حين وطأت قدما تاجر التبغ أرض المحروسة في بدايات القرن التاسع عشر، كان التاريخ المصري جاهزًا لبدء مرحلة جديدة، عُرفت في كتب التاريخ الرسمية بعدها باسم "بناء مصر الحديثة"، زمن الإنجازات الزراعية والعسكرية والصناعية والتعليمية الهائلة، كان يقف وراء كل هذا نظام جديد على الفلاح المصري، وأشير لكل مصري بالفلاح لأن الأسرة العلوية تعاملت مع المصريين دومًا على أساس أنهم جميعًا فلاحو أراضيها.
عندما أصبح تاجر التبغ محمد علي واليًا، بدأ في بناء مصر الحديثة على شكل "بانوبتيكون" كبير، والبانوبتيكون هو نموذج للسجن ابتكره الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنتام، يتشكل من مجموعة من الزنازين ذات الشبابيك الواسعة على شكل حلقة دائرية، وفي المنتصف برج مراقبة، لتكون تلك الزنازين متاحة للمراقبة تحت أعين الحارس القابع في البرج، ولكن لا يمكن للمساجين أن يعرفوا ما إذا كان الحارس يراقبهم أم لا، لذلك تترسخ في ذهنية المساجين أنهم هم المراقبون لأنفسهم، تحسبًا إذا كان الحارس يراقبهم أم لا، وما يذهب إليه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أن الدولة الحديثة قد شكَّلت مجتمعها على هيئة بانوبتيكون ضخم، وكان قانون الباشا صورة جلية لهذا البانوبتيكون.
المخطط الأولي لبانوبتيكون جيرمي بنتام عام 1791.
الجورنالجية
كان "الجورنال" أو السجل اليومي هو الممارسة الإدارية التي انطلق منها إخضاع مصر الريفية للنظام الصارم، فأنشأت الحكومة مكاتب التفتيش الإقليمية والمركزية، لتلقي تقارير مفتشيها المحليين (الجورنالجية(.
تحتم على نظام الباشا أن يحدد أماكن فلاحي مصر وتحفيزهم للبدء في إنتاج القطن والسلع الأخرى للاستهلاك، وكان ضروريًا أن يتم تحديد أماكنهم بكل دقة ووضوح، وتحديد واجباتهم والحصص المطلوبة منهم، ورصد طريقتهم في العمل في تقارير مستمرة ترفع إلى الجورنال، تلك الوسيلة مكَّنت الباشا من بسط يده فوق الفلاح المصري الذي اعتاد الهرب من قراه حين تلاحقه الضرائب وسياط الملتزم.
فُصّل "النسق العام للاتباع والخضوع" تفصيلًا تاما في كتيب صدر في ديسمبر من العام 1829، وجاء عنوانه "لائحة زراعة الفلاح وتدبير أحكام السياسة بقصد النجاح" معبرًا عن النهج الجديد للسلطة في التعامل مع الفلاح، واحتوى الكتيب على توصيف مفصل لطريقة العمل في الحقول، والمحاصيل التي يتعين على الفلاحين زراعتها، واحتجازهم بالقرية، وواجبات المكلفين بحراستهم ومراقبتهم.
الكتيب كان نتاجًا لاجتماع واتفاق أربعمائة من المديرين الإقليميين وضباط الجيش وموظفي الحكومة، عُقد في القاهرة عام 1829 لمواجهة مشكلة انخفاض الإيرادات وتزايد الفرار من الأراضي، واحتوى 55 فقرة تشرح نصوصها العقوبات ودرجاتها لأكثر من سبعين تخلفًا مفصلًا عن أداء الواجب من جانب الفلاحين أو مراقبيهم.
الفلاحون يعملون تحت أعين المشد والخفير، الذي وكل إليه مراجعة الفلاحين يوميًا، ومراقبتهم ليلًا ونهارًا لمنعهم من هجران القرية، وكان يجري الإبلاغ عن الفلاح المتخلف عن أداء مهمته لشيخ البلد، ورئيس القرية الذي عينته الحكومة، وكان عقاب الفلاح المتخلف عن زراعة حقله 25 جلدة بالسوط، وبعد ثلاثة أيام يقوم شيخ البلد بتفتيش الحقول مرة أخرى، وإذا تبين أن الفلاح لم ينُجز حصته من العمل، فمصرَّح لشيخ البلد بجلده 50 جلدة، وبعد ثلاثة أيام أخرى تفتيش آخر يساوي 100 جلدة.
يخضع رئيس القرية بدوره لمراقبة مسؤول الناحية أو حاكم الخط، فإن أهمل في مراقبته فجزاءه التوبيخ في المرة الأولى، والجلد 200 جلدة في المرة الثانية، و300 جلدة في الثالثة، وحاكم الخط نفسه يعلوه المأمور، الذي يعاقِب إهماله بلفت النظر في المرة الأولى، والضرب بالعصا خمسين مرة في الثانية، والمأمور مسؤول أمام مسؤول المديرية، وهو الموكول بتقديم تقرير أسبوعي لمكتب التفتيش المركزي.
وفصَّل الكتيب تدرجًا آخر يماثل الواجبات والمراقبة والانضباط بالنسبة لتوزيع المحاصيل، وجمع الضرائب، وتوفير الرجال للخدمة العسكرية والسُخرة، والإبلاغ عن الشخص الذي يخرج من قريته دون إذن، ووثائق تحديد للشخصية والتحقيق معه واعتقاله، والجدير بالذكر أنه جرى احتجاز الفلاحين في قراهم بموجب مرسوم حكومي صدر في يناير/ كانون الثاني 1830، قصر تحركهم على مساقط رؤوسهم، واشترط على كل راغب في الخروج من قريته الحصول على تصريح ووثائق تحدد شخصيته، فأديرت القرية كثكنة عسكرية، ووضع سكانها تحت مراقبة الحرس ليلًا ونهارًا، وتحت مراقبة مفتشيهم وهم يفلحون أرضهم ويسلمون محاصيلهم.
فلقة وكرباج
كان الجسد هو التعبير الأبلغ عن قوانين محمد علي الصارمة، ففي القوانين المدنية والعسكرية على حد سواء كان استخدام جسد المذنب هو الوسيلة الأمثل لتطبيق القانون، وتكلم العصر بلغة الفلقة والكرباج، بالنظر في أسباب العقوبات في ذلك الوقت، نجد أن العقاب كان تقديريًا، فقد جُلد جنديان 20 جلدة لكل منهما لأنهما تشاجرا، وثبت أن أحد الجنود فقد دلو الماء فعوقب بخمسين جلدة، واحتمل ظهر أحد المجندين 150 جلدة لسرقته بعض المشمش من أحد الأسواق المحلية. كانت هذه العقوبات تنُفذ بطريقة استعراضية أمام أعين الزملاء في الأورطة (وحدة عسكرية). أما في الحياة المدنية، فاحتوت 26 مادة من مواد قانون الفلاحة الـ55 على استخدام الكرباج، لقد كانت تطبيق العقوبة على مرأى ومسمع من الجميع، هي بيان ما ينتظره كل من يكررها.
يسجل أحد القناصل الأوروبيون أحد حوادث العقاب العلني التي وقعت بسبب تذمُّر السكان المصريين لطول حصار عكا، وما أثر فيه على الأحوال في القاهرة، فهنا أمر محمد بضرب أعناق ثلاثة أشخاص، وتعليق أجسادهم على باب من أبواب القاهرة القديمة، ووضع لافتات على صدورهم؛ "هذا جزاء من لا يمسكون ألسنتهم".
كان المصريون، مِن الفلاح للمسؤول، مساجين في بانوبتيكون محمد علي، فالباشا لم يكتفِ بالجلوس في القلعة وتحريك الخيوط من خلف الكواليس، لكنه كثيرًا ما قام بزيارات تفتيشية لفحص الأمور بنفسه. كان من النادر أن يُعرف موعد زيارة الباشا، ما جعل موظفوه يشعرون بأنه كلي الحضور وكلي العلم، وهو ما يشبه الحالة التي يعاني منها المساجين مع مراقبهم في البرج، فهم لا يتأكدون من حقيقة وجوده الفعلية، لأنه غير مرئي في علاه من موضعهم في الأسفل، وهو ما كان يجعلهم يتعاملون وكأنه دومًا موجود.
صنع محمد علي لنفسه هالة الحضور الدائم والعارف بكل شيء، فكان يستخدم سلطته ببراعة، ومن بطشه وعقابه صنع من نفسه رقيبًا داخليًا على المصريين بدرجاتهم، أصبح من السهل فهم أن أي خرق لقوانينه بمثابة الهجوم على شخصه، فكان جسد الباشا، على النقيض من جسد المصري، في حضوره المادي والمعنوي القانون، وفي حضور جسد المصري صورة تنفيذية لذلك القانون. احتكر الباشا في يده العقاب، فقد انزعج أشد انزعاج عند سماعه بحادثة مفادها أن أحد الحكام المحليين قطع أذني رجل ومزق أنفه بعد شنقه، عقابًا على ضبطه يتاجر في البضائع التي يحتكرها الباشا، فكان رده على المسؤول بفصله من الخدمة، لأنه لم يكن مفوضًا من جنابه بأن يوقع عقوبة مثل هذه بنفسه.
كان قانون محمد علي يقوم على تأويل مقولة "الجزاء من جنس العمل" بما يوافق هواه في تطبيق السيادة، فنرى أن مزور النقود يشُنق على باب زويلة، وقطعة العملة مدلاة من أنفه، والجزار الذي يبيع اللحم بسعر أعلى من سعر الحكومة تُمزق أنفه وتعلق قطعة من اللحم فيها، وبائع الكنافة الذي يغش في الوزن أو السعر، يُجبَر على الجلوس فوق مقلاة الكنافة والنار تحتها. تجلت عقوبات الباشا التي فصَّلها وفقًا لأهوائه حين وصل إلى أسماعه انتشار تمرد إسنا عام 1824، فأرسل إلى مدير إسنا يأمره بشنق بعض الكهول والمقعدين، على مداخل قراهم ردعًا للآخرين، وكان تفسيره لذلك الاختيار، وفقًا للجبرتي، بأنهم "بلا فائدة ولا يستطيعون أن يقوموا بأي عمل".
أشكال من المقاومة
واجهت الحكومة العديد من الانتفاضات التي قضت عليها بتعسف، وواصل العديد من الفلاحين الهرب، مما كان يزيد من البطش، ففي عام 1844 أصدر أحد وزراء الحكومة إشعار إلى موظفي النواحي "إن الفلاحة والزراعة هما عماد راحة السكان المصريين وسعادتهم ورفاهيتهم، ووصولًا إلى ذلك، فمن الضروري بصورة مطلقة أن يعود كل أولئك الذين تغيبوا عن مساقط رؤوسهم إلى قراهم" وكان ينتهي الأمر بمثل هذه الإشعارات بالإعدام شنقًا لكل من يأوي الفارين من قراهم، للقضاء على مصطلح "فرار" مرة وإلى الأبد.
إلا أن الفلاح المصري بالغ في مظاهر رفضه لنظام الباشا، فهؤلاء الذين كانوا يُرسَلون إلى الخدمة العسكرية، كانوا يشوهون أنفسهم لتجنب التجنيد، واستخدم المصريون في ذلك أساليب أعنف من عقاب الباشا لو أنه أراد معاقبتهم، فمنهم من أصاب نفسه بالعمى بوضع سم الفئران في عينيه، وهو ما جعل والي مصر يأمر بوقف بيع هذا السم، مع الحكم على من يخالف ذلك بالسجن مدى الحياة في ليمان الإسكندرية.
وفي واقعة أخرى علم الباشا أن امرأة فقأت عين ابنها وجندي آخر هرب من الجيش، فأمر بإغراق المرأة في النيل، كما أنه سبق وأمر بشنق نسوة ساعدن الشبان على تشويه أنفسهم، ليكنَّ عبرة لغيرهن، وعمومًا لو كانت حالة هؤلاء المشوهين لأنفسهم تجعلهم منعدمي الفائدة للجيش، فقد كانوا يُرسَلون دائمًا إلى الليمان للخدمة طيلة الحياة.
واشتكى الباشا إلى موظفي النواحي التابعين له في مارس/ أذار 1833 أن "بعضهم يخلعون أسنانهم، وبعضهم يعمون أنفسهم، وبعضهم يبترون أطرافهم، وهم في الطريق إلينا، ولهذا السبب إننا نعيد الجزء الأعظم منهم ... وسوف آخذ من أسرة كل مذنب من أمثال هؤلاء رجلًا بدلًا منه، أما من بتر أطرافه فيُرسل للعمل على السفن الشراعية مدى الحياة".
لم يكُف المصريون عن تشويه أنفسهم لتجنب الانخراط في الخدمة، فأرسل الباشا رسالة لكل من تسول له نفسه أن يشوهها ليتجنب التجنيد، فالجميع سيُساق للخدمة، أو للجيش أو أي مشروع آخر. تمادى المصريون في إلحاق الأذى بأنفسهم، وتمادى الباشا فأشار للسلطات بأن تجنِّد المشوَّهين، وكأن شيئًا لم يحدث، وهذا ما أشار إليه الرحالة سان جون في مشهد رآه في أسيوط عام 1834 "كان يوجد آلاي بأكمله يتكون من مجندين مشوهين، كل منهم فقد عينًا أو أصبعًا أو الأسنان الأمامية".
ومن الأشكال المأساوية للمقاومة حينما اختار المصريون المقاومة السلبية، من خلال ألا يتزوجوا وينجبوا. ففي عام 1828 يكتب محمد علي إلى محمد بك ناظر الجهادية، بأن الكثير من الفلاحين يمتنعون عن الزواج ليتجنبوا رؤية أبنائهم يخضعون لهذه المطالب الحكومية المتنوعة، وأمره أن يشور عليه بوسائل لإصدار أوامر للمشايخ من شأنها أن تلبي طلبات الحكومة، وكذلك تهدئ الفلاحين وتثنيهم عن تلك العادة في آن واحد، وبرر ذلك بأن رفاهية البلاد تعتمد على زيادة عدد سكانها.
تعددت أشكال المقاومة التي اتخذها فلاحو مصر لمقاومة النظام الجديد الذي أدخل العديد من القوانين، وصنع بيروقراطية لم تشهدها مصر من قبل. لو أن حقًا كان لزامًا على محمد علي أن ينتهج ذلك النهج لبناء مصر الحديثة، والتي لا ننكر أن بلادنا لازالت تتمتع بثمار بعض تلك المشاريع حتى يومنا هذا، فلزامًا علينا نحن أيضًا أن نعرف كم عانى أجدادنا تحت قانون الباشا.