«إذا بحثنا مشكلة الحرية الفكرية في سياق مناقشة بين متحاورين إثنين، فيمكننا أن نعدّ نهج ذلك المحاور الذي يبتكر لحُجَج تدعم أطروحته أو اعتراضات على الأطروحة المخالفة؛ وسلوك ذلك المحاور الأخر الذي يكتفي بمنح تأييده أو عدم منحه إياه لأطروحات مقدمة له، بوصفهما مظهراً من مظاهر الحرية، بمعنى إنها أفعال تعبر عن عملية تكوين لمستوى العلامات، تتم أثناء طرح المحاور لعبارات أحكام على أنها افتراضات أولية عند توليده للقول، أو إسناد المعنى في إطار المحتوى عند نطق القول أو قراءته. هذه العملية تجري في إطار العلاقة الموجودة بين شكل القول وتعبيره ومحتواه وهي علاقة تتميز بأنها مكوِّنة للعلامات، وبالتالي، فهي مبتكرة للمعنى، أو بالأحرى لمفعول المعنى. من هنا، يمكن القول إن حرية التأييد وهي أساس بناء جماعة تشترك فيها العقول وتتوحد روحياً وفكرياً وثقافياً، تتماثل وعلى قدرٍ متساوٍ من حيث المرتبة والقيمة والأهمية، مع حرية الابتكار التي هي أساس الأصالة والأبداع والتجديد.»
ش. بيرلمان «الحرية والاستدلال»، 1949
تقديم المترجمة:
في المرحلة المبكرة من شروعه في دراسة المنطق وأساليبه في التحقّق، وعلاقتها بأساليب انتاج أنماط قيّم هرمية ثابتة، أتجه الفيلسوف شاييم بيرلمان ومنذ ثلاثينيات القرن المنصرم بتركيزه نحو دراسة المواضع الأبستمولوجية التي جعلت من الإنسان مجرد ماكينة لإعادة اجترار التسليم والخضوع والاذعان للقيّم السائدة -حتى وصل الحال إلى صعود الأنظمة التوتاليتارية في اوروبا- على مدار ثلاثة قرون سيطر فيها منطق الحِجاج البرهاني وأساليبه القسرية الإلزامية التي تعلي من شأن الدقة والانضباط والإحكام حسب معايير وقواعد محددة، وتمّ إقصاء منطق الحِجاج البلاغي وتجاهل أهميته ودوره.
وبطبيعة الحال، عندما قام بيرلمان بإعادة الاعتبار إلى المتكلم/ أو المخاطِب/ أو المخاطَب، سلَّط الضوء على مجال الممارسة اللغوية التواصلية في الحوار والنقاش والجدال، باعتبارها فضاء الحرية الإنسانية حيث لها الحقّ في منح التأييد لأفكار وآراء واطروحات واعتقادات، والذي يعني التمسك والالتزام تجاه قيّم معينة دون أخرى، ومن ثمة، في أن يمارس الإنسان دوره كمبتكر للقيّم ضمن المجموعات الاجتماعية والسياسية وغير ذلك من الجماعات العامة التي ينتمي إليها ويلتزم إزاء قيّمها الخاصة، مثله في ذلك، مثل المواطن اليوناني في ساحة أغورا العامة. من هنا، قام بيرلمان بالشروع في مراجعة نقدية شاملة لمجمل المفاهيم التي مثلت القاعدة الأساسية التي تأسست عليها البنية الهرمية لأبستمولوجيا العقلانية الإطلاقية الكليَّة التوتاليتارية.
من هنا، يمثل هذا المقال لبيرلمان، بعنوان: مقدمة في بلاغة سلطة التشريع الاجتماعي لأحكام الحقيقة1، مدخلاً أساسياً لبحوث مطولة ومعمّقة لاحقة حول مشروعه في الحِجاج البلاغي، تشير بوضوح لما أعلنه، فيما بعد، مع زميلته السوسيولوجية لوسي اولبرخت-تيتكا في كتابهما العمدة (رسالة في الحِجاج، لسنة 1958)، حول أن نظرية البلاغة الجديدة:
«تقع بالضد من المتناقضات الفلسفية القطعية وغير القابلة للاختزال، والتي تقدمها لنا المذاهب الإطلاقية بجميع انواعها: ثنائية العقل والخيّال؛ العلم والرأي؛ البداهة القاطعة والإرادة المضلِلة؛ الخاصية الموضوعية المسلَّم بها بصفة كليَّة والخاصية الذاتية التي من المتعذر التعبير عنها والتواصل من خلالها، وثنائية الواقع المفروض على الجميع والقيَّم الفردية بصفة محضة»2.
مقدمة في بلاغة سلطة التشريع الاجتماعي
تبدأ دراسة أحكام القيمة، في العادة، بمغالطة* ناتجة عن تعريف مزدوج لموضوع معين. وتقوم هذه المغالطة على إدخال فرضيّة* ضمنياً عن طريق تعريفين اثنين لشيء واحد. فإذا قمت بتعريف الشيء «س» على إنه يعادل القيمة «أ»، بالقول: «س = أ»، وبتعريفه للمرة الثانية على إنه يساوي قيمة أخرى، بالقول: «س = ب»، فإنني سأتوصل من ذلك إلى نتيجة مفادها أن: «أ = ب»؛ وهي نتيجة يمكن الوصول إليها، بكل سهولة، من خلال استعمال هذه التعاريف البسيطة. في الواقع، إن عبارة الحُكم/ أو الافتراض* التي تقول أن: «أ = ب»، تتطلب أن يتم البرهنة على [صحة استنتاجها عن طريق إعادة اسنادها بصلة ضرورية مع عبارات حُكم بديهية/ أو افتراضات تم البرهنة عليها سابقاً]. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهي فرضيّة تظلّ، في كثير من الأحيان، مضمَّرة ويتم تجاهلها حتى من قبل صاحبها نفسه.
وأبرز مثال للتعريف المزدوج، يقدمه لنا الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا في مؤلفه (الأخلاق، الكتاب الأول، التعريف رقم «1» والمتعلق بالوجود الإلهي)، حينما يقول: أعني بِعلة ذاته، ما يغلِّف جوهره وجوده، أو ما لا يمكن أن يتم تصور طبيعته إلا على إنها وجود. ويترتب على هذا التعريف المزدوج، النتيجة التالية: إن ما يغلِّف جوهره وجوده = ما لا يمكن تصور طبيعته إلا على أنها وجود. وبهذا الشكل المفاجئ، ومن خلال تعريف بسيط، جرى تشكيل وفرض نزعة عقْلنة فِكرانيَّة intellectualisme تضبط كل شيء وتجعله متطابقاً مع معايير محددة، وبما يفضي لإخضاع المَلَكَات البشرية كالشعور والإرادة واختزالها في أُطر صُنعية دقيقة، تتمثل في مجموعة أفكار؛ ومفاهيم، وحقائق تجريدية، وعلى أكمل وجه يمكن للمرء أن يتخيّله.
أما المغالطة التي تحدث في دراستنا لأحكام القيمة، فتكون أكثر تعقيداً بعض الشيء، لأنه إذا كان افتراض الفيلسوف سبينوزا قد عرَّف معادلتين équations اثنتين [أي صيغتين تعبر عن علاقة مساواة بين قيمتين معلومتين] بواحدة أخرى مجهولة القيمة، هذه المعادلات التي افترضنا صحة قيّمها [دون برهان، لأنها، تبدو لنا، ضرورية في تشييد نظام استنباطي]، فعند دراسة أحكام القيمة، يتم تعريف قيمتين مجهولتين اثنتين بواسطة ثلاث معادلات. وهنا، يتعلّق الأمر بتعريف كلٍ من أحكام الحقيقة وأحكام القيمة jugements de valeur [التي تعبر عن مواقف أو ميول خاصة بفرد أو جماعة من البشر، ومن الممكن أن تكون مبررة أو مشرّع لها إلى حدٍ ما، من دون أن تكون عنصراً مكوناً لمعرفة موضوعية]، وهو ما يتم القيام به، عند القول:
اولاً- إن كل الأحكام هي إما أن تكون أحكام للحقيقة أو أحكام للقيمة.
ثانياً- إن أحكام الحقيقة هي تلك التي تُثبِّت لواقعة fait كَيقين وليس وَهْم.
ثالثاً- إن أحكام القيمة هي تلك التي نكوّن فيها ونعرض تقييماً appréciation لواقعة معينة.
إذا أطلقنا على حُكم الحقيقة الرمز (س)، وعلى حُكم القيمة الرمز (ي)، [وعلى أحكام بالرمز (أ)]، فنكون قد أكدنا على صحة العلاقات القائمة بين حدود تلك العبارات الثلاثة أعلاه، بالشكل التالي:
س + ي= أ
س = ب
ي = ج
لكن، في الواقع، توجد هنا فرضية ضمنية، وهي: (ج = أ – ب)، وتشير إلى أن ما نكوّنه من تقييم لواقعة معينة (ج) يعادل حُكماً (أ) بنفينا عنه القيمة (ب)، أي إذا وفقط لم يكن واقعة مثبَّتة كيقين بحُكم الحقيقة. بمعنى، أننا نؤكد أنه في جميع الأحكام التي لا يتم التثبّت فيها من يقين واقعة ما، فهي تقدم مجرد تقييم، وهي فرضيّة أو مُسَلَّمة مضمّرة ليس هناك شيء بأقل وضوحاً منها. ولكي نتجنَّب أي فرضيّة مضمّرة، سوف نستبعد الفرضية الثالثة (ي = ج)، ونقول بدلاً عنها، أن أحكام القيمة هي تلك التي ليست بأحكام للحقيقة، لأنه سوف يكون كافياً بالنسبة لنا، أن نقوم بتعريف أحكام الحقيقة، حتى نفهم، بالفعل، ما هي أحكام القيمة.
نقصد بحُكم الحقيقة jugement de vérité هو ذلك الحُكم الذي يمكننا التحقّق منه، أي ما يمكن أن نثبّت صدقه أو كذبه باستعمال وسائل التحقّق* المتفق عليها. لذلك، سيكون علينا تحديد طبيعة وسائل التحقّق هذه.
كيف يمكننا التحقّق من صدق حُكم أو من كذبه؟ فلا يتفق الجميع حول هذا الشأن. وأكثر وسائل التحقق المعتمدة عموماً، تتمثل في: الاستنباط أو الاستنتاج déduction؛ التجربة الحسية expérience sensible والتجربة الداخلية expérience interne، بما فيها الاستقراء induction؛ والمماثلة analogie، ونود أن نضيف اليها القانون والتقاليد أو الأعراف conventions المحددة والمتفق عليها لدى جماعة معينة.
وقد قمنا بإعادة ادراج الاستقراء مع التجربة، لأنه إذا كان الاستقراء يشتمل على فرضيّة اضافية تتعلق بوجود قوانين كليَّة universelle، فمن غير المقبول ألا نمنح أي قيمة للتجربة التي تمثل أصل تشكيل هذه القوانين نفسها. أما التحقق عن طريق المماثلة بالقياس، فهي الإمكانية الوحيدة المتاحة، عندما يتعلق الأمر بالتحقق من صدق أو كذب توكيدات ذاتية لأفراد أخرين، حيث نقوم بوضع أنفسنا محلّ الأشخاص الذين سيتم التحقق من أحكامهم، ونتساءل حينئذ ماذا سيكون رأينا.
التوكيد الذاتي affirmation subjective نعني به هو حُكم مركب من جزئيين اثنين، فهو يشتمل:
اولاً- على واقعة
ثانياً- على موقف شخصٍ تجاهها
إذ إن الحُكم القائل أن: «قارة أمريكا موجودة»، يمكن التحقّق منه عن طريق التجربة الحسية، أما الحُكم القائل أن: «بول يظنّ أن قارة أمريكا موجودة»، فهو حُكم ذاتي لا يمكن التحقّق منه إلا عن طريق المماثلة فقط. من هنا، ينبغي أن نتخيّل أنفسنا محلّ الشخص بول وننظر فيما إذا كان من المرجح، مع توفر المُعطيات التي يملكها بول حول أمريكا، أن نصدق نحن أنفسنا بذلك أيضا.
تستند جميع العلوم التاريخية إلى التحقّق عن طريق المماثلة، وإذا أنكرنا أي قيمة لهذه الوسيلة للتحقّق، فإننا ننزع عن التاريخ أي ادعاء بالعلمية. إذ إن حركة تقدم التاريخ نفسها تمكن في إمكانية وضع أنفسنا على نحو أفضل محلّ الأخرين، والشرطان الاثنان لهذا التقدم هما: محاولة الارتقاء بوعينا ومعرفتنا بالوضع الذي يجد الاخرون أنفسهم فيه، والتوفر على خيّال رَحْب.
يعتبر البعض أن التجربة الحسية وحدها قادرة على تزويدنا بالحقيقة، وينكر أي قيمة للتجربة الداخلية، وهو تمييز قائم، في الأصل، على حُكم عبر المماثلة. فنحن، في الواقع، نقول إن التجربة الحسية أكثر وثوقاً من التجربة الداخلية، لأنها يمكن أن تكون خاضعة للفحص والمراجعة من قبل أشخاص أخرين، وهو ما يفترض أيماننا بحقيقة أن الأخرين الذين يضعون أنفسهم محلّنا، سيكون لديهم التجربة نفسها، وإذا حصل لهم ذلك، فإنهم سيثبِتون صحة تجربتنا الخاصة، وبخلاف ذلك، فإنه سيتم تقويضها. وبذلك، فإن الأعتقاد أن الأخرين بمجرد أن يضعوا أنفسهم في مكاننا ويحاولون النظر للمسألة من وجهة نظرنا الخاصة، سيكون لديهم نفس التصورات التي لدينا، هو، بطبيعة الحال، أعتقاد بصلاحية المماثلة كوسيلة من وسائل التحقّق.
إذا قلنا إن السرقة المرتكبة دون عنف أو تهديد تعتبر جنحة في مملكة بلجيكا، فإننا نصدر حُكماً صحيحاً، لأنه من الممكن التحقّق من صدقه أو كذبه، ولن يكون ذلك عن طريق الأستنتاج، ولا عن طريق التجربة، ولا عن طريق المماثلة، بل بموجب نص القانون، من المادة رقم 463 في قانون العقوبات. وبالمثل، عندما نقول إن الزواج الذي يكون فيه عمر الزوج أقلّ من 18 عاماً يعتبر بمثابة غير موجود في بلجيكا، فإننا نؤكد على أنها عبارة صحيحة مثل صحة العبارة القائلة 2 + 2= 4. وبالتالي، فإن هذه العبارة قابلة للتحقّق منها، وهذا يتم بموجب المادة رقم 144 من القانون المدني.
ما يزال في إمكان أعراف أخرى تابعة لجماعات وثقافات معينة أن تؤدي لابتكار وانشاء وسيلة جديدة للتحقّق، وقد يبدو هذا افتراض مثير للجدال، لكن سيتعين علينا الاعتراف بمدى جدواه وأهميته بعد قراءة هذا المقال. لنفترض أن مجموعة من الأشخاص اتفقوا على هذه الافتراضات، وهي: إن كل ما أكده الفيلسوف أرسطو هو صحيح، وإذا تعارض توكيد لأرسطو مع وسيلة تحقق أخرى، فسيكون رأي أرسطو هو المُفضَّل. وسيكون بمقدور أفراد هذه الجماعة إخبارنا إن مثل هذا الافتراض صحيح، لأن أرسطو قد أكده. وسيكون لديهم بالتأكيد الحقّ في قول ذلك.
يوحي لنا هذا المثال بفكرة أنه من الممكن أن يكون هناك حالة من التعارض بين افتراضات تم اختبارها بوسائل مختلفة للتحقّق. لذلك، فإن المسألة تتعلق بترتيب نظام التسلسل الهرميّ المحدِد لأولوية أساليب التحقّق المختلفة عن طريق أحكامٍ جديدة سنأتي على تحديد طبيعتها لاحقاً.
بغية توضيح كل ذلك، دعونا نتساءل عن الوضع المنطقي statut logique للافتراض التالي: التجربة الحسية تمثل وسيلة تحقّق مقبولة.
علينا أن نلاحظ، أنه لا يمكن اثبات أن هذا الافتراض صائب أو خاطئ بأي أسلوب* procédé من أساليب التعبير البلاغية في التحقّق، فمن الناحية المنطقية يستحيل إجبار مُتشكِّك كلياً أو عقلاني كلاسيكي على الاعتراف بصلاحية التجربة الحسية كوسيلة للتحقّق، ولن يكون من الممكن ابداً نفيّ ذلك الافتراض سوى عن طريق حُكم اختياري كيَّفي* arbitraire. وبالتالي، علينا أن نستخلص أن هذا الحُكم يمثل حُكماً للقيمة، وهذا ما سيكون الحال عليه بالنسبة لجميع الأحكام المشابهة، عندما لا يمكننا التثبّت منها بأسلوب تحقّق سبق وتمّ قبوله بواسطة حُكم للقيمة. وبالمثل، سنكون ملزمين باعتبار جميع الأحكام التي تضفي نظام تسلسل هرمي يحدد أولوية مختلف وسائل التحقّق، بمثابة أحكام للقيمة.
إن أحكام القيمة [لا تنحدر عن صلة طبيعية أو سببية منطقية، بل عن تأويل أشكال العلامة في صورها الاستعارية والمجازية، أو عن فعل العقل التأويلي، أي عما تقيمه الجماعات اللسانية المحلية أو الفرد من حالات شعورية ونهج في التفكير أو ثقافة مع العلامات اللغوية التي تستعملها]، فهي أحكام اختيارية كيَّفية، يمكن أن تتبدل وتتغير من عصر لأخر؛ ومن فرد لأخر، وبالأخص من جماعة لأخرى.
فعلى سبيل المثال، الحكم القائل: «إن الإله موجود»، هو إما أن يمثل بالنسبة لنا حُكم للقيمة، لأن الفيلسوف إيمانويل كانط أظهر أنه من المستحيل البرهنة على صحة هذا الحُكم عن طريق وسائل التحقّق المتاحة لدينا، وأنه من المستحيل البرهنة على كذبه أيضاً، وحتى لو أعتقد أحد ما بتحقيقه لذلك بإحدى وسائل التحقق المعطاة –وهو ما نشك فيه– فسوف يكون من الممكن دائماً للمؤمن أن يؤكد على أن ربّه يفوق كل المعارف. من هنا، إن الحكم القائل: «إن الإله موجود»، هو حُكم للقيمة بالنسبة لنا. ومع ذلك، فأنه سيمثل حُكماً للحقيقة بالنسبة لمن يُسلّم أن كل ما تمّ تأكيده في الكتاب المقدس هو صحيح. فواحد سيؤكد إنه حُكم للقيمة، والأخر على إنه حُكم لحقيقة، وذلك يعود، في واقع الأمر، إلى أن حُكم الحقيقة هذا، هو حُكم يتم استنتاجه من حُكم للقيمة أوسع نطاقاً وهو التصديق على وسيلة معينة من وسائل التحقّق المعطاة.
لذلك، لا يوجد حُكم للحقيقة إلا حيثما يوجد تحقّق؛ لكن، لا يمكن أن يتمّ التحقّق إلا عن طريق حُكم للقيمة. فأي حُكم للقيمة يمكن جعله حُكماً للحقيقة إذا افترضنا حُكماً للقيمة أكثر أتساعاً وامتدادًا، أي وسيلة تحقّق تسمح لنا بالبرهنة عليه. وأي حُكم للحقيقة يمكن جعله حُكم للقيمة، إذ يكفي ألا نعترف بوسيلة التحقّق التي تمّ بواسطتها البرهنة على ذلك.
لذا، نستطيع القول إن حُكم الحقيقة يوجد فقط داخل نطاق المجموعة التي اعترفت بحُكم للقيمة يتمثل في التأكيد الاثباتي لصلاحية وسيلة معينة من وسائل التحقّق. فالقضايا الرياضية صحيحة فقط داخل نطاق مجموعة أولئك الذين يعترفون بصلاحية الاستنباط كوسيلة للتحقّق. ويجوز اعتبار الذين لا يعترفون بصلاحية الاستنباط على أنهم مجانين أو غير متحضِّرين، وهذا يعني من جهة، أنه سيتم استبعادهم من مجموعة «ناس عقلاء» يؤيدون حُكم القيمة هذا، ومن جهة أخرى، ألا تتمّ دراسة الرياضيات سوى داخل نطاق هذه المجموعة فقط.
بالطريقة نفسها، يمكن النظر إلى جميع أولئك الذين لا يؤمنون بصلاحية كلٍ من العهد القديم والعهد الجديد كوسيلة للتحقّق، على أنهم زنادقة يستحقون الحرق، لكن، هذا يحصل فقط داخل مجموعة من المسيحيين والتي سيتم فيها اعتبار جميع الأحكام التي تنتج عن حُكم للقيمة يضع كلا العهدين كوسيلة للتحقّق بمثابة أحكام للحقيقة. من هنا، أي حُكم للحقيقة يقتضي وجود حُكم للقيمة سابق عليه. لذلك، لا توجد حقيقة سوى داخل المجموعة التي تقبل/وتعترف بهذا الحُكم للقيمة. وهذا ما ينفي وجود أي ضرورة منطقية كليَّة، لأن تأييد* adhésion مجموعة والانضمام إليها هو واقعة تتجاوز الأُطر المنطقية. فالضرورة nécessité يمكن أن تكون مفهومة داخل الجماعة الواحدة، وإذا تم طرحها كضرورة في ذاتها، تصبح غامضة وغير قابلة للفهم.
من الممكن أن يتم البرهنة على جميع أحكام الحقيقة في سياق [قواعد اجتماعية ومعايير أخلاقية وتقاليد؛ وطرق تفكير وممارسات] تتعلق بجماعة معروفة ومحددة. هذه الأحكام لن تكون مدعاة لإثارة العاطفة ما لم يكن هناك ثمة التباس. إذ يوجد، بالفعل، اختلاف تامّ بين هذين الامرين: أن نبرهن démontrer على قضية بطريقة واضحة ودقيقة بافتراضنا لحُكم قيمة مقبول ومعترف بصحته مسبقاً، وأن نتناقش discuter حول حُكم القيمة هذا. ومع ذلك، غالباً ما يجري الخلط بين هذين الموقفين في الحياة العملية.
إن المناقشات، في الواقع، تقتصر على الأحكام القيّمية التي، لأنه لا يمكن البرهنة عليها، فهي تخضع لمعايير الفعل والقوة والعاطفة. ومن هذه الزاوية، يمكن أن يلتقي تعريفنا لأحكام القيمة بالمعنى التقليدي لمصطلح القيمة.
وفي الختام، أي حُكم للحقيقة يفترض جماعة من الناس يؤيدون حُكماً قيّمياً يسمح بالتحقّق من حُكم الحقيقة المحدد، لأنه داخل مثل هذه الجماعة فقط يمكن أن تكون أحكام الحقيقة قابلة للتصور والأدراك والفهم، وهناك فقط يمكن لها أن تظهر وتنتشر وتَشيع.
الحقيقة ليست بشيءٍ مطلق، كما إنها ليست ظاهرة محض ذاتية، وإنما هي ظاهرة أجتماعية phénomène social. ومن وجهة نظر منطقية، هذا التصور لمفهوم الحقيقة يقتضي ضمناً أن تكون هناك حالة من التسامح والانفتاح وعدم التعصب بين مختلف الجماعات، وأن يكون داخل جماعة أولئك الذين يتفقون على صحة حُكم قيميّ يصدِّق على صلاحية طريقة تحقق محددة، وجود ضرورة، وبالتالي، لحقيقة معينة.
الهوامش:
1) Chaïm Perelman : LE STATUT SOCIAL DES JUGEMENTS DE VÉRITÉ, Un article paru dans La revue de l’Institut de Sociologie Solvay, Université Libre de Bruxelles, N. 1, 1933, pp. 1-7.
2) Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Tome 2, Paris, P.U.F, 1958, P. 676.
[] ما بين القوسين يعود للمترجمة. وفيما يتعلق بمفاهيم بيرلمان تحديداً، تم العودة الى مؤلفه العمدة (رسالة في الحِجاج):
Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Paris, P.U.F, 2 vol., 1958.
(*) النجمة هي رمز مثبت على مفاهيم محددة ضمن متن النص، يُشير إلى إمكانية الاستزادة حولها، بالعودة لقائمة مسرد المصطلحات.
*باحثة ومترجمة في الدراسات الفلسفية والحِجاجية-العراق
مسرد المصطلحات
-حُكم jugement : هو فعل التفكير acte de la pensée الذي يؤكد بالإثبات أو النفي، وعلى هذا النحو، يفرض وينشئ لما هو صحيح. إن وجود الحُكم هو نقطة تلاقي بين مقاربات متعددة، للفلسفة والمنطق واللغة والعلوم النفسية والاجتماعية. الحُكم المنطقي، بمعناه الوضعي الأكثر شيوعاً، هو القيام بفرض وجود علاقة بين حدين منطقيين اثنين أو أكثر (إما بصفة حقيقة ثابتة، وإما بصفة مؤقتة؛ خيالية، أو افتراضية.. الخ). وفي مفهومه المعاصر، يشير الحُكم لدى المنطقي إلى تأييد المتحاورين لافتراض يتم تبريره بطريقة ما عن طريق علاقات وصل التمثلات والتي تجمعها معاً؛ وعن طريق مرجعيات دلالية معينة لافتراضات/عبارات مع أخرى غيرها أو مع الخبرة. ومن وجهة النظر الفلسفية، يشير الحُكم إلى عملية ذهنية يمكننا من خلالها تأكيد واقع شيء أو لعلاقة تربط فكرتين اثنتين، ويتم التعبير عنه بعبارة حُكم/أو افتراض.
Jugement. Dans le Vocabulaire Technique et Critique de la Philosophie, Par André Lalande, PUF, Paris, 16e édition, 1988.
Jugement. Dans le Dictionnaire de la langue Philosophique, Par Paul Foulquié, avec la collaboration de Raymond Saint-Jean, PUF, Paris, 1962.
Jugement. Dans le Dictionnaire de la Philosophie, Préface d’André Compte Sponville, Encyclopædia Universalis & Albin Michel, Paris, 2000.
-قيمة valeur : تعد القيّم؛ أو مراتب النظام الاجتماعي، أو مواضع التفضيل لأشكال من التعاليم والقواعد والمعايير والعادات والتقاليد، وما إلى ذلك، لدى مختلف الجماعات والثقافات، هي واحدة من بين الموضوعات الأساسية التي يقتضي الاتفاق حولها.
Valeur. Dans : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Par Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca, Paris, P.U.F, 1958.
-مغالطة paralogisme : تشير، بمعناها العام، إلى استدلال خاطئ وزائف، لأنه تمّ استنتاجه بشكل غير صحيح وبطريقة غير مقصودة.
- فرضية postulat : تشير، بمعناها الكلاسيكي، إلى تلك الافتراضات التي يتم اعتبارها بمثابة مبادئ ضرورية في بناء نظام استنباطي، لكنها ليست واضحة بذاتها ومن الممكن البرهنة عليها، وهي بذلك، تختلف عن البديهية axiome التي تعتبر افتراض واضح بذاته.
- افتراض proposition : يشير إلى وحدة مركبة تتوسط بداخل التحليل اللغوي بين «الكلمة» وهي الوحدة الصغرى التي تتمتع بالمعنى؛ وبين الخطاب حيث يكوّن في كليته الدلالية على مجموعة افتراضات/أو عبارات للأحكام على وجه الخصوص. وفي المنطق، يدل على تعبير لحُكم أو قول شفاهي يمكن أن يكون صحيحاً أو خاطئاً.
Proposition. Dans Le Vocabulaire Européen des Philosophies, Sous la direction de BARBARA CASSIN, Paris, Le Seuil & Le Robert, 2004.
- التحقق vérification : يشير هذا المصطلح الإشكالي، في مجال العلوم الإنسانية، بوجه خاص، إلى مجمل أساليب الفحص والأختبار الذي نسعى فيها إلى التثبّت من مدى صحة افتراضات معينة. وفي علم المنطق، يتمثل التحقّق في ملاحظة أننا نتوصل إلى نتيجة واحدة بواسطة عمليتين مختلفتين. وبذلك، فإن التحقّق يتعارض مع البرهان démonstration إلى حدّ ما، فالأول يتعلّق بحالات محددة خاصة، بينما يعرض البرهان لسمات عامة.
Vérification. Dans le Vocabulaire Technique et Critique de la Philosophie, Par André Lalande, PUF, Paris, 16e édition, 1988.
-نهج أو أسلوب procédé : هذا المفهوم الأساسي في علوم البلاغة والحِجاج عامة؛ وفي نظرية البلاغة الجديدة على وجه الخصوص؛ والاشكالي الذي لطالما جرى التقليل من قيمته، وبالتالي، من قيمة البلاغة على السواء، وذلك من خلال اختزاله على انه مجرد وسيلة -بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالة سلبية شائعة- لغرض الوصول الى غاية في قلب الخطيب والخطاب البلاغي عموماً. من هنا، كانت هي احدى المشكلات التي تصدى لها بيرلمان وزميلته لوسي اولبرخت-تيتكا وحاولوا تسليط الضوء عليها، ومن ثمة، القيام بإعادة مراجعة شاملة لتاريخ البلاغة القديمة والتقاليد الحِجاجية في الفكر الغربي.
يشير هذا المفهوم إلى مجمل عمليات التعبيرية للأسلوب style، أي إلى تلك الأساليب التي نصيغ من خلالها تفكيرنا، وتشكل نماذجه وتوجهاته وميوله التي كثيراً ما تبدل من شكل القول l’énoncé؛ وتؤثر على طريقة القول l’énonciation ومفعوله في انتاج الممارسات الخطابية، وبالتالي، في إعادة صياغة رؤيتنا للواقع برمته. للمزيد يُنظر:
Procédé. Dans : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Par Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca, Paris, P.U.F, 1958.
FIGURE & RHÉTORIQUE dans : Le Dictionnaire du Littéraire, p. 291-292 & p. 676-678.
- اختياري arbitraire : يشير إلى أحد أهمّ المصطلحات التي تناولها الفيلسوف بيرلمان بالدراسة والبحث والنقد، لا سيما، وهو يمثل واحدة من الركائز التي اقام عليها النظام الغربي العقلاني فلسفته في العقل والعقلنة والموضوعية والدقة؛ ونظامه الشكلاني في المنطق واللسانيات حيث يقتضي وجود صلة "طبيعية" أو سببية بين الدال والمدلول حسب لسانيات فرديناند دو سوسير بحيث يتم تحييد أي علامة لغوية لا يمكن قراءتها حسب قانون العلاقة السببية، لأنها تعبر عن سمة ما ليس له أساس من الصحة أي ما لا يقوم على مبدأ، لأنه يعبر عن خصائص ذاتية إرادية اختيارية تعبر عن كل ما يتعلّق بالدافع motif العاطفة والشعور والانطباعات الشخصية المعبرة عما هو ذاتي وعرضي متغير ونسبي، وبالتالي، فهي أشكال بلاغية تفتقر للوضوح؛ غير عقلانية، وغير منطقية. وحسب "العادة المتآلف عليها" يتم تعريف هذا المصطلح بصورة سلبية واضحة، بالاستناد إلى قاموس لالاند للمصطلحات الفلسفية، وفيه يشير بالتحديد إلى اشتقاقه من كلمة الإرادة التي تعتمد فقط على قرار فردي وليس على نظام مشيَّد مسبَّقاً أو على سبب مقبول عند الجميع. لكن، وخلال مطالعة عرضه النقدي، يشير صاحب القاموس الفلسفي إلى ملاحظة نرى إنها تستحق التوقف النقدي، والنظر من خلالها إلى موقف مؤسس البلاغة الجديدة بيرلمان تجاه الابستمولوجيا العقلانية الإطلاقية. حيث يوضح لالاند أن arbitraire تختلف عما هو عرضي contingent في أن المصطلح الأول يتعارض مع العقل المعياري ومع ضرورة المطابقة والامتثال، وليس مع الضرورة نفسها. وفي هذا المنظور، يتفق المعنى مع رأي بيرلمان بخصوص إن السمة الاختيارية الكيَّفية لأحكام القيمة تقتضي ضرورة ما، ومن ثمة، لحقيقة معينة، وهذا ما عمل على البحث فيه خلال دراسته للمنطق القانوني. إضافة إلى المجهود الكبير الذي قام به بيرلمان وزميلته تيتكا في التحليل الحِجاجي للمواضع الأبستيمية حيث تتوغل في داخل أشكال المنطق واللغة مجمل الأنظمة القيمية الهرمية التي تشكل وتكون معارفنا وادراكاتنا وطرقنا في الاستدلال والتفكير والممارسة الاجتماعية وتبادل الآراء والأفكار والتصورات ووجهات النظر، فهو عملٌ كشف عن هيمنة أشكال من الخطابات في المؤسسات الفكرية والأدبية والأكاديمية الصانعة للمعرفة/واللغة/والسلطة تكرس لنظام فكر عقلاني أحادي ولمنطقه البرهاني في تثبيت نظام حُجَج ومُثُل كاملة ليس على الفرد سوى نسخها وطبعها مثل صفحة بيضاء، على اعتبار إن أي تدخل شخصي وأي حُكم اختياري لا ينتج عن تطابق مع المعايير السائدة والحقائق الثابتة ومع التصنيفات الهرمية المعروفة، لا يمكن أن يكون سوى صورة من صور الاعتباطية والفوضوية والإرادة المضللة التي ينبغي استبعادها كلها. من هنا، تستدعي نظرية البلاغة الجديدة إعادة النظر بالمعنى الاخر؛ المختلف؛ المغاير لمصطلح arbitraire أي الإرادة والاختيار وبمختلف صورهما المعبرة عن حرية تتناسب مع الضرورة المرجوة للفرد والمجتمع الذي ينتمي إليه -علماً إن هذا الاستبعاد والتجاهل الذي حصل لمظهر من مظاهر هذا المصطلح لا يخص السياق الغربي لوحده، بل يشمل السياق العربي الذي قامت الخطابات الاكاديمية والثقافية بعمل نفس الشيء مع هذا المصطلح الذي تمّ تعريبه بالاعتباطية والارتجالية والفوضوية-. ومن خلال تسليطه الضوء على هذا المعنى غير المفكَّر فيه، حاول بيرلمان أن يعيد النظر في علاقة الحرية الإنسانية وإرادة الاختيار بعملية انتاج الخطاب وأنظمة القيّم والاحكام الأخلاقية، وبوجه خاص، على تأكيد أن حرية الإرادة هي ممارسة بلاغية حِجاجية نقدية.
وقد أوجز بيرلمان هذه الإشكالية في خاتمة مؤلفه العمدة (رسالة في الحِجاج، لسنة 1958)، في عبارته:
«بزعمنا إن ما هو غير صالح وغير مقبول من الناحية الموضوعية وبطريقة لا تقبل الجدال، يدخل في نطاق ما هو ذاتي subjectif واختياري يفتقر لأسباب عقلانية arbitraire، فإننا نعمِّق من فجوة يتعذر اجتيازها بين معرفة نظرية نعتبرها وحدها العقلانية، وبين الفعل/الممارسة والذي ستعد دوافعه غير عقلانية بالكامل. في مثل هذا المنظور، لا يمكن لمجال الممارسة أن يتسم بكل ما يتطابق مع التعقل والعقلنة، لأن الحِجاج النقدي فيه أصبح غير مفهوم بالكامل ومن غير المستطاع أن يتم النظر فيه بجدية حتى إلى التأمل الفلسفي نفسه. في الواقع، يمكن فقط لتلك الحقول التي تمّ القضاء فيها على أي جدال أن تدعي بطابع عقلاني على نحوٍ ما. ومجرد أن يكون هناك ثمة جدال أو نقاش، ولا تستطيع المناهج «المنطقية-التجريبية» استعادة الاتفاق بين الأذهان، فإننا سنجد أنفسنا داخل حقل غير عقلاني سيتمثل بحقل المداولة؛ والمناقشة، والحِجاج».
Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca, La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Paris, P.U.F, 2 vol., 1958, p. 679.
Arbitraire. Dans le Vocabulaire Technique et Critique de la Philosophie, Par André Lalande, PUF, Paris, 16e édition, 1988.
Arbitraire. Dans le Dictionnaire de la langue Philosophique, Par Paul Foulquié, avec la collaboration de Raymond Saint-Jean, PUF, Paris, 1962.
Arbitraire & Motif & Motivation. Dans : Sémiotique, dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Par A. J. Greimas, j. Courtés, Manifestation, Hachette, Paris,1979,1980.
- تأييد adhésion : يشير هذا المصطلح مع الفيلسوف شاييم بيرلمان إلى معاني "التأييد؛ الانضواء" التي تفسح المجال للحوار والنقاش والمراجعة وتبادل الرأي، بعد أن كان لهذا المصطلح مع سيطرة البرادايم الرياضي البرهاني، وبالأخص مع الفيلسوف رينيه ديكارت دلالة سلبية إرتكاسية تدل على التسليم والإذعان والخضوع لنظام العلامات المسيطر. يشير مصطلح التأييد استعماله غالباً إلى الموافقة المعطاة لمبدأ أو لعقيدة أو لأيديولوجيا مسيطرة. وهذا يعني أن التأييد يستدعي المشاركة والانضواء تحت الطريقة نفسها في النظر والإدراك لمعايير الأخلاقيات المتداولة، لهذا يمكن أن تعد صياغة التأييد هي صياغة لتعددية في الايديولوجيات لها من القوة والتأثير المماثلين لتلك الخاصة بسلطة مشيدة وراسخة لكنه يختلف عنها بكونها قابلة على الدوام للسؤال والنقاش والمراجعة والجدال. بعبارة أخرى، أن التأييد هو مشاركة في صناعة الآراء والاعتقادات doxa لان آثار تأييد وتصديق رأي معين ستضع القيّم المحمولة فيه موضع صيرورة دائمة.
وقد كنا قد أشرنا في ترجمتنا لمقال الفيلسوف بيرلمان، وهي بعنوان: (في جدلية العقل الحِجاجي...من إيديولوجيا الثبات إلى الزمانية التاريخية)، إلى أنه أستعمل مصطلح adhésion مرتين اثنتين في موضعين مختلفين. في المرة الأولى، جاء على استعماله في سياق حديثه عن مفهوم العقل في النظام الفلسفي الديكارتي، ولهذا تم ترجمة هذا المصطلح بدلالته التي تحيل إلى معنى كلمة «التسليم» في الخضوع والطاعة والإذعان. أما في المرة الثانية، فقد استعمله في سياق الحديث عن نظريته في البلاغة الجديدة التي عمل فيها على إحداث قطيعة مع مفهوم الاستدلال والعقل المنحدر عن ديكارت حسب تعبيره، ولهذا السبب ترجمناه بـ «التأييد». وهذا المعنى بالتحديد، هو ما أشار اليه بيرلمان صراحة في مقالة له بعنوان: «الحرية والاستدلال» (وقد ظهرت بترجمتنا).
علماً، أننا كنا قد أكدنا، وما زلنا نؤكد، على ضرورة الانتباه إلى الخطأ الشائع في معظم الكتابات والبحوث والاطروحات الاكاديمية في البلاغة والحِجاج والمنطق واللغة، والتي ما زالت تستعمل مصطلح «adhésion» بمعاني «التسليم والإذعان» البرهانية الطابع والتي لا تستقيم ابداً مع المفهوم الحِجاجي لنظرية البلاغة الجديدة وعلوم اللسانيات والمنطق المعاصر، والذي يستدعي حرية «التأييد» ويعيد الاعتبار للمخاطَب.
ADHÉSION. Dans : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Par Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca, Paris, P.U.F, 1958.
ADHÉSION. Dans : Le Dictionnaire du Littéraire, Sous la direction de Paul Aron & Denis Saint-Jacques & Alain Viala, Paris, P.U.F, 2e éd., 2010.