ترك حنا مينة وصيّة ألم في بلاد لا تحترم سيرتها الذاتية، ولا تاريخ إنتاجها الجمالي. ربما هي رسالة تقطر بمعنى "الموت للموت"، وربما هي محاولة تحرر أخيرة لتجاوز احتفاليات الاغتراب. في كل الأحوال يشيد الكاتب مقالته على فعل تمويت المثقف العربي، وإقصائه عن الظاهرة الثقافية، واستلابه عن ذاته وعن موقفه من الواقع.

خيار المثقف بين النفي والانتحار

محمود الباتع

لعله لا يستفز أحداً التسليم بأن ليس في الشارع العربي ما يمكن أن يوصف بالموقف الموحد، أو المفهوم المشترك حول الثقافة ككيان مادي وفعل إرادي، بل على العكس من ذلك يوجد موقف عمومي متناقض يكاد يكون شديد التوحد والتلاحم تجاه الثقافة وعموم المثقفين بشكل عام، وسياقاته الرئيسية هي الريبة والشك والتوجس، والتي لا تنفي وجوداً محتملاً لبعض مكونات الإعجاب بشخص هذا المثقف أو ذاك، دون أن يتمكن هذا الإعجاب كثيراً من الحيلولة دون وقوع الرفض والاستعداء وربما الازدراء لكثير مما يقول ويفعل. قد يبدو هذا تناقضاً أو ازدواجية غير أنه في الواقع أمر متسق وشديد الانسجام مع الطبيعة الرومانسية للذهنية العربية التي تقضي بالتطرف اللوني تجاه الأشياء، بتوزيعها بين البياض والسواد ليس غير، بدون مهادنة ولا حلول وسط ودون وجود أية مساحات رمادية للفكر. بينما تحكم الثقافة على متعاطيها بحتمية الغوص بين الألوان، والتوغل في مجاهل الأطياف، وتعقب الأفكار والمواقف إلى ما خارج حدود الطيف المرئي، بحثاً عن شيء من الحقيقة. تلك الحقيقة التي لا تأتي دائماً للأسف بحسب ما يشتهي ويريد لها الجمهور، الذي كثيراً ما تشكل الحقيقة لديه ما يشبه الصدمة الكهربية لأماني وتصورات الأغلب الأعم منه، فلا تتوانى تلك الجموع عن إطلاق النار على أول ملوح ببيرق الحقيقة عندما لا تروق له. وهذه إشكالية وقتية الطابع فضلاً عن كونها أزلية الطبيعة، فكلنا يعرف أن معظم، إن لم يكن كل المسلمات السائدة اليوم، كانت في يوم من الأيام أفكاراً سابقة وجديدة رفضها الجمهور في حينها بشدة.

يبدو هذا وكأنه اعتناق غير معلن لمقولة "جوزف غوبلز" وزير الدعاية السياسية في ألمانيا النازية وصاحب نظرية الكذب المستمر في الإعلام، عندما قال يوماً في إحدى تجلياته النازية "ما إن أسمع كلمة الثقافة حتى أتحسس مسدسي"، في استطراد محتمل لنظريته السابقة حول تكرار الكذب: "اكذب وكرر الكذب حتى يصدقك الناس.."، آخذاً في اعتباره فيما يبدو أن حبل الكذب قصير مهما طال، وأن عامل الزمن لا بد وأن يتولى فضح الأكاذيب يوماً مهما طال بقاؤها. ومن هنا فقد أبقى "غوبلز" على يقظة سلاحه تحسباً لاحتمالات الفضيحة التي قدرها أن تأتي دائماً ثقافية، وأن يكون أول من ينبري لها هو معشر المثقفين. فلا عجب إذن أن اتبعت الثورات الإنسانية الكبرى هدى المفكرين والفلاسفة الكبار في التاريخ الإنساني، ولعل هذا بالتحديد ما أخاف النازي "غوبلز" ذلك المساء، وهو ما يخيف ملايين "الغوبلزات" في بلادنا وغيرها اليوم وكل يوم، حيث الناس دائماً أعداء ما يجهلون، وهو عندنا كثير وجله في حوزة أصحاب الفكر والقلم، الذين تحتفل السطحية كثيراً بشخوصهم دون أن تحفل غالباً بأفكارهم.

بين مسدس "غوبلز" وحفاوة الغوغاء، يجد المثقف نفسه محشوراً بين شقي رحى، الشق الرسمي والشق الجماهيري، الأول الذي يحترف أدلجة الفعل الثقافي ويعمل على استمالته واحتكاره ولي عنقه وتجييره وتسيييه ودفعه في مسار المؤسسة الرسمية، فيتحول المثقف بعدها إلى مجرد بوق دعاية للسلطة، ومنشور ثقافي يسبح بحمد السلطان وحده، ويضفي عليه من المشروعية الثقافية والأخلاقية ما هو في أمس الحاجة إليه، لينجو صاحبنا بعدها بجلده وربما يهنأ بجزرة النجومية والمناصب والمخصصات والجوائز الرسمية والحظوة لدى صاحب الحظوة، وإلا فهناك من العصا ما هو دوماً بالمرصاد، فبين القمع والمطاردة والحجر وربما الاعتقال وما إليه، وبين التجاهل والتهميش والتطنيش والاستخفاف والتعامي ولنقرأ الفاتحة على روح الفكر.

أما الشق الجماهيري فهو الشق الأمضى والأشد مرارة، حيث عادة ما تتلقف الجموع شخص هذا المفكر أو ذاك فتشبعه بالحفاوة البالغة والسخاء الشعبي العارم، بعد أن تقوم طبعاً بإلقاء عقله في حاوية النفايات وإلباسه عقلاً آخر يفهمه ويرضى عنه الجمهور، الذي سيجتهد بعدها في إقحام المذكور والزج به في ثقب اليقين المطلق ومسلمات العوام وما أكثرها في مجتمعاتنا، وذلك في محاولة لالتماس المصداقية والبرهان الثقافي الدامغ من المثقف المرموق على صحة وصدق منظومة الثوابت الاجتماعية، التي انتظم حولها العقد الاجتماعي دون أدنى استئذان منه، ودون أن يوافقهم ذلك المثقف بالضرورة على يقينية تلك الثوابت، وهكذا حتى يجد صاحبنا نفسه مرغماً على الخضوع خجلاً من تلك الحفاوة الجماهيرية، فيضطر ولو على سبيل المجاملة إلى ترديد بعض أو معظم أو كل ما يعتنقه الجمهور، في الوقت الذي هو مقتنع تماماً بعكسه، ليتحول صاحبنا بالنتيجة إلى منافق رغم أنفه، وهو الواقع الذي يرفضه كل ذي فكر حقيقي، وسيؤدي به بالنتيجة إلى شرنقة التقوقع الحتمي كمنفى قسري، لا اختياري لعقله، سيعاني فيه كثيراً من الاغتراب والإحساس بالشذوذ، على الرغم من مظاهر الحفاوة الظاهرية بشخصه وباسمه وسيرته، دون جهده الفكري والثقافي، ودون أن تعني له تلك الحفاوة شيئاً كثيراً.

يتوجب هنا عدم إغفال الوجه الأكثر شيوعاً لمعاناة المفكر، وهو سوء الفهم المتعمد أو العفوي لما يقول، فكثيراً وبدون فهم حقيقي، يتم تصنيفه بين الفرقاء تلقائياً كمنحاز إلى الطرف الآخر، حيث يلصق به كل فريق بناء على ذلك كل ما يلصقه عادة بالفريق المقابل، ليصبح المسكين مادة للتراشق الرخيص بينهما ومرجماً من مراجم الشيطان لكليهما، دون أن يتمكن من إغماض جفن له عن شواردها عندما يسهر الخلق جراها ويختصموا.

عندما يرفض المثقف لعب أي من الأدوار المذكورة أعلاه، فإنه يلجأ إلى الانزواء بعيداً عن أضواء لم يردها ولم يسع يوماً إليها، وعن جمهور لم يقرأه ولم يفهم يوماً ما يقول بل ربما أصر على فهم عكسه، وعن أصدقاء لم يشاطروه يوماً أدنى فكرة ولم يقدروا عقله كما كان يرغب، وأيضاً عن أهل وأقارب وأبناء لم يعرفوا ولم يريدوا عن حقيقته التي يريد شيئاً يذكر. وليس غريباً أن تأخذ منه الكآبة مأخذاً يوصله إلى شرفات اليأس، والإحباط الذي وفي غمرة الشاعرية، التي تلف معظم أهل الفكر من المثقفين والأدباء والفنانين، يسوقهم سوقاً إلى القنوط وأحياناً إلى الانتحار. وكم من شاعر ومفكر وأديب أقدم على إنهاء حياته بيده كصرخة في وجه كل من رفضوه، ولا يقتصر فعل الانتحار على الإقدام على إزهاق الروح بتناول السم أو بإطلاق النار على الرأس أو ما شابه ذلك، وإنما قد يكون انتحاراً اجتماعياً باعتزال الحياة العامة وأحياناً الخاصة والبعد عن الناس كل الناس، وقد يكون انتحاراً فكرياً، وذلك بالتنصل والتبرؤ العلني للمفكر من كل ما سبق له أن تناوله أو طرحه من أفكار ورؤى، عن غير قناعة حقيقية منه بذلك، وقد يكون أيضاً باعتزال الكتابة والتعبير والابتعاد عن كافة المحافل الثقافية والفكرية العامة أو الخاصة أو كليهما، وكل هذه انتحارات يائسة وملفحة بالقنوط لجأ إليها مثقفون كثر ليست هذه العجالة مجال ذكرهم.

بغض النظر عن حيثياتها ودوافعها وظروفها، فقد كانت محزنة وصية الأديب السوري حنا مينه المولود عام 1924 والتي خطها ونشرها في شهر آب أغسطس الماضي بعد أن شعر الرجل بدنو أجله، وقد كان أكثر ما يثير الشجن هو ما شددد عليه حنا مينا بالنص (عندما ألفظ أنفاسي الأخيرة، آمل وأشدد على ذلك، ألا يذاع خبر موتي في أية وسيلة إعلامية مقروأة أو مسموعة أو مكتوبة، فقد كنت بسيطاً في حياتي وأريد أن أكون بسيطاً في مماتي..)، كما أوصى بابتعاد كل من يعرفونه من أصدقاء وأقارب ورفاق وقراء عن جنازته تاركين نعشه محمولاً على أكتاف أربعة رجال مأجورين من دائرة دفن الموتى، وأن يهيلوا التراب على جثمانه في أي قبر متاح، لينفض الجميع أيديهم بعد ذلك، فقد انتهى الحفل..!

ويمضي مينه مشدداً على أن (لا حزن، لا بكاء، لا لباس أسود، لا للتعزيات بأي شكل، لا لحفلات تأبين منكرة ومنفرة ومسيئة..).

أليست حالة "حنا مينه" تجسيداً للاغتراب الثقافي والاجتماعي، الذي يعتري المثقف في بلادنا، ونموذجاً صارخاً لما يمكن أن يؤوول إليه مصير مثقف ومفكر عربي ملأ الدنيا وشغل الناس ردحاً غير يسير من الزمن، وترك بصمته عميقة غائرة في خاصرة الحياة الثقافية العربية، حتى تأتي لحظة وداعه لهذه الدنيا التي عاش فيها (سعيداً..) بهذا الشكل الانتحاري؟

ثم أليست خاتمة "حنا مينه" تلك مثالاً جلياً على تلك الغربة الصارخة التي يعيشها كثير من المثقفين العرب المنسيين حتى الموت؟

أخشى أن أقول نعم.. وبالتأكيد!

كاتب أردني مقيم في قطر