في مرات عديدة لم أشأ الاقتراب منه. كنت أفضّل أن أراه عن بعد متأملا. فهو مزيج حركي من الكائنات الصادمة بألمها ومفاجآتها المرحة بعمق، الكائنات التي تتصادم، بعضها بالبعض الآخر، لكن النتيجة تكون على هيئة أعمال فنية متشنجة، يمتزج من خلالها الجمال الذي يشف عن رغبة عميقة في الحياة بالتمرد على حقيقة أن يكون ذلك الجمال هو المنفذ الوحيد إلى الآخرة.
في لقائي الأخير به في الدار البيضاء حرصت على أن أجلس قريبا منه. النحات السوري عاصم الباشا يحرص على أن ينتقي كلماته كما لو أنه يخطط أن يشيد منها معمارا منسجما وهادئا ومريحا. كان يومها الشاعر والنحات معا.
لقد سبقه الشاعر إلى النحت غير أنه بالرغم في استمراره شاعرا وروائيا يُعتبر واحدا من أهم النحاتين العرب الذين يملكون أفكارا ثورية عن علاقة الكتلة بالفراغ. ربما تسبقه أفكاره فلا يملك سوى أن ينساب في حكاياته. لقد تعلم الشيء الكثير من الواقعية السحرية بحكم نسبه الأرجنتيني من جهة الأم وإقامته في إسبانيا. إنه ابن الحكايات التي يلد بعضها البعض الآخر كما في الليالي العربية. ولكن هل كان نحاتا مشوقا بسبب ذلك؟
النحاتون يبكون أيضا
ليت الأمر كان بذلك اليسر. الباشا إنسان معذب ويائس بل كريم في يأسه. لقد عذبه استقلاله السياسي في بلد تكثر فيه الانحيازات العمياء التي شيدت كيانات هي أشبه بالقبائل. جعله ألمه قريبا من جياكومتي من غير أن يقلده. لو كان النحات السويسري شاعرا لكتب قصائد شبيهة بتلك التي كتبها الباشا.
لم يكن الباشا في حاجة إلى الحرب الأهلية التي طحنت بلاده لكي يدرك أن الجرح عميق. لم يكن في حاجة إلى أن تقع السكين على رقبته وتخبره بمقتل أخيه في تلك الحرب. صار الخطأ يومها أشد بشاعة.
“سأكون جاهزا لذلك الإلهام” أسمعه يقول في نومه. بالتأكيد شاعر مثل الباشا لن يلجأ إلى الوصف باعتباره نحاتا. الفجيعة روحية. كان يفكر في هزيمة أقل ضررا. غير أن الحياة مجسدة في سوريا لم ترحمه. لقد نحت تمثالا لأخيه حين اُعتقل ولكن ذلك الأخ تمت تصفيته. الموت ليس مناسبة للاحتفال بالجمال؛ جمال الأخ الغائب.
هناك فكرة سيئة عن النحاتين أنهم لا يبكون. تلك فكرة غير صحيحة. في سيرتها تروي سيمون دوبوفوار عن جياكومتي أنه كان يجلس على الرصيف ويبكي. ولقد رأيت عاصم الباشا وهو يبكي. النحاتون يبكون أيضا.
ولد عاصم الباشا عام 1948 في بوينس أيرس لأب سوري وأم أرجنتينية. انتقل عام 1957 إلى سوريا مع عائلته. كان يمارس الرسم والنحت قبل أن يلتحق بدراسة الفلسفة. غير أن فوزه بالجائزة الأولى في مسابقة الفنانين الشباب وهبه فرصة الانتقال لدراسة الفن ومن هناك حصل على منحة لدراسة الفن في موسكو ما بين 1970 و1977 نال بعدها شهادة الماجستير وعاد إلى بلده. هناك واجه صعوبات في مسألة العمل ليلتحق بالخدمة العسكرية. مطلع الثمانينات ذهب إلى باريس ليدرس الفن في السوربون، غير أنه بعد سنة انتقل إلى إسبانيا ومن ثم عاد إلى سوريا.
وكما هو واضح فقد عاش الباشا أوقاتا متقطعة في بلده. تلك الأوقات سمحت له بإقامة محترف خاص به للنحت، المحترف تعرض للنهب أثناء الحرب الأهلية. عام 1987 غادر دمشق نهائيا. وقبل أن يغادر أقام معرضا بعنوان “الوداع”. كان حدثا كما قال عنه سعدالله ونوس.
إلى جانب النحت يكتب الباشا الشعر والقصة القصيرة والرواية. صدرت له رواية “وبعض من أيام أخر“، ومجموعتان قصصيتان (رسالة في الأسى ) و(باكراً بعد صلاة العشاء)، ويوميات بعنوان “الشامي الأخير في غرناطة“، كما صدرت له رواية بعنوان “غبار اليوم التالي“. ونشط في مجال الترجمة أيضاً، فترجم قصائد لـ”روفائيل البرتي”.
قلق كاتب اليوميات
“لا يضيرني أن يُقال إن أعمالي مقلقة. ولهذا فإنها لا تجد الشاري. مَن يشتري الهم ليجالسه في بيته”. ربما دفعت تلك المقولة الكثيرين إلى تحدي النحات الذي لا يبدو أنه قد شعر بالخيبة لأن أحدا لا يقبل على شراء منحوتاته. إنه كائن يائس يتأمل بفرح كائناته اليائسة.
يعرف عاصم الباشا أن الكائنات التي ينحتها تشبه في صفاتها الداخلية وشكلها الخارجي “بورتريه شخصيا”. ذلك لغزه الذي رافقه عبر سني حياته. فبالرغم من أن منحوتاته كانت تنقب في موضوعة الألم، التي هي على قدر عظيم من الغموض والتجريد غير أنه ظل متمسكا بالتشخيص. ولطالما تحدث عن تلك الميزة التي تهب النحت طابعا إنسانيا أكثر من الرسم. فهو مرتبط بالإنسان شكلا ومضمونا.
ولكن أي نوع من التشخيص، ذلك الذي سيسعى الباشا إلى تكريسه من خلال أسلوبه الشخصي؟ تبدو كائناته على قدر من الغموض. ينعكس توترها على شكلها المضطرب، بحيث لا يمكن القبض على ملامحها السائلة بالرغم من صلابة المادة التي تتكون منها. صمتها العميق يوحي بأن كل ما قيل من حولها لا يمت إليها بصلة فهي كائنات نافرة نبذت نفسها خارج كل إطار نفسي محتمل. وهي بذلك لا تسمح لنا بالتكهن بدرجة الألم الذي تعانيه.
يقول الباشا “كثيرا ما اعتقدت أن النحت هو نوع من المذكرات الشخصية“. لا تتعلق المسألة ببناء التكوين بقدر ما ترتبط بالقدرة على إخراجه من الفراغ. ذلك جزء أساس من شقاء الباشا وهو يلتفت إلى حياته من أعماله. ينتهي النحات من العمل حين يضع كاتب اليوميات النقطة في نهاية السطر.
يد الشاعر التي تحلم
عزلة كائناته ووحشتها وحزنها العميق ونداؤها الغامض، إنما يضعنا وجها لوجه أمام التماثيل الرافدينية، وفي موضوعاته ما يلتقط الخيط في اتجاه رؤوس الحكمة.
لم يختف الشاعر من حياة النحات، بالرغم من أن فن النحت هو أقرب إلى النحت منه إلى الشعر بعكس الرسم. بقي من الشاعر بحثه عن الخلاصات. فالنحات عازف عن الحكايات زاهد في التفاصيل ومتقشف في تقنيته.
تتميز منحوتات الباشا بتوترها فلغة النحات مشدودة ولا تعنى كثيرا بما يسقط منها. ذلك لأن الباشا يعتبر ما يتساقط نوعا من الزبد الذي يجب عدم الالتفات إليه. فالتصادم الذي جرى في أعماق روحه بين تجارب شعوب مختلفة جعله قادرا على النظر من خلال مصفاة دقيقة.
في تماثيله تبدو مرجعيته الرافدينية هي الأقوى. وهي مرجعية تستجيب لمنهجه الشعري من جهة الاقتضاب والشد والزهد في العناصر. غير أن ذلك لا ينفي وجود تأثيرات المدرسة الروسية التي حاول أن يخضع واقعيتها لخياله الذي يتألم، كما تعلم الشيء الكثير من نحاتي إسبانيا الذين أعجب بهم وبالأخص “تشليدا” حيث الخفة المستحيلة وغير المتوقعة.
الباشا هو ذلك المزيج، غير أنه في الوقت نفسه الخلاصة التي تشف عن موهبة سورية خلاقة تخترق العصور لتعاصرنا. فالباشا في عزلة كائناته ووحشتها وحزنها العميق وندائها الغامض إنما يضعنا وجها لوجه أمام التماثيل الرافدينية، وفي موضوعاته ما يلتقط الخيط في اتجاه رؤوس الحكمة التي أنبت على أساسها طريقة بناة الحضارة في وادي الرافدين في النظر إلى المستقبل.
يقول الباشا “أنا شخصيا لا أستطيع أن أرى المستقبل جميلا. ربما أترك ذلك للآخرين أو لجيل قادم”.
(نقلا عن صحيفة العرب اللندنية)