العنوان هو الشطر الأول من أحد أبيات قصيدة لقيس بن الملوح. وهذه هي تتمة البيت: وإن كنت على ليلى من اليأس طاويا. تَقرأُ القصيدة، وتعيد قراءتها، ولا تملك إلا أن تعيد قراءتها من جديد. قصيدة باذخة بلغتها وصورها وعوالمها وقيمها وأبعادها الإنسانية. تملكك، وتتملكك، ولا تملك إلا الانغماس فيها حد التماهي مع صاحبها. عجيب حقا قلب الإنسان، فهو موطن طاقة على العطاء، وعلى الامتداد، وعلى التحمل، وعلى الحب، طاقة هائلة وخلاقة، ولا سبيل إلى كبح جماحها. ترفع رأسك إلى السقف، أيا كان السقف الذي يوجد فوقك، ولعل الأجمل أن يكون هو السماء ذاتها في ليلة صيفية وسط الصحراء، وتغمض عينيك، وتسأل نفسك بصوت خافت: لماذا ليلى دون غيرها من النساء؟ ما الذي يميزها عنهن؟
تعود إلى القصيدة من جديد محاولا رسم صورة لهذه الـ"ليلى". تلك الصورة التي سبق للشاعر أن قام برسمها بكلمات موزونة، وذات إيقاع موسيقي رائع. تقرأ البيت تلو الآخر. تتوقف لهنيهة ثم تواصل القراءة. يخبو حس القارئ المتلذذ داخلك ويبرز حس القارئ الباحث. تشعر بتغير شكل القصيدة في عينيك، وتغير مذاقها في أذنك، وتغير وقعها في وجدانك. ومع ذلك تمضي في الطريق، لأنك تعرف، ومتأكد أيضا، بشكل مسبق، أن ليلى تنتظرك في الطرف الآخر منه.
روعة الاسم
لا أحد يعرف كيف سميت ليلى بهذا الاسم. ما هو مؤكد، ولا سبيل إلى الشك فيه، هو أن اسمها جميل حقا. اسم خفيف وله سحر خاص. صاحبته هي السحر ذاته، سحر لا رُقية له. سحر اسمه الثاني ليلى. والشاعر يعشق سماعه عشقا يبكيه. عشق لا يقتصر على اسم ليلى فحسب، وإنما يتعداه إلى كل الأسماء التي توافقه، أو تشبهه، أو تلك القريبة منه. وغني عن الذكر أن هذا الاسم يحيل في مدلوله اللغوي على النشوة، وبالتحديد نشوة السكر. معنى هذا أنه يعبر، وفي الآن ذاته، عن نهاية الاتصال بالواقع وبداية الانفصال عنه، عن نهاية الارتباط بالأرض وبداية الالتحاق بالسماء، عن وضع بين العقل والجنون، بين الإدراك واللاإدراك، عن حال بين حالين، عن حال بين-بين. والغريب أن هذه الازدواجية تطبع، بشكل ما، حياة الشاعر نفسه.
الجمال الساحر
ليلى امرأة جميلة بالطبع. فهي تشبه القمر في الليل، وتشبه الشمس في النهار. جمالها مشكل من طينة القمر والشمس معا. ولذلك فجمالها متعال، ومتسام، ولامع، وقاس، وليس في متناول أحد. جمال لا يمكن الوصول إليه، ولا امتلاكه، ولا ترويضه بأي طريقة كانت. لقد وُجد ليبقى حرا طليقا على الدوام. ويبدو أن هذا الجمال يفيض من ليلى على الكون بأسره، فيغدو جماله من جمالها.
الحضور الطاغي
لا يمكن لامرأة مثل ليلى أن تغيب، أو أن تُغيّب. هي تحضر، ولابد أن تحضر، حتى في غيابها. هي حاضرة على الدوام في كل مناحي الحياة، وفي كل تفاصيلها الصغيرة. قد تتغير أوضاع الشاعر، ويصير استقراره ترحالا أو العكس، ويتعاقب الليل والنهار، ويكوّر الفصل على الفصل، لكنها تبقى العنصر الحاضر باستمرار، والثابت باستمرار، دون زوال، ودون ميلان في هذا الاتجاه أو ذاك. حتى أن كل الأفعال اليومية التي يقوم بها الشاعر تتمحور حولها، وتتجه إليها دون سواها. فهي القِبلة التي يقصدها على الدوام. والرغبة في رؤيتها لا تفارقه أبدا. هي بمثابة الشمس لعباد الشمس. وإذا غابت عن عينيه فإن كل شيء في الطبيعة، من كائنات حية وجمادات، يذكره بها، ويشاركه لوعته عليها، ولا يجد أمامه، والوضع كذلك، غير الاختلاء بنفسه ليناجيها، ويغمض عينيه ليلتقي بها في أحلامه وخيالاته.
يتغير معها الإحساس بالزمن
لليلى القدرة على جعل الزمن يغير إيقاعاته، فلا يعود له إيقاع واحد ووحيد. بجوارها يصير الزمن خفيفا، وينصرم سريعا، ويكون أكثر كثافة، وأكثر عمقا، وأكثر حميمية، وأكثر سعادة. وهذا على الخصوص زمن الوصل. وبغيابها يغدو الزمن بطيئا، ورتيبا، وثقيلا جدا، ولا يحتمل، ولا يملك الشاعر معه إلا الانشغال بحساب أيامه ولياليه التي تأبى أن تمضي. الشيء الوحيد الذي يأبى أن يخضع لمنطق الزمن، ويبلى، هو الإحساس بالحب. فهو خالد في قلبه أبد الدهر. وباختصار، يعيش الشاعر موزعا بين ماض جميل مضى ولن يعود، وحاضر قاس وممتد كأنه لا ينتهي، ومستقبل مجهول لا أحد يستطيع أن يتكهن بما سيحصل فيه.
الأهلية للحب
ليلى محبوبة جدا لأنها بكل بساطة أهل للحب. كان الشاعر الروماني أوفيد يؤكد أن على المرء أن يتوفر على القابلية لأن يكون محبوبا(Aimable) ليصير محبوبا فعلا (Aimé). والدليل على أهلية ليلى للحب أنها امرأة بدورها مُحبة، بل إنها امرأة عاشقة، وولهانة، ومجنونة عشقا. يتحدث الشاعر عن حبه لها، وحبها له بصيغة الجمع، يستخدم نون الجماعة- كما في كلمة هوانا- في غير ما موضع. هي مُحبة، وصادقة، وذات نية صافية تماما. صحيح أنها زُوجت ضد إرادتها، لكن الحب في قلبها ظل جمرا ملتهبا. هي لا تملك جسدها لكنها لا تخون، علما أن خيانة الروح، ممثلة في عدم الوفاء بعهد الحب، أقسى وأمر من خيانة الجسد في حال وجودها.
كما أنها امرأة قادرة على أن تغدق سعادة إن شاءت، وأن تغدق شقاء إن شاءت. تبدو هنا أنها ذات قدرة كلية. ولأن لا قدرة لدى الشاعر على تغيير وضعه الحزين يطلب من الله إما أن يجعلها تحبه كما يحبها، وإما أن تجعله يكرهها ويكره أهلها. ففي لحظات الضعف لابد أن يتسرب الشك إلى وجدان المُحب، فيخال أن المحبوب لم يعد على عهد الحب. والواقع أن ليلى كانت تتعذب بقدر ما يتعذب حبيبها، بل إنها كانت تتعذب أكثر منه. الدليل على ذلك أنها تؤنبه على سلوته، بينما لا عزاء لها. "الشتيتان" هكذا يصف الشاعر وضعهما معا. فهما يحبان بعضهما، ويفتقدان بعضهما، ويتحملان المعاناة نفسها، ويحلمان معا بلقاء. بعبارة أخرى، إن ليلى وحبيبها وجهان لنفس العملة. فهي لا تقل عنه هياما، وصبرا، ورغبة في لم الشمل، واكتحال العين بالعين.
امرأة يُحسد المرء عليها
ليلى لا تشبه إلا نفسها، ولا تشبهها أي امرأة أخرى أيا كانت هذه المرأة. وهي غير قابلة للاستبدال أبدا. ولذلك لم يبحث الشاعر عن امرأة يحبها، وتحل محلها، لأنها امرأة يستحيل نسيانها. هي تجسيد للذاكرة. وتفردها يجعلها محط أطماع، ذلك أن الجميع يغار عليها من الشاعر، ويحسدونه عليها. من الواضح، في نظر الشاعر، أن القدر يصرّ، بطريقة ما، على التفريق بينهما دون رحمة. فالوشاة في كل مكان، منهم القريبون مثل جارات ليلى، والبعيدون بُعد اليمامة عن حضرموت. لا هدف لكل هؤلاء غير أن يبقى الانفصال بين الحبيبين، ويكتسب صفة الدوام. يبكي الشاعر، ويتوسل، ويشكي حاله لخلانه، ويدعو الله أن يضع حدا لمأساتهما، وينظم الشعر. وفي النهاية، في لحظات اليأس، التي تعقب لحظات الرجاء والأمل، يطلب الشاعر من خلانه الاستعداد لموته بإحضار النعش والأكفان إذا انتفى أي أمل في وصال ليلى.
لا شك أن ليلى بمواصفاتها السابقة تستحق أن يموت المُحب من أجلها، أن يموت حبا لها، وحبا فيها. وبالعودة إلى العنوان نستشف أن لليلى مثيلات يستحققن بدورهن أن يموت المرء من أجلهن. وكل ليلى منهن هي بالضرورة فريدة نوعها. وقد وُجدن على الدوام في كل المجتمعات الإنسانية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، تصور الحياة من دونهن. إنهن موجودات هنا والآن كذلك. ومما لا ريب فيه أن العالم دونهن فقير، ومظلم، ومؤلم، وشقي، وبعبارة مختصرة، لا يملك أي قيمة ولا يستحق أي اعتبار.