من كًفر زيباد كنت اتجه برفقة صديقي ومنسق زيارتي الأستاذ سامح سمحة إلى كفر عبوش المجاورة التي نسق زيارتي لها أيضا مع مضيفنا الأستاذ زيد عوض "الصيفي" أبو محمود، ورغم مرور فترة زمنية على زيارتي لبلدة كَفر عبوش إلا أنها لم تفارق الذاكرة، وإن تأخرت بالكتابة عن جولتي فيها فلأني كنت موعودا بتنسيق جولة أخرى إستكمالية من خلال فنانة تشكيلية تنتمي للبلدة وتعيش بالخارج تحلم باللقاء ببلدتها المحرومة منها بسبب الإحتلال، ولكن هذا الوعد لم يتم لظروف خارجة عن الإرادة فلم أمتلك الانتظار أكثر فكفر عبوش لها سحرها وجمالها وعبقها الخاص وحكاياتها التي تروي بعض من الملحمة الفلسطينية، وما أن أطللنا على البلدة التي تعتلي قمة جبل كأنها عروس في هودجها حتى بدأت عدستي تلتقط الصور لأطراف البلدة ومشاهد عامة تجمعها قبل أن نصل لقلب البلدة التراثية حيث موعدنا مع مضيفنا، وعلى مداخل البلدة كنت اشاهد جذع زيتونة رومية مجوفة الجذع وأغصان الزيتون تنبت على أطرافها، فابتسمت لهذا المشهد الجميل ووثقته عدستي، فدوما لي عشق خاص للزيتون ورغبة لا تقاوم في التجوال والمشي على الطريق بين بلدتي جيوس وبلدة صير عدة كيلومترات على شارع تحفه أشجار الزيتون على الجانبين.
كَفر عبوش والذي يعني المقطع الأول من اسمها باللغة الكنعانية والآرامية القرية الصغيرة، وهي بلدة من منطقة الصعبيات نسبة لبني صعب وتضم 25 بلدة وبلدة من محور الكَفريات نسبة للبلدات التي تحمل في مقطع اسمها الأول كلمة "كَفر"، وهذه المنطقة التي عمرها أجدادنا الكنعانيون شهدت عبر التاريخ تعاقب للحضارات من جهة والاحتلالات من جهة أخرى، وهذا كله ترك آثارا عليها منذ العصور البرونزية مرورا بالرومان حيث ما زالت بعض من آثارهم اضافة للآثار البيزنطية وصولا للمرحلة الاسلامية وخاصة فترة المماليك والعثمانيين، وتبلغ مساحة كَفر عبوش 5109 دونم مزروعة بالزيتون وتزرع بها الحبوب والخضار اضافة للتين وأشجار أخرى، ومن دلائل عمقها بالتاريخ وجود خربة "بيت جفا" قربها حيث كانت أصل السكن بالمنطقة، وهي خربة كنعانية الجذور حيث أن المقطع الأول منها "بيت" كان يعني معبد وليس مكان السكن التي كانت "دار" وهذا منتشر بالكثير في بلادنا، وفي سجلات الضرائب العثمانية وردت كَفر عبوش مرتبطة مع بيت جفا وكانت الضرائب عليها أكثر بكثير من كفر عبوش، مما يدلل أن القرية الأكبر والمسكونة أكثر والأصل هي خربة بيت جفا والتي هُجرت أثر مشكلة عشائرية كبيرة، وحسبما تروي المصادر التاريخية أن المشكلة كانت مع عشائر من بلدة صير القريبة وإن لم أجد أية مرجعية تشير لأسباب هذه المشكلة الكبيرة.
وصلت وصديقي سامح لقلب البلدة القديمة مارين بعدد كبير من البيوت التراثية وإن كان معظم ما مررنا به بيوت تراثية تقليدية في نمط البناء القائم على عقود متصالبة وقبب صغيرة بالأسقف تمنع تجمع المياه عليها، والعديد من هذه البيوت متروكة وبعضها ترك الدهر بصماته عليها فتهدمت، وقد لفت نظري بيت مكون من طابقين ذو بوابة معدنية تم اغلاقها بقفل مما يشير أنه متروك وغير مسكون، ولفت نظري فيه أن البناء للإطار الباب امتد كالمعتاد من اسفل حتى نهاية القوس بالأعلى على اليسار، لكن الاطار الحجري توقف في نهاية القوس ولم ينزل على الجهة اليسرى حيث كان البناء هو الامتداد بشكل مختلف عن البيوت التراثية التي تهتم بالاطار الحجري للأبواب والنوافذ، وكان في الطابق الثاني في الواجهة المطلة على الشارع نافذتان قوسيتان متجاورتان وخلا الطابق الأسفل من أية نوافذ مما يشير أن البناء الداخلي اعتمد النمط التقليدي والمحافظ، حيث القسم السفلي لحفظ الماشية وبعد صعود عدة درجات يكون مكان الخوابي وأمكنة الحفظ للمواد الغذائية والحبوب، وفوقها مكان الاقامة حيث توجد النوافذ التي تطل للخارج ويدخل منها الهواء.
على بعد مسافة قليلة شاهدنا بيتاً مغلقاً أيضا بنفس النمط من ابنية التراث التي تميزت بها فلسطين وبجواره ومتلاصق معه بيت آخر هدمت زاويته مع مرور الأعوام، وبداخله تظهر تقسيمات البيت كما الذي تحدثت عنه، فهذا كان نمط البناء السائد بتلك الفترات الزمنية، لنكمل طريقنا الى نقطة اللقاء مع مضيفنا حيث نزلنا من السيارة قرب صالون للحلاقة وبدأت بتأمل ما أراه من الأبنية التراثية، وانتبه لنا صاحب الصالون وشاب آخر ورحبوا بنا وحين عرفوا غاية الزيارة ادخلونا الى الصالون التراثي من حيث البناء، حيث هو بيت من عقد متصالب جميل جرى ازالة الجير عن حجارته وترميمه، وتبليطه بالحجر الكسر ومن ثم صعدت عبر درج قديم للسطح وتمكنت من مشاهدة العديد من البيوت التراثية والعليات وصورتها، ورافقني احد الشباب في جولة سريعة وأدخلني بيتاً تراثياً مهجوراً بعد استئذان أصحابه، وفي طريقنا شاهدت العديد من البيوت التراثية المغلقة وبعضها ما زال يحتفظ بالأبواب والنوافذ الخشبية التراثية، وتوقفت أمام علية تميزت بدرج حجري خارجي للصعود للأعلى ولكن الأعشاب بدأت بالتسلل بين الحجارة وممارسة دورها بالتخريب، وتميزت نوافذها بإطار حجري منقوش بابداع وبعض من واقيات الشمس المصنوعة من الخشب ما زالت قائمة، ولكن بوابتها القوسية الأعلى والكبيرة مغلقة الآن بالطوب، وبجوارها بيت تراثي لا يزال مسكونا.
البيت التراثي الذي رافقني اليه الشاب عبارة عن عقد متصالب مكون من بوابة واحدة قوسية كما النمط السائد لبيوت العقود التراثية، بوابته الخشبية مخلوعة وقطعة منا ملقاة على الأرض والثانية مسنودة للجدار، لكنها ما زالت محافظة رغم الأعوام على جمالها وتحتاج بعض من الترميم فقط، وعلى أعلى القوس للباب وفي الوسط حجر نقش عليه الزهرة المنتشرة بالبيوت التراثية بينما تخلو النافذة القوسية منها، وفي داخل البيت الذي يخضع للترميم الآن ما زال البلاط التراثي بنقشة السجادة المتميزة موجودا، وهذا البلاط والمنقوش على شكل سجادة من البلاط دخل فلسطين عام 1900م في مدينة القدس حين افتتح الاخوة سليمان وعيسى وصليبا ونصري قسيسية أول مصنع بلاط للأرضيات، وكان والدهم خليل قد بدأ في بناء المصنع وهو من البنائين المتميزين وكان سجاد البلاط من أهم المنتوجات التي وجدت اهتمام كبير واستخدمت في البيوت الراقية في البداية، وما زال محافظا على القه رغم الردم عليه ويا حبذا لو تم تغطية هذا البلاط جيدا قبل بدء الترميم للمحافظة عليه، والبيت من الداخل به فجوات بالجدران كما النمط المعتاد للاستخدامات المتعددة مع نافذة قوسية خلفية وجدار سميك يحفظ الدفء شتاءًا والبرودة صيفا، وبجوار هذا البيت بيت آخر صغير مهجور من غرفة واحدة ولكن بدون أي تميز بنمط البناء من نمظ البيوت التي كنا نسميها "السقيفة".
عدنا بعد هذه الجولة في رحاب بعض من كَفر عبوش للقاء مضيفنا أبو محمود وبعد التعارف بيني وبينه من خلال صديقنا الأستاذ سامح اتجهنا لديوان آل الصيفي وهو يعود لآل عوض وحولوه إلى ديوان بعد الترميم وبذلك تم المحافظة على هذا المبنى التراثي الذي بناه الحاج شاكر العوض بدلا من تأثيرات المناخ والدهر عليه، وعبر سور مرتفع وبوابة كبيرة مرتفعة صممت على نظام القوسين المتداخلين بحجر منقوش ومصقول تدل على المركز الاجتماعي لمن بنى المبنى في عام 1337ه كما الحجر في أعلى البوابة بين القوسين مع الآية الكريمة "نصر من الله وفتح قريب"، وزخرف على أعلى البوابة بالقوس الأصغر وآخر على أعلى القوس الأكبر وحجر مزخرف بطريقة جميلة على يسار وسط القوس الأعلى، حيث دخلنا المبنى والذي جرى ترميمه بشكل جيد بعد ازالة قشرة الجير والطين عن الحجارة التي تمثل الأسقف، والمبنى قائم على نظام العقود المتصالبة التي اشتهرت بها فلسطين في كل مناطقها، حيث قواعد الأعمدة السميكة وفوقها العقود المتصالبة، وقد جرى تبليط الأرضيات واضافة المقاعد لاستخدام القاعة بالمناسبات، وقد لاحظت اضافة عمود حجري اسطواني في القاعة بدلا من العمود التقليدي المربع لاسناد السقف ولا اعلم ان كانت تمت عملية حف وقص للعمود القديم أو ازالته واستبداله والأغلب أنه جديد ففي الساحة أيضا رأيت مثله، ولكن هذه العملية أعطت مجال أوسع للرؤية في باحة الديوان.
النوافذ جرى ترميمها بشكل جميل وأضيف لها الزجاج الملون بديلا عن وضع الستائر التي تحجب الجماليات، فأصبحت اشعة الشمس تدخل بجمال ملفت للنظر، وفي طرف القاعة وضع مكتب لإدارة الديوان والملفات بدون فصل الجدار وتشويه جمال تراث القاعة بحائط ليس أصيل، وعلى طرف القاعة درج حجري يصعد للقسم العلوي من المبنى حسب أنظمة البناء القديمة حيث كانت تستخدم للنوم والمعيشة، ومن بوابة جانبية خرجنا لساحة الديوان الخارجية المغطى قسم منها بالخشب الحديث وفي نفس الوقت ما زال جذع شجرة يصل بين دفتي قوس أعلى الباب الذي جرى ترميمه من الخارج، والمبنى تحت العلية وهو أصغر حجما من الديوان يستخدم مقرا لجمعية عبوش الخيرية، وهو طبعا على نفس النظام ببناء العقود المتصالبة وجرى ترميمه بنفس الاهتمام كما الديوان، وفي الساحة وبجوار مبنى الجمعية كنا نصعد درجاً حجرياً تراثياً للصعود للعلية والتي ستكون بعض من الحلقة الثانية قريبا ان شاء الله.
صباح جميل أجلس به في شرفتي العمانية التي عدت اليها بعد غياب طويل بحكم اغلاق المعابر بسبب الجائحة وقضاء الوقت ما يقارب العام في وكني الجيوسي حيث اعتدت قضاء الشتاء ونصف الربيع في قريتي جيوس، ولكن فاجئتنا الجائحة ولم أتمكن من العودة الا منذ ايام بعد فتح الحدود البرية للأردن ضمن تعليمات وشروط، أستذكر جماليات زيارتي لكفر عبوش وأحتسي قهوتي مع هديل الحمام الذي عاد للشرفة من جديد مع عودتي، ومع شدو فيروز وهي تشدو: "وينشر الغيم ظلا وكل هناء يعود لا تنسني أنا هناك والزهرة البعيدة تسألني إذا حكيت عن هواك حكاية سعيدة لا تنسني"، فأهمس: صباح الخير يا عمَّان.. صباح الخير يا حلوة، صباح الخير يا وطني.. صباحكم أجمل.
"عمَّان 10/11/2020"