لمنفى في قصة الكاتب الجزائري ليس خارج الوطن فقط، بل داخله أيضا، وداخل أفراده الذين يعانون من الهوة السحيقة بين أحلامهم ووطأة الواقع الذي يعيشونه والذي يحاولون فيه التمسك ببارقة امل واهن

تغريبة لاجئ عربي

الشريف حبيلة

أغلق باب غرفته وتبدد في ظلامها الداكن، تمتم: «هذا عيد جديد يأتي حزينا كالذي مر. يقضيه المرء بعيدا عن الأهل والأحبة...» كانت غرفته على غير عادتها، كل شيء في غير مكانه حتى الأشياء تشعر بالأسى... تشارك صاحبها أحزانه، وترفض في ثورة جنونية الاستمرار في رتابتها المعتادة... فتح النافطة فتسللت خيوط الشمس الأولى، وكشف نورها كآبة المكان... شردت منه نظرة إلى الصخور الجاثمة خلف غرفته سوداء مهترئة ترتدي حدادا أبدياى، كأنها عرفت حقيقة عصرنا المقلوب، وأدركت هشاشتنا، فأعلنت حزنها واكتفت بالصمت... فوقها نشرت الغربان أجنحتها، وأطلقت نحيبها الموشى بالوحشة، لتكتمل اللوحة السوداء موارية في ظلامها تعاسة الإنسان... التفت خلفه... همهم... «ها هي الأقدار تصنع يوما ىخر ليس محسوبا من اعمارنا»... رفع القلم... حاول الكتابة، كتابة شيء ما... كان فكره مشوشا... عيناه حيرى... رمى القلم... ارتدى سترته، وخرج... كانت أمنيته أن يدرك صلاة العيد حتى يشعر بفرادة اليوم، ولكن...؟ كيف وحبال الواجب ترتهن يومه... الخطوة الأولى خارج الغرفة... أحس بصمت غريب يلف الديار، حتى الناس الذين اعتاد حركتهم لم يظهروا، وكأن القرية ليست هي القرية، أم أنهم كانوا، ثم رحلوا... نظر يمينا... مالا... عبثا، لم يجد أنيسا يستله من وحدته المتوحشة... حبس أنفاسه... فكر، ثم عدل عن التفكير... هو يعرف تماما أن التفكير في مكان كهذا يعني الموت الأكيد أو الجنون.

كانت الغرفة مليئة بصور فوضوية الألوان والأشكال: رياضيون... شفاه... عيون... وجوه نساء ورجال... حيوانات... سيارات وطائرات... ألصقها على الجدران كي يغطي بها كآبة المكان، ونسي صفرة الرمل وسواد الصخر... كانت الغرفة عالمه الذي يضم أشياءه... رائحة العنبر صارت عادة... الكتب متناثرة على طاولة أتى بها من محل الخردوات، اتخذها مكتبا هو ملجأه، يخفي فيه كل آهاته... ويسافر رفقة القلم تارة، والكتب تارة أخرى إلى عوالم خارج حدود القرية، حيث يشتم رائحة الخضرة والتراب المبلل بحبات المطر، وشقائق النعمان الحمراء وسط البساتين وحقول القمح والشعير... يحدث رجالا لم يعرفهم، وتستهويه الأفكار والمعاني «اه أعيش المنفى في وطني.. ووطني لا يأبه لرجل فقد الهوية... رغم أنه يحمل بطاقة تعريف وجواز سفر عليه ختم هذا الوطن»... تبعثرت نظراته على زوايا المكان، ثم تعلقت في السقف «ها هو التاريخ ينهزم والعالم يعجز عن ولادة رجل يعترف بالآخر رجلا... والعقل الذي قاد آدم إلى القمر، وحرر الأسود من تشوهات الأبيض ينهار... ويعود التاريخ من حيث بدأ... وتلميذ زماننا يعيد قراءة كتاب جده للمرة الألف... ها هو يفتحه على الصفحة الأولى دون أن يفهم معاني الكلمات... يتأمل الصور كالأبله... يضحك كالأبله... يطوي الكتاب، ويمضي كالأبله...». هذه طلاسم لم يجد لها تفسيرا، تسللت إلى رأسه وهو مضجع على سريره... اعاد شريط الأحداث... حاول تغيير الأشياء مستنجدا بما حفظ من فلسفات، لكنه ألفى نفسه بعد طول التفكير يخوض بحرا من الرمل، لا تغيره الريح والإعصار، رغم أن العالم يتحول ويتقلب، حتى الحائق فقدت حقيقتها... تخلت عن ثباتها، أما الوطن فيتسلح كي يحافظ على وجهه القديم، يتخفى خلف عشرات الأقنعة، ينفق دم الحفاة والعراة في صالونات التجميل، ثم يعلن التغيير، لكن الشمس والمطر يفضحان تجاعيد وجهه «لكنه لا يستحي، وينفق دمي من جديد».

تجمعت في وجهه كل علامات اليأس لتمحو آخر ملامح الثورة التي أرهقتها سيوف الدهر، تلك التي حلم دوما القيام بها، وها هو اليوم عاجز لا يقوى على سحق الذبابة التي أذلته... ارتشف القطرات الأخيرة من القهوة، وقلب الفنجان في يده، كأنه يقرأ طالعه، أو ربما حاول تعلم لغة العرافات... خال السواد بحرا فقد زرقته، وتوشح بالليل، ورماد قنابل الزمن الحزين، أرجع بصره كرة... رأى رجلا ينتفض وسط البحر الأسود، يحاول الخروج عبثا... يستنجد... يصرخ... لكن صوته يضيع في الفراغ... كانت قوة غريبة عجيبة تجذبه نحو الأسفل، يحاول الصعود... يمسك بحافة الفنجان لكن القوة الخفية تعيده إلى الأعمق، ويعيد الكرة مرارا ليجد نفسه حيث بدأ... حاول مساعدته فمد إليه يدا، وبعد لحظات وجد أصبعه داخل الفنجان يحرك اللاشيء، تذكر سيزيف الذي عانى وهو يحاول الوصول بصخرته إلى قمة الجبل تماما كذاك الذي غرق في الفنجان، فلا هو خرج فنجا، ولا هو غرق فمات، راح يؤول الأطياف... ظن الحياة عبثا، تدفع الإنسان إلى الموت حتى إذا ما أشرف عليه أرجعته، لتبدأ لعبتها من جديد، وكأن الأقدار تسخر من هذا الكائن الذي لم يجد تفسيرا لهان ويبحث عن الحل خارج حدود الآدمية، فكانت النتيجة أن غرق في فنجان قهوة...

رفع رأسه إلى النافذة... رمى بصره دون تركيز... رأى النجوم تملأ الفضاء الواسع، فأدرك أن الليل قد أسدل ستائره، وولت ساعات النهار معلنة بداية ليلة أخرى، سيضمها إلى أخريات طوال... عمره ينزف... يذوب مع حبات الرمل «هذا العيد يأتي غريبا، ويعود غريبا، ويتركنا خلفه غرباء مثله... لو مرة فقط تدرك الفرحة قلبي، وألهو كالأطفال... آه من يعلمني كيف يكون الإنسان طفلا... ليت جدتي تنفض تراب الموت... ليتها تعود وتحكي لي قصص الملوك والأبطال والجان... تهدهدني طفلا... تعلمني كيف أبدأ طفلا...». كم صعب أن يبدأ الطفل رجلا... يحمل الهم على كتفيه الصغيرتين... تتخطفه الحياة من عالمه الصغير... لا تمنحه وقتا للعب والأحلام... تحرمه حكايا الجدة... كان كبيرا بحجم همه، وكلما كبر همه كبر معه، تمر السنون سراعا لتلد رجلا بلا ملامح... له رأس فلاسفة، يتضخم مع كل كتاب جديد، ويضيق به المكان... صار أكبر من حجمه، هو الآن يقف على حافة الجنون وأخرى للموت... السنوات تختزل في خط الدم الذي رسمه عرابو هذه الأزمنة... هل بإمكانهم نسيان عالم البورصات، وأكبر المراكز التجارية، ومهرجانات الموضة، وعارضات الأزياء... ويفكرون ولو لثوان في هذا المنفي في نقطة انتهت فيها كل المسافات... في هذا الذي يحده الرمل من كل الجهات... سنوات مرت لم يسمع غير نعيق الغربان، وزحف العقارب في جوف الليل... آلاف العقارب تعض جلده نمت لها أنياب، وجلده لبس الجرح درعا، مات فيه العصب الحساس... محترفوا الرهان قالوا: قويا... هذا حصان الفوز... وشيوخ القرية قالوا: شرب عرق زيتون بلاده... (لكن أحدا لم يدرك أن الجرح غائر حتى القلب... الجرح يصرخ تحت الجلد... الجرح لو تعلمون هذا الوطن وهذا الرجل... الجرح هذان اللذان لم يعرفا الصلح... الجرح هذا المتربص أحدهما بالآخر... الجرح فينا وحكماؤنا يبحثون خارج حدود أجسادنا... لو عادوا فقرأوا خريطة الإنسان داخل حدود الوطن، لعرفوا أن الجرح هنا... فينا).

طرقات على الباب قوية عنيفة، وصوت مبحوح يكسر جدار الصمت:

ـ افتح... افتح يا صاحبي... هذا أنا.

حمل جسده المثقل المتعب، واتجه صوب الباب، تدوخه زحمة الأفكار، وبمجرد انفراج الباب تسرب خيال شخص يترنح. كاد يسقط لولا صاحبه التقطه من ذراعه... رمى به فوق السرير... كان صديقه العائد من المدينة بلا رأس... تركه على طاولة الحانة بين زجاجات الخمر... وباع ما تبقى منه لغانية مقابل رشفة شهوة... وعاد ذليلا، يحمل جسدا بلا رأس... هكذا أخذته المدينة، وهكذا رمته ليعود إلى القرية... لقد تعودت أن تسرق الرجال لتسرق منهم رجولتهم، ثم ترمي بهم خارجها حيث يرجعهم الشارع إلى القرية، لينشروا على أغصان شجرها ذلهم الذليل. كان هو يعرف القصة جيدا... هي عرف أصحابه في احتفالهم بالعيد... تركه مرميا على السرير وسارع ليعد له فنجان قهوة، يقضي بها على الصداع، وربما أعاد إليه بعض وعيه... وبينما هو منشغل بالقهوة و الكانون طرق سمعه صوت باك... كان صديقه ينتحب كامرأة فقدت زوجها، يبكي اغتصابه... سلمه الفنجان بيد وبأخرى كان يمسك فنجانا:

ـ خذ اشرب القهوة ستعيد إليك رأسك.

تفرقع صوت بكائه في الظلام. ردت الجبال صداه... لم يتكلم... لسانه مربوط في حلقه... يبكي ويبكي... حينما يبكي الرجال يحزن الكون، وينشق القمر... تأمله قليلا ثم هدهده كالأطفال... وضع الفنجان وضمه إلى صدره كالأم الحنون:

ـ لا تبك يا صاحبي... لا تبك.

قلب رأسه... صوب إليه نظرة حادة:ـ قل لي يا صديقي أين هو الله الآن... أين هو!!! سمعتهم يقولون إنه دوما مع الضعفاء والمظلومين والمحرومين والمحزونين... لم يتركنا وحدنا نجابه الهم الجاثم على صدورنا... لم كان مع موسى وهارون، ثم يغادرنا ويتركنا وحدنا...أظنه تحالف مع الهم ضدنا.

ـ استغفر الله... لا تقل هذا يا صديقي، إن الله لا يخفى عنه حالنا... هو يرانا... إنما يريدنا أن نبذل جهدنا، وعندها ستراه معنا... هو هنا... هو يكره الهم والظلم مثلنا.

ـ متى... متى... لقد مللنا الانتظار... جربنا كل عقاقير الصبر... أنا ما عدت أتقن لعبة الانتظار... ربما يكون الحل في الانتحار... أريد أن أنتهي، وأختفي... جربت كل أنواع الكحول والمخدرات، لكنها فشلت في تضميد جراحي... جرحي لا دواء له... وحتى الله لم يجد لي دواء.

ـ استغفر الله يا صديقي ستشفى، ونعود معا إلى وطننا، ونعيش كالناس... نمارس الحياة... سنقتل الهم الساكن فينا... ونعود أطفالا كذاك الزمان... صدقني يا صديقي سيحصل، سيحصل وترى أن الله معنا.

ـ بعت رجولتي في المدينة... صيرتني جسما بلا رأس... وهذي القرية التي طالما احتقرناها تؤدي دور الأم التي لا تتنكر لصغارها مهما أساؤا إليها.

ترك صاحبه يكفكف دموعه وخرج إلى الخلاء الممتلئ بالفراغ... يحمل فنجان القهوة... شده الحنين إلى سيجارة... لطالما تسامر رفقتها، وقضى معها الليلي الطوال، لكنه في لحظة تنكر لها... وكانت تصر على الحضور لحظات الحنين، تتمثل كالحبيبة، طيفها يرقص في الظلام... مال القمر جهة الغرب، وتباشير الفجر لاحت... منذ مدة فقد الفجر ملامح الفجر، والشمس اتفقت مع الرمل لتحرق آخر ما تبقى من أعصابنا... لا مكان لك في هذا الوطن... لا مكان لك... إن أردت مكانا أنت تعرف الطريق... الطريق إلى الوطن والعودة إليه تعرفها... تخلى عن كبريائك، وأنسى رجولتك، فقط تصير مرغوبا... غير ذلك عش في المنفى، واكتفي بالرمل الزاحف على ما تبقى فيك من اخضرار... صديقك انهار وبقيت وحدك... وحدك تقاوم... إلى متى وأنت تقاوم... سنونا مرت وأنت تقاوم... تحمل قلبا من حديد، وصبرك صيره الهم أسطورة «آه يا أنا... مللنا الانتظار... والكتب التي احتضنت جنوني انتهت صفحاتها المتراكمة على الطاولة... الأوراق المكتوبة بالآلاف... هل أعود إلى الكتابة إلى القراءة... أقرأ وأكتب إلى متى... إلى متى والمنفى يتسع لآلاف الرجال... حتى الموت عاف أرواحهم، وتركهم للهم يعذبهم... ليس لنا غير الليل والنجوم نبكيها مآسينا... صاحبي يداوي الداء بالخمر... لكنه يكون أكثر وعيا حينما يفقد الوعي... والألم لا يشتد إلا لحظة السكر... كل شيء تحالف ضدنا...

في الصباح كان متوجها إلى مقر عمله... ألفى صاحبه أمام الباب واضعا رأسه تحت شلالا الماء المتدفق، يغسل أدران الأمس.

ـ صباح الخير... كيف أصبحتظ

ـ بخير، وأنت هل شفيت من صداع الليل، وصدمة المدينة؟

ـ لا تذكرني بالماضي، فإني أحاول النسيان، وأستعين بالخمر، لكنها تجعلني أكثر وعيا.. ولحظة الوعي يا صديقي عذاب... عذاب يصل حد الجنون... نهرب من واقع مر إلى واقع علقمي المذاق.

ـ لا عليك... هكذا أريد لنا، وأريد للدنيا، وما علينا إلا أن نألف، ونقبل... من جهتي أقنعت نفسي، ونفضت يداي من جميع ما تعلمته من فلسفات... الأفكار لا معنى لها... والكتب لم تجد حكمتها... ثم ما نفع الكتابة في عالم لا يقرأ القصص القادمة من المنفى... هل تكتب لمن استهوته مجلات النساء العاريات... هل تكتب لمن أسرته جرائد الملوك والرؤساء... من يقرأ قصتك... لو كانت صفحات الكتب دولارات... والورق جلد نساء... ربما قرؤوها... ربما تهافتوا عليها... الورق رخيص مثلنا يا صديقي مثلنا... قلت لك ما عدت أشتغل بهذا ولا بذاك... كسرت قلمي... الآن سأضيف إلى منفاي ذلي... وأعيش عبدا لاله يملك حتى قلبه.
انتفض صاحبه، أسرع نحوه، أمسكه من تلابيبه... صرخ في وجهه:

ـ أنت تكذب... أنت تكذب... تكذب... بالأمس وأنت تحدثني عن الحلم... عن الأمل... عن الله... عن الإنسان... عن الوطن... واليوم تتركني وحيدا... بالأمس علمتني معنى الرجولة... من أجلك ودعت حبيبتي الحمراء، وقررت أن أكون مثلك رجلا... كنت دائما مثلي الأعلى... لما تحطم ما بنيته... من سيعيدنا إلى الوطن، ويعيد الوطن إلينا... من يمسح دموع القرية حين تبكي... من يعد القهوة للسكارى... من يرد الغائبين عن الديار... من... من... من...

ينزل إلى الأرض على ركبتيه، يسقط رأسه بين يديه، يبكي... يحضر آلاف المنفيين والقرية تنتحب... ويبقى هو واقفا وسط الحلقة... الجبل الأشم سينهار... يوزع النظرات على الوجوه المسطحة... صديقه مرمي على الرمل يبكي، والديار حزينة كالمنفى... الرفاق محزونين، تلفهم الدهشة... رجلنا الأخير!... ما بال رجلنا الأخير!!! هل سيبيع رجولته؟... هل سيبيع؟... سار يشق طريقه وسط الجموع، ورحل... في الطريق استرجع الذكريات والأصحاب... الفلسفة والوطن... المبادئ والأفكار... تذكر سقراط وعنترة... أحمد زبانا وعمر المختار... الطفل الشهيد محمد الدرة... الأطفال والحجارة... والكثير... الكثير... كلهم ماتوا بالرصاص أو المقصلة... لم يبيعوا... لم ينسحبوا... عاشوا رجالا وماتوا رجالا... فكر... دبر «هل فعلا سأبيع؟... ليس لي غير رجولتي... فهل سأبيع؟ ماذا يبقى لي؟... كيف سأكون؟... وكيف سأعيش خارج المنفى بلا رجولة؟... كيف أنت أيتها الحرية بلا رجولة... وكيف يعيش الإنسان في المدينة فاقدا الرجولة... كيف؟... كيف؟... كيف؟...».

دار نصف دورة، ثم ركض صوب جحافل المنفيين... كان يصرخ... يصرخ... يصرخ:

ـ «لا ... لا... لا... لن أبيــــــــــع».