نظراً لقلة الإصدارات العربية المهتمة بالتاريخ العمراني والحضري للمدن العربية المعاصرة، تبدو بعض الكتب والدراسات التي نشرت حول هذا الموضوع بمثابة شيء استثنائي، ومدعاة للاحتفاء والحوار حول واقع مدننا العربية اليوم. يسلط هنا الباحث، محمد تركي الربيعو، ضمن سلسلة تقارير قنطرة، الضوء على بعض الكتب التي تعنى بهموم المدن العربية المنسية.

روائح مغاربية ونسيان للحواضر المشرقية والخليجية

 

مما يلاحظ في عالم الإصدارات العربية، أن الاهتمام بالتاريخ العمراني والحضري للمدن العربية المعاصرة، ما يزال محدودا ومهمشا مقارنة بتواريخ ومواضيع أخرى، وبالأخص على صعيد القرنين الأخيرين، اللذين شهدت فيهما غالبية هذه الحواضر تحولات كبيرة، سواء على صعيد الحيز العام، أو على مستوى الانفجار الديموغرافي، الذي عرفته، ونشوء العشوائيات في الأطراف.

ولذلك في ظل هذا الفقر، تبدو بعض الكتب والدراسات التي نشرت حول هذا الموضوع بمثابة شيء استثنائي، ومدعاة للاحتفاء والحوار حول واقع مدننا العربية اليوم.

وكمثال على هذه الاهتمامات، أشير هنا ربما إلى أهم مجلدين ترجما للعربية في السنوات الأخيرة؛ الأول كتاب "القاهرة مدينة عالمية" 2018، الذي ضم أبحاثا لعدد من رواد مدرسة الدراسات الحضرية في الجامعة الأمريكية في القاهرة (بول عمار، ديال سينجرمان، والتر أرمبرست، أريك دينس وغيرهم) الذين شاركوا في دراسة واقع المدينة بعد فترة الثمانينيات، التي عرفت بتطورات اقتصادية وسياسية.

وربما يكون نموذج مدينة القاهرة من أكثر النماذج التي درست في هذا الكتاب، وغيره من الكتب والدراسات، وبالأخص على صعيد تأثير السياسات النيوليبرالية على الحيز العام، وعلى الأنماط الثقافية، والتدين وإعادة رسم جغرافية الطعام، والشائعات، والتحرش الجنسي. أما الكتاب الآخر فقد صدر بمجلدين بعنوان "المدينة في العالم الإسلامي"، تحرير سلمى الجيوسي وأندريه ريمون 2014، وتنبع أهميته من كونه ضم قرابة خمسين دراسة، شملت تواريخ عدد كبير من المدن الإسلامية والعربية، كما أنه خصص قسما منه لدراسة واقع هذه المدن في القرن العشرين، مرورا بالحرب الأهلية في لبنان ومشاريع إعادة الإعمار.

ولعل ما ميز المجلدات السابقة، وغيرها من الكتب الأخرى القليلة في هذا المجال، أسلوب الكتابة عن المدن. فخلافا للتعقيدات النظرية، التي عادة ما تميز النقاش حول واقع المدن المعاصرة والعولمة، فإن أسلوب الكتابة في هذه الدراسات والكتب، بدا أقرب ما يكون لعالم الرواية منه للعالم الأكاديمي الجاف، فبدلا من اعتماد الإحصائيات والمؤشرات السكانية؛ ظهرت هذه المدن من خلال أفراد عاديين، وباعة جوالين، وسائقي سيارات تاكسي، وكولونياليين، ومهندسين محليين بألسنة إفرنجية، ومطاعم ستاربكس، وعربات فول، وغيرها من الصور اليومية.

كما ميزها اهتمامها بسياقات العنف داخل المدينة، وتأثيرات ذلك على المجال العمراني والحيز العام، وبدا ذلك من خلال دراسة، أو تكذيب بعض الصور، التي تقول بأن العشوائيات هي مصدر الجماعات الإرهابية والبلطجة في المدينة، أو من خلال دراسة تأثيرات الحرب التي عرفتها بعض المدن على صعيد العلاقة بين المدينة والريف (كما في مثال بيروت).

مؤخرا، وفي السياق ذاته، صدر كتاب جديد حول هذا الموضوع بعنوان «المدينة العربية.. تحديات التمدين في مجتمعات متحولة» المركز العربي للأبحاث.

وفي هذا الكتاب نعثر على محاولة ونوايا جادة لدراسة واقع بعض المدن العربية، خلال المئة سنة الأخيرة، ومدى تأثيرات التمدن على العمران، والمدن القديمة، والعلاقات الاجتماعية، وبالأخص بعيد التضخم الذي عرفته، وتغير أنماط الحياة.

كما نعثر على دراسات أخرى حول تطور مدن العشوائيات حول الدار البيضاء (الكبير عطوف)، أو على مستوى مدينة الرباط (طه لحميداني)، إضافة إلى انشغال بعض الدراسات بدراسة ذاكرة المدن الفلسطينية، الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي (إبراهيم فريد محاجنة)، إذ يرى الأخير مثلا، أن الإنتاج الفلسطيني على مستوى كل من البحث العلمي، والرواية، والشعر، والسير الذاتية، وحتى الطقوس الوطنية، عانى فقدان الذاكرة وعدم التطرق إلى المدينة كموروث ثقافي، في مقابل ما نجده من مغازلة وترسيخ لمفهوم القرية، التي أصبحت «المؤشر العائم» للرواية الوطنية الفلسطينية.

في المقابل، هناك من انشغل في الكتاب بنقاش مفهوم حوكمة تدبير المدينة (صالح النشاط)، عبر الدعوة لضرورة إشراك جدي للمقاربات المختلفة، السوسيولوجية منها، والسياسية، والإدارية، والدينية، والإلكترونية وغيرها في صوغ الجواب عن كيفية التعامل مع معضلة تعاظم الإشكاليات المدينية، بينما طرح الباحث (نديم منصور) تساؤلات مهمة حول إن كانت المدينة الافتراضية، التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي، قد استطاعت خلق مجتمع متخيل جديد؟ أم أنها أضافت إلى حياتنا التقليدية نوعا جديدا من العزلة والاستعباد؟

ومن بين الفصول المهمة أيضا ربما الفصل الأخير (قرابة 100 صفحة) الذي شمل عددا من الدراسات الميدانية حول واقع التهميش والمهمشين، في عدد من المدن المغاربية (وبالأخص أبناء الريف والبدو، الذين نزحوا للمدينة) إذ يرسم لنا كلا من (بوشتى الخزان، حس ضايض) صور الأسر الفقيرة، وطبيعة أعمالهم في أحياء فاس العشوائية، إذ تمتاز غالبية مهن هذه الفئات ببساطتها وضآلة دخولها (بائع متجول، أجير، متقاعد).

كما انشغل الباحثان بدراسة موضوع الجريمة، إذ بدأت تكثر في هذه الأحياء خلال السنوات الأخيرة ظاهرة السرقات، وتكوين بعض العصابات الإجرامية. في حين درس السوسيولوجي الجزائري الهادي بوشمة، قصة تكون حي بودغن العشوائي (مدينة تلمسان الجزائرية) وطبيعة الحياة في داخله؛ ويتميز هذا الحي بحضور قوي لتجمعات قبلية وعشائرية، وقد تكون في البداية من خلال اجتماع عدد من الأقارب والأسر، التي يجمعها رابط دموي أو مجالي.

وعلى صعيد الحياة، نلاحظ أن المسكن في هذا الحي يتكون من غرفة إلى اثنتين، أما الشوارع فعادة ما تبدو ترابية، وضيقة، وغير منظمة، كما أن الممارسات ذات الطابع البدوي لا تزال تحضر بأزقتها من تربية الدواجن والحيوانات، وهندسة البناء وشكله.