رحل الشهر الماضي عن تسع وثمانين عاما الكاتب الانجليزي الذي غير من طبيعة أدب الجاسوسية، وجلب له ثقلا وجدية وعمقا. هنا يقدم لنا الناقد اللبناني مسيرته الحياتية والأدبية، وطبيعة النقلة الأدبية الكبيرة التي حققها في هذا الجنس الأدبي مما جعله رافدا هاما للرواية الانجليزية المعاصرة.

جون لو كاريه: أدب الجاسوسيّة يفقد عملاقه

سعيـد محمد

 

في الشهر الماضي، توفي الروائي البريطاني (1931 ـــ 2020) عملاق الرواية الإنكليزيّة في النصف الثاني من القرن العشرين وعميل الاستخبارات البريطانية السابق الذي ارتقى بأدب الجاسوسيّة إلى مستوى الفن الإنساني الرفيع، وأصبحت أعماله التي تحوّل كثير منها إلى أفلام ومسلسلات مشهورة، جزءاً من التاريخ السياسي والثقافي والسايكولوجي للحرب الباردة.

فقد لعب روائيّو الجاسوسية الإنكليز أدواراً مهمّة في إطار عمليّة تشكيل الوعي (الزائف) للجمهور البريطاني، حول هويته الوطنية وشخصيته القوميّة لحظة غياب مجد الإمبراطوريّة التي كانت لا تغرب عن أراضيها الشمس، وانتهت رمزيّاً في عام 1956 على إثر أزمة السويس الشهيرة. فروّجوا للدولة كوطن، وشاركوا بفاعليّة مشهودةً – توازياً مع جهود البروباغاندا الرسميّة – في شيطنة الاتحاد السوفياتي وتصوير الأنظمة الشيوعية بوصفها الشرّ نقيض الخير، الذي هو الغرب.

ولعل شخصيّة جيمس بوند الكاريكاتورية التي أبدعها الروائي إيان فليمنغ مثّلت نوعاً من مزيج هلوسة جماعي، أفيون شعوب يتعاطاه هذا الجمهور المعتد بنفسه لتحقيق الأمرين معاً: نسيان واقع تحوّل بلادهم إلى مجرّد جزيرة صغيرة برعاية العملاق الأميركيK أشبه بعجوز شمطاء متقاعدة تعتاش على ذكريات وأوهام العظمة؛ وتكريس صورة السوفياتيّ الشيوعي عدواً مطلقاً يتربصّ لحظيّاً بالوطن. بوند كان لذلك عميلاً بعينين زرقاوين، وسيم الطلّة خارق الذكاء ومطلق القوّة. يخدم نظام جلالة الملكة بولاء حديدي، ويبدو مسيطراً ببرود وسخريّة طبيب إنكليزي على محيطه فكريّاً وتقنيّاً وسايكولوجيّاً، وينتصر في كل معارك الأمّة، سواء ضد الأعداء خلف الستار الحديديّ، أو في استمالة النساء الجميلات إلى فراشه.

والجمهور الإنكليزي دون بقيّة الشعوب مصاب بلوثة سايكولوجيّة جمعيّة جارفة، تكاد تكون في ثلاثة أرباع الطريق إلى الدين، يقال لها الجاسوسيّة: كل شيء حول هذا الشعب يتردّى، وتُسرق أرزاقه من قبل نخبة عاهرة، وسياسيوه مضرب المثل في الصفاقة والبلاهة، ويعتاش ملايين من سكانه على إعانات اجتماعيّة حقيرة، وبنيته التحتيّة تتهاوى، ومع ذلك فإن الإيمان بـ«جواسيسنا» لا يتزعزع. ولذا، فإن الأعمال الوثائقيّة أو الروائيّة أو السينمائيّة أو حتى كتب التاريخ المتعلقة بالتجسس والعمليّات السريّة تجد دائماً نجاحاً تجارياً مبهراً، عند طرحها في السوق البريطانيّ، ولها تأثير عميق في ثقافته الشعبيّة، وطريقة رؤيته للعالم.

من هذا الرّكن تحديداً يمكن فهم البصمة الهائلة التي تركتها أعمال الروائي ديفيد جون مور كورنويل (الشهير بالاسم الأدبيّ جون لو كاريه). 24 رواية تحوّل أكثرها إلى أفلام سينمائيّة أو مسلسلات، تركت تأثيراً هائلاً في الثقافة والسايكولوجيّة البريطانيّة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية لغاية اليوم. وفي الحقيقة أن له وحيداً ربّما الفضل في إنقاذ أدب الجاسوسيّة الإنكليزيّ من نفسه، بعدما بالغ البونديون (نسبة إلى جيمس بوند) في تسخيفه وتسطيحه حدّ الكوميديا. لقد نقل لو كاريه بنثره المسبوك أعمال الجاسوسيّة البريطانيّة إلى أرض الواقعيّة، متخلّصاً من كل عناصر البلاهة البونديّة تقريباً، وارتقى بها من سرد المطاردات المشوقة إلى الغوص في تلك الدوّامة غير المتناهية للعلاقات الإنسانيّة شديدة التعقيد، وفي مناطق التداخل الرماديّ الغامض بين الخيانة والحب، وبين الكذب والحقيقة، وبين الخطأ والصّواب، وبين الغاية والوسيلة، وبين الهزيمة والانتصار، وبين الخير والشرّ، حيث الصراع في منتهاه – إذا كان ثمّة من نهاية له – «بين رجال طيبين يخدمون قضايا سيئة، ورجال سيئين يخدمون قضايا عادلة» كما يقول تيموثي غارتون آش في أسبوعيّة الـ(نيويوركر).

جورج سمايلي – الذي ظهر للمرة الأولى في «نداء إلى الموتى» (1961) ـــ بطل لو كاريه الذي رافقه في عديد من الأعمال، لا يشبه بوند بالمرّة: قصير، سمين، عديم الذوق في اختيار ثيابه، وحيد ومكتئب منذ الولادة، مصاب بخيبة أمل دائمة، وعمله المُخلص للأيديولوجيا التي يعيشها ضحيّة أبديّة للبيروقراطيّة العقيمة، وضغوط تقليص الموازنات، ومكائد القيادات والسياسيين الذين هم على الأرجح سيخونون أوطانهم في وقت ما. نظيره على الجانب السوفياتي العميل كارلا، نقيضه في الإيديولوجيا، لكنّه في كل شيء آخر كأنّه جورج سمايلي روسيّاً. وخصومتهما تأتي عن متابعة حثيثة كما يتبارز عاشقان يعرفان دقائق بعضهما جيّداً.

هذا التوازي دفع بعض النّقاد إلى اتهام لو كاريه بالتعامل مع الشرق والغرب كليهما كمتعادلين أخلاقيّاً، لا فرق بينهما في السوء. وهو ما نفاه في مقابلات عدة، مذكراً محاوريه بتاريخه الشخصي موظفاً في الاستخبارات البريطانية لـ 16 عاماً. مع ذلك، فإنّ لو كاريه – رغم شعبيته الهائلة ورواياته التي وُصفت من قبل أسماء وازنة في عالم الأدب بأفضل روايات الجاسوسية على الإطلاق – قد تعرّض لانتقادات كثيرة من النقّاد البريطانيين كلّما حاول الخروج من مربّع التمجيد للجاسوسيّة البريطانيّة، وكَرهه القرّاء – الإنكليز – في كلّ مرّة حاول ذلك وعاقبوه بتراجع مبيعات بعض أعماله التي أتت في ذلك السيّاق؛ ولا سيّما تلك التي كتبها بعد غزو العراق في عام 2003 وتأثره الشديد من التوظيف المسيّس لعمل الاستخبارات لغرض خداع الشعب البريطاني وتوريطه في حرب ظالمة لإرضاء الحليف الأميركي.

ولعل معرفته بكيفيّة صنع الرأي العام والتوافقات الوطنيّة جعلته زاهداً بالجوائز الأدبيّة، فمنع ناشريه من التقدّم إليها، ورفض قبول أيّ من الألقاب الملكيّة التي تُسبغ على كبار الشخصيّات الموالية للنظام، وهو لم يقنع يوماً بأفكار نهاية التاريخ الأميركيّة الساذجة التي ذاعت بعد سقوط جدار برلين (1989)، معتبراً أن الصراع صنو الحياة.

لم يأت لو كاريه إلى أدب الجاسوسيّة متطفّلاً. فقد خدم عميلاً لسنوات طويلة في جهاز المخابرات البريطانية المعروف باسم M.I.6، وكذلك ذراعه المحلية الـM.I.5 ؛ وأخذته مهنته إلى وسط أوروبا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، في عزّ احتدام الحرب الباردة بين الشرق والغرب. وأُرسل في مهمّة إلى ألمانيا تحت غطاء وظيفة دبلوماسيّة، وهو لذلك خبر تفاصيل العمل التجسّسي ودقائقه. لكنّه لم يركن إلى تلك التجربة الميدانية – التي بدون شك منحت أعماله مصداقيّة نادرة – بل انطلق منها لتشييد معمار خيال أدبي متين، وكان يُجري أبحاثاً معمّقة تحضيراً لكل رواية جديدة. ويقال بأن كثيراً من الأوصاف التي نحتها في كتبه مثل تسمية جهاز المخابرات بـ «السّيرك» والعملاء النائمين خلف خطوط العدّو بـ «الخُلد» انتهت لتكون جزءاً من ثقافة العمل الاستخباراتي البريطاني، تماماً كما تسرّبت لغة ثلاثيّة «العرّاب» (الرواية والأفلام) إلى ثقافة المافيا.

وقد طرح في كتبه ثيمات متنوعة، إلى جانب الحرب الباردة – ملعبه الأساس، فتناول قضايا جدليّة مثل سطوة شركات الأدوية العالميّة، وصناعة الأسلحة وتجارتها، والصراع العربي الإسرائيلي، وتجاوزات الأجهزة الأمنيّة الأميركية والبريطانية في ما يتعلّق بحقوق الإنسان، وممارسات التعذيب في إطار الحرب (المزعومة) على الإرهاب. وقد ظلّ نشيطاً ومبدعاً حتى في ثمانينياته، فاستعاد بطله سمايلي للمرة الأخيرة في عام 2017، وقبلها كان فاجأ قرّاءه بعد عقود من العيش في الغموض بنشر مذكّراته (2016).

عرف لو كاريه صبيّاً فنون الادعاء والخداع بشكل وثيق، إذ كان أبوه رونالد نصاباً محترفاً، حلو اللسان، أمضى وقته مع المشاهير والمحتالين، وتقلّب بين الثراء والفقر المدقع، كما بين السجن والحريّة. وتطلّق والداه مبكراً، فلم يعرف أمّه، وهو ما انعكس غياباً شبه كليّ للبطلات النساء في رواياته، لكنّه مع ذلك حصّل أحياناً تعليماً رفيعاً يليق بأرستقراطيين، وقضى أوقاتاً في مدرسة «إيتون» الشهيرة، كما جامعة «أكسفورد». وقد جُنّد للعمل مع المخابرات البريطانيّة بينما كان في سويسرا يتلقى تعليمه الجامعيّ في اللغات الحديثة نهاية الأربعينيات. واضطر إلى نشر أوّل أعماله باسم مستعار لحماية وظيفته الاستخباراتيّة. لكنّه أصاب ثراء بعد النجاح الهائل لروايته الثالثة «الجاسوس الذي جاء من البرد» (1963)، فترك الخدمة، وتفرّغ للكتابة، وإن احتفظ دائماً بذات الكنية الأدبيّة المستعارة.

لم يختلف أحد على موهبة لو كاريه الأدبيّة، وسوف يُذكر بأنه ربما أهم روائي في النصف الثاني من القرن العشرين في بريطانيا، وعملاق أدب الجاسوسيّة تماماً، كما كان ديستوفسكي لأدب الجريمة، وفلوبير لروايات الغرام «الآثم»، وماركيز لأعمال الواقعيّة السحريّة.