يثري التكثيف في قصة الكاتب المغربي كتابة ذات مؤرقة وموجوعة مما يحد من إمكانياتها ويسجنها. وتصير لغة المجاز ليست مجرد كشف عن أحوال تلك الذات، بل حدثا تعيشه ويتشكل عبره عالمها

أبواب الخفاء

محمد اكويندي

انحسرت الصباغة عند منتصف الباب. فبدا مثل شحاذ انحسرت أسماله عن ركبتيه، تخثرت الصباغة البنية اللون، ومن تخثراتها انبثقت فقاعات هي أشبه بأيام السجين القليلة، وكلما فقأ عددا منها عدّها فوجدها أربعة وأربعين، هي ما تبقى من أيامه المعدودة، مشدوها ينظر.. وتنظر، مثل سجين معتزل إلى لوحك الغامق اللون تقرأ سنواتك التي قضيتها هناك، تتوافد إليك تباعا، كأنها جياد نافرة تعدو نحو البراري لكي لا تلحقها مرة ثانية، تنظر إليها بقلب شاخ بين أضلاع قفص صدرك، ينقشع نقع الغبار، تفرك عينيك وتقتحمهما على أوامر سجانك عند بابك الذي امتص زهرة عمرك، آمرا إياك بطلائه، الآن كما نراك الآن، بابا نصفه مطلي. الآن كما نراك الآن، سجينا يسقط حالته على حالة الباب.

جوف واحد نحن الإثنان مزدحما بالسعال والأحلام.. يتجاوزنا ظل الظهيرة والنسيان، وعاء طلاء فقد نصف امتلائه، والباب طلي نصفه، والنهار انصرم منتصفه، وأنتَ الذي تغطيتَ بالأيام تجد نصفك عاريا، تنفض رماد سيجارتك التي احترق نصفها.. يا نصفي الذي احترق بحطب إعادة التربية والإدماج مرميا فوق نصفك الآخر..غير أني تجزأت بعضي فوق بعض.. وانسكبتُ طلاء لعلي أسْتُرُ ما تبقى من الباب.

بأمر من صُراخ البراح طلت المدينة أبوابها وأسوارها..بدت مثل سجن تتقاطعه الشوارع والأزقة مفروشة بسجاد حقوق الإنسان، وكلما راوح النهار مكانه لمّ العسس السجاد وبقيت عارية إلا منك أنتَ الناتىء على قارعة الطريق كمتاع متسول منسي، ومن القائل إنك جثة قُطِعَتْ أجزاء ورميت هناك، ومن القائل إنك صرة ثياب مهملة لمومس فرت وتركتها، ومن صائب في القول إنك لقيط متخلى عنك، ملفوفا في أردية قُطِعَتْ، قطعا... قطعا.. تكبر وسط ظلام الملجأ الخيري، كثيران المصارعة، تتعقف شواربك وتصير أشبه بقرون ملتوية جاهزة للمبارزة، بطعنة رُمح مصوبة بكلمات.. انبجست دمعة متخثرة من صدر الباب، تنزلق متعثرة، تسقط أرضا، ويلفها التراب لفا: الوطن أبوك.. المدينة أمك..العراء حضنك..

ـ يا حضني البارد، كعجيزة صياد أسماك.

انبثق من الأرض يَعْتمر عمامة، شاهرا سيفه في وجهي.

ـ لستُ العراء يا معتوه، أنا أبو ذر الغفاري، عَجبْتُ لك.. عجبت لك.
ـ والله لقد فعلتُ.. ثُمَّ.. فَثُمَّ.. وثُم قَضيتُ.

توالت نقط الطلاء في السقوط، والتراب ُيلفها لفا، ويكورها كويرات حتى صارت حشدا من الناس يشيعون جنازة رجل مرددين: (على بابك واقفين.. يا أرحم الراحمين) يَزْفُرُ قبركَ شاهقا بأسى: هي الدنيا، بابان: باب الرحم، وباب القبر. وأنتَ لاهٍ، وكلما تعبتَ تتربعُ فوق حِجْر امرأة كقط مقرور، تهشك كلما همّت الى زينتها، والآن كما نراك الآن، ميتا يغلق ثغر مؤخرتك باب هو ندف من الصوف.

كاتب من المغرب