُتأمل أن الكتابات التاريخية الفقهية – في كلٍّ من السياقَيْن العربي والغربي – قد تأثرت كثيرًا بتغييب التقليد المذهبي في الصناعة الفقهية والتشريع المعاصر. وأرى أن هذا من المسببات الرئيسة في هذا الاضطراب في تصوُّر تنزيل المذهب على الواقع.

وعلى أية حال، فإن التأريخ للمذهب المتأخِّر للحنفية – وخاصةً بعد تبني الخلافة العثمانية له بوصفه مذهبًا رسميًّا – قد واجه تحدياتٍ وجوديةً من داخل منظومة الفكر الإسلامي ذاته، سواء من حركات الإحياء التاريخية أم من الحركات الإصلاحية في القرنَيْن التاسع عشر والعشرين. فعلى سبيل المثال، نجد أن مذهب الحنفية في مصر – الذي أصبح المذهب المعتمد في القضاء الشرعي عامَّة في بدايات القرن التاسع عشر – اكتفى العُرف العثماني فيها بجعل منصب قاضي القضاة مختصًّا بالحنفية، لكنه جعل نُوَّاب الشرع الشريف (القضاة في المناطق المختلفة من السلطنة) على بقية المذاهب الفقهية في القضاء الشرعي. وقد تمَّ تجاوز هذا العُرف العثماني بعد مجيء محمد علي باشا واليًا على مصر في عام ١٨٠٤م، وبعدها أُلزم جميع القضاة – بغضِّ النظر عن مذهبهم – بالحكم بالرأي الراجح عند الحنفية.

وقد تسبَّب هذا التغيير في تفاقم إشكالاتٍ اجتماعية للمصريين، وتعقيداتٍ فقهية للحنفية، خاصةً في مسائل الطلاق والمفقود والعقود، وهي المسائل التي تمَّ تحييدها تاريخيًّا بتفويض القضاة المالكية مثلًا في مسائل الطلاق للضرر. وبعد هذا التغيير ظهرت إشكالاتٌ جديدة مرتبطة بالتطبيق والتجديد والتلفيق. وانتهى الأمر بتبنِّي المدرسة الإصلاحية لمحمد عبده (ت: ١٩٠٥م) ورشيد رضا (ت: ١٩٣٥م)، والمدرسة السلفية ومن اعتنق مذهبها مثل أحمد شاكر (ت: ١٩٥٨م) وحامد الفقي (ت: ١٩٥٩م)، بتبنِّيهم إنهاء التقليد الفقهي بفصله عن قضايا التشريع، واعتبار إلزام القضاة بالراجح عند الحنفية «تعصُّبًا مذهبيًّا»، وأصبح منطق التشريع والتجديد الفقهي في مصر – خاصةً في ما سُمي بـ «الأحوال الشخصية» في بدايات القرن العشرين – عبارةً عن «أوامر وفرمانات عالية» من الخديوي، أو «مبادرات» من وزارة الحقانية يُصدَّق عليها من بعض الشيوخ على أنها «لا تعارض الشريعة».

وانتهى أمر التشريع إلی التقنين الكامل مع مشروع السنهوري، على الرغم من تقديره للتراث الفقهي عامَّة. وهو المشروع الذي قضى فعليًّا على المحاكم الشرعية والمجالس الملِّية تحت غطاء تأسيس «القضاء الوطني» أو «توحيد القضاء» أو «دمج القضاء» (قبل إلغائها رسميًّا عام ١٩٥٥م)، لصالح القانون المدني الجديد الذي كتب نهاية القضاء الشرعي. ومشروع السنهوري يجب أن يُنظر إليه أولًا بوصفه تعبيرًا عن رؤيته السياسية لطبيعة الدولة القومية وسلطاتها، ودور مؤسساتها التشريعية والقضائية، وموقع الدين في مصر بعد الاستقلال، خاصةً بعد سقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة.

وفي الختام، فإني آمل أن يُسهم هذا الكتاب في إعادة النظر في علاقة الفقه الحنفي بالدولة العثمانية ومؤسساتها القضائية الشرعية. وأرجو أن يثير نقاشاتٍ مبدئيةً حول ضرورة إعادة الاعتبار للتقليد الفقهي وإحياء المذاهب الفقهية، والإصرار على تدريب فقهيٍّ مركَّب وتعليم شرعيٍّ ولغويٍّ وقانونيٍّ مُحكَم. ومن دون هذه الخلفية الفقهية والتعليمية، سوف يصعب إيجاد اجتهاد فقهيٍّ معاصر منضبطٍ يرقى بطرق الفهم في القضاء والتشريع وتنمية الفتوى. والأهم أن مسألة التجديد الفقهي في الدول المعاصرة تعتمد على طبيعة الأنظمة السياسية الموجودة فيها وأولوياتها، وتركيبة نخبتها الفقهية والقانونية، وكيفية تنظيم دور مؤسساتها الدينية والقضائية، ومدى ارتباطها بالتراث الفقهي الإسلامي.

 

أستاذ مساعد بقسم دراسات الشرق الأوسط وكلية الحقوق بجامعة تكساس في أوستن بالولايات المتحدة الأمريكية.