دون شك أن إصلاح الحقل الثقافي، في جانبه المتعلق بالسلوكيات ، يشكل أهم مفاتيح الأمان في مجال الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية. فثقافة الإحترام والانضباط والوقاية والاحتياط من الاصابات بالمرض والحوادث هي أساس تحصين التغطية الصحية وديمومتها وحمايتها من الغش من جهة، واللامبالاة من جهة أخرى.
فحين نتكلم عن أهمية الثقافة في هذا المجال، فإننا ندرك جيدا أن هناك سلوكات إرادية وأخرى لا إرادية تتسبب في استنزاف ميزانيات التغطية الصحية وصناديق الحماية الاجتماعية، ومنها على الخصوص: الفساد والرشوة، وتزوير الملفات للاستفادة دون حق، أو الاغتناء غير المشروع من الخدمات التي تقدمها منظومات الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، وكذلك الجهل واللامبالاة والشعودة والدجل...
التدابير الاجرائية ضرورية، لكنها تبقى غير ذات جدوى في غياب تنمية ثقافية ترمي إلى تعزيز حسن السلوك والأخلاق واعتبار الغير. وهذا دور منظومة التربية والتعليم والتكوين، وعقلنة مقرراتها، يصاحبها دور الأسرة في تقوية التوعية لدى الأبناء لاكتساب وترسيخ سلوكيات وممارسات صحية منذ الصغر في التعاملات اليومية للوقاية من الأمراض والحوادث التي تثقل ميزانيات قطاع الصحة وصناديق الحماية الصحية والاجتماعية .
هناك أمراض سببها العدوى (الباكتيريا، الميكروبات، الطفيليات والفيروسات)، يمكن تجنبها بثقافة الوقاية، وخصوصا الفيروسات التي يعجز الطب لحد الآن عن إيجاد مضادات حيوية تقضي عليها، والإصابة بالبعض منها تتطلب علاجا مدى الحياة.
إن إهمال ثقافة الوقاية قد يؤدي إلى العدوى بهذه الأمراض الفتاكة، ما يعني الدخول في علاج "قصير أو متوسط أو بعيد المدى"، وهو ما يورط هذه الصناديق في صرف ميزانيات العلاج مدى الحياة، الشيء الذي يمكن تجنبه بالوقاية والشروط الإجتماعية المرتبطة بها لاغير.
المستقبل للوقاية، وقد لاحظنا الآن مع جائحة كورونا، أن الطب يتجه نحو اللقاح قبل الدواء، ما يعني أن المستقبل للوقاية، وأن المنظومة الصحية الكونية تعطي الاولوية للقاح قبل العلاج. وأن الإعتماد على العلاج دون الإهتمام بالوقاية وثقافة الاحتياط يعتبر تخلفا، وعدم القدرة على إعداد مواطنين يكتسبون المعرفة اللازمة للتفاعل مع شروط الصحة التي يفرضها "النظام الصحي الجديد" الذي يخصص جزء مهما في بروتوكولاته الصحية في ترسيخ ثقافة الوقاية، التي تؤهل المواطن، ليس فقط لتجنب الأمراض، بل كذلك لتأهيليه للرفع من مستوى العيش اجتماعيا، فكلما نمت الثقافة وتوسعت، كلما تقلص الجهل والتسيب والفساد والرشوة، خصوصا وأن الوقاية الأولية تعتبر عنصرا من عناصر قياس درجة التطور والرقي للمجتمعات.
فالتنمية الثقافية والبشرية مرتبطة بشكل قوي بتحسين شروط العيش ( المسكن، المهنة، الغداء كمّاً ونوعا...)، الفحوصات الدورية، طبيب العائلة، اللقاح، البيئة، النظافة، التشخيص المبكر...
عموما، الولوج والمشاركة الفعلية في الأنشطة الثقافية يشكل مقاربة أساسية في الحماية الاجتماعية وفي تقليص الفقر، ويساهم بشكل كبير في إنشاء مجتمع حاضن، يجعل مواطنيه يتغلبون على الفقر وعلى الإحساس بالإقصاء، وذلك بفسح المجال لاستثمار الإرادات والطموحات المتعلقة بكل فرد داخل المجتمع.
تنمية الثقافة في أماكن العمل
إن الاستثمار في الثقافة الوقائية يحد من عدد الإصابات بالأمراض المعدية، ومن عدد حوادث الشغل ومن الأمراض المهنية، وله فوائد ليس فقط على صحة وإنتاجية الأجراء، بل وحتى على صحة وإنتاجية المجتمع برمته، وذلك بخلق ميكانيزمات تصبو إلى تقليص مخاطر الأمراض المعدية وغير المعدية، و بتحسين ظروف العمل وبالمراقبة الطبية والتدخل الاستباقي.
يجب الرفع من مستوى الحماية وجعلها من الأولويات، بتنمية حقيقية لثقافة الوقاية في أماكن العمل وكذلك على مستوى الأسرة، ما يتطلب مشاركة مختلف المتدخلين في قطاعات الصحة والتربية والتعليم والشغل والثقافة والرياضة والترفيه...
يجب على السلطات العمومية أن توفر الدعم لكل فروع الحماية الاجتماعية وسياساتها وأن تعطي الأولوية للمقاربات الوقائية المتعلقة بحماية صحة الأجراء وأن تفرض على المقاولات الاهتمام والمساهمة في تشجيع كل المقاربات الوقائية، وتقوي عوامل ديمومة أنظمة الحماية الاجتماعية.
فثقافة الوقاية يجب أن تكون من أولويات تدبير المؤسسات الإنتاجية، ليس فقط كإجراءات، بل باعتبارها حق من حقوق الإنسان. لذلك وجب تحسيس كل المتدخلين، من قطاع عام ومقاولات ومجتمع مدني، لتكريس ثقافة الوقاية، علما أن الاستثمار في ثقافة الوقاية يمنح فوائد أكبر من تكلفة الاستثمار.
إن تعزيز الثقافة الصحية في أماكن العمل يساعد المقاولات على تحقيق نتائج ملموسة اقتصاديا، لأن الأمراض المعدية وغير المعدية تؤدي الى خسائر إنتاجية وتؤثر على النمو الاقتصادي، وتتسبب كذلك في تكلفة إضافية للمقاولات، وبصفة عامة للمجتمع ومؤسساته الإنتاجية.
الثقافة والمخاطر الجديدة
التحولات التي يعيشها العالم أتت بأخطار جديدة، تتطلب مقاربات جديدة، وهذه المقاربات يجب أن تضع الإنسان في عمق اهتماماتها، وأن تؤهله وتمنحه القدرة على الملاحظة والتمييز والمشاركة في إعدادها، وتحمله جزء من المسؤولية في حماية نفسه بنفسه، على الأقل في الجانب المتعلق بالوقاية. هناك ثقافات وسلوكات قد تُفَوت الفرصة على بعض المجتمعات للالتحاق بالركب الإنساني الكوني. فالتغيير على المستوى الكوني كالقطار، يمر بدون رجعة ولا يعطي فرصة ثانية لركوبه، من صعد اجتاز، ومن تردد تأخر ومن رفض رسب، علما أن صعوده يتطلب شروط لا يمكن اكتسابها إلا عبر الثقاقة، والثقافة لا تباع ولا تشترى ولا يمكن الحصول عليها في بضعة أيام.